يومين والثالث ع فراق الحبايب
زياد بركات
قص
نبيل أبو غنيمة، فلسطين
شارك هذا المقال
حجم الخط
لم يكن يحب فيروز بل أغنيتها.
ما أحب يومًا مطربة غنت وتغني قدر محبته لسميرة توفيق. كان يلفظ اسمها سميرة بكسر الراء على ما يلفظ الفلسطينيون كثيرًا من الأسماء التي تنتهي بتاء مربوطة، وكان يحبها.
قال للفتى وهما يتجولان بأن يصف له تلك المرأة ذات الجمال البدوي.
أفلت الفتى يده ثم توقف.
قال له: ما بك؟
قال الفتى إنه لا يعرف ما إذا كان يحق للأموات أن يصفوا الأحياء، للرجال منهم تحديدًا أن يصفوا النساء، فقال له الرجل العجوز، الرجل الضرير، الوحيد تمامًا في هذا الكون، بأن يفعل، ثم قبض على يده وأدناه منه ثم ضمه وهو يقول: ثم إنك مجرد ولد صغير.
لست كذلك،
ثم أخذت أركض،
وأبتعد.
كان ثمة سوق صغيرة. تركتها ورائي. بائع سلاش تركته ورائي حتى وصلت إلى الشاطئ.
كان ثمة سمك في الشباك، سردين صغير في صباح ذلك اليوم، يبلبط ويلفظ آخر أنفاسه، ووقفت مدهوشًا وذلك الصياد ضخم الجثة يدنو مني ويخاطبني.
قال: لا تتركه وحيدًا.
قال إنه يعرف كل شيء.
وطلب بعينين آمرتين أن أستدير وأعود حيث سأجده في المكان نفسه الذي تركته فيه.
قال إنه طفل كبير في السن ليس إلا. لا يعرف الصور إلا تلك التي رآها قبل أن يفقد بصره. لم يكن قد أكمل العشرين من عمره عندما حدث ذلك. غامت رؤيته فأغمض عينيه وفتحهما فلم ير إلا نقاطًا صغيرة سوداء سرعان ما تمتد وتصبح خيوطًا بيضاء متصلة تتحرك في كل الاتجاهات. أغمضهما غاضبًا ثم فتحهما فرأى سكينة أبو شوقة جيدًا، فضحك.
قال لها يبدو أنني جننت فقد ظننت أنني لم أعد أرى، وكانت سكينة تنظف كومًا من السردين بسكين طويلة فلم تسمعه.
ثم شعر بحكة في الداخل. ما يشبه جيوش النمل الصغير تروح وتجيء بلا انقطاع، ففرك عينيه ثم فتحهما، ثم أخذ يبكي وسكينة تحضنه وهو يقول إنه لم يعد يرى كالسابق.
ذهبوا به إلى رجل عجوز فأوصاه بأن يفرك عينيه بالجنزارة، وعندما فعل ليلًا اشتعلت النار في عينيه وسمع طقة خفيفة لم ير بعدها شيئًا.
قال إنه ما زال يسمع تلك الطقة الخفيفة. قال إنه متأكد من أنه سمعها.
قال الرجل ضخم الجثة، إنه يريد أن يستعيد الصور. يريد أن يضيف إليها ألوانًا، أن يراها. قال إنه يريد أن ينسى عماه لكنه يريد في الوقت نفسه أن يتذكر حياته التي أخذت تفلت من ذاكرته.
لقد نسي فعليًا صور أولاده، ولكي يتذكر فإنه يلمس اليدين ليعرف الشخص، أما الوجه فيُخترع، يُرتجل ارتجالًا، يُعاد تركيبه مما تبقى من وجوه لم ينسها بعد، لذلك طلب صورة سميرة توفيق.
قال الرجل الضخم للفتى إن تلك المطربة ستتحول إلى مثال للأنوثة بالنسبة للرجل العجوز. لا تنس أنه رجل في نهاية المطاف، وعلى ضوء وجهها وجسدها ستُبنى الأجساد الأخرى والوجوه والقسمات والأصوات.
قال له الرجل ضخم الجثة إن العجوز لم يكن عجوزًا آنذاك. عندما فقد بصره لم يكن عجوزًا بل شابًا يقارب العشرين من عمره. كان محاطًا ببيارته التي قضمها أخوته وأعمامه منه عندما أيقنوا أنه أصبح ضريرًا، هل ترى؟؟!!
لقد اجتاحته تلك الرغبة المدمرة التي لا تقف في وجهها قوة في الكون. اجتاحه النسيان آنذاك، فلم يرغب في حينه بأن يتذكر بل أن ينسى. نسي وجوه إخوته وأعمامه الذين استولوا على بيارته في أسدود.
رغب بشدة في الموت، لكنه لم يأتِ، فابتهل إلى الله أن ينجّيه، أن يدفع إليه سفينة نوح ويأخذه فيما المياه تدمّر كل من تركه في ضعفه آنذاك ذليلًا ووحيدًا بين أطفاله الصغار وزوجته سكينة.
لقد نسي الوجوه تمامًا.
كان ينادي عليها. يدنيها إليه ثم يأخذ بتحسس وجهها.
وجهك فقط، قال لها، لا أريد أن أنساه.
وجهك فقط.
قال له الرجل ضخم الجثة استدر وعد إليه ستجده في المكان نفسه الذي تركته فيه.
لقد تمت خيانته، هل تفهم؟؟! الفلاح لا يملك سوى الأرض. إذا فقدها فقد مبرّر وجوده، لذلك رغب في الموت، ولما تعذّر ذلك لجأ إلى النسيان، وانظر ما حدث بعد ذلك. لقد جاء الإسرائيليون واحتلوا كل شيء. أخذوا أسدود كلها، وطردوهم كلهم من تلك الأرض. آنذاك والشاب الضرير يهرب غاضبًا. احتفظ وحسب بغضبه على الجميع: لقد جاء الطوفان يا نوح، لقد غمر الأرض كلها فانج وأهلك في السفينة ولا تنظر إلى الوراء.
لم يكن محمد حسين زقوت قادرًا في الأساس على النظر إلى الوراء، وحتى لو فعل فلن يرى شيئًا. أكثر من ذلك فإنه لم يكن يرغب بالنظر إلى الوراء، فَلَو فعل لتذكر إخوته وأعمامه الذين سحبوا أرضه الصغيرة من تحت قدميه، لذلك رغب أكثر يومًا بعد آخر بالنسيان المطلق، حيث الأشياء تصبح بيضاء تمامًا.
لكن لماذا يكون النسيان أبيض؟؟! لم لا يكون أسود مثلًا؟؟!! هو لا يعرف، فالأمور الكبرى كلها: الحب، الموت، الخيانة، الولادة، الله، الشيطان، إلخ إلخ، هي مجرد استعارات في نهاية المطاف، لذلك لا بأس في أن يكون النسيان أبيض. لكنه ليس كذلك، إنه حيث لا تقيم الألوان. قال مرة لصديقه، فقال له الأخير إنه أبيض إذًا لأن الأبيض والأسود ليسا لونين في الأساس، هل تراهما في قوس قزح، هل تراهما في جسد الإنسان؟؟!! سأله، فقال له: نعم إنهما في الأسنان البيضاء، فأجابه الأخير بأن ذلك ليس لونًا قدر ما هو هيئة وقوام بلا لون، فَلَو كسرتها لن تصل إلى الأبيض بل سيكون الأبيض هو نهاية رحلة الألوان. قبله ثمة ما هو أقرب إلى الحمرة المعتمة وهي تتحلل وتتخلص من اللون حتى تصل إلى البياض، بياض الأسنان، تلك هي النهاية بيضاء، بيضاء. ذلك هو النسيان أبيض لأنه نهاية الأشياء وهي تتخلص من ماضيها وتلقيه إلى الخارج، فلا يبقى ثمة لون، لا يبقى ثمة معنى.
قال له الرجل: عد من حيث أتيت، لكنه عندما نظر إلى الرجل ضخم الجثة لم يجده. لم يكن ثمة أحد هناك، لم يكن ثمة سوى الاستعارات تتخاطب وتصطدم ببعضها، وإذ عرف ذلك استدار وأخذ يركض.
أخذ يركض حتى وصله وارتمى في حضنه. وفكر سيقول له، وفكر بأن يبكي وهو يحكي، ولكن الرجل الضرير الذي ظل ينتظره أربعين عامًا ليحكي قال له إنه يعرف كل شيء... كل شيء، كل شيء.
زياد بركات
قص
نبيل أبو غنيمة، فلسطين
شارك هذا المقال
حجم الخط
لم يكن يحب فيروز بل أغنيتها.
ما أحب يومًا مطربة غنت وتغني قدر محبته لسميرة توفيق. كان يلفظ اسمها سميرة بكسر الراء على ما يلفظ الفلسطينيون كثيرًا من الأسماء التي تنتهي بتاء مربوطة، وكان يحبها.
قال للفتى وهما يتجولان بأن يصف له تلك المرأة ذات الجمال البدوي.
أفلت الفتى يده ثم توقف.
قال له: ما بك؟
قال الفتى إنه لا يعرف ما إذا كان يحق للأموات أن يصفوا الأحياء، للرجال منهم تحديدًا أن يصفوا النساء، فقال له الرجل العجوز، الرجل الضرير، الوحيد تمامًا في هذا الكون، بأن يفعل، ثم قبض على يده وأدناه منه ثم ضمه وهو يقول: ثم إنك مجرد ولد صغير.
لست كذلك،
ثم أخذت أركض،
وأبتعد.
كان ثمة سوق صغيرة. تركتها ورائي. بائع سلاش تركته ورائي حتى وصلت إلى الشاطئ.
كان ثمة سمك في الشباك، سردين صغير في صباح ذلك اليوم، يبلبط ويلفظ آخر أنفاسه، ووقفت مدهوشًا وذلك الصياد ضخم الجثة يدنو مني ويخاطبني.
قال: لا تتركه وحيدًا.
قال إنه يعرف كل شيء.
وطلب بعينين آمرتين أن أستدير وأعود حيث سأجده في المكان نفسه الذي تركته فيه.
قال إنه طفل كبير في السن ليس إلا. لا يعرف الصور إلا تلك التي رآها قبل أن يفقد بصره. لم يكن قد أكمل العشرين من عمره عندما حدث ذلك. غامت رؤيته فأغمض عينيه وفتحهما فلم ير إلا نقاطًا صغيرة سوداء سرعان ما تمتد وتصبح خيوطًا بيضاء متصلة تتحرك في كل الاتجاهات. أغمضهما غاضبًا ثم فتحهما فرأى سكينة أبو شوقة جيدًا، فضحك.
قال لها يبدو أنني جننت فقد ظننت أنني لم أعد أرى، وكانت سكينة تنظف كومًا من السردين بسكين طويلة فلم تسمعه.
ثم شعر بحكة في الداخل. ما يشبه جيوش النمل الصغير تروح وتجيء بلا انقطاع، ففرك عينيه ثم فتحهما، ثم أخذ يبكي وسكينة تحضنه وهو يقول إنه لم يعد يرى كالسابق.
ذهبوا به إلى رجل عجوز فأوصاه بأن يفرك عينيه بالجنزارة، وعندما فعل ليلًا اشتعلت النار في عينيه وسمع طقة خفيفة لم ير بعدها شيئًا.
قال إنه ما زال يسمع تلك الطقة الخفيفة. قال إنه متأكد من أنه سمعها.
قال الرجل ضخم الجثة، إنه يريد أن يستعيد الصور. يريد أن يضيف إليها ألوانًا، أن يراها. قال إنه يريد أن ينسى عماه لكنه يريد في الوقت نفسه أن يتذكر حياته التي أخذت تفلت من ذاكرته.
لقد نسي فعليًا صور أولاده، ولكي يتذكر فإنه يلمس اليدين ليعرف الشخص، أما الوجه فيُخترع، يُرتجل ارتجالًا، يُعاد تركيبه مما تبقى من وجوه لم ينسها بعد، لذلك طلب صورة سميرة توفيق.
قال الرجل الضخم للفتى إن تلك المطربة ستتحول إلى مثال للأنوثة بالنسبة للرجل العجوز. لا تنس أنه رجل في نهاية المطاف، وعلى ضوء وجهها وجسدها ستُبنى الأجساد الأخرى والوجوه والقسمات والأصوات.
قال له الرجل ضخم الجثة إن العجوز لم يكن عجوزًا آنذاك. عندما فقد بصره لم يكن عجوزًا بل شابًا يقارب العشرين من عمره. كان محاطًا ببيارته التي قضمها أخوته وأعمامه منه عندما أيقنوا أنه أصبح ضريرًا، هل ترى؟؟!!
لقد اجتاحته تلك الرغبة المدمرة التي لا تقف في وجهها قوة في الكون. اجتاحه النسيان آنذاك، فلم يرغب في حينه بأن يتذكر بل أن ينسى. نسي وجوه إخوته وأعمامه الذين استولوا على بيارته في أسدود.
رغب بشدة في الموت، لكنه لم يأتِ، فابتهل إلى الله أن ينجّيه، أن يدفع إليه سفينة نوح ويأخذه فيما المياه تدمّر كل من تركه في ضعفه آنذاك ذليلًا ووحيدًا بين أطفاله الصغار وزوجته سكينة.
لقد نسي الوجوه تمامًا.
كان ينادي عليها. يدنيها إليه ثم يأخذ بتحسس وجهها.
وجهك فقط، قال لها، لا أريد أن أنساه.
وجهك فقط.
قال له الرجل ضخم الجثة استدر وعد إليه ستجده في المكان نفسه الذي تركته فيه.
لقد تمت خيانته، هل تفهم؟؟! الفلاح لا يملك سوى الأرض. إذا فقدها فقد مبرّر وجوده، لذلك رغب في الموت، ولما تعذّر ذلك لجأ إلى النسيان، وانظر ما حدث بعد ذلك. لقد جاء الإسرائيليون واحتلوا كل شيء. أخذوا أسدود كلها، وطردوهم كلهم من تلك الأرض. آنذاك والشاب الضرير يهرب غاضبًا. احتفظ وحسب بغضبه على الجميع: لقد جاء الطوفان يا نوح، لقد غمر الأرض كلها فانج وأهلك في السفينة ولا تنظر إلى الوراء.
لم يكن محمد حسين زقوت قادرًا في الأساس على النظر إلى الوراء، وحتى لو فعل فلن يرى شيئًا. أكثر من ذلك فإنه لم يكن يرغب بالنظر إلى الوراء، فَلَو فعل لتذكر إخوته وأعمامه الذين سحبوا أرضه الصغيرة من تحت قدميه، لذلك رغب أكثر يومًا بعد آخر بالنسيان المطلق، حيث الأشياء تصبح بيضاء تمامًا.
لكن لماذا يكون النسيان أبيض؟؟! لم لا يكون أسود مثلًا؟؟!! هو لا يعرف، فالأمور الكبرى كلها: الحب، الموت، الخيانة، الولادة، الله، الشيطان، إلخ إلخ، هي مجرد استعارات في نهاية المطاف، لذلك لا بأس في أن يكون النسيان أبيض. لكنه ليس كذلك، إنه حيث لا تقيم الألوان. قال مرة لصديقه، فقال له الأخير إنه أبيض إذًا لأن الأبيض والأسود ليسا لونين في الأساس، هل تراهما في قوس قزح، هل تراهما في جسد الإنسان؟؟!! سأله، فقال له: نعم إنهما في الأسنان البيضاء، فأجابه الأخير بأن ذلك ليس لونًا قدر ما هو هيئة وقوام بلا لون، فَلَو كسرتها لن تصل إلى الأبيض بل سيكون الأبيض هو نهاية رحلة الألوان. قبله ثمة ما هو أقرب إلى الحمرة المعتمة وهي تتحلل وتتخلص من اللون حتى تصل إلى البياض، بياض الأسنان، تلك هي النهاية بيضاء، بيضاء. ذلك هو النسيان أبيض لأنه نهاية الأشياء وهي تتخلص من ماضيها وتلقيه إلى الخارج، فلا يبقى ثمة لون، لا يبقى ثمة معنى.
قال له الرجل: عد من حيث أتيت، لكنه عندما نظر إلى الرجل ضخم الجثة لم يجده. لم يكن ثمة أحد هناك، لم يكن ثمة سوى الاستعارات تتخاطب وتصطدم ببعضها، وإذ عرف ذلك استدار وأخذ يركض.
أخذ يركض حتى وصله وارتمى في حضنه. وفكر سيقول له، وفكر بأن يبكي وهو يحكي، ولكن الرجل الضرير الذي ظل ينتظره أربعين عامًا ليحكي قال له إنه يعرف كل شيء... كل شيء، كل شيء.