نتائج الهوى وآثاره .. الأهواء
٥ - نتائج الهوى وآثاره
يبدل الهوى ظاهرنا ، ويغير باطننا ، فيستولي على العقل والارادة والحس ، ويشوش نظام الميول الطبيعي ، ويرتبها ترتيباً جديداً ، ولنبحث الآن في كل من هذه النتائج .
۱ - الهوى يشوش نظام الميول الطبيعي :
- للميول في الحال الطبيعية نظام خاص وترتيب منسق يتناسبان مع الفاعلية والحس ويقتضيان الاعتدال والتوازن . ولكن إذا وقع الانسان في حبال الهوى تشوش عليه هذا النظام الطبيعي ، واختل ، واتجهت قواه كلها إلى غاية واحدة مطلقة . فيزول بذلك توازن الميول واتساقها الطبيعي ، وينفرد واحد منها بالزعامة ، فيسخر جميع النزعات الأخرى ، ويوجهها نحو هدفه .
وقد دعا هذا الاخلال بنظام الميول الطبيعي كثيرين من فلاسفة الأخلاق إلى الهوى . وقد رأيت كيف يعتقد الرواقيون انه شر . وهو في الحق يقلب غايات الطبيعة لأن الطبيعة تجعل اللذة ناشئة عن الفعل ، أما الهوى فيجعل الفعل خاضعا للذة .
وهو يستعبد النفس والجسد معاً ، حتى لقد سماه القدماء جنوناً ، الخروج صاحبه عن الاعتدال ، وقد يودي بصاحبه إذا خاب أمله ، فتظلم الدنيا في وجهه ، وتفقد قيمتها في عينيه ، لأن المتيم لا يرى في الوجود إلا معشوقه .
۲ - الهوى يخلق نظاماً جديداً :
- وهذا النظام الجديد الذي يخلقه الهوى ، ويحله مكان النظام القديم ، يدخل صاحبه في حياة جديدة ، حتى لقد يظن العاشق أنه لم يعرف الحياة قبل معشوقه ، فيتغير جسده ، وتتبدل عواطفه ، لأن نار الهوى المتوقدة في الاحشاء تؤثر في الجسد ، وتذيب كثيراً من عناصره ، ويتكون من ذلك نسج جديدة ، فتعرف المتيم من ملامح وجهه وحركاته ، ولكن تأثير الهوى في النفس أشد منه في الجسد لأنه يبدل الحساسية والعقل والارادة .
أ - تأثير الهوى في الحساسية :
- الهوى يصوغ الحساسية صيغة جديدة ، فلا يتلذذ المتيم إلا بهواه ، ولا يتألم إلا منه ، فتصفو نفسه ، ويرق قلبه ، ويغدو ثملا من خمرة الحب ، أو ينقلب صفاء نفسه إلى كدر ، وتظلم الدنيا في عينيه . وإذا أحب طلب الحب لذاته واحب أن يحب ، ورغب في أن يظل كل أيام حياته عاشقاً ومعشوقاً .
ب - تأثير الهوى في العقل :
- اعلم أن الهوى يملك على الانسان عقله ، فلا يدرك ، ولا يتذكر ، ولا يتخيل ، ولا يعتقد ما يعتقده غيره من الناس ، بل تحوم نفسه كلها حول نقطة واحدة ، وحبك الشيء يقوي انتباهك له فلا تفكر إلا فيه ، ولا تكشف إلا عنه ، وكما يعمي ، فكذلك الهوى ويصم . يوحي ويبدع .
وأحسن دليل على استعباد الهوى للعقل منطق العواطف . إذا أصاب الشيء هوى من نفوسنا قبلناه بسهولة ، وإذا أردنا البرهان عليه لم نكتف بالبرهان والاثبات بل نهجنا طريق الاقناع .
قال ( ريبو ) : يقوم منطق العواطف على المطابقة بين حكم قيمة ونتيجة محكوم بها قبل البحث عنها ، فيحكم الانسان مثلاً أن هذا الشيء جيد ، ويستنتج من جودته وجوب الحصول عليه ، فلا يزال يأتيك بالبراهين والادلة ، حتى يثبت لك أن حصوله على هذا الشيء حق ، يقوده في ذلك كله قلبه ، وتهديه عواطفه .
ولذلك كان منطق العواطف مختلفاً عن منطق العقل ، والفرق بينها أن المقدمات في منطق العقل تولد النتائج ، ولكنها في منطق العواطف تتولد منها ؛ كأن العقل آلة في يد الحساسية تلعب به كما تشاء .
ولنأت بمثال على ذلك . إذا مرض أحد أحبابنا رغبنا في شفائه ، ثم اثبتنا ضرورة شفائه بسنه ، ومقاومته ، ومناعة جسمه ، وبمهارة الطبيب الذي يداويه ، فنقول : إن كثيراً من المرضى الذين أصيبوا بمثل هذا الداء لم يلحقهم الأذى . كيف يموت هذا المريض وهو لا يزال في مقتبل العمر ، قوي البنية ، وقد عني به طبيب حاذق ، فلا شك في شفائه . هذا منطق العواطف ، أما الطبيب فمنطقه عقلي ، لأنه ينظر في حالة المريض ويكشف عن أعراض دائه ، ويقايس بينه وبين غيره ، ويستنتج من هذه المقايسة نتيجة مجردة عن العاطفة .
ومن نتائج تأثير الهوى في العقل عدم التقيد بمبدأ التناقض . مثال ذلك أن كثيراً من المتعلمين يؤمنون بالأساطير . وهم وإن تقيدوا في كل شيء بأحكام العقل ، إلا أنهم عند نظرهم في المسائل الموافقة لأهوائهم يستسلمون للأوهام ، ويقعون في التناقض ، كخوف بعضهم من الظلام واعتقاده في الوقت نفسه أنه لا وجود للجن ، فكل هذه المتناقضات ناشئة عن الهوى .
وللاستدلال في منطق العواطف ، طرائق خاصة لا تختلف بالجملة عن طرائق المنطق العقلي ، نذكر منها الآن طريقتين أساسيتين ، وهما طريقنا الجمع والترتيب .
۱ - طريقة الجمع ، وهي أن يأتي العقل يجملة من الأفكار المتصلة بالنتيجة المراد اثباتها من غير أن يكون بينها وبين تلك النتيجة رابطة منطقية . كالطريقة التي سماها ( باسكال ) بنظام القلب . وهي ي أن يذكر المرء كل ماله علاقة بغايته ، من غير أن يكون لما ذكره صلة بسياق الكلام . مثال ذلك نداء بعض الباعة وخطابهم للجماهير في الأسواق ، فهم ينادون بالمارة ، ويحيون رغائبهم ، ويمنونهم ، ويضحكونهم . ولو أصغيت إلى كلامهم ، لما وجدت في ظاهره نظاماً ، ولكنك إذا حللته وجدته متعلقا بغاية واحدة ، وهي بيع البضاعة.
ومن قبيل ذلك أيضاً طريقة الاقناع عند احتدام الجدل ، فأن المتكلم كثيراً ما يستعمل الألفاظ والبينات في سبيل الاقناع ، من دون أن يكون بين ألفاظه ارتباط . انه يفكر في الغاية ويريد أن يوصل خصمه إليها بالرغم . منه ، وطريقته هذه هي طريقة السلطان ؛ لا طريقة الحرية ، وهي موا موافقة لطبيعة الهيجان .
٢ - الطريقة الثانية طريقة الترتيب . وهي تقتضي أن ينظر المتكلم في مزاج المخاطب وطبعه ، فيخاطبه على قدر عقله ، ويستعمل في خطابه بينات متتابعة بعضها أقوى من بعض ، وينقله من حجة قوية إلى حجة أقوى بالتدريج . مثال ذلك ما جاء في رواية ( راسين 2( من الحجج التي استعملها ) نارسیس ) و ( نرون ) في مخاطبة الجمهور بعد ذهاب ( بيروس ) .
ج - تأثير الهوى في الفاعلية :
- للهوى تأثير في الفاعلية . من ذلك أنه يدفع صاحبه إلى القيام بأعمال لا يقوى عليها وهو في حالته الطبيعية . ولكن هذه الفاعلية التي يحددها الهوى أقرب إلى الغريزة منها إلى الإرادة ، لانها اندفاعية تلقائية لا أثر للتأمل والتنظيم فيها . قال ( دوغاس ) : ( ليس للارادة التي يبقيها الهوى زاجر ولا قاعدة ، لأنها لا تحتكم إلى العقل ، ولا تتمالك عن فعل ما يرغب فيه القلب ، فليس بينها وبين القدرة على كبح جماح النفس صلة ) .
ولعلنا لا نستطيع معرفة نتائج الهوى معرفة تامة إلا إذا فرقنا بين أنواع الهوى المختلفة .
٥ - نتائج الهوى وآثاره
يبدل الهوى ظاهرنا ، ويغير باطننا ، فيستولي على العقل والارادة والحس ، ويشوش نظام الميول الطبيعي ، ويرتبها ترتيباً جديداً ، ولنبحث الآن في كل من هذه النتائج .
۱ - الهوى يشوش نظام الميول الطبيعي :
- للميول في الحال الطبيعية نظام خاص وترتيب منسق يتناسبان مع الفاعلية والحس ويقتضيان الاعتدال والتوازن . ولكن إذا وقع الانسان في حبال الهوى تشوش عليه هذا النظام الطبيعي ، واختل ، واتجهت قواه كلها إلى غاية واحدة مطلقة . فيزول بذلك توازن الميول واتساقها الطبيعي ، وينفرد واحد منها بالزعامة ، فيسخر جميع النزعات الأخرى ، ويوجهها نحو هدفه .
وقد دعا هذا الاخلال بنظام الميول الطبيعي كثيرين من فلاسفة الأخلاق إلى الهوى . وقد رأيت كيف يعتقد الرواقيون انه شر . وهو في الحق يقلب غايات الطبيعة لأن الطبيعة تجعل اللذة ناشئة عن الفعل ، أما الهوى فيجعل الفعل خاضعا للذة .
وهو يستعبد النفس والجسد معاً ، حتى لقد سماه القدماء جنوناً ، الخروج صاحبه عن الاعتدال ، وقد يودي بصاحبه إذا خاب أمله ، فتظلم الدنيا في وجهه ، وتفقد قيمتها في عينيه ، لأن المتيم لا يرى في الوجود إلا معشوقه .
۲ - الهوى يخلق نظاماً جديداً :
- وهذا النظام الجديد الذي يخلقه الهوى ، ويحله مكان النظام القديم ، يدخل صاحبه في حياة جديدة ، حتى لقد يظن العاشق أنه لم يعرف الحياة قبل معشوقه ، فيتغير جسده ، وتتبدل عواطفه ، لأن نار الهوى المتوقدة في الاحشاء تؤثر في الجسد ، وتذيب كثيراً من عناصره ، ويتكون من ذلك نسج جديدة ، فتعرف المتيم من ملامح وجهه وحركاته ، ولكن تأثير الهوى في النفس أشد منه في الجسد لأنه يبدل الحساسية والعقل والارادة .
أ - تأثير الهوى في الحساسية :
- الهوى يصوغ الحساسية صيغة جديدة ، فلا يتلذذ المتيم إلا بهواه ، ولا يتألم إلا منه ، فتصفو نفسه ، ويرق قلبه ، ويغدو ثملا من خمرة الحب ، أو ينقلب صفاء نفسه إلى كدر ، وتظلم الدنيا في عينيه . وإذا أحب طلب الحب لذاته واحب أن يحب ، ورغب في أن يظل كل أيام حياته عاشقاً ومعشوقاً .
ب - تأثير الهوى في العقل :
- اعلم أن الهوى يملك على الانسان عقله ، فلا يدرك ، ولا يتذكر ، ولا يتخيل ، ولا يعتقد ما يعتقده غيره من الناس ، بل تحوم نفسه كلها حول نقطة واحدة ، وحبك الشيء يقوي انتباهك له فلا تفكر إلا فيه ، ولا تكشف إلا عنه ، وكما يعمي ، فكذلك الهوى ويصم . يوحي ويبدع .
وأحسن دليل على استعباد الهوى للعقل منطق العواطف . إذا أصاب الشيء هوى من نفوسنا قبلناه بسهولة ، وإذا أردنا البرهان عليه لم نكتف بالبرهان والاثبات بل نهجنا طريق الاقناع .
قال ( ريبو ) : يقوم منطق العواطف على المطابقة بين حكم قيمة ونتيجة محكوم بها قبل البحث عنها ، فيحكم الانسان مثلاً أن هذا الشيء جيد ، ويستنتج من جودته وجوب الحصول عليه ، فلا يزال يأتيك بالبراهين والادلة ، حتى يثبت لك أن حصوله على هذا الشيء حق ، يقوده في ذلك كله قلبه ، وتهديه عواطفه .
ولذلك كان منطق العواطف مختلفاً عن منطق العقل ، والفرق بينها أن المقدمات في منطق العقل تولد النتائج ، ولكنها في منطق العواطف تتولد منها ؛ كأن العقل آلة في يد الحساسية تلعب به كما تشاء .
ولنأت بمثال على ذلك . إذا مرض أحد أحبابنا رغبنا في شفائه ، ثم اثبتنا ضرورة شفائه بسنه ، ومقاومته ، ومناعة جسمه ، وبمهارة الطبيب الذي يداويه ، فنقول : إن كثيراً من المرضى الذين أصيبوا بمثل هذا الداء لم يلحقهم الأذى . كيف يموت هذا المريض وهو لا يزال في مقتبل العمر ، قوي البنية ، وقد عني به طبيب حاذق ، فلا شك في شفائه . هذا منطق العواطف ، أما الطبيب فمنطقه عقلي ، لأنه ينظر في حالة المريض ويكشف عن أعراض دائه ، ويقايس بينه وبين غيره ، ويستنتج من هذه المقايسة نتيجة مجردة عن العاطفة .
ومن نتائج تأثير الهوى في العقل عدم التقيد بمبدأ التناقض . مثال ذلك أن كثيراً من المتعلمين يؤمنون بالأساطير . وهم وإن تقيدوا في كل شيء بأحكام العقل ، إلا أنهم عند نظرهم في المسائل الموافقة لأهوائهم يستسلمون للأوهام ، ويقعون في التناقض ، كخوف بعضهم من الظلام واعتقاده في الوقت نفسه أنه لا وجود للجن ، فكل هذه المتناقضات ناشئة عن الهوى .
وللاستدلال في منطق العواطف ، طرائق خاصة لا تختلف بالجملة عن طرائق المنطق العقلي ، نذكر منها الآن طريقتين أساسيتين ، وهما طريقنا الجمع والترتيب .
۱ - طريقة الجمع ، وهي أن يأتي العقل يجملة من الأفكار المتصلة بالنتيجة المراد اثباتها من غير أن يكون بينها وبين تلك النتيجة رابطة منطقية . كالطريقة التي سماها ( باسكال ) بنظام القلب . وهي ي أن يذكر المرء كل ماله علاقة بغايته ، من غير أن يكون لما ذكره صلة بسياق الكلام . مثال ذلك نداء بعض الباعة وخطابهم للجماهير في الأسواق ، فهم ينادون بالمارة ، ويحيون رغائبهم ، ويمنونهم ، ويضحكونهم . ولو أصغيت إلى كلامهم ، لما وجدت في ظاهره نظاماً ، ولكنك إذا حللته وجدته متعلقا بغاية واحدة ، وهي بيع البضاعة.
ومن قبيل ذلك أيضاً طريقة الاقناع عند احتدام الجدل ، فأن المتكلم كثيراً ما يستعمل الألفاظ والبينات في سبيل الاقناع ، من دون أن يكون بين ألفاظه ارتباط . انه يفكر في الغاية ويريد أن يوصل خصمه إليها بالرغم . منه ، وطريقته هذه هي طريقة السلطان ؛ لا طريقة الحرية ، وهي موا موافقة لطبيعة الهيجان .
٢ - الطريقة الثانية طريقة الترتيب . وهي تقتضي أن ينظر المتكلم في مزاج المخاطب وطبعه ، فيخاطبه على قدر عقله ، ويستعمل في خطابه بينات متتابعة بعضها أقوى من بعض ، وينقله من حجة قوية إلى حجة أقوى بالتدريج . مثال ذلك ما جاء في رواية ( راسين 2( من الحجج التي استعملها ) نارسیس ) و ( نرون ) في مخاطبة الجمهور بعد ذهاب ( بيروس ) .
ج - تأثير الهوى في الفاعلية :
- للهوى تأثير في الفاعلية . من ذلك أنه يدفع صاحبه إلى القيام بأعمال لا يقوى عليها وهو في حالته الطبيعية . ولكن هذه الفاعلية التي يحددها الهوى أقرب إلى الغريزة منها إلى الإرادة ، لانها اندفاعية تلقائية لا أثر للتأمل والتنظيم فيها . قال ( دوغاس ) : ( ليس للارادة التي يبقيها الهوى زاجر ولا قاعدة ، لأنها لا تحتكم إلى العقل ، ولا تتمالك عن فعل ما يرغب فيه القلب ، فليس بينها وبين القدرة على كبح جماح النفس صلة ) .
ولعلنا لا نستطيع معرفة نتائج الهوى معرفة تامة إلا إذا فرقنا بين أنواع الهوى المختلفة .
تعليق