الخطور والنسيان .. الذاكرة
الخطور والنسيان
خطور الأمر بالبال هو ذكره بعد نسيانه ، واستعادة ما مضى ، وإحضاره ، حق يصبح الموجود بالقوة موجوداً بالفعل .
والذاكرة كما رأيت شبيهة بعض الشيء بالعادة فإذا أتمت فعلها خطرت الذكريات بالبال ، وإذا عاقها عن القيام بفعلها عائق وقع النسيان .
١ - الخطور وآليته النفسية
تخطر الذكريات بالبال بتأثير تداعي الأفكار ، وذلك اما بصورة تلقائية ، واما بصورة تأملية .
۱ - الخطور التلقائي أو الذكر ( ۲ ) : قد تعود الذكرى إلى مسرح الشعور من غير أن تكون معدة للرجوع اليه بأسباب ظاهرة تستحضرها فيكون حضورها تابعاً لأسباب عضوية مجهولة وتسمى عند ذلك بالذكريات الحرة Souvenirs libres الا ان خطور الذكريات بالبال على هذه الصورة الحرة لا يحدث إلا في بعض حالات الانحلال الذهني . أما في الحالات الطبيعية فإن خطورها يتبع نظاماً خاصاً وقانوناً ثابتاً ، فتتسلسل الذكريات ، ويتبع بعضها بعضاً بحسب مناسبتها ، وملامتها ، وجاذبيتها ، وشوق صاحبها و اهتمامه ، وشواغل فكره .
۲ - الخطور الارادي أو التذكر : وهو أن يلقي الانتباه الإرادي على الذاكرة سؤالاً يطلب بـه منها أن تطلعه على اسم منسي ، أو تاريخ ، أو شيء ضائع ، فتعرض الذاكرة على العقل ما حفظت من الامور ، وتأتيه بما خبأت من الصور ، فينتخب العقل منها ذكرى صحيحة ، ولا يتم هذا الإحضار الإرادي إلا بالتداعي المكتسب .
والخطوو الإرادي ( أو التذكر ) ، يقتضي :
۱ - الذكر الجزائي : لأن الإنسان لا يحتال لاستعادة ما اندرس من الأمور إلا إذا كان . لها أثر في نفسه ، فهو يذكر الشيء وإن نسي إسمه ، ويعرف الحادثة وإن غاب عنه تاريخها . فكأنه شاعر بالفراغ الذي أحدثه النسيان في نفسه ، وهـو فراغ فعال ، إلا أنه وقد قال ( باسكال ) بهذا المعنى : ( لو لم تجدني ، لما فتشت عني . أن هذا البحث يتضمن فة ناقصة ترید أن تصبح تامة ، وذلك يجمع أجزائها بعضها إلى بعض . ولذلك قيل إن
لقانون الجمع أي لقانون عودة المجموع الشعوري ( Loi de rédintegration ، ، تأثيراً في التذكر إلا أن المجموع المقصود هنا هو المجموع الإرادي الخاضع للجهد والانتباه ( ۱ ) .
ب - التذكر : التذكر خاضع للقوة النطقية لأن العقل يحذف الذكريات الكاذبة ويختار الذكريات الصادقة ولا يتم له ذلك إلا بالمعرفة ، والمقايسة ، والحكم . وهذا يدل على ان التذكر ( الخطور الإرادي ) لا يوجد إلا في الإنسان ، لأنه يقتضي الاستدلال والقياس من الملكات العقلية التي يظن أن الحيوان خال منها . على ان تحكم الإرادة في الخطور ، أو الإحضار ، قد يؤخر التذكر ، ويجعل الحصول على الذكريات متعذراً في حالات الانتباه الشديد ، وخير واسطة للتغلب على هذه الحالة أن يعرض الإنسان برهة من الزمان عن الأمر الذي يريد استحضاره ، ويلهو عنه بأمر آخر ، فتعود الصور إلى مجراها الطبيعي ، وتحضر الذكرى بنفسها من غير جهد إرادي .
۲ - النسيان
و كانت الذاكوة قوة مطلقة ومتماسكة تماما لتعذر عليها النسيان ، ولكانت غير صالحة للتفكير ، لأنها إذا أحضرت دقائق الامور ، واستعادت جميع أجزائها ، شغلت بهذه الأجزاء عن ارتباط المعاني بعضها ببعض . وهذا مخالف لشروط التفكير ، لأن التفكير يوجب الاختصار والاقتصار على الأهم والبسيط ، والاعراض عن اللواحق ، ولعل النسيان من محاسن الذاكرة ، إذ لو اضطر الإنسان إلى حفظ كل شيء لتعبت حويصلاته الدماغية ، ونفذت قوة استيعابها ، ولأصبح غير قادر على اكتساب الامور الجديدة ، فيجب أن يزول عن الذهن شيء ويبقى فيه شيء ، ولولا النسيان لبقي الحزن في النفس على ما كان عليه وقت الفراق ، ولما صبر الإنسان على مانابه ، وإذن خير للذاكرة أن تكون ملكة نساءة . - أسباب النسيان : ان قانون الحياة يوضح لنا أسباب النسيان ، لأن الحياة تقتضي تناسباً وتناسقاً في التمثيل والتجديد والحذف .
فمن أسباب النسيان العضوية إنحاء المسالك العصبية القديمة ، وتولد مسالك جديدة عوضاً عنها . ان شدة التماسك العصي محدودة . وهذا يدل على تأثير الزمان في النسيان . ومن أسباب النسيان النفسية تأثير الانتباه ، والاهتمام . ان الانتباه يعين على الكسب و الحفظ ، كما يعين على النسيان ، لأن النفس لا تهتم بالحديث إلا لتهمل شيئاً من القديم المخزون في الحافظة ، وكلما عادت الذكريات إلى النفس تغير اهتمامنا بها فيتضاءل منها قسم نجلي قسم ، ولا يزال الانتباه يصطفي شوارد الصور ، حتى يزول بعضها ، ويسدل النسيان حجابه على ما لا نهتم به منها .
ويرى ( فرويد ) ان مسألة النسيان أعوص من مسألة التذكر وأعمق منها ، لأن الأشياء التي نظن أننا نسيناها منذ زمن بعيد قد تعود إلى الذاكرة فجأة . وفي الانسان ميل طبيعي إلى نسيان الامور المنافية . فالنسيان هو النفور من تذكر بعض الأشياء التي تثير في نفوسنا انفعالاً مؤلماً . ففيه إذن عوامل مجهولة لا تقر النفس بها . اننا ننسى اسم الشخص الذي لا نحبه ، وننسى مكان الشيء الذي نريد أن نضيعه . ان بعض المرضى ينسون عند مراجعة الطبيب ان يقولوا له ان والديهم ماتوا بملة السل . وإذا نسي العاشق موعد اللقاء فذلك دليل على تناقص حبه . ان الحياة العاطفية كالحياة العسكرية لا تعذر على النسيان . فأنت ترى ان آراء ( فرويد ) على ما فيها من مبالغة مشتملة على كثير من الملاحظات الصادقة ، وهي تثبت ان لميولنا ونزعاتنا أثراً عميقاً في ذاكرتنا .
٢ - آلية النسيان : ان زوال الذكريات كزوال العادات :
١ - ان لاستعمال الذكريات أو عدم استعمالها تأثيراً في النسيان . لأنه يـ يقوي أو يضعف تثبيتها . وكلما كان تثبيتها أقوى ، كان نسيانها أبطأ ، وعلى ذلك فإن للنسيان قانونين :
أ - ان نسيان الصور المهملة يكون بالتدريج من الماضي إلى الحاضر ، لأن أحسنها ثبوتاً أحدثها ، وعلى ذلك فالإنسان يذكر الامور الحديثة أحسن مما يذكر الامور القديمة ويسمى هذا القانون بقانون التماسك الطبيعي .
ب - ان نسيان الصور المستعملة يكون على عكس الأولى بالرجوع من الحاضر إلى الماضي ( ريبو ) ، فينسى الانسان القريب قبل البعيد ، لأن تكرار الصور يكسبها قوة تماسك وتلاحم ، ويجعل الذكريات القديمة احسن ثبوتاً ، وأكثر رسوخاً في النفس من الذكريات الحديثة . وعلى ذلك فالإنسان ينسى اللغات الأجنبية قبل لغته الأصلية ، وينسى أسماء الاعلام قبل الأسماء العامة ، والأسماء العامة قبل الأفعال ، ولذلك أيضا كانت ذكريات أيام الصبا آخر ما ينساه الشيوخ .
٢ - يتم النسيان الارادي باستبدال بعض الذكريات ببعض ، أو بإسقاطها مباشرة ، وذلك بأن يقطع الانسان ، بقوة ارادته ، كل ما كان يربطه بالماضي ، فيغير مسكنه ، أو يلهو بالسياحة لزيارات أو بالزيارات أو ببعض الأعمال .
ان آلية الخطور والنسيان تدل على أن تأثير الذاكرة في الحياة العاقلة أعظم من تأثير الأفكار ، لأن الصورة الذهنية تختلف عن الذكرى اختلاف البسيط عن المركب .
وليس معنى النسيان فقدان الذكريات وزوالها التام عن النفس وإنما هو غياب الصور عن ساحة الشعور . ان عدم شعورنا بالصورة النفسية لا يدل على فقدانها ، لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ، فكأن العالم النفسي شبيه بالعالم المادي ، لايضيع فيه شيء أبداً .
الخطور والنسيان
خطور الأمر بالبال هو ذكره بعد نسيانه ، واستعادة ما مضى ، وإحضاره ، حق يصبح الموجود بالقوة موجوداً بالفعل .
والذاكرة كما رأيت شبيهة بعض الشيء بالعادة فإذا أتمت فعلها خطرت الذكريات بالبال ، وإذا عاقها عن القيام بفعلها عائق وقع النسيان .
١ - الخطور وآليته النفسية
تخطر الذكريات بالبال بتأثير تداعي الأفكار ، وذلك اما بصورة تلقائية ، واما بصورة تأملية .
۱ - الخطور التلقائي أو الذكر ( ۲ ) : قد تعود الذكرى إلى مسرح الشعور من غير أن تكون معدة للرجوع اليه بأسباب ظاهرة تستحضرها فيكون حضورها تابعاً لأسباب عضوية مجهولة وتسمى عند ذلك بالذكريات الحرة Souvenirs libres الا ان خطور الذكريات بالبال على هذه الصورة الحرة لا يحدث إلا في بعض حالات الانحلال الذهني . أما في الحالات الطبيعية فإن خطورها يتبع نظاماً خاصاً وقانوناً ثابتاً ، فتتسلسل الذكريات ، ويتبع بعضها بعضاً بحسب مناسبتها ، وملامتها ، وجاذبيتها ، وشوق صاحبها و اهتمامه ، وشواغل فكره .
۲ - الخطور الارادي أو التذكر : وهو أن يلقي الانتباه الإرادي على الذاكرة سؤالاً يطلب بـه منها أن تطلعه على اسم منسي ، أو تاريخ ، أو شيء ضائع ، فتعرض الذاكرة على العقل ما حفظت من الامور ، وتأتيه بما خبأت من الصور ، فينتخب العقل منها ذكرى صحيحة ، ولا يتم هذا الإحضار الإرادي إلا بالتداعي المكتسب .
والخطوو الإرادي ( أو التذكر ) ، يقتضي :
۱ - الذكر الجزائي : لأن الإنسان لا يحتال لاستعادة ما اندرس من الأمور إلا إذا كان . لها أثر في نفسه ، فهو يذكر الشيء وإن نسي إسمه ، ويعرف الحادثة وإن غاب عنه تاريخها . فكأنه شاعر بالفراغ الذي أحدثه النسيان في نفسه ، وهـو فراغ فعال ، إلا أنه وقد قال ( باسكال ) بهذا المعنى : ( لو لم تجدني ، لما فتشت عني . أن هذا البحث يتضمن فة ناقصة ترید أن تصبح تامة ، وذلك يجمع أجزائها بعضها إلى بعض . ولذلك قيل إن
لقانون الجمع أي لقانون عودة المجموع الشعوري ( Loi de rédintegration ، ، تأثيراً في التذكر إلا أن المجموع المقصود هنا هو المجموع الإرادي الخاضع للجهد والانتباه ( ۱ ) .
ب - التذكر : التذكر خاضع للقوة النطقية لأن العقل يحذف الذكريات الكاذبة ويختار الذكريات الصادقة ولا يتم له ذلك إلا بالمعرفة ، والمقايسة ، والحكم . وهذا يدل على ان التذكر ( الخطور الإرادي ) لا يوجد إلا في الإنسان ، لأنه يقتضي الاستدلال والقياس من الملكات العقلية التي يظن أن الحيوان خال منها . على ان تحكم الإرادة في الخطور ، أو الإحضار ، قد يؤخر التذكر ، ويجعل الحصول على الذكريات متعذراً في حالات الانتباه الشديد ، وخير واسطة للتغلب على هذه الحالة أن يعرض الإنسان برهة من الزمان عن الأمر الذي يريد استحضاره ، ويلهو عنه بأمر آخر ، فتعود الصور إلى مجراها الطبيعي ، وتحضر الذكرى بنفسها من غير جهد إرادي .
۲ - النسيان
و كانت الذاكوة قوة مطلقة ومتماسكة تماما لتعذر عليها النسيان ، ولكانت غير صالحة للتفكير ، لأنها إذا أحضرت دقائق الامور ، واستعادت جميع أجزائها ، شغلت بهذه الأجزاء عن ارتباط المعاني بعضها ببعض . وهذا مخالف لشروط التفكير ، لأن التفكير يوجب الاختصار والاقتصار على الأهم والبسيط ، والاعراض عن اللواحق ، ولعل النسيان من محاسن الذاكرة ، إذ لو اضطر الإنسان إلى حفظ كل شيء لتعبت حويصلاته الدماغية ، ونفذت قوة استيعابها ، ولأصبح غير قادر على اكتساب الامور الجديدة ، فيجب أن يزول عن الذهن شيء ويبقى فيه شيء ، ولولا النسيان لبقي الحزن في النفس على ما كان عليه وقت الفراق ، ولما صبر الإنسان على مانابه ، وإذن خير للذاكرة أن تكون ملكة نساءة . - أسباب النسيان : ان قانون الحياة يوضح لنا أسباب النسيان ، لأن الحياة تقتضي تناسباً وتناسقاً في التمثيل والتجديد والحذف .
فمن أسباب النسيان العضوية إنحاء المسالك العصبية القديمة ، وتولد مسالك جديدة عوضاً عنها . ان شدة التماسك العصي محدودة . وهذا يدل على تأثير الزمان في النسيان . ومن أسباب النسيان النفسية تأثير الانتباه ، والاهتمام . ان الانتباه يعين على الكسب و الحفظ ، كما يعين على النسيان ، لأن النفس لا تهتم بالحديث إلا لتهمل شيئاً من القديم المخزون في الحافظة ، وكلما عادت الذكريات إلى النفس تغير اهتمامنا بها فيتضاءل منها قسم نجلي قسم ، ولا يزال الانتباه يصطفي شوارد الصور ، حتى يزول بعضها ، ويسدل النسيان حجابه على ما لا نهتم به منها .
ويرى ( فرويد ) ان مسألة النسيان أعوص من مسألة التذكر وأعمق منها ، لأن الأشياء التي نظن أننا نسيناها منذ زمن بعيد قد تعود إلى الذاكرة فجأة . وفي الانسان ميل طبيعي إلى نسيان الامور المنافية . فالنسيان هو النفور من تذكر بعض الأشياء التي تثير في نفوسنا انفعالاً مؤلماً . ففيه إذن عوامل مجهولة لا تقر النفس بها . اننا ننسى اسم الشخص الذي لا نحبه ، وننسى مكان الشيء الذي نريد أن نضيعه . ان بعض المرضى ينسون عند مراجعة الطبيب ان يقولوا له ان والديهم ماتوا بملة السل . وإذا نسي العاشق موعد اللقاء فذلك دليل على تناقص حبه . ان الحياة العاطفية كالحياة العسكرية لا تعذر على النسيان . فأنت ترى ان آراء ( فرويد ) على ما فيها من مبالغة مشتملة على كثير من الملاحظات الصادقة ، وهي تثبت ان لميولنا ونزعاتنا أثراً عميقاً في ذاكرتنا .
٢ - آلية النسيان : ان زوال الذكريات كزوال العادات :
١ - ان لاستعمال الذكريات أو عدم استعمالها تأثيراً في النسيان . لأنه يـ يقوي أو يضعف تثبيتها . وكلما كان تثبيتها أقوى ، كان نسيانها أبطأ ، وعلى ذلك فإن للنسيان قانونين :
أ - ان نسيان الصور المهملة يكون بالتدريج من الماضي إلى الحاضر ، لأن أحسنها ثبوتاً أحدثها ، وعلى ذلك فالإنسان يذكر الامور الحديثة أحسن مما يذكر الامور القديمة ويسمى هذا القانون بقانون التماسك الطبيعي .
ب - ان نسيان الصور المستعملة يكون على عكس الأولى بالرجوع من الحاضر إلى الماضي ( ريبو ) ، فينسى الانسان القريب قبل البعيد ، لأن تكرار الصور يكسبها قوة تماسك وتلاحم ، ويجعل الذكريات القديمة احسن ثبوتاً ، وأكثر رسوخاً في النفس من الذكريات الحديثة . وعلى ذلك فالإنسان ينسى اللغات الأجنبية قبل لغته الأصلية ، وينسى أسماء الاعلام قبل الأسماء العامة ، والأسماء العامة قبل الأفعال ، ولذلك أيضا كانت ذكريات أيام الصبا آخر ما ينساه الشيوخ .
٢ - يتم النسيان الارادي باستبدال بعض الذكريات ببعض ، أو بإسقاطها مباشرة ، وذلك بأن يقطع الانسان ، بقوة ارادته ، كل ما كان يربطه بالماضي ، فيغير مسكنه ، أو يلهو بالسياحة لزيارات أو بالزيارات أو ببعض الأعمال .
ان آلية الخطور والنسيان تدل على أن تأثير الذاكرة في الحياة العاقلة أعظم من تأثير الأفكار ، لأن الصورة الذهنية تختلف عن الذكرى اختلاف البسيط عن المركب .
وليس معنى النسيان فقدان الذكريات وزوالها التام عن النفس وإنما هو غياب الصور عن ساحة الشعور . ان عدم شعورنا بالصورة النفسية لا يدل على فقدانها ، لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ، فكأن العالم النفسي شبيه بالعالم المادي ، لايضيع فيه شيء أبداً .
تعليق