كيف يمكن إنجاز فيلم فيه بصمتي.. سؤال يطرحه كل مخرج
مخرجون عالميون يكشفون أن السينما عالم شخصي للغاية.
الأحد 2023/12/24
انشرWhatsAppTwitterFacebook
السينما قبل كل شيء استكشاف
على امتداد تاريخ السينما نجد تجارب فارقة كل منها تمثل بصمة خاصة لمخرجها. البصمة الخاصة ظلت الهاجس الأوحد لكل مخرجي السينما، ومساحة منشودة يسعون إليها عبر أفلامهم، ولكن قليلون هم من يصلون إليها. ولمعرفة الطريق إلى تحقيق ذلك حاول الناقد والمخرج السينمائي الفرنسي لوران تيرار استنطاق أبرز المخرجين العالميين حول طريقة عملهم.
“محاضرات في الإخراج السينمائي” للناقد والمخرج السينمائي الفرنسي لوران تيرار ليس كتابا في حرفة السينما وتقنياتها المختلفة فقط، وإنما يشكل خلاصة رؤى وأفكار وتجارب الإبداع السينمائي لدى أفضل مخرجي السينما في أميركا وأوروبا وآسيا، والسؤال الأساسي الذي يطرحه هو: كيف يمكن أن تتخلق خصوصية المخرج وبصمته الخاصة؟
وتتفرع من السؤال الرئيسي للكتاب العديد من التساؤلات مثل: لماذا يضع المخرج الكاميرا في هذا المكان ولا يضعها في موضع آخر؟ لماذا لا يستخدم العدسة الزووم ويفضل استخدام حركة الكاميرا التراكنج أو الدولي مثلا؟ لماذا لا يقوم ـ أو تقوم ـ بعمل بروفات مع الممثلين قبل التصور؟ لماذا يقوم بتغطية المنظر الواحد بعد لقطات مصورة من هنا ومن هناك أيضا؟ وفي التحليل النهائي، لماذا هي التي تصنع أو تبدع فيلما عابرا للحظة الآنية ويتجاوزها إلى لحظات تاريخية قادمة أيضا؟
متعة إنتاج الفيلم
الكتاب يجمع خلاصة رؤى وأفكار وتجارب الإبداع السينمائي لدى أفضل مخرجي السينما في أميركا وأوروبا وآسيا
الكتاب الذي ترجمه الناقد السينمائي محسن ويفي وصدر عن المركز القومي للترجمة ضم خمسا وعشرين مخرجا من بينهم جون بورمان، سيدني بولاك، كلود سوتيه، وودي آلان، مارتن سكورسيسي، فيم فيندرز، بيدرو ألمودوفار، تيم بورتون، جان بيير جانيه، أوليفر ستون، جويل وإيثان كوين، لارس فون تراير، إمير كوستوريكا، وونج كار ـ واي، جاك ـ لوك جودار.. وغيرهم. وهنا نتوقف مع إضاءات عدد من هؤلاء المخرجين الكبار.
ونبدأ برؤية المخرج البريطاني جون بورمان الذي يقول “الإخراج كتابة، وكل المخرجين الجادين يكتبون وعليهم عدم التصديق على ذلك، غالبا لأسباب تعاقدية، لكنني أعتقد أنك لا تستطيع فصل تشكيل السيناريو عن كتابته، وأعتقد بأن كل المخرجين الجادين يشكلون سيناريوهاتهم، بما يعني أنهم يجلسون مع الكتاب ويضعون الأفكار في شكل ويمنحونها بنية، هذا هو الجزء الرئيسي في عملية الإخراج، فإليها يمكنك أن تضيف المسألة الكلية الخاصة بالتفسير والكشف”.
ويضيف “أنا أنتج الأفلام من أجل الاكتشاف. لو أنني لا أعرف عمّا يدور الفيلم، فإنني سأواصل تنفيذه، أما إذا عرفت بدقة عمّا يدور الفيلم، فإنني سأفقد الشغف به. لذا فإن إثارة الاكتشاف هو الذي يجذبني، والخطر الذي ينطوي عليه ذلك، وعليك دائما أن تأمل بأن ذلك سيقودك إلى شيء ما هو بالفعل جديد وطازج وأصلي”.
ويتابع بورمان “اللحظة الوحيدة عمّا يدور الفيلم هي عندما أشاهده مع الجمهور. وهناك دائما مفاجآت، عندما أخرجت فيلم ‘أمل ومجد’ (hope and glory) والذي هو عن ذكريات طفولتي، لم أدرك حتى رأيته منتهيا أن هيمنة أسطورة آرثر عليّ يمكن تفسيرها في حقيقة أن أفضل أصدقاء أبي كان على علاقة بأمي. فقد كونوا نفس الثلاثي الذي تجده مع أرنز، لانسيلوت وجينيفر. لكن ذلك لم يتبين لي إلا مع تملكي لهذه الموضوعية، إلا عندما صرت ضمن فريق مشاهدين أكثر من كوني داخل الفيلم”.
25
مخرجا عالميا يقدمون آراءهم حول طريقة إنجاز فيلم يخلق خصوصية للمخرج ويكرس بصمته
ويرى المخرج الأميركي سيدني بولاك أن “الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها إنتاج أفلام لمتفرج مّا، هي؛ أن تصنعها من أجلك أنت؛ ليس بدافع عدم التكبر، وإنما ببساطة لأسباب عملية، فأيّ فيلم يجب أن يكون مسليا، وهذا صحيح بشكل مطلق، ولكن كيف يمكنك التعرف على ما يحبه الجمهور؟ يجب عليك استخدام نفسك باعتبارك مرجعية في ذلك. وهذا ما أفعله. وأحيانا ما أكون على خطأ”.
ويضيف “عندما أخرجت فيلم ‘هافانا’ (havana)، كنت على خطأ، ولكنني مازلت أستخدم نفس الطريقة حتى الآن، إنني أختار أعمالا تثير اهتمامي، وإنني محفوظ للغاية لأنه في معظم الوقت أثارت أفلامي اهتمام الجمهور أيضا. لو أنني جربت الأفضلية الأخرى عمّا يريد الجمهور أن يراه، رغم ذلك، فإنني متأكد من فشلي، لأن ذلك مثل أن تجرب حل مسألة رياضية شديدة التعقيد. لذا فإنني أقوم بإخراج أفلام عن أشياء تفتنني، عن علاقات، غالبا، كما سبق وأشرت”.
ويواصل بولاك قائلا “أحاول أن أنتج أفلاما تثير أسئلة أكثر مما تعطي إجابات، أفلاما لا تؤدي إلى نتيجة محددة، لأنني لا أحب ذلك عندما يكون أحدهم على خطأ وآخر على صواب، أقصد، لو أن هذه هي المسألة فإن الأمر قد لا يستحق عناء إنتاج أفلام حقيقة. إن معظم الأفلام التي قمت بإخراجها تتضمن داخلها جدلا عن أسلوب حياة شخصين من الناس. وأعترف بأنني أميل إلى التعامل الرشيق بشكل مثير للعاطفة تجاه المرأة أكثر من الرجل، لست متأكدا من السبب، لكن في أفلامي تصير المرأة أكثر حكمة أو تمتلك وجهة نظر للأشياء أكثر إنسانية، وهذا حقيقي في فيلم مثل ‘الطريق الذي كنا فيه’ (the way we were)”.
العمل مع الممثل
يشير المخرج الفرنسي كلود سوتيه إلى أن الأساس الأهم لتوجيه الممثلين هو الثقة، موضحا “إذا أخذنا نوعية الأفلام التي قمت بإخراجها، فمن المهم للغاية بالنسبة إليّ إيجاد الممثلين الذين لديهم ثقة كافية بأنفسهم وبي، وذلك لإظهار أكثر جوانبهم حساسية. في أوقات كثيرة يقول الممثلون لي ‘ليست لديّ أيّ كلمات في هذا المنظر، هل يمثل ذلك مشكلة؟‘ وهكذا أقوم بطمأنتهم وأشرح ما فهمته البلاد الأنجلو ـ ساكسونية منذ فترة طويلة خلت، فعليا، بأن الممثل الذي يحدق ويتأمل هو أكثر حضورا من الممثل الذي يتكلم”.
ويضيف “يعتمد كل شيء، بالطبع، على الطريقة التي يحدق بها الممثل، فهناك ممثلون يقلقون بشأن قدرتهم على التعبير عن شيء ما عندما لا توجد إشارات لفظية، فتحتاج إلى منحهم الثقة في وجودهم الشاحب. وبالمثل هناك بعض الممثلات يرفضن سحب شعرهن للوراء لإحساسهن بأنهن قد صرن عاريات، وهو شيء مما اكتشفته في رومي شنيدر (romy schneider)، بطبيعة الحال، فأثناء بروفات أشياء الحياة رأيتها مرة وهي جاذبة شعرها لأعلى وفكرت، ‘وما الفرق، إنه أمر لا يصدق، إنها ليست في حاجة إلى الكلام‘، ومنذ تلك اللحظة غالبا ما أستخدم هذا مع الممثلات لأنهن يعطين بقوة وحساسية أكثر بهذه الطريقة”.
ويقول المخرج الإيطالي برناردو بيرتولوتشي “في حالتي تعد الكاميرا هي مركز اهتمامي الأساس أثناء التصوير، ولهذا السبب أحتاج إلى إقامة تواصل قبلي مع الممثلين والتقنيين حتى أتجنب معظم وقتي داخل الموقع لتحريك الكاميرا واختيار العدسات، إنني لم أستخدم أبدا عدسة الزووم. ولا أعرف لماذا، ولكنني اكتشفت شيئا ما كاذبا في حركتها”.
ويضيف “أتذكر يوما ما أثناء تصوير ‘إستراتيجية العنكبوت‘ (the spider stratagem) عندما أحسست بضرورة استخدام العدسة الزووم على سبيل التغيير. قضيت نحو ساعة أجرب فيها، تقريبا إلى أن أصابني الإحساس بالغثيان. قمت بإلغائها وقلت إنني لا أريد رؤية هذا النوع من العدسات مرة أخرى، وبدأت هذه الأيام في إقامة علاقة سلمية مع الزووم، أستعملها بطريقة بسيطة وتقريبا من أجل هدف وظيفي بحت، لكن لسنوات طويلة نظرت إليها على أنها أداة الشيطان”.
ويعتقد بيرتولوتشي أن سر العمل الجيد مع ممثل هو أولا معرفة كيف تختاره أو تختارها، ولكي تنجح في ذلك عليك أن تنسى الشخصية بداخل السيناريو ولو للحظة، وشاهد ما إذا كان الشخص الذي أمامك يثير اهتمامك أم لا. هذا أمر مهم للغاية، أثناء التصوير، ستشعر بالفضول تجاه هذا الممثل الذي يقودك لاكتشاف الشخصية في القصة. أحيانا تختار ممثلا لأنه أو لأنها تبدو ملائمة تماما للشخصية المكتوبة، لكنك ستدرك في النهاية أن هذا ليس مثيرا للاهتمام، فليس هناك سر غامض، والقوة الدافعة وراء أيّ فيلم هي أولا وقبل كل شيء الفضول الغريب ورغبة المخرج في اكتشاف سر كل شخصية.
عالم شخصي
إنجاز فيلم عمل مشترك
يلفت المخرج الأميركي وودي آلان إلى أن هناك نوعين محددين من المخرجين؛ هؤلاء الذين يكتبون أدواتهم وهؤلاء الذين لا يكتبون. نادرا جدا أن تكون كليهما وتتناوب ما بين أفلام تكتبها. متابعا “الآن، لا أقصد أن أحد هذين النوعين أفضل من الآخر، أو أن نمطا من المخرجين هو الأكثر إثارة للإعجاب من الآخر. هما فقط مختلفان، الشيء الوحيد الذي تناله عندما تكتب فيلمك الخاص هو نوع من الفيلم شديد الحساسية طول الوقت، فهناك أسلوب ينتج بسرعة بالغة، وخصوصيات محددة ما تلبث أن تظهر أكثر غالبا، لذا مع هذا النوع من المخرجين، يصير المتفرج أكثر اتصالا مع فردية المخرج”.
ويواصل آلان “بينما لو أن مخرجا يعالج سيناريو كاتب آخر طول الوقت، فعليه بذل جهد كبير، ولو أن السيناريو جيد سيصير الفيلم بدوره فيلما رائعا بشكل حقيقي، لكنك لن تمتلك أبدا تلك السمة الشخصية التي يمتلكها المؤلف. الآن هذا يمكن أن يكون أفضل أو أسوأ، فيمكنك كتابة فيلمك الخاص وستحصل على فيلم بنكهة شخصية، ولكن إذا لم يكن لديك شيء مثير أو جديد كي تقوله عن الحياة، لن تكون أفلامك أبدا جيدة مثل تلك التي لمخرج يعالج سيناريو جيدا”.
ويرى أنه ما إن تتضح هذه التفرقة فكل المخرجين يجب أن ينتجوا أفلامهم من أجل أنفسهم، وأن واجبهم هو أن يتأكدوا أنه، مهما كانت العوائق التي تواجههم، فسيكون الفيلم ـ وسيظل ـ خاصا بهم من البداية إلى النهاية، فيجب على المخرج أن يظل سيد الفيلم، مضيفا “لا أقصد أن تنفذه مع الاستعلاء على الجمهور، لكن شعوري الشخصي هو أنك لو أنتجت فيلما سيسعدك، ووجدته جيدا، فإنك ستسعد الجمهور أيضا أو على الأقل جزءا من الجمهور. لكنني أعتقد أنه من الخطأ أن تحاول تخمين ماذا سيعجب الجمهور وتحاول أن تفعله، لأنك ستفعل كمن يدع الجمهور أن يأتي إلى موقع التصوير ويقوم بإخراج الفيلم نيابة عنك”.
ويؤكد المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار أنه من المهم لأيّ منتج فيلم أن يبتعد عن وهم أنه يستطيع أو حتى الأسوأ، يجب عليه ضبط كل شيء له علاقة بفيلمه. في الواقع كي تنجز فيلما، فأنت في حاجة إلى فريق من كائنات إنسانية. ولا يمكن ضبط الكائنات الإنسانية بنسبة مئة في المئة؛ يمكنك اختيار الإطار، لكن عند التصوير، يكون كل شيء في يدي مدير الكاميرا، ويمكنك الحديث ساعات وساعات عن الضوء الذي تريده، لكن في النهاية، هو من يقرر ما الضوء الذي سيكون عليه المنظر. وذلك أمر لا يهم، أولا لأن هذا النضال الذي ستشحنه تجاه حدود سيطرتك هو، في حد ذاته، إبداعي للغاية؛ وثانيا لأن هناك حدودا لطاقتك في التحكم حتى تظل كاملة، هناك حدود يجب عليك الحفاظ عليها متمركزة.
ويلفت ألمودوفار إلى أن هناك ثلاثة حدود: النص؛ أداء الممثلين؛ اختيار اللون الأساسي، ذلك الذي سيهيمن على المناظر، الأزياء، ونغمة الفيلم العامة. ويؤكد أن السينما قبل كل شيء استكشاف، فأنت تنتج أفلاما لأسباب شخصية على نحو واضح، لاكتشاف أشياء من أجل ذاتك، إنها مسألة مألوفة على نحو ساخر، أن تحدث عن طريق وسيلة تعبير تستهدف أكبر جمهور ممكن. إنها شيء مّا تفعله من أجل الآخرين، ولكنها تنجح فقط لو أنك مقتنع أنها من أجلك وحدك.
ويقول المخرج الياباني تاكيشي كيتانو أن “عمل المخرج كان ـ فوق كل اعتبار ـ امتلاك أفكار جيدة، لكنني بديلا عن ذلك أنه يتكون أساسا من تنظيم كل العناصر الخارجية لكي يخلق البيئة الملائمة لتخصيب هذه الأفكار بفاعلية”.
ويرى أن “السينما شيء مّا شخصي للغاية، عندما أنتج فيلما، فإنني أجعله أولا وقبل كل شيء لنفسي، فإنه مثل صندوق لعبة رائع ألعب معه. صندوق لعبة غالي الثمن جدا، بالطبع، وأحس بالخجل في نفس الوقت من هذا الشعور باللهو معه. جاء حينٌ من الوقت، مع ذلك، ما إن يصير الفيلم داخل علبته، عندئذ لا يظل الفيلم خاصا بك، إنه من ثم قد صار لعبة الجمهور والنقاد، لكن سيظل من غير الأمانة إنكار أنني قد أنتجت الفيلم لنفسي قبل أن أنتجه لأيّ أحد آخر”.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري
مخرجون عالميون يكشفون أن السينما عالم شخصي للغاية.
الأحد 2023/12/24
انشرWhatsAppTwitterFacebook
السينما قبل كل شيء استكشاف
على امتداد تاريخ السينما نجد تجارب فارقة كل منها تمثل بصمة خاصة لمخرجها. البصمة الخاصة ظلت الهاجس الأوحد لكل مخرجي السينما، ومساحة منشودة يسعون إليها عبر أفلامهم، ولكن قليلون هم من يصلون إليها. ولمعرفة الطريق إلى تحقيق ذلك حاول الناقد والمخرج السينمائي الفرنسي لوران تيرار استنطاق أبرز المخرجين العالميين حول طريقة عملهم.
“محاضرات في الإخراج السينمائي” للناقد والمخرج السينمائي الفرنسي لوران تيرار ليس كتابا في حرفة السينما وتقنياتها المختلفة فقط، وإنما يشكل خلاصة رؤى وأفكار وتجارب الإبداع السينمائي لدى أفضل مخرجي السينما في أميركا وأوروبا وآسيا، والسؤال الأساسي الذي يطرحه هو: كيف يمكن أن تتخلق خصوصية المخرج وبصمته الخاصة؟
وتتفرع من السؤال الرئيسي للكتاب العديد من التساؤلات مثل: لماذا يضع المخرج الكاميرا في هذا المكان ولا يضعها في موضع آخر؟ لماذا لا يستخدم العدسة الزووم ويفضل استخدام حركة الكاميرا التراكنج أو الدولي مثلا؟ لماذا لا يقوم ـ أو تقوم ـ بعمل بروفات مع الممثلين قبل التصور؟ لماذا يقوم بتغطية المنظر الواحد بعد لقطات مصورة من هنا ومن هناك أيضا؟ وفي التحليل النهائي، لماذا هي التي تصنع أو تبدع فيلما عابرا للحظة الآنية ويتجاوزها إلى لحظات تاريخية قادمة أيضا؟
متعة إنتاج الفيلم
الكتاب يجمع خلاصة رؤى وأفكار وتجارب الإبداع السينمائي لدى أفضل مخرجي السينما في أميركا وأوروبا وآسيا
الكتاب الذي ترجمه الناقد السينمائي محسن ويفي وصدر عن المركز القومي للترجمة ضم خمسا وعشرين مخرجا من بينهم جون بورمان، سيدني بولاك، كلود سوتيه، وودي آلان، مارتن سكورسيسي، فيم فيندرز، بيدرو ألمودوفار، تيم بورتون، جان بيير جانيه، أوليفر ستون، جويل وإيثان كوين، لارس فون تراير، إمير كوستوريكا، وونج كار ـ واي، جاك ـ لوك جودار.. وغيرهم. وهنا نتوقف مع إضاءات عدد من هؤلاء المخرجين الكبار.
ونبدأ برؤية المخرج البريطاني جون بورمان الذي يقول “الإخراج كتابة، وكل المخرجين الجادين يكتبون وعليهم عدم التصديق على ذلك، غالبا لأسباب تعاقدية، لكنني أعتقد أنك لا تستطيع فصل تشكيل السيناريو عن كتابته، وأعتقد بأن كل المخرجين الجادين يشكلون سيناريوهاتهم، بما يعني أنهم يجلسون مع الكتاب ويضعون الأفكار في شكل ويمنحونها بنية، هذا هو الجزء الرئيسي في عملية الإخراج، فإليها يمكنك أن تضيف المسألة الكلية الخاصة بالتفسير والكشف”.
ويضيف “أنا أنتج الأفلام من أجل الاكتشاف. لو أنني لا أعرف عمّا يدور الفيلم، فإنني سأواصل تنفيذه، أما إذا عرفت بدقة عمّا يدور الفيلم، فإنني سأفقد الشغف به. لذا فإن إثارة الاكتشاف هو الذي يجذبني، والخطر الذي ينطوي عليه ذلك، وعليك دائما أن تأمل بأن ذلك سيقودك إلى شيء ما هو بالفعل جديد وطازج وأصلي”.
ويتابع بورمان “اللحظة الوحيدة عمّا يدور الفيلم هي عندما أشاهده مع الجمهور. وهناك دائما مفاجآت، عندما أخرجت فيلم ‘أمل ومجد’ (hope and glory) والذي هو عن ذكريات طفولتي، لم أدرك حتى رأيته منتهيا أن هيمنة أسطورة آرثر عليّ يمكن تفسيرها في حقيقة أن أفضل أصدقاء أبي كان على علاقة بأمي. فقد كونوا نفس الثلاثي الذي تجده مع أرنز، لانسيلوت وجينيفر. لكن ذلك لم يتبين لي إلا مع تملكي لهذه الموضوعية، إلا عندما صرت ضمن فريق مشاهدين أكثر من كوني داخل الفيلم”.
25
مخرجا عالميا يقدمون آراءهم حول طريقة إنجاز فيلم يخلق خصوصية للمخرج ويكرس بصمته
ويرى المخرج الأميركي سيدني بولاك أن “الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها إنتاج أفلام لمتفرج مّا، هي؛ أن تصنعها من أجلك أنت؛ ليس بدافع عدم التكبر، وإنما ببساطة لأسباب عملية، فأيّ فيلم يجب أن يكون مسليا، وهذا صحيح بشكل مطلق، ولكن كيف يمكنك التعرف على ما يحبه الجمهور؟ يجب عليك استخدام نفسك باعتبارك مرجعية في ذلك. وهذا ما أفعله. وأحيانا ما أكون على خطأ”.
ويضيف “عندما أخرجت فيلم ‘هافانا’ (havana)، كنت على خطأ، ولكنني مازلت أستخدم نفس الطريقة حتى الآن، إنني أختار أعمالا تثير اهتمامي، وإنني محفوظ للغاية لأنه في معظم الوقت أثارت أفلامي اهتمام الجمهور أيضا. لو أنني جربت الأفضلية الأخرى عمّا يريد الجمهور أن يراه، رغم ذلك، فإنني متأكد من فشلي، لأن ذلك مثل أن تجرب حل مسألة رياضية شديدة التعقيد. لذا فإنني أقوم بإخراج أفلام عن أشياء تفتنني، عن علاقات، غالبا، كما سبق وأشرت”.
ويواصل بولاك قائلا “أحاول أن أنتج أفلاما تثير أسئلة أكثر مما تعطي إجابات، أفلاما لا تؤدي إلى نتيجة محددة، لأنني لا أحب ذلك عندما يكون أحدهم على خطأ وآخر على صواب، أقصد، لو أن هذه هي المسألة فإن الأمر قد لا يستحق عناء إنتاج أفلام حقيقة. إن معظم الأفلام التي قمت بإخراجها تتضمن داخلها جدلا عن أسلوب حياة شخصين من الناس. وأعترف بأنني أميل إلى التعامل الرشيق بشكل مثير للعاطفة تجاه المرأة أكثر من الرجل، لست متأكدا من السبب، لكن في أفلامي تصير المرأة أكثر حكمة أو تمتلك وجهة نظر للأشياء أكثر إنسانية، وهذا حقيقي في فيلم مثل ‘الطريق الذي كنا فيه’ (the way we were)”.
العمل مع الممثل
يشير المخرج الفرنسي كلود سوتيه إلى أن الأساس الأهم لتوجيه الممثلين هو الثقة، موضحا “إذا أخذنا نوعية الأفلام التي قمت بإخراجها، فمن المهم للغاية بالنسبة إليّ إيجاد الممثلين الذين لديهم ثقة كافية بأنفسهم وبي، وذلك لإظهار أكثر جوانبهم حساسية. في أوقات كثيرة يقول الممثلون لي ‘ليست لديّ أيّ كلمات في هذا المنظر، هل يمثل ذلك مشكلة؟‘ وهكذا أقوم بطمأنتهم وأشرح ما فهمته البلاد الأنجلو ـ ساكسونية منذ فترة طويلة خلت، فعليا، بأن الممثل الذي يحدق ويتأمل هو أكثر حضورا من الممثل الذي يتكلم”.
ويضيف “يعتمد كل شيء، بالطبع، على الطريقة التي يحدق بها الممثل، فهناك ممثلون يقلقون بشأن قدرتهم على التعبير عن شيء ما عندما لا توجد إشارات لفظية، فتحتاج إلى منحهم الثقة في وجودهم الشاحب. وبالمثل هناك بعض الممثلات يرفضن سحب شعرهن للوراء لإحساسهن بأنهن قد صرن عاريات، وهو شيء مما اكتشفته في رومي شنيدر (romy schneider)، بطبيعة الحال، فأثناء بروفات أشياء الحياة رأيتها مرة وهي جاذبة شعرها لأعلى وفكرت، ‘وما الفرق، إنه أمر لا يصدق، إنها ليست في حاجة إلى الكلام‘، ومنذ تلك اللحظة غالبا ما أستخدم هذا مع الممثلات لأنهن يعطين بقوة وحساسية أكثر بهذه الطريقة”.
ويقول المخرج الإيطالي برناردو بيرتولوتشي “في حالتي تعد الكاميرا هي مركز اهتمامي الأساس أثناء التصوير، ولهذا السبب أحتاج إلى إقامة تواصل قبلي مع الممثلين والتقنيين حتى أتجنب معظم وقتي داخل الموقع لتحريك الكاميرا واختيار العدسات، إنني لم أستخدم أبدا عدسة الزووم. ولا أعرف لماذا، ولكنني اكتشفت شيئا ما كاذبا في حركتها”.
ويضيف “أتذكر يوما ما أثناء تصوير ‘إستراتيجية العنكبوت‘ (the spider stratagem) عندما أحسست بضرورة استخدام العدسة الزووم على سبيل التغيير. قضيت نحو ساعة أجرب فيها، تقريبا إلى أن أصابني الإحساس بالغثيان. قمت بإلغائها وقلت إنني لا أريد رؤية هذا النوع من العدسات مرة أخرى، وبدأت هذه الأيام في إقامة علاقة سلمية مع الزووم، أستعملها بطريقة بسيطة وتقريبا من أجل هدف وظيفي بحت، لكن لسنوات طويلة نظرت إليها على أنها أداة الشيطان”.
ويعتقد بيرتولوتشي أن سر العمل الجيد مع ممثل هو أولا معرفة كيف تختاره أو تختارها، ولكي تنجح في ذلك عليك أن تنسى الشخصية بداخل السيناريو ولو للحظة، وشاهد ما إذا كان الشخص الذي أمامك يثير اهتمامك أم لا. هذا أمر مهم للغاية، أثناء التصوير، ستشعر بالفضول تجاه هذا الممثل الذي يقودك لاكتشاف الشخصية في القصة. أحيانا تختار ممثلا لأنه أو لأنها تبدو ملائمة تماما للشخصية المكتوبة، لكنك ستدرك في النهاية أن هذا ليس مثيرا للاهتمام، فليس هناك سر غامض، والقوة الدافعة وراء أيّ فيلم هي أولا وقبل كل شيء الفضول الغريب ورغبة المخرج في اكتشاف سر كل شخصية.
عالم شخصي
إنجاز فيلم عمل مشترك
يلفت المخرج الأميركي وودي آلان إلى أن هناك نوعين محددين من المخرجين؛ هؤلاء الذين يكتبون أدواتهم وهؤلاء الذين لا يكتبون. نادرا جدا أن تكون كليهما وتتناوب ما بين أفلام تكتبها. متابعا “الآن، لا أقصد أن أحد هذين النوعين أفضل من الآخر، أو أن نمطا من المخرجين هو الأكثر إثارة للإعجاب من الآخر. هما فقط مختلفان، الشيء الوحيد الذي تناله عندما تكتب فيلمك الخاص هو نوع من الفيلم شديد الحساسية طول الوقت، فهناك أسلوب ينتج بسرعة بالغة، وخصوصيات محددة ما تلبث أن تظهر أكثر غالبا، لذا مع هذا النوع من المخرجين، يصير المتفرج أكثر اتصالا مع فردية المخرج”.
ويواصل آلان “بينما لو أن مخرجا يعالج سيناريو كاتب آخر طول الوقت، فعليه بذل جهد كبير، ولو أن السيناريو جيد سيصير الفيلم بدوره فيلما رائعا بشكل حقيقي، لكنك لن تمتلك أبدا تلك السمة الشخصية التي يمتلكها المؤلف. الآن هذا يمكن أن يكون أفضل أو أسوأ، فيمكنك كتابة فيلمك الخاص وستحصل على فيلم بنكهة شخصية، ولكن إذا لم يكن لديك شيء مثير أو جديد كي تقوله عن الحياة، لن تكون أفلامك أبدا جيدة مثل تلك التي لمخرج يعالج سيناريو جيدا”.
ويرى أنه ما إن تتضح هذه التفرقة فكل المخرجين يجب أن ينتجوا أفلامهم من أجل أنفسهم، وأن واجبهم هو أن يتأكدوا أنه، مهما كانت العوائق التي تواجههم، فسيكون الفيلم ـ وسيظل ـ خاصا بهم من البداية إلى النهاية، فيجب على المخرج أن يظل سيد الفيلم، مضيفا “لا أقصد أن تنفذه مع الاستعلاء على الجمهور، لكن شعوري الشخصي هو أنك لو أنتجت فيلما سيسعدك، ووجدته جيدا، فإنك ستسعد الجمهور أيضا أو على الأقل جزءا من الجمهور. لكنني أعتقد أنه من الخطأ أن تحاول تخمين ماذا سيعجب الجمهور وتحاول أن تفعله، لأنك ستفعل كمن يدع الجمهور أن يأتي إلى موقع التصوير ويقوم بإخراج الفيلم نيابة عنك”.
ويؤكد المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار أنه من المهم لأيّ منتج فيلم أن يبتعد عن وهم أنه يستطيع أو حتى الأسوأ، يجب عليه ضبط كل شيء له علاقة بفيلمه. في الواقع كي تنجز فيلما، فأنت في حاجة إلى فريق من كائنات إنسانية. ولا يمكن ضبط الكائنات الإنسانية بنسبة مئة في المئة؛ يمكنك اختيار الإطار، لكن عند التصوير، يكون كل شيء في يدي مدير الكاميرا، ويمكنك الحديث ساعات وساعات عن الضوء الذي تريده، لكن في النهاية، هو من يقرر ما الضوء الذي سيكون عليه المنظر. وذلك أمر لا يهم، أولا لأن هذا النضال الذي ستشحنه تجاه حدود سيطرتك هو، في حد ذاته، إبداعي للغاية؛ وثانيا لأن هناك حدودا لطاقتك في التحكم حتى تظل كاملة، هناك حدود يجب عليك الحفاظ عليها متمركزة.
ويلفت ألمودوفار إلى أن هناك ثلاثة حدود: النص؛ أداء الممثلين؛ اختيار اللون الأساسي، ذلك الذي سيهيمن على المناظر، الأزياء، ونغمة الفيلم العامة. ويؤكد أن السينما قبل كل شيء استكشاف، فأنت تنتج أفلاما لأسباب شخصية على نحو واضح، لاكتشاف أشياء من أجل ذاتك، إنها مسألة مألوفة على نحو ساخر، أن تحدث عن طريق وسيلة تعبير تستهدف أكبر جمهور ممكن. إنها شيء مّا تفعله من أجل الآخرين، ولكنها تنجح فقط لو أنك مقتنع أنها من أجلك وحدك.
ويقول المخرج الياباني تاكيشي كيتانو أن “عمل المخرج كان ـ فوق كل اعتبار ـ امتلاك أفكار جيدة، لكنني بديلا عن ذلك أنه يتكون أساسا من تنظيم كل العناصر الخارجية لكي يخلق البيئة الملائمة لتخصيب هذه الأفكار بفاعلية”.
ويرى أن “السينما شيء مّا شخصي للغاية، عندما أنتج فيلما، فإنني أجعله أولا وقبل كل شيء لنفسي، فإنه مثل صندوق لعبة رائع ألعب معه. صندوق لعبة غالي الثمن جدا، بالطبع، وأحس بالخجل في نفس الوقت من هذا الشعور باللهو معه. جاء حينٌ من الوقت، مع ذلك، ما إن يصير الفيلم داخل علبته، عندئذ لا يظل الفيلم خاصا بك، إنه من ثم قد صار لعبة الجمهور والنقاد، لكن سيظل من غير الأمانة إنكار أنني قد أنتجت الفيلم لنفسي قبل أن أنتجه لأيّ أحد آخر”.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري