نظرية التجربيين .. معرفة العالم الخارجي ..
نظرية التجريبيين
ينتج مما تقدم ( ٦ ) أن فكرة المكان ليست مستخرجة من العقل ، وإنما هي كغيرها من الفكر متولدة من الاحساس .
غير أن ( لوتز ) و ( وندت ) و ( هامولتز ) و ( ستوارت میل ) و ( بین ) و ( سبنسر ) و ( ریبو ) وغيرهم من التجريبيين زعموا أن الاحساس نفسه عار من الامتداد . وانه لا يولد تصور المكان مباشرة وان الذي يولد تصور المكان انما هو اختلاط الاحساسات المختلفة بعضها ببعض .
فكأن هناك إذا صح القول كيمياء ذهنية تختلف فيها خواص العناصر عن خواص المركبات ، وكما تختلف صفات الاوكسجين والهيدروجين عن صفات الماء ، فكذلك تختلف صفات الاحساسات عن صفات المعاني المتولدة منها . فلا عجب إذا تولد معنى المكان من الاحساس . ولكن ما الذي حمل التجريبيين على القول ان تصور المكان لا يتولد من الاحساسات مباشرة ، بل يتولد من اختلاطها بعضها ببعض .
لسنا نحتاج إلى كبير عناء في إظهار السبب الذي جعل التجريبيين يأخذون بهذه النظرية المعقدة . انهم يقولون أن الاحساس ظاهرة نفسية ، وان الظواهر النفسية لاتشغل المكان ، ولذلك كانت عارية من الامتداد ، لا تقاس مباشرة ، وليس لها حجم . أضف إلى ذلك ان الاحساس ينشأ عن تأثير خارجي ، فينتقل هذا التأثير إلى المراكز العصبية وينقلب إلى شعور .
فالنفس اذن تشعر بهذا التبدل العصبي لا بالمؤثر الخارجي لأن الاحساس يحسم من الأجسام ليس عبارة عن دخول هذا الجسم في النفس ، وإنما هو شعور بالتبدلات العصبية التي أحدثها هذا الجسم في الجسد . ولذلك كان من الصعب أن نقول أن للاحساس ما للجسم من الامتداد ، لأن الاحساس ليس إلا إشارة تدل على الشيء الخارجي ، وهذه الاشارة كما قال ( هه ولتز ( لا تدرك الا بتأويل العقل . ولكن كيف تمتزج الاحساسات بعضها ببعض ، وكيف يؤدي تركيبها إلى توليد فكرة المكان ؟ إن آراء ( ستوارت ميل ) و ( بين ) و ( سبنسر ) و ( وندت ) في هذا الأمر متشابهة ، لأنهم اعتبروا فكرة المكان معادلة لفكرة الوجود معاً ، أي لفكرة المعية ، فإذا أثبتنا ان هذه الفكرة الأخيرة تتولد من امتزاج الاحساسات بعضها ببعض صح تولد فكرة المكان من امتزاج الاحساسات ، لأن فكرة المكان معادلة لفكرة الوجود معاً .
قال سبنسر : « لنفرض أن نقطة مضيئة أثرت في الطبقة الشبكية في نقطة مثل ( ۱ ) " وان العين قد تحركت ، حق انتقل الأثر من نقطة ( ۱ ) إلى نقطة ( ب ) المجاورة لها . ثم انتقل منها إلى ( ج ) ثم إلى ( د ) . ولنفرض الآن أن العين قد تحركت بسرعة ، فان الأثر ينتقل إلى نقطة ( ب ) قبل أن يزول عن نقطة ( ۱ ) ويصل إلى نقطة ( ج ) قبل أن يزول عن نقطة ( ب ) ، لأن التأثير لا يزول بعد زوال المؤثر ، بل يبقى مدة من الزمن ، وإذا كانت حركة العين سريعة حصل الأثر في ( د ) قبل أن يزول عن ( ۱ ) ، وهكذا يجتمع الأثر في حدود الجملة كلها ، فتنقلب حدود الجملة المتتابعة إلى حدود موجودة معاه .
إن كلا من هذه الاحساسات البصرية المتتابعة عار من الامتداد . إلا أن حركة العين السريعة جعلت هذه الاحساسات المتتابعة موجودة معاً ، ووجود الاحساسات المختلفة معا ، دليل على أنها في محلات مختلفة ، لأن فكرة الوجود معاً معادلة لفكرة المكان .
وقد توصل سبنسر إلى النتيجة نفسها بدليل آخر ، قال : لأفرض انني است طرف الكتاب ، ثم حركت يدي من ( ) إلى ( ي ) ، فانني أشعر باحساسات متتابعة عارية من کت الامتداد ، ولكن هبني . يدي بعد ذلك في عكس الجهة الأولى ، أي من ( ي ) إلى ( 1 ) ، فاني أشعر في هذه الحالة بالاحساسات نفسها ، ولكن بصورة معكوسة . وهكذا فإن الجملة الأولى المتتابعة من ( ۱ ) إلى ( ي ) تنعكس إلى جملة ثانية متتابعة من ( ي ) الى ( ا ) .
إن إمكان انعكاس الجملة المتتابعة دليل على أن التتابع ليس ذاتياً لهذه الجملة ؛ ولولا وجود حدودها معاً لما أمكن عكسها . وهذا يدل على أن حدود هذه الجملة موجودة في المكان لا في الزمان .
فها أنت ترى أن طريقة سبنسر في توليد تصور المكان تقوم على ارجاع فكرة المكان الى فكرة المعية أي فكرة الوجود مما ( ۱ ) ثم ايضاح تولد فكرة الوجود معا من الاحساسات المتتابعة . . .
وقد لخص ( ريبو ) في كتاب السيكولوجيا الألمانية رأي ( بين ) ، فقال : « ان حالة الشعور التي ترافق بعض أنواع الحركات العضلية هي الأصل في إدراكنا للطول والعمق والمرض والشكل والوضع والجهة . أي أنها أصل جميع خواص المكان – إذا وضعنا يدنا أو اصبعنا على سطح وقلنا ان النقطة ( ۳ ) منفصلة عن النقطة ( ب ) بمسافة ما ، كان معنى ذلك أن هناك جملة من الاحساسات العضلية ، نشعر بها عند الانتقال من ( آ ) إلى ( ب ) . فالامتداد إذن يتولد من الشعور بمدة الجهد العضلي ، وهي . تختلف باختلاف الاحوال إن معنى الطول في المكان مؤلف من معنى الطول في الزمان .
بقي أن نوضح : كيف تولد هذه الجملة من الاحساسات العضلية المتتابعة فكرة المعية ، أي فكرة الوجود معاً في زمان واحد ؟
( ۱ ) إن فكرة المكمان تقتضي فكرة الوجود معاً ، كما أن فكرة الوجود معاً تقتضي فكرة المكان ، وفي الحق أن المكان والوجود معاً هما صورتان لمعرفة واحدة ، لأنك لا تستطيع أن تتصور المكان من غير أن تفكر في أوضاع موجودة مما ، ولا نستطيع أن تفكر في الوجود معاً إلا إذا تصورت على الأقل نقطتين موجودتين في المكان .
نلاحظ في سبيل ذلك عنصراً جديداً ، وهو الإحساس اللمسي ، انا نشعر عند تحريك يدنا على السطح الثابت - كما ذكرنا سابقا - باحساسات لمسية متتابعة ، مختلفة عن الإحساسات العضلية . وهكذا نشعر يجملتين متتابعتين من الإحساسات العضلية واللمسية حادثتين معاً في زمان واحد . وإذا قلبنا الجملة وحركنا يدنا في الجهة المعاكسة ، تجلى لنا هذا الوجود معاً في الزمان الواحد تجلياً واضحاً ، ثم أن تتابع حدود الجملة لا يختلف باختلاف سرعة الحركة : فإذا كانت حركة اليد أسرع كان التتابع أسرع ، وإذا كانت الحركة أبطأ كان التتابع أبطأ . ولكن ترتيب الحدود مستقل عن تتابعها الزماني . ولذلك كان المكان ناشئاً عن انضمام الاحساسات اللمسية أو البصرية إلى الاحساسات العضلية . ولو اقتصر الأمر على الشعور بالإحساسات العضلية المتتابعة لكان تتابعها زمانياً لا غير .
إلا أن اجتماع الاحساسات اللمسية مع الاحساسات ت العضلية المتتابعة يولد فكرة المعية أي فكرة الوجود معاً وهذه الفكرة معادلة لفكرة المكان .
المناقشة في هذه النظرية قد يكون في هذه النظرية حذق وتفنن . ولكن هذا التفنن لا يكفي لتوليد فكرة الامتداد من الزمن . واليك الآن بعض الاعتراضات التي ذكرها العلماء في نقد هذه النظرية .
ا - إن المبدأ الذي بنى عليه سبنسر نظريته مبدأ فاسد ، لأنه اعتبر الاحساسات عارية من الامتداد . نعم إن الاحساس حالة نفسية والأحوال النفسية لا تشغل المكان . غير أن الاحساس يحتوي على صورة الامتداد لا على الامتداد نفسه . مثال ذلك : إنك لا تستطيع أن تتصور اللون من غير أن يكون لهذا اللون امتداد ، ولا تستطيع أن تلمس جسماً من الاجسام الا اذا شعرت في الوقت نفسه بعدة نقاط متجاورة ـ اي بامتداد .
لم يأخذ سبنسر بهذه الكيمياء الذهنية ، الا لاعتقاده ان الاحساسات عارية من الامتداد ، ولو سلم بأن الاحساسات ذات امتداد لما احتاج إلى هذه النظرية المعقدة .
٢ - أضف الى ذلك أن سبنسر يعد المكان معادلاً للوجود معاً ، ويقول : ان كلا من هذين الأمرين يستلزم الآخر .
والحق عن ذلك بعید لأنك لا تستطيع أن تستنتج من حدوث أمرين في زمان واحد انهما في محلين مختلفين . نعم ان المكان يقتضي الوجود معاً ؛ ولكن العكس غير صحيح .
قال هو فدينغ : « إذا لمع شعاع الأمل خلال القنوط الشديد ، لم نتصور هذا الأمل فوق القنوط ، او تحته ، أو إلى يمينه أو يساره فالعناصر الشعورية المختلفة قد توجد ** إذن معاً في زمان واحد من غير أن تكون مرتبة وفقاً لصورة المكان ..
٣ - اذا كانت الحدود المتتابعة عارية من الامتداد استحال انقلابها إلى حدود موجودة معا . ! إن أحسن مثال يدل على هذا التتابع تتابع حياتنا النفسية ، لأن لكل حالة . أحوالنا النفسية مدة ، فإذا تتابعت تداخل بعضها في بعض ، الحالة اللاحقة تحدث قبل زوال الحالة السابقة ، وكل حالة تترك أثراً في التي بعدها ، فلا يمكننا أن نعتبر الجملة آ ، ب ، ج ، د جملة متتابعة إلا إذا بقي من ( ۱ ) شيء في ( ب ) . ولذلك قيل : الديمومة هي اتصال الحاضر بالماضي ، أو بقاء الماضي في الحاضر . وقد شبهوا تتابع الحوادث النفسية بتتابع الأصوات في الألحان : فهي كل لا يتم وجوده بصوت دون آخر ؛ بل يتم بتتابع الأصوات كلها ، وهذا التتابع ضروري لحدوث اللحن ، فتمد يكون سريعاً وقد يكون بطيئاً ، إلا أنه من الصعب قلب معنى التتابع إلى معنى الوجود معاً في زمان واحد ، لأن اللحن لا يتولد من حدوث الأصوات كلها معاً ، بل ينشأ عن تتابعها في أزمنة مختلفة .
أن ثم ان سبنسر يزعم جملة الاحساسات المتتابعة تنقلب إلى جملة موجودة معا اذا امكن عكسها . ولكن الجملة المتتابعة المستقلة عن المكان لا يمكن عكسها الى نفسها أبداً ، لأن لكل تتابع صفة يمتاز بها على غيره . ليس شعوري بـ ( ب ) بعد ( ۱ ) کشموري ب ( ب ) بعد ( ج ) . ان تتابع الأصوات من ( ۱ ) الى ( د ) يحدث لحنا خاصاً ، ولكنك اذا عکست الجملة وجعلت ( د ) أولها و ( ۱ ) آخرها ، لم يحدث هذا التتابع نغما مساوياً للأول . ان عكس الاحساسات شبيه بعكس الأصوات . فجملة ( ا - ب - ج - د ) تختلف تماماً . عن . جملة ( د - ج - ب - ا ) لا بل هي جملة جديدة لها صفاتها الخاصة . ان الاحساسات أحوال نفسية ، وهي تابعة المزمان ، والحدود لا تعكس الا اذا كانت في في المكان ؛ أما الزمان فلا يعكس .
ينتج مما تقدم ان استوارت ميل ، وبين ، و سبنسر لم يستطيعوا تأليف المكان بمزج الاحساسات العارية من الامتداد بعضها ببعض . وهذا طبيعي لأن المكان الذي نبحث عنه ، ليس مفهوماً مجرداً ، ولا معقولاً محضاً ، وإنما هو صورة ، وليس في وسع الكيمياء الذهنية أن تبدع صورة متشخصة : بمزج عناصر مجردة لفكرة التتابع ، وفكرة الوجود
معاً ، وفكرة العكس ، وغيرها .
نظرية التجريبيين
ينتج مما تقدم ( ٦ ) أن فكرة المكان ليست مستخرجة من العقل ، وإنما هي كغيرها من الفكر متولدة من الاحساس .
غير أن ( لوتز ) و ( وندت ) و ( هامولتز ) و ( ستوارت میل ) و ( بین ) و ( سبنسر ) و ( ریبو ) وغيرهم من التجريبيين زعموا أن الاحساس نفسه عار من الامتداد . وانه لا يولد تصور المكان مباشرة وان الذي يولد تصور المكان انما هو اختلاط الاحساسات المختلفة بعضها ببعض .
فكأن هناك إذا صح القول كيمياء ذهنية تختلف فيها خواص العناصر عن خواص المركبات ، وكما تختلف صفات الاوكسجين والهيدروجين عن صفات الماء ، فكذلك تختلف صفات الاحساسات عن صفات المعاني المتولدة منها . فلا عجب إذا تولد معنى المكان من الاحساس . ولكن ما الذي حمل التجريبيين على القول ان تصور المكان لا يتولد من الاحساسات مباشرة ، بل يتولد من اختلاطها بعضها ببعض .
لسنا نحتاج إلى كبير عناء في إظهار السبب الذي جعل التجريبيين يأخذون بهذه النظرية المعقدة . انهم يقولون أن الاحساس ظاهرة نفسية ، وان الظواهر النفسية لاتشغل المكان ، ولذلك كانت عارية من الامتداد ، لا تقاس مباشرة ، وليس لها حجم . أضف إلى ذلك ان الاحساس ينشأ عن تأثير خارجي ، فينتقل هذا التأثير إلى المراكز العصبية وينقلب إلى شعور .
فالنفس اذن تشعر بهذا التبدل العصبي لا بالمؤثر الخارجي لأن الاحساس يحسم من الأجسام ليس عبارة عن دخول هذا الجسم في النفس ، وإنما هو شعور بالتبدلات العصبية التي أحدثها هذا الجسم في الجسد . ولذلك كان من الصعب أن نقول أن للاحساس ما للجسم من الامتداد ، لأن الاحساس ليس إلا إشارة تدل على الشيء الخارجي ، وهذه الاشارة كما قال ( هه ولتز ( لا تدرك الا بتأويل العقل . ولكن كيف تمتزج الاحساسات بعضها ببعض ، وكيف يؤدي تركيبها إلى توليد فكرة المكان ؟ إن آراء ( ستوارت ميل ) و ( بين ) و ( سبنسر ) و ( وندت ) في هذا الأمر متشابهة ، لأنهم اعتبروا فكرة المكان معادلة لفكرة الوجود معاً ، أي لفكرة المعية ، فإذا أثبتنا ان هذه الفكرة الأخيرة تتولد من امتزاج الاحساسات بعضها ببعض صح تولد فكرة المكان من امتزاج الاحساسات ، لأن فكرة المكان معادلة لفكرة الوجود معاً .
قال سبنسر : « لنفرض أن نقطة مضيئة أثرت في الطبقة الشبكية في نقطة مثل ( ۱ ) " وان العين قد تحركت ، حق انتقل الأثر من نقطة ( ۱ ) إلى نقطة ( ب ) المجاورة لها . ثم انتقل منها إلى ( ج ) ثم إلى ( د ) . ولنفرض الآن أن العين قد تحركت بسرعة ، فان الأثر ينتقل إلى نقطة ( ب ) قبل أن يزول عن نقطة ( ۱ ) ويصل إلى نقطة ( ج ) قبل أن يزول عن نقطة ( ب ) ، لأن التأثير لا يزول بعد زوال المؤثر ، بل يبقى مدة من الزمن ، وإذا كانت حركة العين سريعة حصل الأثر في ( د ) قبل أن يزول عن ( ۱ ) ، وهكذا يجتمع الأثر في حدود الجملة كلها ، فتنقلب حدود الجملة المتتابعة إلى حدود موجودة معاه .
إن كلا من هذه الاحساسات البصرية المتتابعة عار من الامتداد . إلا أن حركة العين السريعة جعلت هذه الاحساسات المتتابعة موجودة معاً ، ووجود الاحساسات المختلفة معا ، دليل على أنها في محلات مختلفة ، لأن فكرة الوجود معاً معادلة لفكرة المكان .
وقد توصل سبنسر إلى النتيجة نفسها بدليل آخر ، قال : لأفرض انني است طرف الكتاب ، ثم حركت يدي من ( ) إلى ( ي ) ، فانني أشعر باحساسات متتابعة عارية من کت الامتداد ، ولكن هبني . يدي بعد ذلك في عكس الجهة الأولى ، أي من ( ي ) إلى ( 1 ) ، فاني أشعر في هذه الحالة بالاحساسات نفسها ، ولكن بصورة معكوسة . وهكذا فإن الجملة الأولى المتتابعة من ( ۱ ) إلى ( ي ) تنعكس إلى جملة ثانية متتابعة من ( ي ) الى ( ا ) .
إن إمكان انعكاس الجملة المتتابعة دليل على أن التتابع ليس ذاتياً لهذه الجملة ؛ ولولا وجود حدودها معاً لما أمكن عكسها . وهذا يدل على أن حدود هذه الجملة موجودة في المكان لا في الزمان .
فها أنت ترى أن طريقة سبنسر في توليد تصور المكان تقوم على ارجاع فكرة المكان الى فكرة المعية أي فكرة الوجود مما ( ۱ ) ثم ايضاح تولد فكرة الوجود معا من الاحساسات المتتابعة . . .
وقد لخص ( ريبو ) في كتاب السيكولوجيا الألمانية رأي ( بين ) ، فقال : « ان حالة الشعور التي ترافق بعض أنواع الحركات العضلية هي الأصل في إدراكنا للطول والعمق والمرض والشكل والوضع والجهة . أي أنها أصل جميع خواص المكان – إذا وضعنا يدنا أو اصبعنا على سطح وقلنا ان النقطة ( ۳ ) منفصلة عن النقطة ( ب ) بمسافة ما ، كان معنى ذلك أن هناك جملة من الاحساسات العضلية ، نشعر بها عند الانتقال من ( آ ) إلى ( ب ) . فالامتداد إذن يتولد من الشعور بمدة الجهد العضلي ، وهي . تختلف باختلاف الاحوال إن معنى الطول في المكان مؤلف من معنى الطول في الزمان .
بقي أن نوضح : كيف تولد هذه الجملة من الاحساسات العضلية المتتابعة فكرة المعية ، أي فكرة الوجود معاً في زمان واحد ؟
( ۱ ) إن فكرة المكمان تقتضي فكرة الوجود معاً ، كما أن فكرة الوجود معاً تقتضي فكرة المكان ، وفي الحق أن المكان والوجود معاً هما صورتان لمعرفة واحدة ، لأنك لا تستطيع أن تتصور المكان من غير أن تفكر في أوضاع موجودة مما ، ولا نستطيع أن تفكر في الوجود معاً إلا إذا تصورت على الأقل نقطتين موجودتين في المكان .
نلاحظ في سبيل ذلك عنصراً جديداً ، وهو الإحساس اللمسي ، انا نشعر عند تحريك يدنا على السطح الثابت - كما ذكرنا سابقا - باحساسات لمسية متتابعة ، مختلفة عن الإحساسات العضلية . وهكذا نشعر يجملتين متتابعتين من الإحساسات العضلية واللمسية حادثتين معاً في زمان واحد . وإذا قلبنا الجملة وحركنا يدنا في الجهة المعاكسة ، تجلى لنا هذا الوجود معاً في الزمان الواحد تجلياً واضحاً ، ثم أن تتابع حدود الجملة لا يختلف باختلاف سرعة الحركة : فإذا كانت حركة اليد أسرع كان التتابع أسرع ، وإذا كانت الحركة أبطأ كان التتابع أبطأ . ولكن ترتيب الحدود مستقل عن تتابعها الزماني . ولذلك كان المكان ناشئاً عن انضمام الاحساسات اللمسية أو البصرية إلى الاحساسات العضلية . ولو اقتصر الأمر على الشعور بالإحساسات العضلية المتتابعة لكان تتابعها زمانياً لا غير .
إلا أن اجتماع الاحساسات اللمسية مع الاحساسات ت العضلية المتتابعة يولد فكرة المعية أي فكرة الوجود معاً وهذه الفكرة معادلة لفكرة المكان .
المناقشة في هذه النظرية قد يكون في هذه النظرية حذق وتفنن . ولكن هذا التفنن لا يكفي لتوليد فكرة الامتداد من الزمن . واليك الآن بعض الاعتراضات التي ذكرها العلماء في نقد هذه النظرية .
ا - إن المبدأ الذي بنى عليه سبنسر نظريته مبدأ فاسد ، لأنه اعتبر الاحساسات عارية من الامتداد . نعم إن الاحساس حالة نفسية والأحوال النفسية لا تشغل المكان . غير أن الاحساس يحتوي على صورة الامتداد لا على الامتداد نفسه . مثال ذلك : إنك لا تستطيع أن تتصور اللون من غير أن يكون لهذا اللون امتداد ، ولا تستطيع أن تلمس جسماً من الاجسام الا اذا شعرت في الوقت نفسه بعدة نقاط متجاورة ـ اي بامتداد .
لم يأخذ سبنسر بهذه الكيمياء الذهنية ، الا لاعتقاده ان الاحساسات عارية من الامتداد ، ولو سلم بأن الاحساسات ذات امتداد لما احتاج إلى هذه النظرية المعقدة .
٢ - أضف الى ذلك أن سبنسر يعد المكان معادلاً للوجود معاً ، ويقول : ان كلا من هذين الأمرين يستلزم الآخر .
والحق عن ذلك بعید لأنك لا تستطيع أن تستنتج من حدوث أمرين في زمان واحد انهما في محلين مختلفين . نعم ان المكان يقتضي الوجود معاً ؛ ولكن العكس غير صحيح .
قال هو فدينغ : « إذا لمع شعاع الأمل خلال القنوط الشديد ، لم نتصور هذا الأمل فوق القنوط ، او تحته ، أو إلى يمينه أو يساره فالعناصر الشعورية المختلفة قد توجد ** إذن معاً في زمان واحد من غير أن تكون مرتبة وفقاً لصورة المكان ..
٣ - اذا كانت الحدود المتتابعة عارية من الامتداد استحال انقلابها إلى حدود موجودة معا . ! إن أحسن مثال يدل على هذا التتابع تتابع حياتنا النفسية ، لأن لكل حالة . أحوالنا النفسية مدة ، فإذا تتابعت تداخل بعضها في بعض ، الحالة اللاحقة تحدث قبل زوال الحالة السابقة ، وكل حالة تترك أثراً في التي بعدها ، فلا يمكننا أن نعتبر الجملة آ ، ب ، ج ، د جملة متتابعة إلا إذا بقي من ( ۱ ) شيء في ( ب ) . ولذلك قيل : الديمومة هي اتصال الحاضر بالماضي ، أو بقاء الماضي في الحاضر . وقد شبهوا تتابع الحوادث النفسية بتتابع الأصوات في الألحان : فهي كل لا يتم وجوده بصوت دون آخر ؛ بل يتم بتتابع الأصوات كلها ، وهذا التتابع ضروري لحدوث اللحن ، فتمد يكون سريعاً وقد يكون بطيئاً ، إلا أنه من الصعب قلب معنى التتابع إلى معنى الوجود معاً في زمان واحد ، لأن اللحن لا يتولد من حدوث الأصوات كلها معاً ، بل ينشأ عن تتابعها في أزمنة مختلفة .
أن ثم ان سبنسر يزعم جملة الاحساسات المتتابعة تنقلب إلى جملة موجودة معا اذا امكن عكسها . ولكن الجملة المتتابعة المستقلة عن المكان لا يمكن عكسها الى نفسها أبداً ، لأن لكل تتابع صفة يمتاز بها على غيره . ليس شعوري بـ ( ب ) بعد ( ۱ ) کشموري ب ( ب ) بعد ( ج ) . ان تتابع الأصوات من ( ۱ ) الى ( د ) يحدث لحنا خاصاً ، ولكنك اذا عکست الجملة وجعلت ( د ) أولها و ( ۱ ) آخرها ، لم يحدث هذا التتابع نغما مساوياً للأول . ان عكس الاحساسات شبيه بعكس الأصوات . فجملة ( ا - ب - ج - د ) تختلف تماماً . عن . جملة ( د - ج - ب - ا ) لا بل هي جملة جديدة لها صفاتها الخاصة . ان الاحساسات أحوال نفسية ، وهي تابعة المزمان ، والحدود لا تعكس الا اذا كانت في في المكان ؛ أما الزمان فلا يعكس .
ينتج مما تقدم ان استوارت ميل ، وبين ، و سبنسر لم يستطيعوا تأليف المكان بمزج الاحساسات العارية من الامتداد بعضها ببعض . وهذا طبيعي لأن المكان الذي نبحث عنه ، ليس مفهوماً مجرداً ، ولا معقولاً محضاً ، وإنما هو صورة ، وليس في وسع الكيمياء الذهنية أن تبدع صورة متشخصة : بمزج عناصر مجردة لفكرة التتابع ، وفكرة الوجود
معاً ، وفكرة العكس ، وغيرها .
تعليق