"مايسترو": عن بروباغندا غربية غريبة لا تنتهي
محمد جميل خضر 6 يناير 2024
سينما
فيلم "مايسترو" مرشّح لأكثر من 69 جائزة
شارك هذا المقال
حجم الخط
يتحضّر المشهد السينمائي الغربي (الأميركي على وجه الخصوص)، لِتحويل فيلم "مايسترو" Maestro (2023)، إلى أيقونةِ أفلام العام 2024، بعد أن أقْحموه في سباقاتِ نهاية العام 2023، وجعلوه، عنوَةً، يتصدّر المشهد.
أما لماذا كل هذا، فلأن الفيلم يروي، من تأليف وإخراج الممثل الأميركي برادلي كوبر، الذي اشتهر كممثلٍ من خلال فيلم "صداع الكحول/The Hangover" بأجزائه الثلاثة، سيرة حياة الموسيقي اليهوديِّ الأميركيِّ من أصل أوكرانيٍّ ليونارد (أو ليرند) برنستاين (أو برنشتاين، 1918 ـ 1990)، وقصة غرامه الممتدة مع رفيقة دربه الممثلة فيليسيا ماريا كوهن مونتيليغري (1922 ـ 1978) اليهودية الأميركية.
تخيلوا، يا رعاكم الله، أن الفيلم مرشح منذ إطلاقه نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2023، لأكثر من 69 جائزة، معظمها، بل كلّها، على ما يبدو، تنتظره مع دخولنا عام 2024، وبدء انطلاق مهرجاناته ومسابقاته السينمائية، مهرجانًا وراء آخر، ومسابقة وراء أخرى، وتخيّلوا أنه نال، فعليًّا، حتى اللحظة عشر جوائز!
ربما ثمة سبب آخر لهذه البروباغندا التي سبقت الفيلم، وفي أحسن الأحوال، انطلقت فور صدوره، ألا وهي المتعلقة بالتّلميح مرّة، والتّصريح في أُخرى، داخل دقائق الفيلم البالغة (131 دقيقة)، للعلاقة التي سبقت ارتباط برنستاين بِمونتيليغري، بينه وبين عازف الكلارينيت في الفرقة الفيلهارمونيّة التي أصبح الموسيقي اليهودي قائدها!
في التلميح، يكفي أن نشير إلى ردّة فعل عازف الكلارينيت عندما عرّفه ليني على صديقته فيليسيا التي ستصبح لاحقًا زوجته. وعلى صعيد التصريح، فحين يلتقي مصادفة بعد سنوات من زواجه من فيليسيا وإنجابهما ولديْن، بصديقه القديم زيوس وزوجته وابنته، يقبّله من شفتيه، ويقبّل زوجة صديقه بالطريقة نفسه، ثم ينحني نحو الرضيعةِ ابنتهما، ويقول لها سوف أخبرك بسرٍّ: "هل تعلمين أنني نمتُ مع والديْكِ كليهما، ماذا أفعل فلديّ كثير من الحب، ولكنني أحاول أن ألْجمه"، ثم بعد أن يتمشّوا جميعهم قليلًا في جادّات نيويورك، يتوادع (العاشقان) السابقان بطريقة دراماتيكية مبالغ فيها كثيرًا!
لا يكتفي ليني بعلاقته مع رفيق الصبا، فبعد أن أصبح ملحنًا موهوبًا وقائدًا موسيقيًا شهيرًا، وبعد أن انتقل الفيلم إلى الألوان (أول 50 دقيقة منه بالأبيض والأسود، تضيء بدايات المايسترو وإرهاصات شهرته الأولى)، وخلال حفل يقيمه في بيته وقد ابيضّ شعره، يلتقي بِأحد المدعوين، ويُدعى تومي، فيفجّر إعجابه به منذ اللحظة الأولى، ثم يصطحبه إلى مكتبه في الطابق العلوي، ويبدأ تقبيله قبل أن تُباغتَهما زوجته ورفيقة دربه التي يفترض أن الفيلم يروي مدى فرادةِ علاقتهما، وصمودِها، ونقائِها! اللافت أن زوجته أظهرت في كل الحالات تفهمًا لسلوكياته تلك، كما لو أنها، تلك السلوكيات، مضافًا إليها تدخينه الشّره غير المنقطع، جزءٌ أصيلٌ من إبداعِ أيِّ مبدع!!
لا يقطع ليني، رغم إحراجات اللقاء الأول، علاقتَهُ بالشاب الذي فَتَنَه! ويدْرجه داخل أعضاء فرقته، وَيواصلانِ العمل معًا، ويواصلان، كذلك، لقاءات ما بعد العمل، أو بينَه، أو خلالَه!!!
أما أسوأ ما في الأمر حول هذا الموضوع، لعلنا بعدها ننتهي منه، فهو قبيح حتى في تناوله، وقبيح في خصوصيته، واضطرارنا (لاقتحام) هذه الخصوصية، لنحاول فهم لماذا كل هذه الاندفاعة (المنافقة) انتصارًا للشريط العادي في مختلف الأحوال، أقول إن أسوأ تفصيلة حول (مِثْلية) مايسترو الفيلم هو أنه، وبعد أن ينكر لابنته جايمي علاقته بِتومي، بناء على توجيه من زوجته التي تحذره وتؤكد عليه أن لا يخبر البنت بالحقيقة، يساعد ابنته في التقرّب من (حبيبه)، بعد أن يلاحظ ميلَ الصبية للشاب الذي سمعت في بلدةِ والدها أنه على علاقة بأبيها، فكم علامة تعجُّب ينبغي عليّ أن أضع بعد هذه التعريجةِ داخل ثنايا الفيلم المحتشدِ بالفراغاتِ والإِطالة.
لأسبابٍ غير سينمائية
يريدون بالقوة، ولأسباب غير سينمائية، أن يغزو الفيلم العالم، بسيناريو ضعيف (لم يُعرف عن برادلي كوبر أنه كاتب سيناريو)، مُفتعل في كثير من مفاصل الفيلم وحواراته، ومُصِر، في غيرِ جملة وموقف، على جلب التعاطف مع اليهود (على سبيل المثال حين يقول والد ليني (ليونارد) في لقاء التعارف الذي أحضر ابنه محبوبته إليه، إنه كان يواصل العزف في القطار الذاهب إلى موسكو، من دون أن يدخل المدينة، لأن اليهود كان ممنوعًا عليهم أيامها دخولها، حيث يعود في القطار نفسه، مُتَبَنْدِلًا بين ذهابٍ وإيابٍ لعيون عاصمة محرومٍ من دخولها)، وَسأسْمح لِنفسي، لحظتها، تخيّل الدموع المُزْدَوجة التي سوف تُذرف على هكذا مقطع من حوارات الفيلم!
"فيلم "مايسترو" في الأساس يروي قصة موسيقي، إلا أن موسيقى الفيلم نفسه، لم ترقَ ولو درجة، فوق الموسيقى الكلاسيكية التي أخذت قسطًا وافرًا من الفيلم" |
يريدونه أن يقتحم الشاشات جميعها بحبكةٍ مهزوزةٍ، اعتمدت، أساسًا، سيرة حياة عازف البيانو قبل أن تمنحه مصادفتان (مصادفة مرض مايسترو الفرقة الأساسي، ومصادفة تعثر وصول من ينوبه بسبب الازدحام) فرصة أن يصبح المايسترو الأول لِفرقة فيلهارمونيّة نيويوركيّة برودويّة، وداورتْ حول قصة الحب التي لم يكن اليهودي الأوكراني، في البداية، متحمسًا لها (ربما بسبب علاقته مع رفيق سكنِه).
عن موسيقى الفيلم
للمفارقة، ورغم أن الفيلم يروي، في الأساس، قصة موسيقي، إلا أن موسيقى الفيلم نفسه، لم ترقَ ولو درجة، فوق الموسيقى الكلاسيكية التي أخذت قسطًا وافرًا من الفيلم عبْر إدْماجها بالقصة نفسها، وعبْر متابعة بعض أمسيات أوركسترا يقودها ليني بطل الفيلم. باستثناء هذه المساحة التي منحها المخرج إياها، فإن موسيقى الفيلم لم تلمع، ولم تحدِث فارقًا، ولم تفرِض عليك الانتباه إليها ونسيان باقي تفاصيل المشهد المعروض. لم تجعلْك، ولوْ لدقائق قليلة، تتابع الفيلم بأذنيكَ، وليس بِعينيك.
وحتى عندما جعلها الشريط بطلة (أقصد الموسيقى) فقد فعل ذلك من خلال أمسية ناجحة قادها ليني، وشكّلت سببًا وجيهًا لعودة زوجته إلى البيت، بعد أن كانت غادرته لزمن ليس قصيرًا، بسبب مواصلة زوجها سلوكياته (المرفوضة على ما يبدو) من طرفها، قائلة له في موجة غضب جارفة، بعد أن أصبح (حبيبه) يقيم معهم تقريبًا: "إن بقيتَ على ما أنت عليه، فسوف تموت مثليًّا وحيدًا متعجرفًا". غضبها قاده إلى مزيد من العناد، وأضاف إلى سلوكياته مصيبة أخرى هي مصيبة إدمانه على المخدرات والكحول. كما جعله يقدم مداخلة قبل أمسية لفرقته يخبر الناس فيها وهو يرتدي زيًّا غير رسميٍّ أنّه قرر أن يظل كما هو، وأن يواجهَ الموت متى جاء وهو مصرٌّ على خياراته، متمسكٌ بكلِّ انحرافاته.
كما هو متوقع، ختم الفيلم دقائقه بمقطوعة موسيقية يبدو أن ليني ألّفها للزوجة التي سبقته إلى الموت بدزينةٍ من الأعوام.
وبين موسيقى البداية، وموسيقى النهاية، نسمع، غير مرّة، ليني يعزف على البيانو، نلْتقِط بعض لَمَحاتٍ من موسيقاتٍ عالمية، على أن موسيقى الفيلم هي، في الأساس، جميعها من تأليف ليونارد برنشتاين، إذ يبدو أن برادلي كوبر اختار منها ما هو متوفّر بجودةٍ مناسبة.
عادت الزوجة التي كانت ذات يوم نجمة، ومعها خبر إصابتها بسرطان الثدي.
ترحل رفيقة دربه، فلا يضيّع المايسترو وقته؛ يقيم علاقة مع فتى أسود البشرة، ويبدأ تحضيره ليكون مايسترو الفرقة بعده!
لا تغيّر السنون سلوكيات ليني، علمًا أن الفيلم لا يبحر كثيرًا في الفترة التي عاشها بعد رحيل فيليسيا، وكما لو أن سرديّته الأساسية هي العلاقة الغريبة العجيبة التي جمعتهما معًا، وقررا في لحظة تاريخية منها (تلك العلاقة) أن يتزوجا من دون أن يقرر هو بدوره، في الوقت نفسه، تكريس حياته لهذا (الحب) وهذا الارتباط المفروض أنه مقدّس.
المُنْعطَف
لولا الطوفان (المنعطفُ التاريخيّ الحقيقيّ الذي نحياه اليوم)، لكنتُ، ربما، مررتُ على الفيلم مرور الكرام، وكنت لم أتوقّف، لعلّني، عند كل هذا النفاق حوله، لتفرد أهم التظاهرات السينمائية لأجل عينيه صفحاتها، وتفتح له أبوابها، مهلّلة أن تعال وادخل معنا عام الـ 2024، غازيًا رابحًا من دون منافسة حقيقية، وامْتح من كنوز جوائزنا، خذ أفضلها، واغنم بأعرقِها، فنحن السينما، ونحن الموسيقى، ومن ذا الذي يجرؤ أن يغمز من قناتنا، أو يدّعي قدرته على قراءة المشهد بعينٍ ثالثة، ناقِدة، متبصّرة.
ها أنا قد فعلت، متحرّرًا من الانقياديةِ لكم، والتبعيّة الدونيّة لفنونِكم المغموسة بسمومٍ لا نقوى نحن أبناء الشرق اللعين على تجرّعها من دون أن تهتزّ قيمنا، وتضطرب مجسّات وجودنا، أو تختلّ موازين أخلاقِنا. فنحن وإن كنّا لا نستخدم ميزانًا واحدًا، إلا أنَّ كلَّ موازينِنا، تجري في قنواتٍ غير قنواتِكم، وتصبُّ في بحارٍ لا تُشبه محيطاتِكم.
وبصراحةٍ مُتناهية، لسنا نحن من نحتاج لمراجعة دقّة موازيننا، وصوابيّة موروثِنا ومعتقداتِنا، بل أنتم من تحتاجون لإحداثَ ثورةٍ في معاييرِكم المزدوجة، ومكاييلِكم الموجّهة، وتخليصِ العالم من سرطانِكم الدّامي.
يضع المخرج، الذي أدّى، إلى ذلك، دور البطولة في الفيلم (شخصية المايسترو ليونارد برنشتاين Leonard Bernstein، وُلِدَ برنشتاين باسم لويس برنشتاين من عائلة ذات أصول أوكرانية يهودية، وعند بلوغه سن السادسة عشرة غير اسمه إلى ليونارد، وهي الكُنية التي بقي عليْها منذ ذلك الحين)، في شارةِ بدايةِ الفيلم، عبارة لِليونارد يقول فيها: "العمل الفني لا يجيب عن الأسئلة، بل يطرحها، ويكْمن مغزاه الأساسي في التوتّر الذي يخلقه بين الأجوبة المتناقضة". وعلى هذا الاقتباس أردّ قائلًا، ومقتبسًا، بدوْري، من عنوان كتاب الشهيد الفلسطينيّ باسل الأعرج (1984 ـ 2017) "وجدتُ أَجْوبتي"، إننا عرفْنا أجْوِبَتِنا، وَوجدناها بعد حيرتيْن: حيرتُنا من وضوحِها، وحيرتُها من عمائِنا الذي كان.