"عن الأعشاب الجافة" فيلم تركي عن الفرد ودوره في المجتمع
صراع بين الدين والأيديولوجيا الحكومية وتأثيرها المستمر.
نقاشات أيديولوجية
يسافر المخرج نوري بيلجي جيلان بكاميرته نحو الريف التركي، ليصور حياة الفرد في القرى ودوره في بناء المجتمع التركي الموسع، مركزا على تأثير العادات والتقاليد والدين في الأفراد وتمكن الأيديولوجيا الحكومية من فرض سيطرتها وتأثيرها المستمر عليهم.
قدم المهرجان الدولي للفيلم بمراكش في دورته العشرين التي تقام خلال الفترة ما بين الرابع والعشرين من نوفمبر الجاري والثاني من ديسمبر المقبل، في قسم العروض الخاصة، عرض فيلم “عن الأعشاب الجافة” للمخرج التركي نوري بيلجي جيلان، بحضور الممثلة ميرفي ديزدار التي فازت بجائزة أفضل ممثلة في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي.
يقدم فيلم “عن الأعشاب الجافة” حكاية بسيطة تتعقد تدريجيا، انطلاقا من فعل درامي يضع شخصياته في حوارات ثنائية، إذ تظهر المعاني الوجودية لحياتهم وأفعالهم في مساحات جغرافية واسعة وأحيانا غريبة، مثل الحقول والثلوج، التي تبرز جمالا دراميا، في مدينة أرضروم بشرق الأناضول، وتتنقل شخصيات الفيلم في علاقتها مع المكان النائي، مع التركيز على تطلعاتها وهواجسها تجاه الحاضر والمستقبل.
تتوالى الأحداث في مدرسة للمرحلة المتوسطة في أرضروم، حيث يتبادل الطلاب من القرى المجاورة تجاربهم وتصرفاتهم، مما يعكس تناقضات يومياتهم. حيث نتعرف على شخصية سامت، مدرس الفنون وعاشق التصوير الفوتوغرافي، من خلال سلسلة من الصور التي تكشف وجوها شاحبة ومتعبة في سياق يوميات بسيطة.
تظهر شخصية سامت بتناقضاتها وتعددية زاهية، كمدرس في مدينة قروية، يعيش فترة خدمته بانتظار العودة إلى إسطنبول، مما يجسد تضاربا بارزا بين الحياة في الريف والمدينة.
يتعرض طلاب المدرسة القادمون من القرى المجاورة بشكل متكرر للمزاج المتقلب للمدرس، الذي يظهر تمييزا إيجابيا مع مجموعة صغيرة من الطالبات، بينما يظهر قمعا عنيفا تجاه الطلاب الآخرين، ويتمثل ذلك بشكل واضح في تفاعل سامت مع الطالبة سيفيم، التي تظهر ربطا غير مألوف بينهما.
تظهر شخصية سامت بشكل أكثر وضوحا عندما يُتهم بعلاقة غير عادية مع سيفيم. يبرز غضبه من خلال تعاليه وخطابه المهين للطلاب، حيث ينتقدهم متهما إياهم بعدم إنتاج فن ذي قيمة، كما تنكشف الجوانب المتناقضة في شخصيته من خلال علاقاته المعقدة مع مختلف الشخصيات في الفيلم.
تظهر نوراي كشخصية يسارية الأيديولوجيا، وتعاني من إعاقة في القدم كرمز لضعف اليسار التركي، وتنتهي حواراتها مع سامت بشكل غامض، مما يعزز التناقضات والغموض الموجودين في اللقطات، ما يستغرق وقتا طويلا في التركيز على تفاصيل الحياة اليومية وتطور شخصياته.
تلتقي الشخصيات خلال مجرى الأحداث بعد مرور الشتاء، ويظهر ذلك كمشهد ساحر يجمع نوراي بسامت وكنان، حيث يقومون بنقلها إلى بيتها في سيارة وسط عاصفة ثلجية. يتبع ذلك إطار من الطبيعة مع دخول فصل الصيف، ولكن الأحداث لا تنتهي هنا، حيث يلتقي الطلاب مجددًا، وتتجدد العلاقات بين سامت وطالبته وكذلك مع نوراي وكنان.
الفيلم يتناول قضايا تتعلق بموقع الفرد ودوره في المجتمع، ويظهر اهتمام المخرج بالمواقف الأيديولوجية والحوارات حيث يتداخل الصراع أثناء متتاليات المشاهد، ومع ذلك، يظهر تركيز المخرج على القضايا الأيديولوجية على حساب موهبته السينمائية التي تميزت بها أعماله السابقة.
تبرز لحظات مميزة في معظم اللقطات مثل الإضاءة المفاجئة على تمثال مصطفى كمال أتاتورك (مؤسس تركيا الحديثة) خلال محاولة سامت سرقة رسالة من سيفيم، كما يُثير هذا التصوير تساؤلات حول سيطرة الأيديولوجيا الحكومية وتأثيرها المستمر في الفرد والمجتمع، وتظهر لقطة أخرى لوحة الإمام علي في منزل نوراي الذي يميل إلى الفكر اليساري، مما يشير إلى توتر بين الأيديولوجيا والدين.
تركز معظم المشاهد على حوارات طويلة ونقاشات أيديولوجية، وتظهر تناقضات الحياة اليومية بشكل معقد. ينتهي الفيلم ويثير التساؤلات حول مصداقية الجوائز الممنوحة له، خاصة تلك المُخصصة للممثلة ميرفي ديزدار، التي لم تظهر إلا في مشاهد قليلة بأداء باهت مقارنة بأداء البطل دنيز تشيليوغلو والشخصيات الأخرى.
حاز فيلم “عن الأعشاب الجافة” على جائزة أفضل ممثلة في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي. تأتي هذه الجائزة كتتويج لحضور شبه دائم للمخرج بيلجي جيلان في المهرجان الفرنسي، حيث فاز بسعفة ذهبية في عام 2014، وسبق له أيضا أن حصل على جوائز متنوعة، بما في ذلك جائزة أفضل إخراج، وجائزتان من لجنة التحكيم الكبرى، بالإضافة إلى جوائز من فيبريتشي.
◙ علاقة معقدة مع الأماكن النائية
مخرج الفيلم نوري بيلجي جيلان، هو مصور وكاتب سيناريو تركي، حاز جائزة النخلة الذهبية. بعد تخرجه من جامعة البوسفور بدرجة جيدة في هندسة الكهرباء والإلكترونيات، انغمس في دراسة السينما في جامعة معمار سنان لمدة عامين. كان يشعر بشغف تجاه الأنشطة الطبيعية، حيث شارك في نوادي تسلق الجبال واستكشاف المغارات.
أنتج فيلمه “حدث ذات مرة في الأناضول”، الذي عرض في مهرجان برلين السينمائي، وحقق إعجاب الجماهير والنقاد. قدم أيضا للجمهور عملا آخر بعنوان “بعيدا”، الذي عُرض في مهرجان كان السينمائي ونال إعجاب اللجنة التحكيمية الكبرى.
كما فاز فيلمه “سحب الشتاء” بجائزة النخلة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، وهذا يعد إنجازا ملحوظا يضاف إلى قائمة إبداعاته. يظل نوري بيلجي جيلان من بين الشخصيات المميزة في عالم السينما التركية، وذلك بفضل إسهاماته البارزة ونجاحاته المتتالية.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عبدالرحيم الشافعي
كاتب مغربي
صراع بين الدين والأيديولوجيا الحكومية وتأثيرها المستمر.
نقاشات أيديولوجية
يسافر المخرج نوري بيلجي جيلان بكاميرته نحو الريف التركي، ليصور حياة الفرد في القرى ودوره في بناء المجتمع التركي الموسع، مركزا على تأثير العادات والتقاليد والدين في الأفراد وتمكن الأيديولوجيا الحكومية من فرض سيطرتها وتأثيرها المستمر عليهم.
قدم المهرجان الدولي للفيلم بمراكش في دورته العشرين التي تقام خلال الفترة ما بين الرابع والعشرين من نوفمبر الجاري والثاني من ديسمبر المقبل، في قسم العروض الخاصة، عرض فيلم “عن الأعشاب الجافة” للمخرج التركي نوري بيلجي جيلان، بحضور الممثلة ميرفي ديزدار التي فازت بجائزة أفضل ممثلة في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي.
يقدم فيلم “عن الأعشاب الجافة” حكاية بسيطة تتعقد تدريجيا، انطلاقا من فعل درامي يضع شخصياته في حوارات ثنائية، إذ تظهر المعاني الوجودية لحياتهم وأفعالهم في مساحات جغرافية واسعة وأحيانا غريبة، مثل الحقول والثلوج، التي تبرز جمالا دراميا، في مدينة أرضروم بشرق الأناضول، وتتنقل شخصيات الفيلم في علاقتها مع المكان النائي، مع التركيز على تطلعاتها وهواجسها تجاه الحاضر والمستقبل.
تتوالى الأحداث في مدرسة للمرحلة المتوسطة في أرضروم، حيث يتبادل الطلاب من القرى المجاورة تجاربهم وتصرفاتهم، مما يعكس تناقضات يومياتهم. حيث نتعرف على شخصية سامت، مدرس الفنون وعاشق التصوير الفوتوغرافي، من خلال سلسلة من الصور التي تكشف وجوها شاحبة ومتعبة في سياق يوميات بسيطة.
تظهر شخصية سامت بتناقضاتها وتعددية زاهية، كمدرس في مدينة قروية، يعيش فترة خدمته بانتظار العودة إلى إسطنبول، مما يجسد تضاربا بارزا بين الحياة في الريف والمدينة.
يتعرض طلاب المدرسة القادمون من القرى المجاورة بشكل متكرر للمزاج المتقلب للمدرس، الذي يظهر تمييزا إيجابيا مع مجموعة صغيرة من الطالبات، بينما يظهر قمعا عنيفا تجاه الطلاب الآخرين، ويتمثل ذلك بشكل واضح في تفاعل سامت مع الطالبة سيفيم، التي تظهر ربطا غير مألوف بينهما.
تظهر شخصية سامت بشكل أكثر وضوحا عندما يُتهم بعلاقة غير عادية مع سيفيم. يبرز غضبه من خلال تعاليه وخطابه المهين للطلاب، حيث ينتقدهم متهما إياهم بعدم إنتاج فن ذي قيمة، كما تنكشف الجوانب المتناقضة في شخصيته من خلال علاقاته المعقدة مع مختلف الشخصيات في الفيلم.
تظهر نوراي كشخصية يسارية الأيديولوجيا، وتعاني من إعاقة في القدم كرمز لضعف اليسار التركي، وتنتهي حواراتها مع سامت بشكل غامض، مما يعزز التناقضات والغموض الموجودين في اللقطات، ما يستغرق وقتا طويلا في التركيز على تفاصيل الحياة اليومية وتطور شخصياته.
تلتقي الشخصيات خلال مجرى الأحداث بعد مرور الشتاء، ويظهر ذلك كمشهد ساحر يجمع نوراي بسامت وكنان، حيث يقومون بنقلها إلى بيتها في سيارة وسط عاصفة ثلجية. يتبع ذلك إطار من الطبيعة مع دخول فصل الصيف، ولكن الأحداث لا تنتهي هنا، حيث يلتقي الطلاب مجددًا، وتتجدد العلاقات بين سامت وطالبته وكذلك مع نوراي وكنان.
الفيلم يتناول قضايا تتعلق بموقع الفرد ودوره في المجتمع، ويظهر اهتمام المخرج بالمواقف الأيديولوجية والحوارات حيث يتداخل الصراع أثناء متتاليات المشاهد، ومع ذلك، يظهر تركيز المخرج على القضايا الأيديولوجية على حساب موهبته السينمائية التي تميزت بها أعماله السابقة.
تبرز لحظات مميزة في معظم اللقطات مثل الإضاءة المفاجئة على تمثال مصطفى كمال أتاتورك (مؤسس تركيا الحديثة) خلال محاولة سامت سرقة رسالة من سيفيم، كما يُثير هذا التصوير تساؤلات حول سيطرة الأيديولوجيا الحكومية وتأثيرها المستمر في الفرد والمجتمع، وتظهر لقطة أخرى لوحة الإمام علي في منزل نوراي الذي يميل إلى الفكر اليساري، مما يشير إلى توتر بين الأيديولوجيا والدين.
تركز معظم المشاهد على حوارات طويلة ونقاشات أيديولوجية، وتظهر تناقضات الحياة اليومية بشكل معقد. ينتهي الفيلم ويثير التساؤلات حول مصداقية الجوائز الممنوحة له، خاصة تلك المُخصصة للممثلة ميرفي ديزدار، التي لم تظهر إلا في مشاهد قليلة بأداء باهت مقارنة بأداء البطل دنيز تشيليوغلو والشخصيات الأخرى.
حاز فيلم “عن الأعشاب الجافة” على جائزة أفضل ممثلة في الدورة الأخيرة لمهرجان كان السينمائي. تأتي هذه الجائزة كتتويج لحضور شبه دائم للمخرج بيلجي جيلان في المهرجان الفرنسي، حيث فاز بسعفة ذهبية في عام 2014، وسبق له أيضا أن حصل على جوائز متنوعة، بما في ذلك جائزة أفضل إخراج، وجائزتان من لجنة التحكيم الكبرى، بالإضافة إلى جوائز من فيبريتشي.
◙ علاقة معقدة مع الأماكن النائية
مخرج الفيلم نوري بيلجي جيلان، هو مصور وكاتب سيناريو تركي، حاز جائزة النخلة الذهبية. بعد تخرجه من جامعة البوسفور بدرجة جيدة في هندسة الكهرباء والإلكترونيات، انغمس في دراسة السينما في جامعة معمار سنان لمدة عامين. كان يشعر بشغف تجاه الأنشطة الطبيعية، حيث شارك في نوادي تسلق الجبال واستكشاف المغارات.
أنتج فيلمه “حدث ذات مرة في الأناضول”، الذي عرض في مهرجان برلين السينمائي، وحقق إعجاب الجماهير والنقاد. قدم أيضا للجمهور عملا آخر بعنوان “بعيدا”، الذي عُرض في مهرجان كان السينمائي ونال إعجاب اللجنة التحكيمية الكبرى.
كما فاز فيلمه “سحب الشتاء” بجائزة النخلة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، وهذا يعد إنجازا ملحوظا يضاف إلى قائمة إبداعاته. يظل نوري بيلجي جيلان من بين الشخصيات المميزة في عالم السينما التركية، وذلك بفضل إسهاماته البارزة ونجاحاته المتتالية.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
عبدالرحيم الشافعي
كاتب مغربي