فوارق الصورة الحقيقية .. معرفة العالم الخارجي
فوارق الصورة الحقيقية
لا شك ان الموجود العاقل يستطيع ان يفرق بين الأنا واللاأنا ، الا انه كثيراً ما يخطىء في ادراكه ، فيحسب الوهم حقيقة ، او الحقيقة وهما . فكيف نميز الادراك الحتميقي من الأوهام والأحلام ، أو بعبارة اخرى ، ماهي فوارق الصورة الحقيقية ؟
من الصعب تحديد الفارق الحقيقي بين الادراك والوهم والرؤيا ، لأن هذه الأمور متشابهة ؛ نعم ان الإدراك لا يكون الا بالإحساس والصورة ، ولكن الإنسان قد يحسب الاحساس صورة والصورة احساساً . وقد يظن انه واهم وهو في الحقيقة ناظر ، فتختلط عنده حدود الأنا بحدود اللاأنا ، ولا يعرف كيف يفرق بينها .
۱ ) رأي سبينوزا - قال سبينوز ( ۱ ) : ( لنتصور طفلا تخيل حصانا مجنحاً ولم يتخيل شيئاً غيره ، فاذا كان تخيله متضمناً وجود الحصان وكان لا يدرك شيئاً مضاداً لتخيله عد هذا الحصان حاضراً بالضرورة وعجز عن الشك في وجوده ) .
يستنتج من ذلك أن كل صورة مصحوبة بالاعتقاد ، وان الاعتقاد صفة ملازمة للتصور ، وان فقدان الاعتقاد يحتاج الى أسباب ؛ اما وجوده فأمر طبيعي ، ولذلك قيل ان البداهة خاصة من خصائص التصورات غير المتنازع فيها .
غير ان هذه الملاحظة تصدق على الطفل لا على الراشد ، لأن اسباب الشك عند الراشد كثيرة ، فلا يصدق كل ما يقال له ، ولا يثق بحواسه ، لأنها كثيراً ما تخدعه . فكم مرة ظن انه يسمع ضجة خارجية وهو لا يسمع الاطنين اذنه ، وكم مرة وجد الماء الزلال مراً ، والمرارة ليست في الماء ، وانما هي في فمه . فالشك اذن قد خامر قلب الراشد ، حق جعل الصورة عنده غير مصحوبة بالاعتماد ، فقد تكون الصورة بعيدة عن الاشتباه والشك لا ينازعها في ذلك شيء ، ولكن أسباب الشك العامة التي تخامر قلب الراشد تمنعه من التصديق بها دائماً ، نعم ان هذه الأسباب مبهمة ، تحيط بها الشبهات من كل جانب ، ولكنها حاضرة دائماً . فكلما كانت الصورة ضعيفة ، قليلة الوضوح ، تابعة لحاسة مشتبهة الادراك ، كنا إلى الشك فيها أميل . إذا رأينا رجلا في العتمة أو في الضباب حسبناه شبحاً . ان هذه الصورة ممكنة ، وليس بينها وبين الصور الأخرى نزاع ولا تضاد ، غير أنا نشك في حقيقتها للاسباب العامة التي ذكرناها . فقد صح بالبرهان اذن ان الصورة ليست مصحوبة بالاعتقاد دائماً .
( ۲ ) رأي داويد هيوم - قال ( هيوم ( ان الادراك يختلف عن الصورة الوهمية لانه أكثر منها قوة وحياة ، وفرق بين الأحوال القوية والأحوال الضعيفة ، فقال : ان القوية تكبت الضعيفة وتمنعها من أن تكون موضوعية وخارجية . مثال ذلك إذا ظهر لي اني أرى الآن صورة خزانة كتبي وصورة مرفأ بيروت ، كانت الأولى ادراكا ، لأنها أقوى من الثانية ، وكانت الثانية ذكرى لانها أضعف من الأولى . قد يكون من الصعب ان يجمع الانسان في وقت واحد بين صورتين بصريتين كصورة خزانة الكتب وصورة مرفأ بيروت ، وربما كان من الضروري أن تزول احداهما التحل الثانية ، مكانها ، كمن يغمض عينيه لاسترجاع احدى الصور البصرية الماضية ؛ ولكن لنترك هذه الصعوبات ولنبين قيمة هذا الفارق . ان هذا الفارق لا يميز الصورة الحقيقية من الصورة الكاذبة ، لأن الوهم قد يقوى فيتغلب على الادراك الحقيقي ويكبته . وقد قال هنري برغسون : ( لو كانت ذكرى الادراك عبارة عن ذلك الادراك المضعوف لا غير ، لاتفق للانسان ان يحسب ادراك الصوت الخفيف ذكرى ضجة شديدة ) إلا ان هذا الالتباس لا يحصل أبداً .
الصودة الحقيقية أغنى من الصورة الوهمية - وقد ظن بعضهم أن الصورة الحقيقية تختلف عن الصورة الوهمية بدقتها ووضوحها وكثرة عناصرها ، فالصورة الحقيقية أغنى من الصورة الوهمية ، لأنها تتضمن الكثير من العناصر الدقيقة ، وهي ذات ألوان واضحة ، وحدود معينة ، وشكل خاص . أما الصورة الوهمية فهي فقيرة ، مبهمة ، يكاد الضباب يحيط بها من كل جانب ، فتتضاءل أطرافها وتظلم حدودها . إذا دققنا في هذا الفارق وجدناه ضعيفاً ، لأن هناك إدراكات حقيقية مبهمة ، وذكريات غنية واضحة ، إني أرى في العتمة بعض الاشخاص وأسمع من بعيد بعض الأصوات ، فلا أحسب هذه الادراكات الحسية وهما ، وكثيراً ما تكون الذكريات واضحة ، فيتذكر المرء صوت الشخص ، ولهجته ، وخطوطه الوجهية ، من غير أن تختلط هذه الذكرى عنده بالادراك الحسي .
٤ ) الحواس بعضها على بعض رقيب - إذا كانت الصورة الوهمية بصرية مثلا أمكن نقدها بالحواس الأخرى ، هبني رأيت على هذه الاريكة شبح أحد الأموات ، ولتكن الصورة واضحة بينة كالصورة الحقيقية . فإذا تقربت من الأريكة ولمست كتف الشبح الجالس عليها ، لم أشعر بمقاومة الأجسام ، وصلابتها ، فيغيب الشبح إذ ذاك عن ناظري ، وتبقى الاريكة ، ان الحواس رقيبة نفسها ، فقد تكون حاسة البصر رقيبة حاسة السمع ، كما قد تكون حاسة اللمس رقيبة حاسة البصر ذلك فان هذا الفارق ليس مطلقاً لان الحواس قد تشترك كلها في الوهم .
٥ ) الناس بعضهم على بعض رقيب - اذا اشتركت الحواس كلها في الوهم أمكن الخروج منه بشهادة الاشخاص الآخرين . فإذا خيل إلي أني أرى شبحاً ، واشتركت حاسة اللمس وحاسة السمع مع حاسة البصر في هذا الوهم ، أمكنني الرجوع إلى شهادة الناس ، فإذا كانت الصورة حقيقية رآها غيري كما أراها أنا ، وإذا طلبت منه وصفها جاء وصفه لها قريباً من وصفي . أما الصورة الوهمية فلا تتصف بشيء من ذلك .
٦ ) بين الادراك والتجربة علاقة منطقية - ان للادراك الحسي شروطاً تابعة للتجربة ، مثال ذلك ان المرء لا يستطيع أن يرى صورة بعلبك إذا كان يعلم أنه في دمشق ، ولا يستطيع أن يتكلم مع الاموات ، وهو حي ، وإذا حدث له شيء من ذ ذلك هزاء إلى الوهم . الخيال والرؤيا فلا يتقيدان بما يتقيد به الادراك الحسي ، وفي ومع لمرء أن يتخيل صورة باريس وهو في دمشق كما أنه يستطيع في المنام أن يكلم أحد الاموات ، ان في هذا الفارق شيئاً من الحقيقة ، لان من شروط الادراك الحسي أن يوافق التجربة والحس والذاكرة ، واكن لا يشترط في كل ادراك ان يكون بينه وبين شروط التجربة علاقة ضرورية ، هبني میروت طرقا على باب غرفت ، فهل أستطيع أن أقول ان بين هذا الصوت وشروط التجربة علاقة منطقية ؟ فقد يكون هذا الصوت وهما وقد يكون حقيقة ، وليس في شروط التجربة ما يمنع حدوثه . فهو اذن ممكن لا واجب ، ان موافقة الامر لشروط التجربة لیست فارقاً بين الادراك والوهم ، لانها قد يتساويان في الامكان .
٧ - الإدراك أثبت من الوهم - ان الصورة الحقيقية أثبت من الصورة الوهمية ، وأنت لا تستطيع أن تبدلها ولا أن تزيلها ، انك لا تستطيع أن تبدل موقع دمشق ، ولا أن تغير شكلها ، ولا أن تجعلها أكبر أو أصغر مما . هي ، وإذا نظرت إلى الجبل الأجرد لم تستطع أن تملأه أشجاراً . فالإدراك الحسي يقاومك ، أما الخيال فيعينك على تصور ما تريد من المناظر ، فتغرس الأشجار حيث تريد ، وتجعل الصحراء جنة تجري من تحتها الأنهار .
ان هذا الفارق . صحيح اجمالاً ، إلا أن بعض الصور الوهمية قد تزداد وضوحاً فتتبختر أمام عينيك ، حتى يتضاءل أمامها الإدراك الحسي ، كالصور التي يشاهدها المتصوف والشاعر والعاشق . انها لا تقل عن الإدراك الحسي مقاومة وثبوتا .
۸ - ان حدوث الإدراك تابع للارادة - ان حصول الادراك الحسي أسهل من حدوث الوهم . فمن أراد رؤية بيروت ذهب اليها ، ومن أراد الإحساس بالحرارة أشعل النار لأن الأمور تحدث في الشروط نفسها دائماً - إذا وجدت العلة وجد المعلول . أما الوهم فقلما حدث عن إرادة .
النتيجة : - ان البحث في فوارق الصورة الحقيقية يتضمن مسألتين .
1 - الفرق بين الإدراك والذكرى
۲ - الفرق بين الإدراك والوهم .
1 ) الفرق بين الإدراك والذكرى : - الإحساس ظاهرة من ظواهر الحاضر ، أما الذكرى فهي من ظواهر الماضي ، والحاضر ليس لمحة من الزمان لا تتجزأ أو نقطة رياضية تفصل الماضي عن المستقبل ، وانما هو هذا الزمان الذي أعيش ، وأعمل فيه ، ومن شأن الإحساس أن ينير هذا العمل ويبعث على القيام بالحركات الصالحة لتكيف الجسد . وإذن الاحساس ليس صورة بسيطة ، وإنما هو بداية عمل . ولذلك كان بينه وبين الجسد علاقة ، لأن الجسد آلة العمل ، إذا لمست النار فشعرت بالاحتراق أمكنك أن تعين موضع ألمك ، ولكنك لا تستطيع أن تعين موضع ذكرياتك كما تعين موضع الاحساس .
فالفرق إذن بين الاحساس والذكرى ، إن للاحساس موضعاً معيناً في الجسد ، وانه بداية عمل . نعم ان الذكرى قد تصبح قوية واضحة ، فتولد ذكرى الاحتراق احساسا بالاحتراق الحقيقي ، وتصبح بداية عمل مثله . غير أن هذه الذكرى التامة الواضحة التي تفرض نفسها علينا وتسيطر على حاضرنا لم تعد ذكرى حقيقية بل أصبحت وهما . - الفرق بين الادراك والوهم قد يكون الوهم واضحاً بيناً ثابتاً كالاحساس ، وقديختلط الأمر على المدرك فلا يفرق بين الوهم والحقيقة ، ومن الصعب الاقتصار على فارق واحد مما ذكرناه ، بل الجمع بين هذه الفوارق كلها أولى . ان تمييز الصورة الحقيقية من الصورة الوهمية ليس أمراً حدسياً بسيطاً وانما هو نتيجة عمل منطقي ، فالصورة الوهمية لا تشهد لها جميع الحواس . ولا يشاركك في رؤيتها غيرك من الناس ، وإذا كانت مخالفة للمعارف العلمية زاد يقينك بعدم صدقها . إن كل ما يخالف القوانين العلمية والنواميس الطبيعة أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة .
ان الاحساس وحده ليس مقياس الحقيقية ، ولذلك وجب أن يشترك حاكم العقل مع حاكم الحس في اثبات وجود الأشياء ، إن المحسوسات خاضعة لنظام ثابت ، وقد قيل لیست ادراكاتنا الحسية احلاماً محكمة الاتصال فحسب ، وانما هي احلام ثابتة الاساس في الوجود .
فوارق الصورة الحقيقية
لا شك ان الموجود العاقل يستطيع ان يفرق بين الأنا واللاأنا ، الا انه كثيراً ما يخطىء في ادراكه ، فيحسب الوهم حقيقة ، او الحقيقة وهما . فكيف نميز الادراك الحتميقي من الأوهام والأحلام ، أو بعبارة اخرى ، ماهي فوارق الصورة الحقيقية ؟
من الصعب تحديد الفارق الحقيقي بين الادراك والوهم والرؤيا ، لأن هذه الأمور متشابهة ؛ نعم ان الإدراك لا يكون الا بالإحساس والصورة ، ولكن الإنسان قد يحسب الاحساس صورة والصورة احساساً . وقد يظن انه واهم وهو في الحقيقة ناظر ، فتختلط عنده حدود الأنا بحدود اللاأنا ، ولا يعرف كيف يفرق بينها .
۱ ) رأي سبينوزا - قال سبينوز ( ۱ ) : ( لنتصور طفلا تخيل حصانا مجنحاً ولم يتخيل شيئاً غيره ، فاذا كان تخيله متضمناً وجود الحصان وكان لا يدرك شيئاً مضاداً لتخيله عد هذا الحصان حاضراً بالضرورة وعجز عن الشك في وجوده ) .
يستنتج من ذلك أن كل صورة مصحوبة بالاعتقاد ، وان الاعتقاد صفة ملازمة للتصور ، وان فقدان الاعتقاد يحتاج الى أسباب ؛ اما وجوده فأمر طبيعي ، ولذلك قيل ان البداهة خاصة من خصائص التصورات غير المتنازع فيها .
غير ان هذه الملاحظة تصدق على الطفل لا على الراشد ، لأن اسباب الشك عند الراشد كثيرة ، فلا يصدق كل ما يقال له ، ولا يثق بحواسه ، لأنها كثيراً ما تخدعه . فكم مرة ظن انه يسمع ضجة خارجية وهو لا يسمع الاطنين اذنه ، وكم مرة وجد الماء الزلال مراً ، والمرارة ليست في الماء ، وانما هي في فمه . فالشك اذن قد خامر قلب الراشد ، حق جعل الصورة عنده غير مصحوبة بالاعتماد ، فقد تكون الصورة بعيدة عن الاشتباه والشك لا ينازعها في ذلك شيء ، ولكن أسباب الشك العامة التي تخامر قلب الراشد تمنعه من التصديق بها دائماً ، نعم ان هذه الأسباب مبهمة ، تحيط بها الشبهات من كل جانب ، ولكنها حاضرة دائماً . فكلما كانت الصورة ضعيفة ، قليلة الوضوح ، تابعة لحاسة مشتبهة الادراك ، كنا إلى الشك فيها أميل . إذا رأينا رجلا في العتمة أو في الضباب حسبناه شبحاً . ان هذه الصورة ممكنة ، وليس بينها وبين الصور الأخرى نزاع ولا تضاد ، غير أنا نشك في حقيقتها للاسباب العامة التي ذكرناها . فقد صح بالبرهان اذن ان الصورة ليست مصحوبة بالاعتقاد دائماً .
( ۲ ) رأي داويد هيوم - قال ( هيوم ( ان الادراك يختلف عن الصورة الوهمية لانه أكثر منها قوة وحياة ، وفرق بين الأحوال القوية والأحوال الضعيفة ، فقال : ان القوية تكبت الضعيفة وتمنعها من أن تكون موضوعية وخارجية . مثال ذلك إذا ظهر لي اني أرى الآن صورة خزانة كتبي وصورة مرفأ بيروت ، كانت الأولى ادراكا ، لأنها أقوى من الثانية ، وكانت الثانية ذكرى لانها أضعف من الأولى . قد يكون من الصعب ان يجمع الانسان في وقت واحد بين صورتين بصريتين كصورة خزانة الكتب وصورة مرفأ بيروت ، وربما كان من الضروري أن تزول احداهما التحل الثانية ، مكانها ، كمن يغمض عينيه لاسترجاع احدى الصور البصرية الماضية ؛ ولكن لنترك هذه الصعوبات ولنبين قيمة هذا الفارق . ان هذا الفارق لا يميز الصورة الحقيقية من الصورة الكاذبة ، لأن الوهم قد يقوى فيتغلب على الادراك الحقيقي ويكبته . وقد قال هنري برغسون : ( لو كانت ذكرى الادراك عبارة عن ذلك الادراك المضعوف لا غير ، لاتفق للانسان ان يحسب ادراك الصوت الخفيف ذكرى ضجة شديدة ) إلا ان هذا الالتباس لا يحصل أبداً .
الصودة الحقيقية أغنى من الصورة الوهمية - وقد ظن بعضهم أن الصورة الحقيقية تختلف عن الصورة الوهمية بدقتها ووضوحها وكثرة عناصرها ، فالصورة الحقيقية أغنى من الصورة الوهمية ، لأنها تتضمن الكثير من العناصر الدقيقة ، وهي ذات ألوان واضحة ، وحدود معينة ، وشكل خاص . أما الصورة الوهمية فهي فقيرة ، مبهمة ، يكاد الضباب يحيط بها من كل جانب ، فتتضاءل أطرافها وتظلم حدودها . إذا دققنا في هذا الفارق وجدناه ضعيفاً ، لأن هناك إدراكات حقيقية مبهمة ، وذكريات غنية واضحة ، إني أرى في العتمة بعض الاشخاص وأسمع من بعيد بعض الأصوات ، فلا أحسب هذه الادراكات الحسية وهما ، وكثيراً ما تكون الذكريات واضحة ، فيتذكر المرء صوت الشخص ، ولهجته ، وخطوطه الوجهية ، من غير أن تختلط هذه الذكرى عنده بالادراك الحسي .
٤ ) الحواس بعضها على بعض رقيب - إذا كانت الصورة الوهمية بصرية مثلا أمكن نقدها بالحواس الأخرى ، هبني رأيت على هذه الاريكة شبح أحد الأموات ، ولتكن الصورة واضحة بينة كالصورة الحقيقية . فإذا تقربت من الأريكة ولمست كتف الشبح الجالس عليها ، لم أشعر بمقاومة الأجسام ، وصلابتها ، فيغيب الشبح إذ ذاك عن ناظري ، وتبقى الاريكة ، ان الحواس رقيبة نفسها ، فقد تكون حاسة البصر رقيبة حاسة السمع ، كما قد تكون حاسة اللمس رقيبة حاسة البصر ذلك فان هذا الفارق ليس مطلقاً لان الحواس قد تشترك كلها في الوهم .
٥ ) الناس بعضهم على بعض رقيب - اذا اشتركت الحواس كلها في الوهم أمكن الخروج منه بشهادة الاشخاص الآخرين . فإذا خيل إلي أني أرى شبحاً ، واشتركت حاسة اللمس وحاسة السمع مع حاسة البصر في هذا الوهم ، أمكنني الرجوع إلى شهادة الناس ، فإذا كانت الصورة حقيقية رآها غيري كما أراها أنا ، وإذا طلبت منه وصفها جاء وصفه لها قريباً من وصفي . أما الصورة الوهمية فلا تتصف بشيء من ذلك .
٦ ) بين الادراك والتجربة علاقة منطقية - ان للادراك الحسي شروطاً تابعة للتجربة ، مثال ذلك ان المرء لا يستطيع أن يرى صورة بعلبك إذا كان يعلم أنه في دمشق ، ولا يستطيع أن يتكلم مع الاموات ، وهو حي ، وإذا حدث له شيء من ذ ذلك هزاء إلى الوهم . الخيال والرؤيا فلا يتقيدان بما يتقيد به الادراك الحسي ، وفي ومع لمرء أن يتخيل صورة باريس وهو في دمشق كما أنه يستطيع في المنام أن يكلم أحد الاموات ، ان في هذا الفارق شيئاً من الحقيقة ، لان من شروط الادراك الحسي أن يوافق التجربة والحس والذاكرة ، واكن لا يشترط في كل ادراك ان يكون بينه وبين شروط التجربة علاقة ضرورية ، هبني میروت طرقا على باب غرفت ، فهل أستطيع أن أقول ان بين هذا الصوت وشروط التجربة علاقة منطقية ؟ فقد يكون هذا الصوت وهما وقد يكون حقيقة ، وليس في شروط التجربة ما يمنع حدوثه . فهو اذن ممكن لا واجب ، ان موافقة الامر لشروط التجربة لیست فارقاً بين الادراك والوهم ، لانها قد يتساويان في الامكان .
٧ - الإدراك أثبت من الوهم - ان الصورة الحقيقية أثبت من الصورة الوهمية ، وأنت لا تستطيع أن تبدلها ولا أن تزيلها ، انك لا تستطيع أن تبدل موقع دمشق ، ولا أن تغير شكلها ، ولا أن تجعلها أكبر أو أصغر مما . هي ، وإذا نظرت إلى الجبل الأجرد لم تستطع أن تملأه أشجاراً . فالإدراك الحسي يقاومك ، أما الخيال فيعينك على تصور ما تريد من المناظر ، فتغرس الأشجار حيث تريد ، وتجعل الصحراء جنة تجري من تحتها الأنهار .
ان هذا الفارق . صحيح اجمالاً ، إلا أن بعض الصور الوهمية قد تزداد وضوحاً فتتبختر أمام عينيك ، حتى يتضاءل أمامها الإدراك الحسي ، كالصور التي يشاهدها المتصوف والشاعر والعاشق . انها لا تقل عن الإدراك الحسي مقاومة وثبوتا .
۸ - ان حدوث الإدراك تابع للارادة - ان حصول الادراك الحسي أسهل من حدوث الوهم . فمن أراد رؤية بيروت ذهب اليها ، ومن أراد الإحساس بالحرارة أشعل النار لأن الأمور تحدث في الشروط نفسها دائماً - إذا وجدت العلة وجد المعلول . أما الوهم فقلما حدث عن إرادة .
النتيجة : - ان البحث في فوارق الصورة الحقيقية يتضمن مسألتين .
1 - الفرق بين الإدراك والذكرى
۲ - الفرق بين الإدراك والوهم .
1 ) الفرق بين الإدراك والذكرى : - الإحساس ظاهرة من ظواهر الحاضر ، أما الذكرى فهي من ظواهر الماضي ، والحاضر ليس لمحة من الزمان لا تتجزأ أو نقطة رياضية تفصل الماضي عن المستقبل ، وانما هو هذا الزمان الذي أعيش ، وأعمل فيه ، ومن شأن الإحساس أن ينير هذا العمل ويبعث على القيام بالحركات الصالحة لتكيف الجسد . وإذن الاحساس ليس صورة بسيطة ، وإنما هو بداية عمل . ولذلك كان بينه وبين الجسد علاقة ، لأن الجسد آلة العمل ، إذا لمست النار فشعرت بالاحتراق أمكنك أن تعين موضع ألمك ، ولكنك لا تستطيع أن تعين موضع ذكرياتك كما تعين موضع الاحساس .
فالفرق إذن بين الاحساس والذكرى ، إن للاحساس موضعاً معيناً في الجسد ، وانه بداية عمل . نعم ان الذكرى قد تصبح قوية واضحة ، فتولد ذكرى الاحتراق احساسا بالاحتراق الحقيقي ، وتصبح بداية عمل مثله . غير أن هذه الذكرى التامة الواضحة التي تفرض نفسها علينا وتسيطر على حاضرنا لم تعد ذكرى حقيقية بل أصبحت وهما . - الفرق بين الادراك والوهم قد يكون الوهم واضحاً بيناً ثابتاً كالاحساس ، وقديختلط الأمر على المدرك فلا يفرق بين الوهم والحقيقة ، ومن الصعب الاقتصار على فارق واحد مما ذكرناه ، بل الجمع بين هذه الفوارق كلها أولى . ان تمييز الصورة الحقيقية من الصورة الوهمية ليس أمراً حدسياً بسيطاً وانما هو نتيجة عمل منطقي ، فالصورة الوهمية لا تشهد لها جميع الحواس . ولا يشاركك في رؤيتها غيرك من الناس ، وإذا كانت مخالفة للمعارف العلمية زاد يقينك بعدم صدقها . إن كل ما يخالف القوانين العلمية والنواميس الطبيعة أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة .
ان الاحساس وحده ليس مقياس الحقيقية ، ولذلك وجب أن يشترك حاكم العقل مع حاكم الحس في اثبات وجود الأشياء ، إن المحسوسات خاضعة لنظام ثابت ، وقد قيل لیست ادراكاتنا الحسية احلاماً محكمة الاتصال فحسب ، وانما هي احلام ثابتة الاساس في الوجود .
تعليق