الاعتقاد أن هناك وجوداً خارجيا .. معرفة العالم الخارجي
الاعتقاد أن هناك وجوداً خارجيا
لقد بينا كيف تتركب الأشياء الخارجية من الاحساسات والصور ، وكيف تتميز بعضها عن بعض ، ونريد الآن أن نبين أين توجد هذه الأشياء ، هل هي موجودة في النفس أم خارج النفس ؟ لو كنا نعتقد أن الأشياء نسيج النفس وحدها لكان وجودها وهمياً ، ولكننا نعتقد أنها موجودة خارج النفس وأنها مستقلة عنا ، لا تبطل إذا بطل الإدراك ، ولا تزول عن الوجود بزواله . إني أعتقد مثلاً انه لا بد من بقاء هذا الكتاب على منضدتي بالرغم من خروجي من مكتبي ، وأعتقد اني سأجده في مكانه إذا رجعت اليه فأنا اذن أتصور الأشياء وأعتقد مع هذا التصور إن الاشياء موجودة خارج النفس . فكيف حصل لي هذا الاعتقاد ؟ ولماذا لم أقتصر على القول أن الأشياء نسيج النفس وحدها وانها داخلية وخيالية ، وان كل ما أراه أو أدركه وهم لا حقيقة له ؟
لا شك أن هناك وجوداً خارج النفس . غير أن
( بر كلي ) وجميع الخياليين ينكرون وجود الأشياء الخارجية . فالموجود عند ( بركلي ) هو المدرك ، ومعنى الوجود الإدراك والشيء موجود لأني أدركه وأشعر به .
لا نريد الآن أن نبحث في هذا المذهب الخيالي ، ولكننا نريد أن نبحث في كيفية حصول هذا الاعتقاد لنا لا في قيمته وحقيقته . فكيف نتوصل إلى الاعتقاد ان للأشياء وجوداً خارج النفس ؟
۱ - نظرية ( توماس ريد ) أو نظرية الايحاء المباشر - زعم ( توماس ريد ) ان احاساتنا توحي الينا بهذا الاعتقاد مباشرة . قال : ان شهادة الحواس الواضحة والبيئة عند كل رجل صحيح الحكم تحمل معها اعتقاداً مباشراً لا يقاوم بوجود الأشياء خارج نفوسنا . ومعنى ذلك ان اقتناعنا بأن الأشياء التي ندركها وجوداً خارج النفس لا يكون بالإستدلالات والبراهين ، بل يكون بنوع من الإيحاء المفاجيء ، أو السحر الطبيعي ، الذي يكشف لنا عن الأشياء ، ويحملنا على التصديق بوجودها خارج نفوسنا » .
وهي إن نظرية ( ريد ) غامضة : لا تفسر كيفية حصول هذا الإعتقاد ، بل تقرر حصوله تحكماً ، حتى ان ( ريد ) نفسه يقول انه لا يريد ايضاح حقيقة هذا الاعتقاد ، بل يريد أن يشير إلى ظاهرة معروفة ، وهي ان التصور والاعتقاد يتبعان الاحساس مباشرة .
ولكن ما هذا الايحاء المباشر ، وما ذلك السحر الطبيعي ؟ هل هو استدلال أم حدس ؟ إن ( ريد ( ينكر تأثير الاستدلال العقلي في توليد هذا الإعتقاد ، ويتقرب من نظرية الحدس المباشر . ولكن نظريته في هذه الحالة الثانية لا تفيد شيئاً ، لأنها لا تبين لنا أي الإحساسات يولد هذا الحدس .
٢ - نظرية الحدس - إننا نعتقد أن هناك أشياء خارج النفس . لأننا نرى هذه الأشياء ونسمعها ونلمسها ، أي نطلع عليها مباشرة ، ولا حاجة للايحاء ، ولا لغير الإيحاء • في اطلاعنا عليها .
وهي تنشا إذا دققنا في شروط الإحساس الفسيولوجية والنفسية ، علمنا أننا لا نطلع بالإحساس على الوجود الخارجي اطلاعاً مباشراً ، لأن الإحساس ظاهرة نفسية داخلية . عن شيء خارجي يترك أثراً في الجسد ، ثم ينتقل هذا الاثر بوساطة الاعصاب إلى المراكز العصبية ، ثم ينقلب إلى احساس . وهذا يدل على أن بين الاحساس والشيء الخارجي حدوداً متوسطة تمنع حصول ذلك الاعتقاد بالحدس .
ولكن ( مین دو بیران ) يزعم أن هناك إحساساً ممتازاً يولد فينا هذا الاعتقاد مباشرة وهو الإحساس بالجهد ، ولا سيما الجهد العضلي . كل جهد يقتضي فاعلية تبذل ، وعائقاً يمنع تلك الفاعلية من الظهور . ونحن نشعر بتلك القوة المبذولة ، ونشعر في الوقت نفسه بذلك العائق ، فنطلع مباشرة على الأنا ، واللاأنا في وقت واحد .
لا شك أن للإحساسات العضلية شأناً كبيراً في الإدراك ، إلا أنها لا تطلعنا على شيء خارجي . فأنا أحس بفاعليتي ، وأحس بالتعب والجهد والتقبض ، إلا أن هذه الإحساسات ، لا تختلف عن غيرها . لأنها واردة من المحيط إلى المركز ، فهي لا تدل إذن على فاعلية مبذولة ، وقوة صادرة من الداخل إلى الخارج ، أي من المركز إلى المحيط .
ومما يؤيد ذلك أني استطيع ان احس بالجهد ، من غير ان يكون هناك مقاومة خارجية ، كالاحساس الذي أشعر به عندما اقبض سبابتي واشنجها كمن يريد ان يضغط زناد بندقية . فالاحساس بالجهد العضلي لا يختلف عن غيره من الاحساسات . والحدس كالايحاء المباشر لا يكفينا مؤونة البحث عن السبب الحقيقي لاعتقادنا ان هناك حقيقة خارجية مستقلة عنا ...
٣ - نظرية ديكارت وفيكتور كوزان ، او نظرية الاستدلال إن المناقشة في نظريات الحدس والايحاء المباشر تحملنا على البحث في النظرية التي ترجع هذا الاعتقاد الى أسباب عقلية . لقد نسبت هذه النظرية الى ديكارت ، وقال بها فيكتور كوزان و براون Brown ، وكثير من الفلاسفة المعاصرين .
قال صاحب التأملات : السبب الذي حملني على الاعتقاد ان الاشياء المادية موجودة خارج النفس هو اني وجدت في نفسي احساسات وصوراً لم تكن تابعة لارادتي ، فدفعني ذلك الى فرضها متولدة من علة خارجية .
لم يكن غرض ديكارت من هذا القول ان يبين لنا كيف نشأ هذا الاعتقاد ، بل كان قصده إثبات وجود العالم الخارجي ، بأدلة ميتافيزيقية ، غير ان ( فكتور كوزان ) ، وغيره من الفلاسفة الروحيين ، ظنوا ان هذا البرهان الفلسفي ايضاح نفسي . قال فيكتور كوزان ) : الاحساس ظاهرة شعورية ، فإذا كانت هذه الظاهرة حقيقية ، وكان لكل ظاهرة علة ، اضطرنا العقل الى ارجاع ظاهرة الاحساس الى علة ، ولما كنت ، انا نفسي ، لست هذه الملة كان من الواجب عقلاً ارجاع هذا الاحساس الى علة اخرى ، غريبة عني ، إي الى العالم الخارجي ، وقال ايضاً : ( ان مبدأ السببية هو الجسر الذي تمر عليه عند انتقالنا من الانا الى العالم المادي .
الخارجي قيل في الرد على هذه النظرية : ان الطفل والحيوان يعتقدان أن العالم موجود ، وان هذا الاعتقاد لم يحصل لها بطريق الاستدلال العقلي . ليس هذا الاعتراض مقنعاً ، لان الطفل يطبق مبدأ السببية من غير أن يكون هذا المبدأ واضحاً في ذهنه ، ألا تری أنه كثير السؤال ، يريد معرفة أسباب الاشياء التي تحيط به ؟ حتى لقد قال علماء النفس : ان هذه السن هي سن السؤال . أما الحيوان فاننا نجهل حقيقة ما يجرى في نفسه ، ولا يمكننا أن نبني تفسيرنا لهذه النظرية على علم النفس الحيواني ونحن على ما لحن عليه من الجهل بحقيقة الحيوان .
ولعل أحسن ما جاء في الاعتراض على هذه النظرية ، قولهم : اننا لا ننتقل من الاحساس الى علته الخارجية ، أي من الاحساس باللون او بالصوت مثلا الى شيء خارجي مختلف عنها ، بل نعتبر هذه الاحساسات نفسها ، متحققة في الخارج .
نحن لا نقول إن لاحساساتنا علة ، وان هذه العلة . المستقل عنا . العالم الخارجي مي واذا احسنا مثلاً بلون ابيض مستطيل الشكل ذي ملامة ، لم نقل هذه صورة داخلية ، لعلة خارجية ) هي صفحة الورق ) ؛ بل قلنا : إن صفحة الورق التي نراها مؤلفة من احساساتنا نفسها .
٤ - نظرية استوارت میل زعم ( استوارت میل ) أن الجسم مجموع احساسات حاضرة أو ممكنة . انظر الى هذا الكتاب ، انه مجموع احساسات حاضرة لا تزول عن الوجود بانقطاع احساسي بها أو خروجي من هذه الغرفة ، بل تبقى ممكنة الوجود ، ومعنى هذا الامكان : أني إذا رجعت الى الغرفة ، استرجعت تلك الصور التي انقطع احساسي بها خلال مدة من الزمان . وعلى ذلك ، فان استقلال الاشياء المادية عن اذهاننا ، ليس اكثر من هذا الامكان الدائم ، لأني كلما دخلت الى غرفتي ، استرجعت هذه الاحساسات ، فليس خروجي من الغرفة إذن مبطلاً للكتاب ، ومعطلاً له . ان جميع الاجسام مركبة من هذه الاحساسات الحاضرة أو الممكنة . الحاضر مجموع إحساسات حاضرة ، والغائب مجموع احساسات ممكنة .
لا جرم ان ظواهر الاجسام تنحل الى جمل من الاحساسات ، ولكن حقيقة الاجسام لا تنحل الى احساسات ممكنة الادراك . نعم ان ) ستوارت ميل ) يقول ان امكان ادراك الاجسام امكان دائم ، ولكن ما معنى الامكان الدائم ؟ هل هو إمكان ، أم وجوب ؟ رؤيتي للكتاب بعد رجوعي الى غرفتي ليست مقصورة على الامكان ، وانما هي متصفة بالوجوب . ولو كان وجود الاجسام عبارة عن امكان ادراكها فقط ، لكان وجود الاشباح والاوهام لا يقل حقيقة عن وجود الاجسام ، لأنها امور ممكنة أيضا ( ١ ) ، فهناك اذن وجوب لا إمكان . وهذه الاحساسات التي يتألف منها العالم الخارجي متصلة بعضها ببعض ، تتعاقب وفق نظام ضروري ثابت يسمى بنظام الطبيعة .
ينتج مما تقدم ان الاعتقاد بوجود العالم الخارجي لا ينشأ عن حكم أو استدلال عقلي ، ولا عن إيحاء مباشر ، ولا عن تصور امكان دائم . بل يتولد من اسباب اخرى ، فما هي هذه الاسباب ؟
رأينا عند البحث في تصور المكان ، ان الاحساسات ذات امتداد ، وانها ليست احوالاً داخلية محضة لا صلة لها بالعالم الخارجي : ، وانما هي احساسات منشورة ومبسوطة في المكان ، فنحن اذن في غنى عن قلب الداخلي الى خارجي . ألا ترى ان الطفل في أول أمره يظن ان كل ما يحس به جزء من وجوده ، وانه يفرق بعد ذلك بالتدريج بين جسده والأجسام الاخرى ؛ ثم يرتقي من هذه الحالة الى معرفة جسده ، ويرتقي في النهاية من معرفة جسده الى معرفة نفسه ؟
كيف نميز جسدنا من الاجسام الاخرى ؟
۱ - ان احساسي يجسدي حاضر معيد دائما لا يفارقني ، اما إحساسي بالاجسام الأخرى ، فتارة يكون حاضراً واخرى غائباً ، أينما اذهب أحس يجدي ، سواء أكنت في البيت ، أم في القطار ، ام في السفينة . ولكني لا ارى القطار اذا كنت في البيت ، ولا ارى السفينة اذا كنت في القطار ؛ فالجسد مؤلف إذن من احساسات ممتازة تختلف تمام الاختلاف عن غيرها .
٢ - ثم انني لا أطلع على الاجسام الاخرى الا بوساطة جسدي . اذا حذفت عضواً ، ابطلت جميع الاحساسات الحادثة عنه ، واذا اغمضت عيني بي . فالجسد اذن هو الحد الفاصل بيني وبين العالم الخارجي من اعضاء جسدي أضعت رؤية الأجسام المحيطة .
٣ - ثم ان ملمس جسدي يختلف عن ملمس الاجسام الاخرى ، لان لمس الأجسام يحدث احساساً بسيطاً ، أما لمس الجسد فيحدث إحساساً مضاعفاً . اذا وضعت يدي على جسدي ، شعرت باحساس مضاعف ، لان يدي تكون إذ ذاك لامسة وملموسة . ولكني اذا وضعت يدي على كتابي ، شعرت بإحساس واحد ، واذا اتفق في بعض الامراض ان فقد هذا الاحساس المضاعف ظن الانسان ان عضوه المريض ليس من جسده .
كيف نفرق بين النفس والجسد ؟
كلما ازداد شعورنا بشخصيتنا وضوحاً ، ازداد شعور تا بوجود العالم الخارجي تميزاً . إن شخصيتنا في اول العمر لا تختلف عن جسدنا ، غير اننا نرتقي بعد ذلك الى تجريدها من الجسد ، حتى يصبح هذا الجسد شبيها بالاجسام الخارجية من حيث حقيقته ، هكذا انجرد احوالنا النفسية من الصفات المادية ، وندرك بالحدس لا بالعقل اننا مجموع من اللذات والآلام والرغائب والارادات والافكار ، تختلف حقيقتها عن حقيقة الاجسام ؛ ونعلم مباشرة ان للجسم حجماً ، وان الاحوال النفسية عارية من الامتداد . وعلى ذلك فان ادراك العالم الخارجي ليس نتيجة معرفتنا العقلية بالاسباب الخارجية للاحساس ، وانما هو نتيجة معرفة الانسان بنفسه وشعوره بشخصيته وتأمله لذاته . وكلما كان تأمل الذات أبلغ كانت حدود الأنا واللاأنا أوضح . وسنعود الى بيان هذا الامر في مبحث الشخصية .
الاعتقاد أن هناك وجوداً خارجيا
لقد بينا كيف تتركب الأشياء الخارجية من الاحساسات والصور ، وكيف تتميز بعضها عن بعض ، ونريد الآن أن نبين أين توجد هذه الأشياء ، هل هي موجودة في النفس أم خارج النفس ؟ لو كنا نعتقد أن الأشياء نسيج النفس وحدها لكان وجودها وهمياً ، ولكننا نعتقد أنها موجودة خارج النفس وأنها مستقلة عنا ، لا تبطل إذا بطل الإدراك ، ولا تزول عن الوجود بزواله . إني أعتقد مثلاً انه لا بد من بقاء هذا الكتاب على منضدتي بالرغم من خروجي من مكتبي ، وأعتقد اني سأجده في مكانه إذا رجعت اليه فأنا اذن أتصور الأشياء وأعتقد مع هذا التصور إن الاشياء موجودة خارج النفس . فكيف حصل لي هذا الاعتقاد ؟ ولماذا لم أقتصر على القول أن الأشياء نسيج النفس وحدها وانها داخلية وخيالية ، وان كل ما أراه أو أدركه وهم لا حقيقة له ؟
لا شك أن هناك وجوداً خارج النفس . غير أن
( بر كلي ) وجميع الخياليين ينكرون وجود الأشياء الخارجية . فالموجود عند ( بركلي ) هو المدرك ، ومعنى الوجود الإدراك والشيء موجود لأني أدركه وأشعر به .
لا نريد الآن أن نبحث في هذا المذهب الخيالي ، ولكننا نريد أن نبحث في كيفية حصول هذا الاعتقاد لنا لا في قيمته وحقيقته . فكيف نتوصل إلى الاعتقاد ان للأشياء وجوداً خارج النفس ؟
۱ - نظرية ( توماس ريد ) أو نظرية الايحاء المباشر - زعم ( توماس ريد ) ان احاساتنا توحي الينا بهذا الاعتقاد مباشرة . قال : ان شهادة الحواس الواضحة والبيئة عند كل رجل صحيح الحكم تحمل معها اعتقاداً مباشراً لا يقاوم بوجود الأشياء خارج نفوسنا . ومعنى ذلك ان اقتناعنا بأن الأشياء التي ندركها وجوداً خارج النفس لا يكون بالإستدلالات والبراهين ، بل يكون بنوع من الإيحاء المفاجيء ، أو السحر الطبيعي ، الذي يكشف لنا عن الأشياء ، ويحملنا على التصديق بوجودها خارج نفوسنا » .
وهي إن نظرية ( ريد ) غامضة : لا تفسر كيفية حصول هذا الإعتقاد ، بل تقرر حصوله تحكماً ، حتى ان ( ريد ) نفسه يقول انه لا يريد ايضاح حقيقة هذا الاعتقاد ، بل يريد أن يشير إلى ظاهرة معروفة ، وهي ان التصور والاعتقاد يتبعان الاحساس مباشرة .
ولكن ما هذا الايحاء المباشر ، وما ذلك السحر الطبيعي ؟ هل هو استدلال أم حدس ؟ إن ( ريد ( ينكر تأثير الاستدلال العقلي في توليد هذا الإعتقاد ، ويتقرب من نظرية الحدس المباشر . ولكن نظريته في هذه الحالة الثانية لا تفيد شيئاً ، لأنها لا تبين لنا أي الإحساسات يولد هذا الحدس .
٢ - نظرية الحدس - إننا نعتقد أن هناك أشياء خارج النفس . لأننا نرى هذه الأشياء ونسمعها ونلمسها ، أي نطلع عليها مباشرة ، ولا حاجة للايحاء ، ولا لغير الإيحاء • في اطلاعنا عليها .
وهي تنشا إذا دققنا في شروط الإحساس الفسيولوجية والنفسية ، علمنا أننا لا نطلع بالإحساس على الوجود الخارجي اطلاعاً مباشراً ، لأن الإحساس ظاهرة نفسية داخلية . عن شيء خارجي يترك أثراً في الجسد ، ثم ينتقل هذا الاثر بوساطة الاعصاب إلى المراكز العصبية ، ثم ينقلب إلى احساس . وهذا يدل على أن بين الاحساس والشيء الخارجي حدوداً متوسطة تمنع حصول ذلك الاعتقاد بالحدس .
ولكن ( مین دو بیران ) يزعم أن هناك إحساساً ممتازاً يولد فينا هذا الاعتقاد مباشرة وهو الإحساس بالجهد ، ولا سيما الجهد العضلي . كل جهد يقتضي فاعلية تبذل ، وعائقاً يمنع تلك الفاعلية من الظهور . ونحن نشعر بتلك القوة المبذولة ، ونشعر في الوقت نفسه بذلك العائق ، فنطلع مباشرة على الأنا ، واللاأنا في وقت واحد .
لا شك أن للإحساسات العضلية شأناً كبيراً في الإدراك ، إلا أنها لا تطلعنا على شيء خارجي . فأنا أحس بفاعليتي ، وأحس بالتعب والجهد والتقبض ، إلا أن هذه الإحساسات ، لا تختلف عن غيرها . لأنها واردة من المحيط إلى المركز ، فهي لا تدل إذن على فاعلية مبذولة ، وقوة صادرة من الداخل إلى الخارج ، أي من المركز إلى المحيط .
ومما يؤيد ذلك أني استطيع ان احس بالجهد ، من غير ان يكون هناك مقاومة خارجية ، كالاحساس الذي أشعر به عندما اقبض سبابتي واشنجها كمن يريد ان يضغط زناد بندقية . فالاحساس بالجهد العضلي لا يختلف عن غيره من الاحساسات . والحدس كالايحاء المباشر لا يكفينا مؤونة البحث عن السبب الحقيقي لاعتقادنا ان هناك حقيقة خارجية مستقلة عنا ...
٣ - نظرية ديكارت وفيكتور كوزان ، او نظرية الاستدلال إن المناقشة في نظريات الحدس والايحاء المباشر تحملنا على البحث في النظرية التي ترجع هذا الاعتقاد الى أسباب عقلية . لقد نسبت هذه النظرية الى ديكارت ، وقال بها فيكتور كوزان و براون Brown ، وكثير من الفلاسفة المعاصرين .
قال صاحب التأملات : السبب الذي حملني على الاعتقاد ان الاشياء المادية موجودة خارج النفس هو اني وجدت في نفسي احساسات وصوراً لم تكن تابعة لارادتي ، فدفعني ذلك الى فرضها متولدة من علة خارجية .
لم يكن غرض ديكارت من هذا القول ان يبين لنا كيف نشأ هذا الاعتقاد ، بل كان قصده إثبات وجود العالم الخارجي ، بأدلة ميتافيزيقية ، غير ان ( فكتور كوزان ) ، وغيره من الفلاسفة الروحيين ، ظنوا ان هذا البرهان الفلسفي ايضاح نفسي . قال فيكتور كوزان ) : الاحساس ظاهرة شعورية ، فإذا كانت هذه الظاهرة حقيقية ، وكان لكل ظاهرة علة ، اضطرنا العقل الى ارجاع ظاهرة الاحساس الى علة ، ولما كنت ، انا نفسي ، لست هذه الملة كان من الواجب عقلاً ارجاع هذا الاحساس الى علة اخرى ، غريبة عني ، إي الى العالم الخارجي ، وقال ايضاً : ( ان مبدأ السببية هو الجسر الذي تمر عليه عند انتقالنا من الانا الى العالم المادي .
الخارجي قيل في الرد على هذه النظرية : ان الطفل والحيوان يعتقدان أن العالم موجود ، وان هذا الاعتقاد لم يحصل لها بطريق الاستدلال العقلي . ليس هذا الاعتراض مقنعاً ، لان الطفل يطبق مبدأ السببية من غير أن يكون هذا المبدأ واضحاً في ذهنه ، ألا تری أنه كثير السؤال ، يريد معرفة أسباب الاشياء التي تحيط به ؟ حتى لقد قال علماء النفس : ان هذه السن هي سن السؤال . أما الحيوان فاننا نجهل حقيقة ما يجرى في نفسه ، ولا يمكننا أن نبني تفسيرنا لهذه النظرية على علم النفس الحيواني ونحن على ما لحن عليه من الجهل بحقيقة الحيوان .
ولعل أحسن ما جاء في الاعتراض على هذه النظرية ، قولهم : اننا لا ننتقل من الاحساس الى علته الخارجية ، أي من الاحساس باللون او بالصوت مثلا الى شيء خارجي مختلف عنها ، بل نعتبر هذه الاحساسات نفسها ، متحققة في الخارج .
نحن لا نقول إن لاحساساتنا علة ، وان هذه العلة . المستقل عنا . العالم الخارجي مي واذا احسنا مثلاً بلون ابيض مستطيل الشكل ذي ملامة ، لم نقل هذه صورة داخلية ، لعلة خارجية ) هي صفحة الورق ) ؛ بل قلنا : إن صفحة الورق التي نراها مؤلفة من احساساتنا نفسها .
٤ - نظرية استوارت میل زعم ( استوارت میل ) أن الجسم مجموع احساسات حاضرة أو ممكنة . انظر الى هذا الكتاب ، انه مجموع احساسات حاضرة لا تزول عن الوجود بانقطاع احساسي بها أو خروجي من هذه الغرفة ، بل تبقى ممكنة الوجود ، ومعنى هذا الامكان : أني إذا رجعت الى الغرفة ، استرجعت تلك الصور التي انقطع احساسي بها خلال مدة من الزمان . وعلى ذلك ، فان استقلال الاشياء المادية عن اذهاننا ، ليس اكثر من هذا الامكان الدائم ، لأني كلما دخلت الى غرفتي ، استرجعت هذه الاحساسات ، فليس خروجي من الغرفة إذن مبطلاً للكتاب ، ومعطلاً له . ان جميع الاجسام مركبة من هذه الاحساسات الحاضرة أو الممكنة . الحاضر مجموع إحساسات حاضرة ، والغائب مجموع احساسات ممكنة .
لا جرم ان ظواهر الاجسام تنحل الى جمل من الاحساسات ، ولكن حقيقة الاجسام لا تنحل الى احساسات ممكنة الادراك . نعم ان ) ستوارت ميل ) يقول ان امكان ادراك الاجسام امكان دائم ، ولكن ما معنى الامكان الدائم ؟ هل هو إمكان ، أم وجوب ؟ رؤيتي للكتاب بعد رجوعي الى غرفتي ليست مقصورة على الامكان ، وانما هي متصفة بالوجوب . ولو كان وجود الاجسام عبارة عن امكان ادراكها فقط ، لكان وجود الاشباح والاوهام لا يقل حقيقة عن وجود الاجسام ، لأنها امور ممكنة أيضا ( ١ ) ، فهناك اذن وجوب لا إمكان . وهذه الاحساسات التي يتألف منها العالم الخارجي متصلة بعضها ببعض ، تتعاقب وفق نظام ضروري ثابت يسمى بنظام الطبيعة .
ينتج مما تقدم ان الاعتقاد بوجود العالم الخارجي لا ينشأ عن حكم أو استدلال عقلي ، ولا عن إيحاء مباشر ، ولا عن تصور امكان دائم . بل يتولد من اسباب اخرى ، فما هي هذه الاسباب ؟
رأينا عند البحث في تصور المكان ، ان الاحساسات ذات امتداد ، وانها ليست احوالاً داخلية محضة لا صلة لها بالعالم الخارجي : ، وانما هي احساسات منشورة ومبسوطة في المكان ، فنحن اذن في غنى عن قلب الداخلي الى خارجي . ألا ترى ان الطفل في أول أمره يظن ان كل ما يحس به جزء من وجوده ، وانه يفرق بعد ذلك بالتدريج بين جسده والأجسام الاخرى ؛ ثم يرتقي من هذه الحالة الى معرفة جسده ، ويرتقي في النهاية من معرفة جسده الى معرفة نفسه ؟
كيف نميز جسدنا من الاجسام الاخرى ؟
۱ - ان احساسي يجسدي حاضر معيد دائما لا يفارقني ، اما إحساسي بالاجسام الأخرى ، فتارة يكون حاضراً واخرى غائباً ، أينما اذهب أحس يجدي ، سواء أكنت في البيت ، أم في القطار ، ام في السفينة . ولكني لا ارى القطار اذا كنت في البيت ، ولا ارى السفينة اذا كنت في القطار ؛ فالجسد مؤلف إذن من احساسات ممتازة تختلف تمام الاختلاف عن غيرها .
٢ - ثم انني لا أطلع على الاجسام الاخرى الا بوساطة جسدي . اذا حذفت عضواً ، ابطلت جميع الاحساسات الحادثة عنه ، واذا اغمضت عيني بي . فالجسد اذن هو الحد الفاصل بيني وبين العالم الخارجي من اعضاء جسدي أضعت رؤية الأجسام المحيطة .
٣ - ثم ان ملمس جسدي يختلف عن ملمس الاجسام الاخرى ، لان لمس الأجسام يحدث احساساً بسيطاً ، أما لمس الجسد فيحدث إحساساً مضاعفاً . اذا وضعت يدي على جسدي ، شعرت باحساس مضاعف ، لان يدي تكون إذ ذاك لامسة وملموسة . ولكني اذا وضعت يدي على كتابي ، شعرت بإحساس واحد ، واذا اتفق في بعض الامراض ان فقد هذا الاحساس المضاعف ظن الانسان ان عضوه المريض ليس من جسده .
كيف نفرق بين النفس والجسد ؟
كلما ازداد شعورنا بشخصيتنا وضوحاً ، ازداد شعور تا بوجود العالم الخارجي تميزاً . إن شخصيتنا في اول العمر لا تختلف عن جسدنا ، غير اننا نرتقي بعد ذلك الى تجريدها من الجسد ، حتى يصبح هذا الجسد شبيها بالاجسام الخارجية من حيث حقيقته ، هكذا انجرد احوالنا النفسية من الصفات المادية ، وندرك بالحدس لا بالعقل اننا مجموع من اللذات والآلام والرغائب والارادات والافكار ، تختلف حقيقتها عن حقيقة الاجسام ؛ ونعلم مباشرة ان للجسم حجماً ، وان الاحوال النفسية عارية من الامتداد . وعلى ذلك فان ادراك العالم الخارجي ليس نتيجة معرفتنا العقلية بالاسباب الخارجية للاحساس ، وانما هو نتيجة معرفة الانسان بنفسه وشعوره بشخصيته وتأمله لذاته . وكلما كان تأمل الذات أبلغ كانت حدود الأنا واللاأنا أوضح . وسنعود الى بيان هذا الامر في مبحث الشخصية .
تعليق