الميول العالية ، الميول الغيرية .. الميول والنزاعات
ه - الميول العالية
الميول العالية هي الميول العلمية والجمالية والخلقية ، وقد سميت عالية لانها تسمو بالانسان إلى المثل الأعلى ، فتحبب اليه الحقيقة ، والجمال ، والخير . ليس هدف هذه الميول تحصيل المنفعة الشخصية ، أو تحقيق منفعة الآخرين ، وانما هو بلوغ مثل أعلى مجرد يجاوز الأشياء المحسوسة ويترفع عن منافعها .
قد يظن أن تعشق المثل العليا ليس ملازماً لطبيعتنا الفردية ، وأن الحياة الاجتماعية هي التي تولد فينا هذه المثل العليا بطريق الثقافة العلمية ، والتربية الفنية ، والتهذيب الأخلاقي . إلا أنه من الصعب علينا أن ننكر أن في الطبيعة الإنسانية ميلا غريزياً إلى الاستعلاء ، يقربها من الخاود ، ويسمو بها إلى حياة روحية مبرأة من كل طابع مادي . وكما يميل الانسان بطبيعته إلى الحقيقة والجمال و الخير ، فكذلك يكره الضلال والقبح والشر ، ويشمئز من الكذب ، ويسخر من الظلم .
ولنبحث الآن في كل من هذه الميول على حدة .
۱ - حب الحقيقة :
- إن حب الاستطلاع غريزي في الانسان . فالطفل يجد لذة في الاستطلاع ، والاختراع ، والفهم ، وقد يفك أجزاء آلة ليطلع على ما في داخلها ، ويؤلف الأساطير ، ويبني من الطين على الساقية سداً أو جسراً ، ويتخذ من الكراسي قطاراً ، ومن الشجرة محطة ، أن يفهم كل شيء ، فيدهش ، ويتحير ، ويسأل ، حتى لقد سمى ویرید علماء النفس من الطفولة بسن السؤال . وقد قيل إن الطفل شبيه في ذلك بالإنسان الابتدائي ، لأنه يؤلف الأساطير مثله ، فيملأ الكون بالأرواح ، وينسب إلى كل موجود حياة شبيهة بحياته الشخصية .
ومـع أن غريزة الاستطلاع باقية في الانسان ما بقيت الحياة إلا أنها تتبدل بتبدل السن ومع والبيئة والتربية . وقد يظن أنها غير مقصودة بالذات ، بل مقصودة لشيء آخر غيرها . إلا أن هذه الغايات التي تتجه إليها مختلفة ، والواسطة هي هي . وهذا يدل على أن الانسان يطلب العلم لذاته ، فلا يميل إلى الإطلاع على الأمور ودرك حقائقها بدافع المنفعة ، بل بما وضع في جبلته من الغريزة التي ليس له فيها اختيار ولا حيلة .
قال أحد فلاسفة العصر الحاضر ( ۱ ) : لم تخلق لنحبس في ذواتنا ، لأن دموعنا أغزر مما تحتاج إليه آلامنا ، وأفراحنا أعظم مما تقتضيه سعادتنا ، ولو انحصر الانسان في الأفق الضيق الذي تحدده المنفعة لاختنق من شدة التضييق عليه . ولذلك فهو يوسع أفقه بالحب والبغضاء ، يوسعه بالإطلاع ، والعلم ، والفلسفة ، والدين ( ۲ ) .
والبحث عن الحقيقة مصحوب بكثير من العواطف ، كالميل إلى الشك ، والرغبة في اليقين ، والتلذذ بتذوق البراهين ، وغير ذلك من النزعات المكتسبة . إن في العلم قدسية ترفع النفس . فأي سرور زائل يعادل لذة التأمل ، وأي شوق يشبه اشتياق العالم إلى الخلود ؟ يرغب العالم في الاطلاع على حقائق الأمور بنفس متوقدة شوقاً وحنيناً وشوقه إلى الحقيقة شبيه باشتياق العاشق إلى المعشوق . العقل في كلتا الحالتين ، لا يعرف قبلة إلا قبلته ، والقلب في كلتا الحالتين سكران شغوف بما يشغله . مثال ذلك : إن ( ديكارت ) كشف عن طريقته في حال غيبة ، و ( داوي ) رقص في مخبره بعد الكشف عن البوتاسيوم .
يدلك ذلك على أن الإطلاع على حقائق الأمور مصحوب بعواطف سماها العلماء ا بالمواطف الفكرية . وقد ميز بعضهم هذه العواطف عن غيرها بما فيها من الفتور . وقال انها فقيرة باردة لا تبعث على الحركة . والحق أن لهذه العواطف درجات ، والناس فيها متفاوتون . فقد يعرض الرياضي عن حل المسائل الرياضية ولا يحزن لاعراضه عنها . وقد قيل ان ( لاغرانج ) أصيب بالاشمئزاز من الرياضيات في الخامسة والأربعين من سنه ( ۱۷۸۱ ) واستمر على هذه الحال عشر سنوات كاملة . ولكن بعض العلماء لا يعوقهم عما يريدون عائق ، ولا يقطعهم عن مسائلهم شغل ولا مرض .
والعواطف الفكرية الشديدة لا تتولد من الاستناد إلى الضرورات العقلية الموثوق بها ، ولا من نظم الأدلة وترتيب البراهين ، بل تنشأ عن ارتفاع حجاب الحس ، والكشف عن حقائق الأمور بالحدس وكلما كان الحجاب الذي يستر الحقيقة عنا اكثف كانت العواطف التي تتولد من هذا الإدراك الغامض أشد وأوضح .
ونعتقد أن بين المواطف الفكرية والعواطف الدينية صلة قرية ، لان بعض العلماء يتطلعون إلى الحقيقة كما يتطلع المؤمن إلى خالقه إن في العلم لذة تشبه لذة العبادة ، لأن العالم ، إن درس أو بحث عن الحقائق الوضعية ، فهو إنما يبحث عن حقيقة يكلمها بلغة الايمان . يطلب منها العزاء والقوة والنشاط ، ويريد أن يجد فيها عذاب العشق وعذوبته ويتقرب منها خاشعاً ، منكسر النفس صاغراً . ويخيل إليه أنه يجب عليه أن يضحي بنفسه في سبيلها كما ضحى شهداء الديانات بنفوسهم ، ظناً منه أن العالم بطل من أبطال التاريخ ، أو ولي من أولياء الله .
ولكن ما هي الحقيقة العلمية ؟ هي مجموع ما يستنبطه العالم من القوانين العلمية بالملاحظة والتجريب . فيكشف عن قانون سقوط الاجسام مثلاً ، وعن غيره من القوانين المشتبكة بعضها ببعض ، ويقول لنا : تلك هي الحقيقة الوضعية ، فأي جمال في قانون سقوط الاجسام ،
لا بل أي جلال في قانون ضغط الغاز . ان الحقيقة التي يهيم بها العالم ليست عذبة بالذات ، بل بعذوبة زائدة على الذات . وقد يكون لحب المجد ، والطمع ، والشهرة ، تأثير في طلب الحقيقة ، إلا أن الحقيقة مستقلة عن الاشخاص ، والعالم الذي يطلب الحقيقة كل أيام حياته إنما يهيم بمثل أعلى انساني لا حد ولا نهاية له .
٢ - الميل الى الجمال :
- لا نريد الآن أن نبحث في الحس الفني على وجه الاسهاب لاننا سنعود إلى هذا البحث في فلسفة الجمال . ونقتصر الآن على القول إن هذا الحس ينطوي على عامل عقلي ، وعامل انفعالي . لان الذوق إنما يتحققه الإنسان في نفسه بالعقل والتجربة ، إلا أنه ملازم أيضاً للفطرة الاصلية . لان الطفل يميز الالوان بعضها عن بعض بالفطرة ، ويتأثر بالنقرات والانغام ، . بالطبع ، ولا يزال هذا الحس ينمو فيه حق يبلغ سن الرشد ، فالإدراك ، والذاكرة ، والحكم ، والخيال ، واللغة ، كلها تؤثر في تطور الحس الفني . وتجعله متبدلاً بتبدل الاشخاص ، فمنهم من يميل إلى التصوير ، ومنهم من يميل إلى الموسيقى ويندر أن تجد رجلا لا يتأثر بلغة الفنون الجميلة ، لانها لغة العواطف .
فالشاعر يصوغ المعاني التي توحي اليه بها عواطفه ، والموسيقار يسكب أنفاسه وعواطفه الملتهبة في صور من الالحان السحرية .
وليس المثل الاعلى الذي يصفو له الذوق موجوداً في السماء ، بل هو مقيم على الارض في صدور الناس .
والعواطف الفنية كثيرة ، منها محبة الجمال ، ومحبة العذوبة ، والسمو ، والروعة والجلال ، وتذوق المجازات والاستعارات والتشبيهات وغير ذلك من الموضوعات التي تتحق فيها صور الجمال .
٣ - العواطف الخلقية :
- العاطفة الخلقية هي الشعور بالواجبات الخلقية التي يقر بها العقل ، أو هي شعور المرء بما يجب أن يكون عليه سلوكه .
لسنا نريد الآن أن نسهب في الكلام على هذه العواطف ، لاننا سنعود في كتاب الاخلاق إلى البحث في تحليل الوجدان للكشف عن العواطف التي يتضمنها ، ولكننا نقول الآن في ذلك قولاً واحداً ، وهو أن هذه العواطف الخلقية ملازمة للطبيعة الانسانية ، وهي التي تصلها بالمثل الأعلى . إن الانسان يدرك الخير ويميل إليه ، وهذا الخير ، سواء أكان في اللذة أم في الفضيلة ، فإن الانسان لا يرغب فيه إلا لذاته ، لأنه إذا رغب فيه لشيء آخر غيره أصبح هذا الآخر اسمى من الأول .
قال ( سبينوزا ) في كتاب الأخلاق : « نحن لا نرغب في الشيء لأنه حسن ، بل نستحسنه لأننا نرغب فيه ، فكأني به يريد أن يكون الخير أمراً شخصياً لا وجود له في حقائق الأشياء . على أنه قد يفهم من ذلك أيضاً أن القانون الأخلاقي يختلف باختلاف الأشخاص . ونحن نعتقد أن الخير ليس في الأشياء نفسها ، وإنما هو في النسبة التي بين الأشياء والإنسان ، وهو يتغير بتغير الأشخاص ، ويختلف باختلاف العصور . ومعنى ذلك كله أن للقواعد الأخلاقية أسا نفسية ، وأسسا اجتماعية ، وصلة بالأشياء الخارجية .
وأول صورة للعاطفة الأخلاقية هي الشعور بالممنوع والمكروه فقد كانت الأشياء في الجماعات الابتدائية منقسمة إلى ممنوع و مطلوب ، وحرام و حلال ، فأدى وجود الممنوعات والمحرمات إلى إيقاظ شعور الانسان بشخصيته وارادته . لقد كان هذا المنع في الجماعات الابتدائية منعاً خارجياً ، فلما ارتقت الحياة الاجتماعية أدى ارتقاؤها إلى استبدال الرادع النفسي الداخلي بالمانع الخارجي ، وصارت النفوس ترجع عن غيها ، لا خوفاً من عقاب ، ولا طمعاً في ثواب ، بل لأن لها منها زاجراً .
وبديهي أن استبدال الرادع الداخلي بالزاجر الخارجي مصحوب بكثير من العواطف الخلقية ، وهى في الواقع غير مستقلة عن تأثير البيئة الاجتماعية . بل تتبدل بتبدل الجماعات .
وإذا كان التبدل يقتضي وجود شيء يتبدل ، كان لا بد من أن يكون وراء المواطف الأخلاقية المتبدلة . حس اخلاقي خاص بالانسان يمكنه من ادراك الخير . والدليل على ذلك أن الطفل بفطرته ميال إلى العدالة ، واحترام المقود وهو يقيد نفسه ، في العابه ، بقواعد يحترمها ، وأسس يسير عليها . ولا يصبح الميل إلى العدالة واضحاً إلا بتأثير التربية البيتية والمدرسية .
٤ - الحس الديني :
- للعاطفة الدينية صور مختلفة . فالخوف الذي يشعر به الانسان الابتدائي في الأحراج المظلمة ، والخشوع الذي يحسه أمام الجبال العالية ، واللانهاية التي يامسها في البحر والصحراء ، والروعة التي يجدها في صمت الطبيعة بعد العاصفة ، كل ذلك صور من العاطفة الدينية ، لا تختلف ، في ماهيتها ، عن خشوع الايمان ، وروعة صور العبادة .
وليس الحس الديني مؤلفاً من الخشية فقط ، وانما هو مؤلف من العطف والحب والثقة بالمعبود المؤمن يخشى الله ، ويحبه ، ويثق به . حق لقد قال ) هنري برغسون ) : إن معنى الايمان الثقة ، لا الخشية ، وإن العاطفة الدينية ليست في الأصل خوفاً ، وانما هي أمان من الخوف ( ۱ ) ، وتسمى هذه العواطف بالعامل الديني الانفعالي .
وفي الحس الديني عامل عقلي أيضاً لأن الايمان كثيراً ما يكون مصحوباً بالتصورات والنظريات ، والآمال ، والأحلام .
والعامل الثالث عامل فاعل لان الانسان يعبر عن عاطفته الدينية بالعبادات والطقوس .
قال ( ويليم جيمس ) إن في الديانة عاملين :
١- العامل الاجتماعي ، وهو مجموع العبادات ، والطقوس ، والنظم .
۲ - العامل النفسي ، وهو مجموع العقائد الوجدانية ، وما يصحبها من التصورات والعواطف .
الداخل إلى المعبد يمتحن ضميره ، ثم يصلي ، ويعترف أمام الله بما في نفسه من الأوهام والمتاعب . فيتراءى له أنه ماثل بين يدي خالقه ، وقد جاء ليخفف حزنه ، ويسكن شكواه . وما أكثر العواطف الشعرية التي تتولد في هذا الموقف . لان الاله القادر على كل شيء هو في الوقت نفسه إله الحب ، وإله الحكمة ، فيه تتحد الحقيقة بالجمال والخير ، فالإله اذن حق وجمال وخير ، وكما يوجد في الجمال خير وحق ، كذلك . يوجد في الحق جمال وخير . فالحياة الدينية غنية إذن بكل شيء ؛ لأنها ينبوع العواطف العذبة والأحلام اللذيذة ، وهي تجعلنا نشعر بأن بالقرب من هذا العالم المحسوس الفاني عالماً ثانياً ، لا يلمس باليد ، ولا يسمع بالاذن ، بل يدرك بالخيال ، نلجأ اليه في أيام الشقاء والحزن ، ونرى فيه كل شيء جميلا ونبيلا .
ليست هذه العواطف الدينية وهما من الأوهام ، وإنما هي حقيقة واقعية ، وهي بالنسبة إلى المؤمن ، شعور بالمطلق واللانهاية ، تؤثر فيها الحياة الاجتماعية كما تتأثر بها ، حتى لقدبين علماء الاجتماع أن حياة الإنسان الإبتدائي حياة دينية محضة . وقال أحدهم إن الإنسان حيوان متدين ، أي أن العاطفة الدينية بالمعنى الواسع الذي ذكرناه عاطفة طبيعية .
وقد أثرت هذه العاطفة تأثيراً عظيما في تنظيم الجماعات ، وردع العـــامة عن الشر ، ومكافحة الأنانية ، وخلق العاطفة الأخلاقية .
وإذا ظن بعضهم أن البشرية ستستغني يوماً عن الدين الوضعي ، فإن العاطفة الدينية والشعور باللانهاية ، والتطلع إلى المثل العليا قد يصعب استئصالها من النفس ، وهي طبيعية كالعاطفة الجمالية ، والعاطفة الخلقية ، إلا أن صورها تتبدل بتبدل الزمان والمكان .
لقد كانت العاطفة الدينية عند الأقوام الإبتدائية منحصرة في نطاق القبيلة ، فكان الإله المعبود إله القبيلة فقط ، وكان لكل قبيلة إله يختلف عن آلهة القبائل الاخرى . إلا أن ارتقاء الفكر البشري جعل الإنسان يفكر في إله واحد ، منزه عن النقص ، وصارت العاطفة الدينية جامعة بين الاجناس ، بعد أن كانت في الحياة الإبتدائية ، باعثة على التفرقة .
ه - الميول العالية
الميول العالية هي الميول العلمية والجمالية والخلقية ، وقد سميت عالية لانها تسمو بالانسان إلى المثل الأعلى ، فتحبب اليه الحقيقة ، والجمال ، والخير . ليس هدف هذه الميول تحصيل المنفعة الشخصية ، أو تحقيق منفعة الآخرين ، وانما هو بلوغ مثل أعلى مجرد يجاوز الأشياء المحسوسة ويترفع عن منافعها .
قد يظن أن تعشق المثل العليا ليس ملازماً لطبيعتنا الفردية ، وأن الحياة الاجتماعية هي التي تولد فينا هذه المثل العليا بطريق الثقافة العلمية ، والتربية الفنية ، والتهذيب الأخلاقي . إلا أنه من الصعب علينا أن ننكر أن في الطبيعة الإنسانية ميلا غريزياً إلى الاستعلاء ، يقربها من الخاود ، ويسمو بها إلى حياة روحية مبرأة من كل طابع مادي . وكما يميل الانسان بطبيعته إلى الحقيقة والجمال و الخير ، فكذلك يكره الضلال والقبح والشر ، ويشمئز من الكذب ، ويسخر من الظلم .
ولنبحث الآن في كل من هذه الميول على حدة .
۱ - حب الحقيقة :
- إن حب الاستطلاع غريزي في الانسان . فالطفل يجد لذة في الاستطلاع ، والاختراع ، والفهم ، وقد يفك أجزاء آلة ليطلع على ما في داخلها ، ويؤلف الأساطير ، ويبني من الطين على الساقية سداً أو جسراً ، ويتخذ من الكراسي قطاراً ، ومن الشجرة محطة ، أن يفهم كل شيء ، فيدهش ، ويتحير ، ويسأل ، حتى لقد سمى ویرید علماء النفس من الطفولة بسن السؤال . وقد قيل إن الطفل شبيه في ذلك بالإنسان الابتدائي ، لأنه يؤلف الأساطير مثله ، فيملأ الكون بالأرواح ، وينسب إلى كل موجود حياة شبيهة بحياته الشخصية .
ومـع أن غريزة الاستطلاع باقية في الانسان ما بقيت الحياة إلا أنها تتبدل بتبدل السن ومع والبيئة والتربية . وقد يظن أنها غير مقصودة بالذات ، بل مقصودة لشيء آخر غيرها . إلا أن هذه الغايات التي تتجه إليها مختلفة ، والواسطة هي هي . وهذا يدل على أن الانسان يطلب العلم لذاته ، فلا يميل إلى الإطلاع على الأمور ودرك حقائقها بدافع المنفعة ، بل بما وضع في جبلته من الغريزة التي ليس له فيها اختيار ولا حيلة .
قال أحد فلاسفة العصر الحاضر ( ۱ ) : لم تخلق لنحبس في ذواتنا ، لأن دموعنا أغزر مما تحتاج إليه آلامنا ، وأفراحنا أعظم مما تقتضيه سعادتنا ، ولو انحصر الانسان في الأفق الضيق الذي تحدده المنفعة لاختنق من شدة التضييق عليه . ولذلك فهو يوسع أفقه بالحب والبغضاء ، يوسعه بالإطلاع ، والعلم ، والفلسفة ، والدين ( ۲ ) .
والبحث عن الحقيقة مصحوب بكثير من العواطف ، كالميل إلى الشك ، والرغبة في اليقين ، والتلذذ بتذوق البراهين ، وغير ذلك من النزعات المكتسبة . إن في العلم قدسية ترفع النفس . فأي سرور زائل يعادل لذة التأمل ، وأي شوق يشبه اشتياق العالم إلى الخلود ؟ يرغب العالم في الاطلاع على حقائق الأمور بنفس متوقدة شوقاً وحنيناً وشوقه إلى الحقيقة شبيه باشتياق العاشق إلى المعشوق . العقل في كلتا الحالتين ، لا يعرف قبلة إلا قبلته ، والقلب في كلتا الحالتين سكران شغوف بما يشغله . مثال ذلك : إن ( ديكارت ) كشف عن طريقته في حال غيبة ، و ( داوي ) رقص في مخبره بعد الكشف عن البوتاسيوم .
يدلك ذلك على أن الإطلاع على حقائق الأمور مصحوب بعواطف سماها العلماء ا بالمواطف الفكرية . وقد ميز بعضهم هذه العواطف عن غيرها بما فيها من الفتور . وقال انها فقيرة باردة لا تبعث على الحركة . والحق أن لهذه العواطف درجات ، والناس فيها متفاوتون . فقد يعرض الرياضي عن حل المسائل الرياضية ولا يحزن لاعراضه عنها . وقد قيل ان ( لاغرانج ) أصيب بالاشمئزاز من الرياضيات في الخامسة والأربعين من سنه ( ۱۷۸۱ ) واستمر على هذه الحال عشر سنوات كاملة . ولكن بعض العلماء لا يعوقهم عما يريدون عائق ، ولا يقطعهم عن مسائلهم شغل ولا مرض .
والعواطف الفكرية الشديدة لا تتولد من الاستناد إلى الضرورات العقلية الموثوق بها ، ولا من نظم الأدلة وترتيب البراهين ، بل تنشأ عن ارتفاع حجاب الحس ، والكشف عن حقائق الأمور بالحدس وكلما كان الحجاب الذي يستر الحقيقة عنا اكثف كانت العواطف التي تتولد من هذا الإدراك الغامض أشد وأوضح .
ونعتقد أن بين المواطف الفكرية والعواطف الدينية صلة قرية ، لان بعض العلماء يتطلعون إلى الحقيقة كما يتطلع المؤمن إلى خالقه إن في العلم لذة تشبه لذة العبادة ، لأن العالم ، إن درس أو بحث عن الحقائق الوضعية ، فهو إنما يبحث عن حقيقة يكلمها بلغة الايمان . يطلب منها العزاء والقوة والنشاط ، ويريد أن يجد فيها عذاب العشق وعذوبته ويتقرب منها خاشعاً ، منكسر النفس صاغراً . ويخيل إليه أنه يجب عليه أن يضحي بنفسه في سبيلها كما ضحى شهداء الديانات بنفوسهم ، ظناً منه أن العالم بطل من أبطال التاريخ ، أو ولي من أولياء الله .
ولكن ما هي الحقيقة العلمية ؟ هي مجموع ما يستنبطه العالم من القوانين العلمية بالملاحظة والتجريب . فيكشف عن قانون سقوط الاجسام مثلاً ، وعن غيره من القوانين المشتبكة بعضها ببعض ، ويقول لنا : تلك هي الحقيقة الوضعية ، فأي جمال في قانون سقوط الاجسام ،
لا بل أي جلال في قانون ضغط الغاز . ان الحقيقة التي يهيم بها العالم ليست عذبة بالذات ، بل بعذوبة زائدة على الذات . وقد يكون لحب المجد ، والطمع ، والشهرة ، تأثير في طلب الحقيقة ، إلا أن الحقيقة مستقلة عن الاشخاص ، والعالم الذي يطلب الحقيقة كل أيام حياته إنما يهيم بمثل أعلى انساني لا حد ولا نهاية له .
٢ - الميل الى الجمال :
- لا نريد الآن أن نبحث في الحس الفني على وجه الاسهاب لاننا سنعود إلى هذا البحث في فلسفة الجمال . ونقتصر الآن على القول إن هذا الحس ينطوي على عامل عقلي ، وعامل انفعالي . لان الذوق إنما يتحققه الإنسان في نفسه بالعقل والتجربة ، إلا أنه ملازم أيضاً للفطرة الاصلية . لان الطفل يميز الالوان بعضها عن بعض بالفطرة ، ويتأثر بالنقرات والانغام ، . بالطبع ، ولا يزال هذا الحس ينمو فيه حق يبلغ سن الرشد ، فالإدراك ، والذاكرة ، والحكم ، والخيال ، واللغة ، كلها تؤثر في تطور الحس الفني . وتجعله متبدلاً بتبدل الاشخاص ، فمنهم من يميل إلى التصوير ، ومنهم من يميل إلى الموسيقى ويندر أن تجد رجلا لا يتأثر بلغة الفنون الجميلة ، لانها لغة العواطف .
فالشاعر يصوغ المعاني التي توحي اليه بها عواطفه ، والموسيقار يسكب أنفاسه وعواطفه الملتهبة في صور من الالحان السحرية .
وليس المثل الاعلى الذي يصفو له الذوق موجوداً في السماء ، بل هو مقيم على الارض في صدور الناس .
والعواطف الفنية كثيرة ، منها محبة الجمال ، ومحبة العذوبة ، والسمو ، والروعة والجلال ، وتذوق المجازات والاستعارات والتشبيهات وغير ذلك من الموضوعات التي تتحق فيها صور الجمال .
٣ - العواطف الخلقية :
- العاطفة الخلقية هي الشعور بالواجبات الخلقية التي يقر بها العقل ، أو هي شعور المرء بما يجب أن يكون عليه سلوكه .
لسنا نريد الآن أن نسهب في الكلام على هذه العواطف ، لاننا سنعود في كتاب الاخلاق إلى البحث في تحليل الوجدان للكشف عن العواطف التي يتضمنها ، ولكننا نقول الآن في ذلك قولاً واحداً ، وهو أن هذه العواطف الخلقية ملازمة للطبيعة الانسانية ، وهي التي تصلها بالمثل الأعلى . إن الانسان يدرك الخير ويميل إليه ، وهذا الخير ، سواء أكان في اللذة أم في الفضيلة ، فإن الانسان لا يرغب فيه إلا لذاته ، لأنه إذا رغب فيه لشيء آخر غيره أصبح هذا الآخر اسمى من الأول .
قال ( سبينوزا ) في كتاب الأخلاق : « نحن لا نرغب في الشيء لأنه حسن ، بل نستحسنه لأننا نرغب فيه ، فكأني به يريد أن يكون الخير أمراً شخصياً لا وجود له في حقائق الأشياء . على أنه قد يفهم من ذلك أيضاً أن القانون الأخلاقي يختلف باختلاف الأشخاص . ونحن نعتقد أن الخير ليس في الأشياء نفسها ، وإنما هو في النسبة التي بين الأشياء والإنسان ، وهو يتغير بتغير الأشخاص ، ويختلف باختلاف العصور . ومعنى ذلك كله أن للقواعد الأخلاقية أسا نفسية ، وأسسا اجتماعية ، وصلة بالأشياء الخارجية .
وأول صورة للعاطفة الأخلاقية هي الشعور بالممنوع والمكروه فقد كانت الأشياء في الجماعات الابتدائية منقسمة إلى ممنوع و مطلوب ، وحرام و حلال ، فأدى وجود الممنوعات والمحرمات إلى إيقاظ شعور الانسان بشخصيته وارادته . لقد كان هذا المنع في الجماعات الابتدائية منعاً خارجياً ، فلما ارتقت الحياة الاجتماعية أدى ارتقاؤها إلى استبدال الرادع النفسي الداخلي بالمانع الخارجي ، وصارت النفوس ترجع عن غيها ، لا خوفاً من عقاب ، ولا طمعاً في ثواب ، بل لأن لها منها زاجراً .
وبديهي أن استبدال الرادع الداخلي بالزاجر الخارجي مصحوب بكثير من العواطف الخلقية ، وهى في الواقع غير مستقلة عن تأثير البيئة الاجتماعية . بل تتبدل بتبدل الجماعات .
وإذا كان التبدل يقتضي وجود شيء يتبدل ، كان لا بد من أن يكون وراء المواطف الأخلاقية المتبدلة . حس اخلاقي خاص بالانسان يمكنه من ادراك الخير . والدليل على ذلك أن الطفل بفطرته ميال إلى العدالة ، واحترام المقود وهو يقيد نفسه ، في العابه ، بقواعد يحترمها ، وأسس يسير عليها . ولا يصبح الميل إلى العدالة واضحاً إلا بتأثير التربية البيتية والمدرسية .
٤ - الحس الديني :
- للعاطفة الدينية صور مختلفة . فالخوف الذي يشعر به الانسان الابتدائي في الأحراج المظلمة ، والخشوع الذي يحسه أمام الجبال العالية ، واللانهاية التي يامسها في البحر والصحراء ، والروعة التي يجدها في صمت الطبيعة بعد العاصفة ، كل ذلك صور من العاطفة الدينية ، لا تختلف ، في ماهيتها ، عن خشوع الايمان ، وروعة صور العبادة .
وليس الحس الديني مؤلفاً من الخشية فقط ، وانما هو مؤلف من العطف والحب والثقة بالمعبود المؤمن يخشى الله ، ويحبه ، ويثق به . حق لقد قال ) هنري برغسون ) : إن معنى الايمان الثقة ، لا الخشية ، وإن العاطفة الدينية ليست في الأصل خوفاً ، وانما هي أمان من الخوف ( ۱ ) ، وتسمى هذه العواطف بالعامل الديني الانفعالي .
وفي الحس الديني عامل عقلي أيضاً لأن الايمان كثيراً ما يكون مصحوباً بالتصورات والنظريات ، والآمال ، والأحلام .
والعامل الثالث عامل فاعل لان الانسان يعبر عن عاطفته الدينية بالعبادات والطقوس .
قال ( ويليم جيمس ) إن في الديانة عاملين :
١- العامل الاجتماعي ، وهو مجموع العبادات ، والطقوس ، والنظم .
۲ - العامل النفسي ، وهو مجموع العقائد الوجدانية ، وما يصحبها من التصورات والعواطف .
الداخل إلى المعبد يمتحن ضميره ، ثم يصلي ، ويعترف أمام الله بما في نفسه من الأوهام والمتاعب . فيتراءى له أنه ماثل بين يدي خالقه ، وقد جاء ليخفف حزنه ، ويسكن شكواه . وما أكثر العواطف الشعرية التي تتولد في هذا الموقف . لان الاله القادر على كل شيء هو في الوقت نفسه إله الحب ، وإله الحكمة ، فيه تتحد الحقيقة بالجمال والخير ، فالإله اذن حق وجمال وخير ، وكما يوجد في الجمال خير وحق ، كذلك . يوجد في الحق جمال وخير . فالحياة الدينية غنية إذن بكل شيء ؛ لأنها ينبوع العواطف العذبة والأحلام اللذيذة ، وهي تجعلنا نشعر بأن بالقرب من هذا العالم المحسوس الفاني عالماً ثانياً ، لا يلمس باليد ، ولا يسمع بالاذن ، بل يدرك بالخيال ، نلجأ اليه في أيام الشقاء والحزن ، ونرى فيه كل شيء جميلا ونبيلا .
ليست هذه العواطف الدينية وهما من الأوهام ، وإنما هي حقيقة واقعية ، وهي بالنسبة إلى المؤمن ، شعور بالمطلق واللانهاية ، تؤثر فيها الحياة الاجتماعية كما تتأثر بها ، حتى لقدبين علماء الاجتماع أن حياة الإنسان الإبتدائي حياة دينية محضة . وقال أحدهم إن الإنسان حيوان متدين ، أي أن العاطفة الدينية بالمعنى الواسع الذي ذكرناه عاطفة طبيعية .
وقد أثرت هذه العاطفة تأثيراً عظيما في تنظيم الجماعات ، وردع العـــامة عن الشر ، ومكافحة الأنانية ، وخلق العاطفة الأخلاقية .
وإذا ظن بعضهم أن البشرية ستستغني يوماً عن الدين الوضعي ، فإن العاطفة الدينية والشعور باللانهاية ، والتطلع إلى المثل العليا قد يصعب استئصالها من النفس ، وهي طبيعية كالعاطفة الجمالية ، والعاطفة الخلقية ، إلا أن صورها تتبدل بتبدل الزمان والمكان .
لقد كانت العاطفة الدينية عند الأقوام الإبتدائية منحصرة في نطاق القبيلة ، فكان الإله المعبود إله القبيلة فقط ، وكان لكل قبيلة إله يختلف عن آلهة القبائل الاخرى . إلا أن ارتقاء الفكر البشري جعل الإنسان يفكر في إله واحد ، منزه عن النقص ، وصارت العاطفة الدينية جامعة بين الاجناس ، بعد أن كانت في الحياة الإبتدائية ، باعثة على التفرقة .
تعليق