الشخصية أو الأنا .. معرفة النّفْس
معرفة النّفْس
( الشخصية أو الأنا )
رأيت في الفصل السابق كيف يتوصل الانسان الى الاعتقاد ان هناك عالما خارجيا مستقلا عنه . ثم كيف يخطىء في ادراك هذا العالم . ونريد الآن ان نبحث في الشخصية المدركه اي في الانا ، فكيف تتكون فكرة الأنا ، وما هي عناصرها وحقيقتها ؟
١- تكون الشخصية
ان الطفل لا يشعر بشخصيته شعوراً واضحاً ولا يعرف انه فرد مستقل عن العالم الخارجي وعن الافراد الآخرين . نعم ان العالم الخارجي يؤثر فيه ، ويولد في نفسه احساسات وتصورات كثيرة ، ولكن الطفل لا يفرق بين نفسه وبين الامور المحيطة بها ، بل يظن نفسه اياها .
رمع ذلك فان الطفل لا يلبث ان يكتسب هذا الشعور بشخصيته وهذه المعرفة بها شيئاً فشيئاً . لقد زعم ( لويس Luys ) و ( رومانس Romanes ) ان الطفل لا يعرف نفسه ، وان شعوره بشخصيته انما يتولد من الالفاظ التي نعلمه اياها . فهو اذا تكلم عن نفسه استعمل صيغة الغائب ، وقال : ( زيد يريد هذا الشيء ، او « زيد جائع » . ثم بعد ذلك ان يطلق على نفسه لفظ ( أنا ) فيستبدل بصيغة الغائب صيغة الحاضر ، ويستعمل ضمير المتكلم بدلا من العلم - ان هذا الرأي ضعيف جداً ، ويكفي لإثبات ضعفه ان تقول : لولا شعور الطفل بشخصيته لما فهم معنى ضمير المتكلم ، ولا عرف نعامه كيف يستعمله .
نعم ان هذا الشعور مبهم ، ولكن الطفل يكتسبه من تجاربه وحياته ، فيربي نفسه بنفسه ، ويتوصل شيئا فشيئاً الى معرفة شخصيته .
وإذا أردنا الآن أن نبين كيف تتكون شخصية الطفل ؟ قلنا ان إدراكه لذاته يشتمل في البدء على إدراك الجسد ، وقد رأينا عند البحث في تكون فكرة الشيء ان للتمييز بين الجسد والاجسام الأخرى اسباباً كثيرة : منها ان الجسد يؤلف جملة من الاحساسات الحاضرة ، وانه واسطة بيننا وبين العالم الخارجي ، وان احساسنا به مضاعف ، وانه اقل مقاومة لارادتنا من الأجسام الخارجية .
ثم ان الجسد مركز الأحوال الانفعالية من لذة وألم ، إذا وخزك أحدهم بالدبوس وخزاً بسيطاً تألمت ، وإذا لطمك على رأسك شعرت بوجع شديد ، فانت انما تتألم وتتلذذ يجسدك قبل كل شيء ، والجسد لا ينفصل عن الاحوال الانفعالية ، وهذه تؤثر في الافكار والرغائب وغيرها ، حتى لقد قيل : انها نواة الشعور بالشخصية .
ثم ان هذا التصور يزداد وضوحاً بتأثير الفاعلية . كلما تحركت العضلات صادفت في طريقها عقبات تعوقها عن العمل ، فتشتد وتتوتر للتغلب عليها . ان هذه العوائق الخارجية ركاتنا الغريزية ، فيتولد من هذه المعارضة شعور بالداخلي والخارجي ، ويؤدي هذا التضاد بين الأنا واللاأنا إلى توليد فكرة الشخصية .
والطفل مغرم بنفسه مفتون بفاعليته ، فيسره أن يبدل ما يحيط به من الأشياء ، فيقربها أو يبعدها . قال ( بريه و ( ١ ) ) : ( إذا مزق الطفل وهو في الشهر الخامس من سنه ، قطعة من الورق ، كشف . الصوت الذي يتولد من فعله . لا . يوجد في هذه السن تصور واضح للسببية . ولكن الطفل يرى بالتجربة انه يستطيع أن يكون علة إدراك بصري وسمعي معا ، لأنه حينما يمزق قطعة الورق ينقص حجمها ويحدث صوتاً ، . وتلذذ الطفل بذلك دليل على انه يحب ان يكون سببا ؛ فيرمي الحجارة في الماء ، ويصف الأصداف والكعاب ، ويريد أن يشعر بقوته وتأثيره . أن هذه المشاغل ليست ألعابا بسيطة ، وإنما هي تجارب يتعودبها الطفل أن يؤكد ذاته سببا مؤثراً ، شاعر اباستقلاله عن غيره .
ثم ان الطفل يفرق بعد ذلك بين نفسه وجسده ، كما يفرق بين جسده والأجسام الأخرى ، فيشعر بأن جسده شيء محسوس ، وانه ذو امتداد ، على عكس السرور ، والحزن ، والرغبة ، والإرادة ، والحكم ، وغير ذلك من الأحوال النفسية العارية من الامتداد . ثم يشعر أيضاً بأن الاحساسات التي يتألف منها جسده مباينة لهذه الأحوال النفسية من حيث أنها أكثر منها ثبو تا ومقاومة ، وأقل خضوعاً للارادة ، حتى لقد قال بعضهم : ان العالم الخارجي عالم الحتمية والضرورة ، وإن العالم الداخلي عالم الحرية والابداع ، ولا يفهمن من ذلك أن الأحوال النفسية غير خاضعة لقوانين طبيعية ، نعم انها كثيرة التغير ، ولكن تغيرها ليس تابعاً للاتفاق والمصادفة . وسنعود إلى الكلام على ذلك في الفصل الرابع من الباب الثالث هذا الكتاب .
لا يتوصل الانسان إلى الشعور التام بشخصيته ، إلا عندما يجرد نفسه من جسده ولا يزال هذا التجريد يزداد وضوحاً حتى تصيح الشخصية ذاتاً متحققة الوجود بالفعل ، وتسمى إذ ذاك بالأنا .
معرفة النّفْس
( الشخصية أو الأنا )
رأيت في الفصل السابق كيف يتوصل الانسان الى الاعتقاد ان هناك عالما خارجيا مستقلا عنه . ثم كيف يخطىء في ادراك هذا العالم . ونريد الآن ان نبحث في الشخصية المدركه اي في الانا ، فكيف تتكون فكرة الأنا ، وما هي عناصرها وحقيقتها ؟
١- تكون الشخصية
ان الطفل لا يشعر بشخصيته شعوراً واضحاً ولا يعرف انه فرد مستقل عن العالم الخارجي وعن الافراد الآخرين . نعم ان العالم الخارجي يؤثر فيه ، ويولد في نفسه احساسات وتصورات كثيرة ، ولكن الطفل لا يفرق بين نفسه وبين الامور المحيطة بها ، بل يظن نفسه اياها .
رمع ذلك فان الطفل لا يلبث ان يكتسب هذا الشعور بشخصيته وهذه المعرفة بها شيئاً فشيئاً . لقد زعم ( لويس Luys ) و ( رومانس Romanes ) ان الطفل لا يعرف نفسه ، وان شعوره بشخصيته انما يتولد من الالفاظ التي نعلمه اياها . فهو اذا تكلم عن نفسه استعمل صيغة الغائب ، وقال : ( زيد يريد هذا الشيء ، او « زيد جائع » . ثم بعد ذلك ان يطلق على نفسه لفظ ( أنا ) فيستبدل بصيغة الغائب صيغة الحاضر ، ويستعمل ضمير المتكلم بدلا من العلم - ان هذا الرأي ضعيف جداً ، ويكفي لإثبات ضعفه ان تقول : لولا شعور الطفل بشخصيته لما فهم معنى ضمير المتكلم ، ولا عرف نعامه كيف يستعمله .
نعم ان هذا الشعور مبهم ، ولكن الطفل يكتسبه من تجاربه وحياته ، فيربي نفسه بنفسه ، ويتوصل شيئا فشيئاً الى معرفة شخصيته .
وإذا أردنا الآن أن نبين كيف تتكون شخصية الطفل ؟ قلنا ان إدراكه لذاته يشتمل في البدء على إدراك الجسد ، وقد رأينا عند البحث في تكون فكرة الشيء ان للتمييز بين الجسد والاجسام الأخرى اسباباً كثيرة : منها ان الجسد يؤلف جملة من الاحساسات الحاضرة ، وانه واسطة بيننا وبين العالم الخارجي ، وان احساسنا به مضاعف ، وانه اقل مقاومة لارادتنا من الأجسام الخارجية .
ثم ان الجسد مركز الأحوال الانفعالية من لذة وألم ، إذا وخزك أحدهم بالدبوس وخزاً بسيطاً تألمت ، وإذا لطمك على رأسك شعرت بوجع شديد ، فانت انما تتألم وتتلذذ يجسدك قبل كل شيء ، والجسد لا ينفصل عن الاحوال الانفعالية ، وهذه تؤثر في الافكار والرغائب وغيرها ، حتى لقد قيل : انها نواة الشعور بالشخصية .
ثم ان هذا التصور يزداد وضوحاً بتأثير الفاعلية . كلما تحركت العضلات صادفت في طريقها عقبات تعوقها عن العمل ، فتشتد وتتوتر للتغلب عليها . ان هذه العوائق الخارجية ركاتنا الغريزية ، فيتولد من هذه المعارضة شعور بالداخلي والخارجي ، ويؤدي هذا التضاد بين الأنا واللاأنا إلى توليد فكرة الشخصية .
والطفل مغرم بنفسه مفتون بفاعليته ، فيسره أن يبدل ما يحيط به من الأشياء ، فيقربها أو يبعدها . قال ( بريه و ( ١ ) ) : ( إذا مزق الطفل وهو في الشهر الخامس من سنه ، قطعة من الورق ، كشف . الصوت الذي يتولد من فعله . لا . يوجد في هذه السن تصور واضح للسببية . ولكن الطفل يرى بالتجربة انه يستطيع أن يكون علة إدراك بصري وسمعي معا ، لأنه حينما يمزق قطعة الورق ينقص حجمها ويحدث صوتاً ، . وتلذذ الطفل بذلك دليل على انه يحب ان يكون سببا ؛ فيرمي الحجارة في الماء ، ويصف الأصداف والكعاب ، ويريد أن يشعر بقوته وتأثيره . أن هذه المشاغل ليست ألعابا بسيطة ، وإنما هي تجارب يتعودبها الطفل أن يؤكد ذاته سببا مؤثراً ، شاعر اباستقلاله عن غيره .
ثم ان الطفل يفرق بعد ذلك بين نفسه وجسده ، كما يفرق بين جسده والأجسام الأخرى ، فيشعر بأن جسده شيء محسوس ، وانه ذو امتداد ، على عكس السرور ، والحزن ، والرغبة ، والإرادة ، والحكم ، وغير ذلك من الأحوال النفسية العارية من الامتداد . ثم يشعر أيضاً بأن الاحساسات التي يتألف منها جسده مباينة لهذه الأحوال النفسية من حيث أنها أكثر منها ثبو تا ومقاومة ، وأقل خضوعاً للارادة ، حتى لقد قال بعضهم : ان العالم الخارجي عالم الحتمية والضرورة ، وإن العالم الداخلي عالم الحرية والابداع ، ولا يفهمن من ذلك أن الأحوال النفسية غير خاضعة لقوانين طبيعية ، نعم انها كثيرة التغير ، ولكن تغيرها ليس تابعاً للاتفاق والمصادفة . وسنعود إلى الكلام على ذلك في الفصل الرابع من الباب الثالث هذا الكتاب .
لا يتوصل الانسان إلى الشعور التام بشخصيته ، إلا عندما يجرد نفسه من جسده ولا يزال هذا التجريد يزداد وضوحاً حتى تصيح الشخصية ذاتاً متحققة الوجود بالفعل ، وتسمى إذ ذاك بالأنا .
تعليق