الذاكرة .. وصف وتحليل
الذاكرة
وصف وتحليل
۱ - الذاكرة والشعور : الشعور يقتضي التذكر ، ومن الصعب تصور حياة نفسية مقصورة على مطلق الحاضر ، أي على إدراك نقطة رياضية تفصل الماضي عن المستقبل . فالشعور إذن دوام ، واتصال ، وتركيب ، وبقاء شيء من الماضي في الحاضر . ولو اقتصرنا في حياتنا النفسية على الحاضر المطلق ، لكان التفكير غير ممكن ، لأن الذاكرة هي التي تصل الحاضر بالماضي . وهي بالنسبة إلى العقل كالعادة بالنسبة إلى الجسد . وأبسط صورة للتذكر ، الذاكرة الأولية ( Memoire Primordiale ) ، وهي عبارة عن بقاء الأحوال الجديدة في حاضر النفس مدة من الزمان . أما الذاكرة الحقيقية فهي القدرة على إحياء حالة شعورية مضت وانقضت ، مع العلم والتحقق أنها جزء من حياتنا الماضية .
ان الذاكرة الأولية تحفظ الحالة النفسية في الشعور مدة من الزمان ، ولكنها لا تسترجع هـ هذه الحالة بعد زوالها . ثم ان التكرار ليس كالتذكر ، فقد اكرر اليوم جملة فهت بها أمس من غير أن يكون تكراري لها تذكراً . لأن التذكر يقتضي شعوراً بالماضي وعلما بأحوال الشعور المنبعثة منه . ولا يزداد ترداد القول بغير وعي إلا عند الشيوخ ، أي عندما تضعف الذاكرة . الساعة تدق اليوم كما دقت أمس ، ولكن تكرر دقاتها لا يشبه تكور الذكريات ان الذاكرة لا تكون إلا حيث يكون الشعور بالماضي .
٢ - قيمة الذاكرة : للذاكرة أثر عميق في الحياة النفسية ، حق لقد قال ( او غسطينوس ) : النفس هي التذكر .
فالإدراك لا يقوم إلا على تذكر الصور السابقة ، كما أن الشخصية لا تقوم إلا على تذكر
الماضي . فلولا الذاكرة لما تكونت الشخصية ، ولا تم الإدراك ، ولا اكتسبت العادات ، ولا أمكن التخيل والحكم والاستدلال . وكلما كانت الذاكرة أقوى كان العقل أوسع وأغنى . والذين يمارسون الأعمال العقلية محتاجون إلى الذاكرة أكثر من غيرهم . لأن الذاكرة تعينهم على حفظ المعلومات والمعارف وتسهل لهم الفهم . والرجال العظام معروفون بقوة ذاكرتهم وسعة إحاطتهم . لقد كان القدماء من علمائنا يحفظون القرآن والحديث وكتاب الأغاني وكثيراً من دواوين الشعر . وكان ( ليبنيز ) نفسه كما قال ) ويليم جيمس ) دائرة معارف واسعة .
والحياة الانفعالية نفسها لا تقوم إلا على التذكر ، فلولا الذاكرة الجفت العواطف . ولولا الالتفات إلى الماضي لغاب عن الإنسان وجها التأسي . فالذاكرة تحيي العواطف ، وتوقظ الميول ، وتجدد الانفعالات .
ولولا الذاكرة لضاقت أيضاً حياتنا الفاعلة ، فتجاربنا الماضية توجه أفعالنا الحاضرة والآتية ، والتنبؤ بالمستقبل إنما هو كما قال ( هو كسلى ( ذاكرة معكوسة . أضف إلى ذلك أن الإرادة تستلزم التذكر ، كما أن الأخلاق نفسها تستلزم الاعتماد على التجارب الماضية .
٣ - أنواع الذاكرة : ان للذاكرة أنواعا كثيرة ، تختلف باختلاف الميول الفطرية والكسبية . مثال ذلك أن الإنسان قد يكون قادراً على حفظ الأعداد ، ويكون في الوقت نفسه عاجزاً عن حفظ مفردات اللغة . وقد يكون قويا في حفظ الأنساب والأسانيد ، ويكون ضعيفاً في حفظ الأنغام . فهناك إذن ذاكرة للأعداد ، وذاكرة للألفاظ ، وذاكرة للموسيقى إلخ ... وهذا يكسب المرء قوة في مهنة دون اخرى ، فالجغرافي ، والمؤرخ ، والموسيقي ، والرياضي كل منهم يحتاج إلى ذاكرة خاصة . غير أن علماء النفس يقسمون الذاكرة بحسب طبيعة الذكريات أقساماً مختلفة ، كالذاكرة الحسية ، والذاكرة الانفعالية ، والذاكرة العقلية .
١ - الذاكرة الحسية : أو ذاكرة الصور ، وهي : تختلف باختلاف أنواع الصور التي تستحضرها . فإذا كانت هذه الصور بصرية سميت بالذاكرة البصرية ، وإذا كانت سمعية سمیت بالذاكرة السمعية . وكما يوجد للإنسان ذاكرة بصرية ( Mémoire visuelle ) وذاكرة سمعية ( Memoire auditive ) ، فكذلك يوجد له ذاكرة حركية ( Mémoire motrice ) ،
وذاكرة ذوقية ( Memoire gustative ) ، وذاكرة لمسية ( Memoire tactile ) ، وذاكرة شمية ( more olfactive ، الخ . •
٢ - الذاكرة الإنفعالية ( ١ ) - اختلف العلماء في أمر الذاكرة الانفعالية - فمنهم من قال انها حقيقية « كريبو وبولهان » . ودليلهما على ذلك أن من خواص الأحوال النفسية عامة سواء كانت عقلية أو انفعالية أن تبعث من زوايا النسيان . وهذا أمر مؤيد بالتجربة ، إذ كثيراً ما نتذكر الحوادث الماضية مصحوبة بخوف شبيه بالخوف القديم . وإذا رجع الإنسان إلى وطنه بعد الغياب الطويل شعر بكثير من العواطف القديمة التي كان يشعر بها في شبابه - ومنهم ( كويلم جيمس ) وغيره من أنكر وجود الذاكرة الانفعالية ، فقال : ان الشيوخ لا يسترجعون انفعالات الشباب ، وأن ذكرى الألم ليست ألما في كل وقت ، بل قد يكون في ذكرى الألم لذة ، وفي ذكرى اللذة ألم ، حق لقد قال ( دانته ) : أن في تذكر أيام السعادة الماضية آلاماً قاسية . وقالوا أيضاً : أننا لا نشعر عند تذكر الحادثة السابقة بالانفعال الذي رافقها في ذلك الوقت ، بل نشعر بانفعال جديد .
ولعل رأي الفريق الأول أقرب إلى الحقيقة من رأي الفريق الثاني . فقد ذكر ( سوللي برودوم ) عن نفسه أنه كان إذا تذكر دخول الألمان مدينة باريز شعر من جديد بالغم الذي ساوره يوم استيلائهم عليها . فإذا قيل أن هذا الغم انفعال جديد ناشيء عن ذكرى عقلية ، قلنا ولماذا لا تكون الذكرى العقلية نفسها حالة نفسية جديدة . كل حالة نفسية حاضرة فهي جديدة بالنسبة إلى ما قبلها سواء أكانت عقلية أم انفعالية - والتذكر ليس إحياء للحالات السابقة بذاتها ، وإنما هو إبداع حالات جديدة مشابهة للحالات الماضية . والإنسان يتذكر أحواله العقلية كما يتذكر أحواله الانفعالية . ألا ترى أن ذكرى الطعام الكريه تجعلنا نتقياً ، وأن رؤية الذباب تولد فينا شعوراً بالحكة ، وأن قراءة بيت من الشعر تحيي العواطف التي شعرنا بها عندما قرأناه لأول مرة .
وقد قرر علماء النفس أن هذه الذاكرة الانفعالية تختلف باختلاف الأشخاص ، فقد تكون قوية واضحة ، وقد تكون ضعيفة . وقد يتذكر الإنسان آلامه الجسمانية فيشعر بها أكثر مما يشعر بآلامه النفسانية ، وقد يتذكر الغم ، والقلق ، والأمل ، ويشعر بها من جديد من غير أن يحس بآلامه الجسمانية . ومما ذكره ( ليتره ) مثلا أن عينيه كانتا تغرورقان بالدموع عند تذكر موت شقيقته . فكان يشعر من جديد بالحزن الذي أصابه يوم وفاتها ، وهو في العاشرة من سنه .
ثم ان للذاكرة الانفعالية تأثيراً في الحياة ، لأنها تبعد عنا أسباب الآلام أو قديم أحزاننا ومسراتنا . فتجدد تشاؤم الحزانى ، وتزيد تفاؤل السعداء .
٣- الذاكرة : العقلية وهي ذاكرة الافكار ، والأحكام ، والبراهين . فإذا تذكرت حديثاً يجميع ألفاظه كانت ذاكرتي حسية ، وإذا لم أتذكر من الحديث إلا معانيه ومن الكتاب إلا نظرياته كانت ذاكرتي عقلية .
ان للذاكرة العقلية أثراً عميقاً في مطالعة الكتب واكتساب العلوم ، وهي نامية جداً عند الفلاسفة والعلماء ، لأنهم يفكرون أكثر مما يتخيلون . وهذه الذاكرة العقلية تنضم أنواع الذاكرة ، فتؤلف معها كلا عضوياً واحداً ، وأقل الناس تفكيراً يستمين جميع بالفهم على الحفظ ، ولذلك كانت الذاكرة الحسية غير مجردة عن العقل ، وقد قيل : ان فهم المعاني خير وسيلة للحفظ .
٣ - فعل التذكر : ان فعل التذكر التام يقتضي أربعة شروط :
۱ - التشبت والحفظ ، ٢ - الخطور ، ٣ العرفان ، ٤ - التحديد . ولنأت بمثال نوضح به هذه الشروط الاربعة .
هبني تذكرت الآن زيارتي لقلعة بعلبك منذ خمس سنوات ، ان هذه الذكرى لاتكون تامة إلا إذا استوفت الشروط الآتية :
١ - يجب تثبيت الاحساسات التي شعرت بها وحفظ الامور التي أدركتها ، فأنا أذكر الآن أني لما زرت قلمة بعلبك شاهدت طائفة من التماثيل والنقوش والأعمدة ، ووقفت أمام معبد ) باخوس ( معجباً بما فيه من جمال وروعة ، وأتذكر أيضاً أن أحد الأصحاب الذين كانوا معي صورني واقفاً على باب المعبد ، وأن حديثنا قد تناول اذ ذاك موضوع المقارنة بين البناء الروماني والبناء العربي . فلولا تثبيت هذه الرسوم في نفسي وحفظها فيها لما أمكنني الآن تذكرها .
۲ - يجب أن تعود الصورة المحفوظة في نفسي إلى ساحة الشعور . ولولا ذلك لبقيت ذكرى قلعة بعلبك مطوية في زوايا النسيان .
٣ - قد تعود الصورة إلى ساحة الشعور من غير أن يكون رجوعها تذكراً . مثال ذلك انني قد أكتب عبارة قرأتها في بعض الكتب وأظن أنها لي . فالذكرى لا تكون إذن تامة إلا إذا تعرفتها النفس وعلمت أنها صورة منبعثة من حياتها الماضية . ولولا العرفان لكانت صورة بعلبك تخيلا . ٤ - وأخيراً يجب أن أكون قادراً على تحديد الزمان الذي زرت فيه قلعة بعلبك ، أي يجب أن يكون للذكرى التامة تاريخ . وسنبحث في كل من هذه الشروط الأربعة على حدته .
الذاكرة
وصف وتحليل
۱ - الذاكرة والشعور : الشعور يقتضي التذكر ، ومن الصعب تصور حياة نفسية مقصورة على مطلق الحاضر ، أي على إدراك نقطة رياضية تفصل الماضي عن المستقبل . فالشعور إذن دوام ، واتصال ، وتركيب ، وبقاء شيء من الماضي في الحاضر . ولو اقتصرنا في حياتنا النفسية على الحاضر المطلق ، لكان التفكير غير ممكن ، لأن الذاكرة هي التي تصل الحاضر بالماضي . وهي بالنسبة إلى العقل كالعادة بالنسبة إلى الجسد . وأبسط صورة للتذكر ، الذاكرة الأولية ( Memoire Primordiale ) ، وهي عبارة عن بقاء الأحوال الجديدة في حاضر النفس مدة من الزمان . أما الذاكرة الحقيقية فهي القدرة على إحياء حالة شعورية مضت وانقضت ، مع العلم والتحقق أنها جزء من حياتنا الماضية .
ان الذاكرة الأولية تحفظ الحالة النفسية في الشعور مدة من الزمان ، ولكنها لا تسترجع هـ هذه الحالة بعد زوالها . ثم ان التكرار ليس كالتذكر ، فقد اكرر اليوم جملة فهت بها أمس من غير أن يكون تكراري لها تذكراً . لأن التذكر يقتضي شعوراً بالماضي وعلما بأحوال الشعور المنبعثة منه . ولا يزداد ترداد القول بغير وعي إلا عند الشيوخ ، أي عندما تضعف الذاكرة . الساعة تدق اليوم كما دقت أمس ، ولكن تكرر دقاتها لا يشبه تكور الذكريات ان الذاكرة لا تكون إلا حيث يكون الشعور بالماضي .
٢ - قيمة الذاكرة : للذاكرة أثر عميق في الحياة النفسية ، حق لقد قال ( او غسطينوس ) : النفس هي التذكر .
فالإدراك لا يقوم إلا على تذكر الصور السابقة ، كما أن الشخصية لا تقوم إلا على تذكر
الماضي . فلولا الذاكرة لما تكونت الشخصية ، ولا تم الإدراك ، ولا اكتسبت العادات ، ولا أمكن التخيل والحكم والاستدلال . وكلما كانت الذاكرة أقوى كان العقل أوسع وأغنى . والذين يمارسون الأعمال العقلية محتاجون إلى الذاكرة أكثر من غيرهم . لأن الذاكرة تعينهم على حفظ المعلومات والمعارف وتسهل لهم الفهم . والرجال العظام معروفون بقوة ذاكرتهم وسعة إحاطتهم . لقد كان القدماء من علمائنا يحفظون القرآن والحديث وكتاب الأغاني وكثيراً من دواوين الشعر . وكان ( ليبنيز ) نفسه كما قال ) ويليم جيمس ) دائرة معارف واسعة .
والحياة الانفعالية نفسها لا تقوم إلا على التذكر ، فلولا الذاكرة الجفت العواطف . ولولا الالتفات إلى الماضي لغاب عن الإنسان وجها التأسي . فالذاكرة تحيي العواطف ، وتوقظ الميول ، وتجدد الانفعالات .
ولولا الذاكرة لضاقت أيضاً حياتنا الفاعلة ، فتجاربنا الماضية توجه أفعالنا الحاضرة والآتية ، والتنبؤ بالمستقبل إنما هو كما قال ( هو كسلى ( ذاكرة معكوسة . أضف إلى ذلك أن الإرادة تستلزم التذكر ، كما أن الأخلاق نفسها تستلزم الاعتماد على التجارب الماضية .
٣ - أنواع الذاكرة : ان للذاكرة أنواعا كثيرة ، تختلف باختلاف الميول الفطرية والكسبية . مثال ذلك أن الإنسان قد يكون قادراً على حفظ الأعداد ، ويكون في الوقت نفسه عاجزاً عن حفظ مفردات اللغة . وقد يكون قويا في حفظ الأنساب والأسانيد ، ويكون ضعيفاً في حفظ الأنغام . فهناك إذن ذاكرة للأعداد ، وذاكرة للألفاظ ، وذاكرة للموسيقى إلخ ... وهذا يكسب المرء قوة في مهنة دون اخرى ، فالجغرافي ، والمؤرخ ، والموسيقي ، والرياضي كل منهم يحتاج إلى ذاكرة خاصة . غير أن علماء النفس يقسمون الذاكرة بحسب طبيعة الذكريات أقساماً مختلفة ، كالذاكرة الحسية ، والذاكرة الانفعالية ، والذاكرة العقلية .
١ - الذاكرة الحسية : أو ذاكرة الصور ، وهي : تختلف باختلاف أنواع الصور التي تستحضرها . فإذا كانت هذه الصور بصرية سميت بالذاكرة البصرية ، وإذا كانت سمعية سمیت بالذاكرة السمعية . وكما يوجد للإنسان ذاكرة بصرية ( Mémoire visuelle ) وذاكرة سمعية ( Memoire auditive ) ، فكذلك يوجد له ذاكرة حركية ( Mémoire motrice ) ،
وذاكرة ذوقية ( Memoire gustative ) ، وذاكرة لمسية ( Memoire tactile ) ، وذاكرة شمية ( more olfactive ، الخ . •
٢ - الذاكرة الإنفعالية ( ١ ) - اختلف العلماء في أمر الذاكرة الانفعالية - فمنهم من قال انها حقيقية « كريبو وبولهان » . ودليلهما على ذلك أن من خواص الأحوال النفسية عامة سواء كانت عقلية أو انفعالية أن تبعث من زوايا النسيان . وهذا أمر مؤيد بالتجربة ، إذ كثيراً ما نتذكر الحوادث الماضية مصحوبة بخوف شبيه بالخوف القديم . وإذا رجع الإنسان إلى وطنه بعد الغياب الطويل شعر بكثير من العواطف القديمة التي كان يشعر بها في شبابه - ومنهم ( كويلم جيمس ) وغيره من أنكر وجود الذاكرة الانفعالية ، فقال : ان الشيوخ لا يسترجعون انفعالات الشباب ، وأن ذكرى الألم ليست ألما في كل وقت ، بل قد يكون في ذكرى الألم لذة ، وفي ذكرى اللذة ألم ، حق لقد قال ( دانته ) : أن في تذكر أيام السعادة الماضية آلاماً قاسية . وقالوا أيضاً : أننا لا نشعر عند تذكر الحادثة السابقة بالانفعال الذي رافقها في ذلك الوقت ، بل نشعر بانفعال جديد .
ولعل رأي الفريق الأول أقرب إلى الحقيقة من رأي الفريق الثاني . فقد ذكر ( سوللي برودوم ) عن نفسه أنه كان إذا تذكر دخول الألمان مدينة باريز شعر من جديد بالغم الذي ساوره يوم استيلائهم عليها . فإذا قيل أن هذا الغم انفعال جديد ناشيء عن ذكرى عقلية ، قلنا ولماذا لا تكون الذكرى العقلية نفسها حالة نفسية جديدة . كل حالة نفسية حاضرة فهي جديدة بالنسبة إلى ما قبلها سواء أكانت عقلية أم انفعالية - والتذكر ليس إحياء للحالات السابقة بذاتها ، وإنما هو إبداع حالات جديدة مشابهة للحالات الماضية . والإنسان يتذكر أحواله العقلية كما يتذكر أحواله الانفعالية . ألا ترى أن ذكرى الطعام الكريه تجعلنا نتقياً ، وأن رؤية الذباب تولد فينا شعوراً بالحكة ، وأن قراءة بيت من الشعر تحيي العواطف التي شعرنا بها عندما قرأناه لأول مرة .
وقد قرر علماء النفس أن هذه الذاكرة الانفعالية تختلف باختلاف الأشخاص ، فقد تكون قوية واضحة ، وقد تكون ضعيفة . وقد يتذكر الإنسان آلامه الجسمانية فيشعر بها أكثر مما يشعر بآلامه النفسانية ، وقد يتذكر الغم ، والقلق ، والأمل ، ويشعر بها من جديد من غير أن يحس بآلامه الجسمانية . ومما ذكره ( ليتره ) مثلا أن عينيه كانتا تغرورقان بالدموع عند تذكر موت شقيقته . فكان يشعر من جديد بالحزن الذي أصابه يوم وفاتها ، وهو في العاشرة من سنه .
ثم ان للذاكرة الانفعالية تأثيراً في الحياة ، لأنها تبعد عنا أسباب الآلام أو قديم أحزاننا ومسراتنا . فتجدد تشاؤم الحزانى ، وتزيد تفاؤل السعداء .
٣- الذاكرة : العقلية وهي ذاكرة الافكار ، والأحكام ، والبراهين . فإذا تذكرت حديثاً يجميع ألفاظه كانت ذاكرتي حسية ، وإذا لم أتذكر من الحديث إلا معانيه ومن الكتاب إلا نظرياته كانت ذاكرتي عقلية .
ان للذاكرة العقلية أثراً عميقاً في مطالعة الكتب واكتساب العلوم ، وهي نامية جداً عند الفلاسفة والعلماء ، لأنهم يفكرون أكثر مما يتخيلون . وهذه الذاكرة العقلية تنضم أنواع الذاكرة ، فتؤلف معها كلا عضوياً واحداً ، وأقل الناس تفكيراً يستمين جميع بالفهم على الحفظ ، ولذلك كانت الذاكرة الحسية غير مجردة عن العقل ، وقد قيل : ان فهم المعاني خير وسيلة للحفظ .
٣ - فعل التذكر : ان فعل التذكر التام يقتضي أربعة شروط :
۱ - التشبت والحفظ ، ٢ - الخطور ، ٣ العرفان ، ٤ - التحديد . ولنأت بمثال نوضح به هذه الشروط الاربعة .
هبني تذكرت الآن زيارتي لقلعة بعلبك منذ خمس سنوات ، ان هذه الذكرى لاتكون تامة إلا إذا استوفت الشروط الآتية :
١ - يجب تثبيت الاحساسات التي شعرت بها وحفظ الامور التي أدركتها ، فأنا أذكر الآن أني لما زرت قلمة بعلبك شاهدت طائفة من التماثيل والنقوش والأعمدة ، ووقفت أمام معبد ) باخوس ( معجباً بما فيه من جمال وروعة ، وأتذكر أيضاً أن أحد الأصحاب الذين كانوا معي صورني واقفاً على باب المعبد ، وأن حديثنا قد تناول اذ ذاك موضوع المقارنة بين البناء الروماني والبناء العربي . فلولا تثبيت هذه الرسوم في نفسي وحفظها فيها لما أمكنني الآن تذكرها .
۲ - يجب أن تعود الصورة المحفوظة في نفسي إلى ساحة الشعور . ولولا ذلك لبقيت ذكرى قلعة بعلبك مطوية في زوايا النسيان .
٣ - قد تعود الصورة إلى ساحة الشعور من غير أن يكون رجوعها تذكراً . مثال ذلك انني قد أكتب عبارة قرأتها في بعض الكتب وأظن أنها لي . فالذكرى لا تكون إذن تامة إلا إذا تعرفتها النفس وعلمت أنها صورة منبعثة من حياتها الماضية . ولولا العرفان لكانت صورة بعلبك تخيلا . ٤ - وأخيراً يجب أن أكون قادراً على تحديد الزمان الذي زرت فيه قلعة بعلبك ، أي يجب أن يكون للذكرى التامة تاريخ . وسنبحث في كل من هذه الشروط الأربعة على حدته .
تعليق