الشيخ عيسى البيانوني

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الشيخ عيسى البيانوني

    الشيخ عيسى البيانوني


    ولادته ونشأته:
    على مسافة ثمانية أميال من الشمال الغربي من مدينة حلب، قرية هادئة تسمى “بيانون” تابعة لقضاء إعزاز، في هذه القرية المتواضعة، ولد الأستاذ العالم الشيخ عيسى بن حسن بن بكري بن أحمد البيانوني، من أبوين كريمين، كان لهما شهرة في الكرم والصلاح، وحسن القرى للأضياف.
    وكانت ولادته سنة /1290/ هجرية، ولما بلغ من العمر عشراً، ساقته الأقدار إلى طلب العلم، فنزل إلى حلب، ولازم أخاه العالم الشيخ حمادة البيانوني رحمه الله، وكان أخوه هذا من علماء المدرسة العثمانية والمبرزين فيها، فذهب به أخوه إلى قارئ حلب الحافظ المتقن الشيخ أحمد الشهير بالحجار، فلازمه حتى حفظ القرآن الكريم غيباً، وأتقن تجويده، وأحسن تلاوته، وتعلم كتابة الخط من الشيخ بشير الحياني وكان خطاطاً ماهراً فأجاد الفقيد الكتابة وتفنن فيها، ولما تم له ذلك التفت إلى دراسة العلوم الدينية، وتلقيها من فحول العلماء.

    طلبه العلم وتلقيه الدروس:
    طلب العلم في ( حلب ) على أكابر أهل العلم آنذاك ، ولما بلغ من العمر الثالثة عشر تقريباً انتظم في سلك الدراسة بالمدرسة العثمانية ، والتي كانت تضم بين جنباتها رجالاً قلّ نظيرُهم في العلم والفضل والسلوك، وقرأ على أساتذتها، وكانوا علماء جهابذة، لهم الصيت الذائع، والشهرة الواسعة، والباع في التحقيق، وسعة الإطلاع، فقرأ علم التفسير على العالم العامل الشيخ مصطفى الهلالي الشهير بالدرعزاني، كما قرأ عليه أيضاً علم المنطق، وشيئاً من علم النحو والإعراب.
    وقرأ علم التوحيد على أخيه الشيخ حمادة، كما قرأ عليه مبادئ علم النحو والصرف والتصوف والفقه، وحضر على مدرس العثمانية الشيخ حسين الكردي، الذي كان يوصف بأنه مجتهد في العلوم العقلية، فقرأ عليه علم التفسير والتوحيد والمنطق والصرف، وعلم البلاغة بأنواعه، وباقي علوم الآلة، ولزم حلقة العلامة الكبير الشيخ بشير الغزي رحمه الله تعالى، واستفاد من علمه الجم، وذكائه النادر، ونبوغه الباهر، وسعة اطلاعه، وتفننه في العلوم والقراءات كثيراً، فقرأ عليه علم الحديث النبوي، كما قرأ عليه شرحه للجزرية، وهو كتاب جامع لأحكام القرآن، تجويداً ووقفاً وتلاوة، كما قرأ عليه علم الأدب، وعلم المعاني والبيان.
    وأخذ طرفاً من علم النحو عن أخيه الشيخ حمادة البيانوني، ومدرس المدرسة الشيخ حسين الكردي، وأتم دراسته في علم النحو على العلامة الورع الزاهد الشيخ أحمد المكتبي، فقرأ عليه شرح ألفية ابن مالك، وحاشيتها للخضري، كما قرأ عليه حاشية العلامة العطار على شرح الأزهرية، وكان الشيخ المكتبي رحمه الله تعالى نحوياً لا يبارى.
    أما علم الفقه، فإنه قرأه أولاً على أخيه الشيخ حمادة، ثم لزم العلامة الصالح الجليل الشيخ سعيد السنكري، فقرأ عليه حاشية الشيخ إبراهيم الباجوري، ثم قرأ عليه شطراً من حاشية العلامة البجيرمي على شرح المنهج للخطيب في الفقه الشافعي، وقرأ أيضاً طرفا من علم الفقه على العالم الفقيه الشيخ أحمد البدوري الجميلي، الذي كان أستاذاً في المدرسة الشعبانية، وكان له التحقيق الوفي والإطلاع الواسع على المذهب الشافعي، حتى إن العلامة الكبير شيخ شيوخ حلب الشيخ محمد الزرقا رحمه الله تعالى كان يعتمد عليه في النقل عن المذهب الشافعي، ويثق بصحة فهمه وسداد نظره.

    اجتهاده وذكاؤه، وثناء أساتذته عليه:
    كل من اجتمع بالفقيد وسمع كلامه في وعظه وإرشاده، أو نصائحه وخطبه علم يقيناً أنه على جانب عظيم من الذكاء وتوقد الذهن، ولقد كان رحمه الله مبرزاً بين أقرانه في الفهم عن الشيوخ، وكان شيوخه يسألون رفاقه أولاً عن المغلق من العبارات ويستفسرون عن المشكل من الجمل، فإذا عجز رفاقه عن الجواب، وجهوا السؤال إليه، فكان يحل المشكل، ويفتح الغامض بأحسن جواب، وأسد عبارة، يقول عنه أقرانه: إنه لو لم ينصرف إلى الانشغال بالتصوف لكان من الفقهاء البارزين الذين يشار إليهم بالبنان، وربما بعضهم قال: لو بقي الشيخ عيسى مشتغلاً بالفقه عاكفاً على دراسته، لكان مرجحاً في المذهب الشافعي.
    وجاء عنه في تشنيف الأسماع: “العالم الفاضل الأديب الكامل المتمسك بالشريعة المحمدية عاشق الحضرة النبوية، كان يتردد كثيراً على دمشق للأخذ من أعيانها، خاصة شيخ علمائها الشيخ بدر الدين البيباني، وأخذ عنه جهابذة العلماء في حلب، وفي مقدمتهم شيخنا المحقق عبد الفتاح أبو غدة رحمه لله، وحصل له إقبال من العام والخاص، وكان حلو النصائح، كثير التسبيح والحمد والتكبير والتهليل، يعد من أهل الذكاء واليقظة، والنباهة والمعرفة والصلابة في الحق والفضل الواسع والتواضع، صحيح المذهب، حسن الصدر.
    ويقول تلميذه فضيلة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة رحمه الله: ولقد حضرت عليه أنا ولفيف من كبار الطلاب، فكان رحمه الله إذا غلط أحدنا بقراءة العبارة أو كان فيها شيء من الخطأ والتحريف، أدركه أسرع ما يكون، ثم سألنا عنه، فإن أجبنا مدح، وإن عجزنا عن الإجابة نبهنا إليه، فكان في معرفته بصحة العبارة من خطئها كالصراف الجهبذ النقاد، أسرع ما يكون في استخراج الدرهم المزيف من الدراهم الصحيحة .

    وظائفه العلمية:
    وأول ما أعلم له من الوظائف عدا انتسابه إلى المدرسة العثمانية أنه دخل في مسابقة علمية لتدريس بلدة المعرة، فحاز فيها الدرجة الأولى، وبقي فيها ست سنوات، ثم لما عاد إلى حلب، تقلد خطابة جامع المدرسة العثمانية، وعين مدرساً للأخلاق في المدرسة الخسروية (الثانوية الشرعية بحلب) فكان خير أستاذ في بث الأخلاق الطيبة علماً وعملاً.
    ولما زار الشيخ العلامة المحدث بدر الدين الحسيني الدمشقي رحمه الله بلدة حلب، ورأى من الفقيد الإخلاص في الوعظ، والتأثير على القلوب، طلب من مدير أوقاف حلب أن يعينه مدرساً للنساء، فكان لهن منه خير إفادة وأبلغ موعظة.

    اهتمامه بالتصوف واشتغاله به :
    وقد حبب إليه التصوف منذ انشغاله بالعلم، وكان يكثر من قراءة كتبه حتى تعلق قلبه بحب رجال الصوفية رحمهم الله، وأحب أن ينتسب إلى بعض طرائقهم، فانتسب إلى الطريقة القادرية وأخذها عن شيخه العالم الصالح الشيخ مصطفى الهلالي، واشتغل بها مدة طويلة، ثم عن له أن يأخذ الطريقة الرفاعية، فتلقاها عن الشيخ المسلك محمد خير الله واشتغل بها أيضاً، وفي خلال عمله بها، حضر إلى حلب الشيخ محمد أبو خالد الدمشقي، وكان رشيدي الطريقة، فاجتمع به، وأخذها عنه، ثم أخذ الطريقة النقشبندية عن شيخه العالم الشيخ محمد أبو النصر خلف الحمصي رحمه الله.

    قطوف من شعره:
    اعتنى الشيخ – رحمه الله – في جُلّ قصائده بمدح فخر الكائنات عليه الصلاة والسلام ، أما الباقي ففي مدح مدينته المنورة ، وفي مدح تلك البقاع الطاهرة ، والتي شرُفت وسَمَت عن باقي بقاع المعمورة بفضل الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم .
    ونقتطف من تلك الدوحة الغناء بعض الأزاهير الفوّاحة ، ولمن أراد المزيد فليرجع إلى ديوان الشيخ المطبوع : { فتح المجيب في مدح الحبيب }

    حبيب الله للكون ابتداء = له الخُلُق المعظمُ والبهاءُ
    وقد عمّ الوجودَ ندىً وجوداً = وفيه قطّ ما خاب الرجاءُ
    شُغِفتُ بحبّه مذ كنت طفلاً = وشِبْتُ وليس للحُبّ انقضاءُ
    يُضاعَفُ حبُه في القلب يوماً = فيوماً والمحبّ له الهناءُ
    حبيبي إنّ داء البعد أضنى = فؤادي حينما عزّ الدواءُ
    فأنقذني حبيبي منْ بِعادٍ = به قد زاد كربي والعناءُ

    ويقول في قصيدة أخرى :
    قد طال بُعدي وزادت بالنوى كُرَبي = وسيّدُ الخلق قصدي منتهى طلبــي
    منْ قدْ علا فوق كلِّ الخلق مرتبة = بالخَلق والخُلق والإحسان والحسبِ
    ماذا يقول بليغ في مدائحـــه = واللهُ ما دِحُهُ في جملة الكتـــبِ

    وحبُهُ لرضا خلاّقه سـببٌ = أكرِمْ به ســبباً ناهيك من ســببِ
    مهما تكنْ طاعة الباري مقَرِبَة = فإنّ حبّ حبيبي أعظم القـــرَبِ
    الحمدُ لله إني فيـه ذو ولـهٍ = وإنه بالندى أوفى من السُــــحُبِ

    ويقول في أخرى :
    طابت بحُبّ المصطفى الأوقات = وتزينت بمـــديحه الأبيـــــــــــــاتُ
    إن المحبة في القلوب حياتــــها = وجميعُ منْ جهلوا الهوى أمـــــواتُ
    أثْبَتُّ حُبي مذ نفَيْتُ به السِّــوى = والنفيُ يـــأتي بَعــــــدَه الإثبــــــاتُ
    إنْ تدّعي الأممُ السوابق أنّ في الـ = رسْلِ الكرامِ نظيــــــرَهُ قلْ هــــاتوا

    ويقول أيضاً :
    طوبى لِمَنْ خادماً قدْ كانَ أو جارا = بباب طـــه أعان الدهـــــرُ أو جارا
    فلا يُبالي إذن من عاذلٍ أشِـــــــرٍ = إن عاكَـــس الرأي للعشاق أو جارى
    صبٌّ بطيبة مسرورُ الفؤاد غــدا = إنْ قام في الروضـة الفيحاء أوْ زارا
    ويا هنيئاً له آمــاله حصـــلت = إذ بالـــــزيارة يمحـــــــو الله أوزارا

    ويقول أيضاً :
    الحبّ أشرفُ ما حوتهُ أضالعُ = والعُمْرُ إلا في المحـــــبة ضــــائعُ
    لا يشغلنّك شاغلٌ عن حبّ من = بدرُ الســــماء له عُبَيــــــدٌ طائــــعُ
    يممْ حمى أعتـــــابه بتـــذ لل = والثم ثـــــراهُ وأنت بـــــاكٍ خاشعُ
    وحياتِه أنــا مغرمٌ في حبــهِ = وبفضلــه في كــــلّ آن طــــامـــعُ
    لولا رجائي أن أفوزَ بقربه = لأبادني ســــــهمُ البعـــــادِ الصادعُ
    نورٌ من النور القديم قد انجلى = فرْدٌ لأشــــــتات المعـــالي جــامعُ
    تآليفه وآثاره:
    ومع اشتغاله بالتدريس والخطابة والدعوة، فقد كتب عدة كتب طبع بعضها، ولما كان أكثر اهتمامه بالتصوف وما إليه، كان جلّ آثاره في هذا العلم، فقد ألف أكثر من اثني عشر مؤلفاً يسوغ لنا أن نقسمها إلى ثلاث زمر:
    الأولى: في تهذيب النفس وتحليتها بالفضائل، والثانية في بيان آداب الطريق ووظائفه وما إلى ذلك، والثالثة: في المحبة النبوية، وبيان فضلها والحض عليها، وهذه الزمرة هي أبرز مؤلفات الشيخ عيسى وأحسنها، وذلك لما كان له من حب وغرام بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى أنه تفنن في وضع الموالد النبوية أكثر من عشرين مولداّ منها نظم ونثر، ومنها المتوسط والحسن والباهر، فمن مصنفاته:

    -كنز الهبات في الصلاة على سيد الكائنات صلى الله عليه وسلم.
    -كتاب مواد العقل السليم في متابعة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .
    -كتاب تحذير الإنسان من آفات القلب واللسان.
    -أكواب الرحيق في آداب الطريق. وقد اختصره في كتاب (الآراب في الآداب).
    -أربعون حديثاً في المحبة النبوية، وقد شرحها شرحاً لطيفاً.
    -رسالة أسماها معرفة العبد ربه بالذكر والمحبة.
    -ثلاثة دواوين في الخطب الجمعية.
    -ديوان شعر في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، سماه (فتح المجيب في مدح الحبيب).
    -إعلام الإنسان بأحكام الصيام.
    -ستة عشر مولداً منها ما هو النظم، وما هو النثر.
    – مجموعة أملاها في المبشرات.
    -ترجمة مختصرة أملاها سنة /1361/ هجرية، عن حياته بطلب من الشيخ الفاداني، وكان آخر مؤلفاته التي كان يشتغل بها وهو على مقربة من أبواب الآخرة، كتاب سماه: (غاية المطلوب في رؤيا المحب للمحبوب) تحدث فيه بما من الله به عليه من رؤيته للنبي صلى الله عليه وسلم والتوله به والاقتداء بهديه والاقتباس من نوره، وله إلى جانب هذه المؤلفات ديوان شعر يبلغ مئة صفحة تقريباً كله في المحبة النبوية مرتب على حروف الهجاء.

    وفاته:
    حج الشيخ عيسى رحمه الله سبع حجات، وبعد ما أتم مناسك الحج في حجته الأخيرة عام /1362/ هجرية، أصابه زحار، وهو استطلاق البطن، فأسرع رفاقه باستدعاء الطبيب ففحصه وحقنه إبرتين، وأعطاه علاجاً، ثم حقنه بإبرتين أخريين مساء، وكانوا حينئذ على أهبة التوجه إلى المدينة المنورة، فركب السيارة مع رفاقه، فأصابهم على الطريق سيول جارفة أخرت سيرهم، واضطرتهم إلى أن يبيتوا ليلتين، احتمل فيها الفقيد رحمه الله مشقة عظيمة، على رغم ما بذله رفاقه الكرام من خدمة له واعتناء به، فقد فسحوا له في السيارة مكاناً للاضطجاع إيثاراً لراحته، وتحملوا مشقة الصعود معه إلى السيارة والنزول منها كلما احتاج إلى ذلك كرما منهم وحباً به، فجزاهم الله خيراً.
    ولما وصلوا المدينة المنورة عملوا بوصية الطبيب، فأخذوه تواً إلى المستشفى، فاهتم له الأطباء وفحصوه، فرأوا معه تسمما في الدم، والتهابا في الكليتين، ولم يزل ينحط جسمه، وتصعف بنيته، حتى توفي ليلة الأحد بعد العشاء لليلتين بقيتا من ذي الحجة عام /1362/ هجرية، فشيعوا جثمانه، وصلوا عليه أمام الحجرة النبوية، وساروا به في موكب عظيم، حتى وصلوا به إلى البقيع المبارك، فوقف الأستاذ الشيخ محمد الحكيم، أحد رفاقه في سفر وعرف الناس قدره، وواروه التراب في منتصف المسافة بين ضريح سيدنا إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم وقبور الشهداء.
    عاش الشيخ عيسى البيانوني اثنتين وسبعين سنة رحمه الله. رحم الله الشيخ وعلماء المسلمين أجمعين وجمعنا معهم تحت لواء سيد المرسلين.

    وكان من أبرز طلابه:
    الشيخ عبد الفتاح أبو غدة
    الشيخ محمد فوزي فيض الله
    الشاعر بهاء الدين الأمير
يعمل...
X