بانتهاء عام 2023 تكون السينما قد دخلت عامها التاسع والعشرين بعد المائة، ففي الثامن والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 1895 كان الفرنسيان لويس واوغست لومير يقدمان في "المقهى الكبير" بشارع الكوبشيين بباريس أول عرض ناجح للصور المتحركة على ستار، في ختام جهود كثيرين غيرهما في أوربا وامريكا للوصول الى هذه "الآلة الجهنمية"، ويضعان بذلك البداية الحقيقية للسينما كما نعرفها اليوم .
وكان الأخوان لومير قاما يوم 22 آذار/ مارس من ذلك العام، وفي مقر الجمعية الباريسية لترويج الصناعة الوطنية، بأول عرض خاص لفيلمهما السينمائي (38 ثانية) الذي حصلا بواسطته على براءة اختراع قبل شهر واحد فقط.
وبعد عروض متنوعة في الجمعيات العلمية، وفي جامعة السوربون العريقة، وفي بروكسل وأماكن أخرى، أقيم، في مثل هذا اليوم، ذلك العرض التجاري لأول فيلم مدفوع الأجر، إيذاناً رسمياً ببداية صناعة السينما.
ورغم أن الأخوين قالا أن «السينما اختراع لا مستقبل له» إلا أنهما استغلا كل ما قدمه لهما الاختراع الجديد من عوائد مالية لإقامة تجارة مربحة. وكان أن افتتحا غرفة عرض عامة في الطابق السفلي لـلمقهى الذي شهد العرض.
ومنذ ذلك الوقت بات بإمكان أي شخص أن يقول: "لقد ذهبت إلى السينما".
من كان يتوقع أن يكون ذلك العرض الذي جرى لمجرد التسلية واللهو ايذاناً بولادة فن جماهيري سوف يصبح بعد سنوات قليلة من ولادته فن العصر ، بل أخطر الفنون التي عرفها الإنسان في تاريخه الطويل، ليس بسبب امكاناته الهائلة على الانتشار والوصول الى الملايين من شعوب العالم، بل بسبب قدرته على منح المتعة والمعرفة في آن، وبسبب الدور الذي يلعبه في التأثير على الأفكار وتوجيهها، وهو الدور الذي سيستغل لاحقاً أبشع استغلال .
من خيال الظل الى الفن السابع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
جاءت السينما الى العالم وهو على مشارف القرن العشرين، وبعد اكتشاف الكهرباء بقليل، وأصبحت إحدى ظواهره المرتبطة باتساع الثورة الصناعية وتنوع وسائلها. غير أن هذا هو ما يبدو على السطح من حيث كونها حركة، أما في العمق، ومن حيث كونها صورة فإننا نجد مصادرها الأولى في أحلام الفلاسفة وأخيلة الشعراء، وعلى جدران الكهوف، عندما تعلم الانسان أن يرسم ما يقع عليه بصره، وفيما بعد سنجدها في خيال الظل وصندوق الدنيا والفانوس السحري. فلم يكن العلم الأب الشرعي للسينما بقدر ما كان الفن الذي استطاع الاكتشاف الصناعي أن يفتح مجال التطبيق أمامه، ويوفر له شروط تنفيذ الفكرة العبقرية .
منذ ولادتها، اكتسبت السينما صفة "أكثر الفنون شعبية" ذلك أن باقي الفنون لم تكن قد خرجت بعد من مجالاتها المقدسة لتكون بمتناول الشعب، فقد كان القرن التاسع عشر حيث ولدت السينما في عقده الاخير، قرن البرجوازية، ولسوف يظل الرسم يكافح طويلاً حتى يفصم روابطه بالواقعية، وكذلك الرواية التي ظلت تبتعد عنها ببطء.
كانت السينما وحدها تجتاح الثقافات المبنية في الأبراج العاجية كالسيل الجارف .
وشيئاً فشيئاً، ابتعدت السينما عن المقاهي والجراجات ودور اللهو الرخيصة، ولم يعد جمهورها ذلك الجمهور قليل الحظ من الثقافة، فأهتم بها كتاب كبار ونقاد معروفون، امثال لويس ديللوك، جان كوكتو، ايلي فور وليون موسينياك. وانتقلت من "أكثر الفنون شعبية" إلى "الفن السابع" بعد أن نشر الناقد الايطالي ريشيو توكاتودو عام 1911 بياناً عن السينما تحت عنوان "بيان الفنون السبعة" وأطلق فيه اسم "الفن السايع" على السينما، واصدر مجلة أسماها "الفن السابع" بغرض اجتذاب اهتمام صفوة المثقفين والفنانين الى السينما، والارتقاء بمستوى الانتاج السينمائي .
وفي عام 1920 ظهرت نوادي السينما في فرنسا لأول مرة، حينما لجأ لويس ديللوك وبيار مسموك إلى تأسيس نادٍ سينمائي، وأصدرا أول نشرة تحت عنوان "السينما ـ القضية"، وكان من أبرز محرريها الشاعر لوي اراغون .
كانت بداية الأفلام السينمائية عبارة عن دقائق قليلة، ولم تكن تهتم بتكنيك أو أسلوب جديد، ولم يوجد حتى مصطلح "الاخراج السينمائي" بالشكل البدائي على الأقل قبل ظهور المخرج الامريكي جريفت (1875ــ 1948) الذي وضع القواعد السليمة للسينما. وكانت أفلام الزمن المبكر، واستطراداً، من عام 1899 لا تخلو عادة من أشياء مدهشة (أفلام جورج ميليس) الخيالية مثلاً). ومع أن التصوير كان جميلاً مع وجود كافة التفصيلات إلا أنها كانت أفلاماً تفتقد الارتباط والانسجام بين جزئياتها، وكان صانع الفلم هو المصور .
نقل جريفت الكاميرا إلى مختلف الجهات، وابتكر اللقطة الكبيرة في فلمه "سرقة القطار الكبرى" واستخدمها بشكل خلاق، كما أكد بأفلامه الطويلة قدرات السينما العظيمة، وترك اسهامه الكبير في المونتاج الذي أخذه السينمائون الروس (بودفكين، فيرتوف، ازنشتاين، دوفمينكو ) فيما بعد، وصقلوه حتى غدا عملاً فنياً رائعاً .
جريفت الامريكي وازنشتاين الروسي هما من أسس للسينما كفن مستقل، ومهدا الطريق لظهور مبدعين مثل أورسن ويلز، لويس بونويل، روبرتو روسلليني، فيسكونتي، فلليني، جوزيف لوزي، أنطونيوني، برغمان، كوبريك، غودار، تروفو، برتولوتشي، كمال سليم، يوسف شاهين، صلاح أبو سيف، الأخضر حامينا، ساجيت راي، أكيرا كوروساوا، وغيرهم كثيرون دون ترتيب ممن انتقلوا بالسينما إلى مستوى الجدية والابداع .
فن العصر
ـــــــــــــــــــــــ
شهدت السنوات المائة والثمانية والعشرون، رغم قصرها بالقياس الى الفنون الاخرى، تحولات كبيرة، وعرفت اتجاهات متعددة. وإذا كان من الصعب المرور عليها وحصرها، فان بإمكاننا اعتبار الصوت والألوان والتقنيات الجديدة في الكاميرا بعض مظاهر هذه التحولات، أما في المدارس والتيارات التي وضعت السينما في منعطفات تاريخية، ودفعتها الى الاستقلال عن باقي الفنون، وخلقت لها لغتها ومفرداتها الخاصة، فنستطيع أن نشير إلى سينما الحقيقة الروسية، التعبيرية الألمانية، الواقعية الإيطالية، الموجة الجديدة الفرنسية، السينما الحرة البريطانية، وسينما تحت الارض الامريكية والسينما الثالثة في أمريكا اللاتينية .
وعندما نقول أن فن السينما هو فن العصر فلأنه كان الأكثر استجابة لمتغيرات عصرنا الراهن ومعطياته العلمية والنفسية والاجتماعية، ذلك أن الأحداث السياسية والتطورات التي شهدها العالم أثرت كثيراً على السينما، فالحرب العالمية الأولى أفرزت أفلامها، وخلقت اتجاهاً سينمائياً ما زال مستمراً (السينما الوثائقية). كما أن الحرب الثانية التي أدت الى أزمة الضمير العالمي وحضارة اليأس، أصبحت مصدراً رئيسا للإنتاج السينمائي.
ولعل السينما هي الفن الوحيد القادر على ملاحقة معطيات علم الاجتماع والتحليلات النفسية، والكشف عن أزمات الإنسان المعاصر، والتعبير عن هواجسه وأفكاره وصراعه وأحلامه، واختراق آفاق المستقبل، على نفس المستوى من القدرة على التعبير عن الواقع وحقائقه .
وإذا ما ظلت السينما مرتبطة بأذهان الكثيرين، ليس في عالمنا العربي حسب، بل في أجزاء أخرى من العالم على أنها وسيلة للتسلية وتزجية الوقت وملء الفراغ، فان هذا يصدق على نمط معين من السينما ظل متمركزاً في خطوط انتاج الشركات السينمائية التجارية، فالأمر قد حسم نهائياً لصالح السينما الجادة التي تستند الى النضج الفني والفكري، ومنذ عام 1940 تقريباً، حين بلغت تقنيات السينما السقف، واستقرت لغة الشاشة، وزادت النشوة الخالصة للسينما وأكتشف سحرها، وأضحى المعنى الخاص للفيلم واضحاً. فكان لا مناص من الفصل بين السينما المعدة للاستهلاك الواسع والسينما التي لا ترى في الفيلم ذلك الرسول الخاص للفن الشعبي، فقد اندفعت مرة واحدة ودون توقف سينما التجديد والتغيير . واستشراف المستقبل.
أدرك الناس من خلال السينما براءة الطفولة في الفن الحقيقي، حيث غدا الفن السينمائي محرراً من الشعور بالنقص وهو يعيد تقييم الماضي، كما كان مدهشاً ومثيراً وهو يكتشف جماليات اللون والصوت، ويعبر عن السعادة الحقيقية والألم العميق، أو وهو يقدم الملهاة والميلودراما، الموسيقى والغناء، البطولة وكفاح الإنسان وانتصاراته وتحدياته.
كما أدرك فنانو السينما أنفسهم مدى تأثير الفن السينمائي على الأشكال التعبيرية الأخرى، واكتشفوا العلاقة القائمة بينه وبين مختلف الفنون، وبين الفن والمجتمع، وكيف كانت السينما تصل الى أرقى أنواع التعبير بين ما هو خاص وما هو عام، بين ما هو روحي وما هو مادي، وفي الظاهر أو في الاعماق .
السينما اليوم تتقدم بسرعة، وتتغير بلا توقف كواقع جمالي، وكواقع اجتماعي، ونحن هنا لا نتحدث عن سينما معينة، أو عن سينما بلد معين، لكننا نتحدث عن السينما التي أصبحت أداة معرفة، وواحدة من عناصر الواقع الثقافي في العالم.
إن جزءً من ثورة الاتصالات التي نعرفها ترتبط بالسينما التي استطاعت ولأول مرة في تاريخ الحضارة الانسانية أن تقرب بين مسافات شاسعة، بل أن تقهر كل المسافات بنقلنا في لحظة إلى أي مكان من كوكبنا .
كتب أحد المؤرخين: "عشنا العصر الحجري، العصر البرونزي، عصر الصفحة المكتوبة، والآن نعيش عصر السينما".
وكان الأخوان لومير قاما يوم 22 آذار/ مارس من ذلك العام، وفي مقر الجمعية الباريسية لترويج الصناعة الوطنية، بأول عرض خاص لفيلمهما السينمائي (38 ثانية) الذي حصلا بواسطته على براءة اختراع قبل شهر واحد فقط.
وبعد عروض متنوعة في الجمعيات العلمية، وفي جامعة السوربون العريقة، وفي بروكسل وأماكن أخرى، أقيم، في مثل هذا اليوم، ذلك العرض التجاري لأول فيلم مدفوع الأجر، إيذاناً رسمياً ببداية صناعة السينما.
ورغم أن الأخوين قالا أن «السينما اختراع لا مستقبل له» إلا أنهما استغلا كل ما قدمه لهما الاختراع الجديد من عوائد مالية لإقامة تجارة مربحة. وكان أن افتتحا غرفة عرض عامة في الطابق السفلي لـلمقهى الذي شهد العرض.
ومنذ ذلك الوقت بات بإمكان أي شخص أن يقول: "لقد ذهبت إلى السينما".
من كان يتوقع أن يكون ذلك العرض الذي جرى لمجرد التسلية واللهو ايذاناً بولادة فن جماهيري سوف يصبح بعد سنوات قليلة من ولادته فن العصر ، بل أخطر الفنون التي عرفها الإنسان في تاريخه الطويل، ليس بسبب امكاناته الهائلة على الانتشار والوصول الى الملايين من شعوب العالم، بل بسبب قدرته على منح المتعة والمعرفة في آن، وبسبب الدور الذي يلعبه في التأثير على الأفكار وتوجيهها، وهو الدور الذي سيستغل لاحقاً أبشع استغلال .
من خيال الظل الى الفن السابع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
جاءت السينما الى العالم وهو على مشارف القرن العشرين، وبعد اكتشاف الكهرباء بقليل، وأصبحت إحدى ظواهره المرتبطة باتساع الثورة الصناعية وتنوع وسائلها. غير أن هذا هو ما يبدو على السطح من حيث كونها حركة، أما في العمق، ومن حيث كونها صورة فإننا نجد مصادرها الأولى في أحلام الفلاسفة وأخيلة الشعراء، وعلى جدران الكهوف، عندما تعلم الانسان أن يرسم ما يقع عليه بصره، وفيما بعد سنجدها في خيال الظل وصندوق الدنيا والفانوس السحري. فلم يكن العلم الأب الشرعي للسينما بقدر ما كان الفن الذي استطاع الاكتشاف الصناعي أن يفتح مجال التطبيق أمامه، ويوفر له شروط تنفيذ الفكرة العبقرية .
منذ ولادتها، اكتسبت السينما صفة "أكثر الفنون شعبية" ذلك أن باقي الفنون لم تكن قد خرجت بعد من مجالاتها المقدسة لتكون بمتناول الشعب، فقد كان القرن التاسع عشر حيث ولدت السينما في عقده الاخير، قرن البرجوازية، ولسوف يظل الرسم يكافح طويلاً حتى يفصم روابطه بالواقعية، وكذلك الرواية التي ظلت تبتعد عنها ببطء.
كانت السينما وحدها تجتاح الثقافات المبنية في الأبراج العاجية كالسيل الجارف .
وشيئاً فشيئاً، ابتعدت السينما عن المقاهي والجراجات ودور اللهو الرخيصة، ولم يعد جمهورها ذلك الجمهور قليل الحظ من الثقافة، فأهتم بها كتاب كبار ونقاد معروفون، امثال لويس ديللوك، جان كوكتو، ايلي فور وليون موسينياك. وانتقلت من "أكثر الفنون شعبية" إلى "الفن السابع" بعد أن نشر الناقد الايطالي ريشيو توكاتودو عام 1911 بياناً عن السينما تحت عنوان "بيان الفنون السبعة" وأطلق فيه اسم "الفن السايع" على السينما، واصدر مجلة أسماها "الفن السابع" بغرض اجتذاب اهتمام صفوة المثقفين والفنانين الى السينما، والارتقاء بمستوى الانتاج السينمائي .
وفي عام 1920 ظهرت نوادي السينما في فرنسا لأول مرة، حينما لجأ لويس ديللوك وبيار مسموك إلى تأسيس نادٍ سينمائي، وأصدرا أول نشرة تحت عنوان "السينما ـ القضية"، وكان من أبرز محرريها الشاعر لوي اراغون .
كانت بداية الأفلام السينمائية عبارة عن دقائق قليلة، ولم تكن تهتم بتكنيك أو أسلوب جديد، ولم يوجد حتى مصطلح "الاخراج السينمائي" بالشكل البدائي على الأقل قبل ظهور المخرج الامريكي جريفت (1875ــ 1948) الذي وضع القواعد السليمة للسينما. وكانت أفلام الزمن المبكر، واستطراداً، من عام 1899 لا تخلو عادة من أشياء مدهشة (أفلام جورج ميليس) الخيالية مثلاً). ومع أن التصوير كان جميلاً مع وجود كافة التفصيلات إلا أنها كانت أفلاماً تفتقد الارتباط والانسجام بين جزئياتها، وكان صانع الفلم هو المصور .
نقل جريفت الكاميرا إلى مختلف الجهات، وابتكر اللقطة الكبيرة في فلمه "سرقة القطار الكبرى" واستخدمها بشكل خلاق، كما أكد بأفلامه الطويلة قدرات السينما العظيمة، وترك اسهامه الكبير في المونتاج الذي أخذه السينمائون الروس (بودفكين، فيرتوف، ازنشتاين، دوفمينكو ) فيما بعد، وصقلوه حتى غدا عملاً فنياً رائعاً .
جريفت الامريكي وازنشتاين الروسي هما من أسس للسينما كفن مستقل، ومهدا الطريق لظهور مبدعين مثل أورسن ويلز، لويس بونويل، روبرتو روسلليني، فيسكونتي، فلليني، جوزيف لوزي، أنطونيوني، برغمان، كوبريك، غودار، تروفو، برتولوتشي، كمال سليم، يوسف شاهين، صلاح أبو سيف، الأخضر حامينا، ساجيت راي، أكيرا كوروساوا، وغيرهم كثيرون دون ترتيب ممن انتقلوا بالسينما إلى مستوى الجدية والابداع .
فن العصر
ـــــــــــــــــــــــ
شهدت السنوات المائة والثمانية والعشرون، رغم قصرها بالقياس الى الفنون الاخرى، تحولات كبيرة، وعرفت اتجاهات متعددة. وإذا كان من الصعب المرور عليها وحصرها، فان بإمكاننا اعتبار الصوت والألوان والتقنيات الجديدة في الكاميرا بعض مظاهر هذه التحولات، أما في المدارس والتيارات التي وضعت السينما في منعطفات تاريخية، ودفعتها الى الاستقلال عن باقي الفنون، وخلقت لها لغتها ومفرداتها الخاصة، فنستطيع أن نشير إلى سينما الحقيقة الروسية، التعبيرية الألمانية، الواقعية الإيطالية، الموجة الجديدة الفرنسية، السينما الحرة البريطانية، وسينما تحت الارض الامريكية والسينما الثالثة في أمريكا اللاتينية .
وعندما نقول أن فن السينما هو فن العصر فلأنه كان الأكثر استجابة لمتغيرات عصرنا الراهن ومعطياته العلمية والنفسية والاجتماعية، ذلك أن الأحداث السياسية والتطورات التي شهدها العالم أثرت كثيراً على السينما، فالحرب العالمية الأولى أفرزت أفلامها، وخلقت اتجاهاً سينمائياً ما زال مستمراً (السينما الوثائقية). كما أن الحرب الثانية التي أدت الى أزمة الضمير العالمي وحضارة اليأس، أصبحت مصدراً رئيسا للإنتاج السينمائي.
ولعل السينما هي الفن الوحيد القادر على ملاحقة معطيات علم الاجتماع والتحليلات النفسية، والكشف عن أزمات الإنسان المعاصر، والتعبير عن هواجسه وأفكاره وصراعه وأحلامه، واختراق آفاق المستقبل، على نفس المستوى من القدرة على التعبير عن الواقع وحقائقه .
وإذا ما ظلت السينما مرتبطة بأذهان الكثيرين، ليس في عالمنا العربي حسب، بل في أجزاء أخرى من العالم على أنها وسيلة للتسلية وتزجية الوقت وملء الفراغ، فان هذا يصدق على نمط معين من السينما ظل متمركزاً في خطوط انتاج الشركات السينمائية التجارية، فالأمر قد حسم نهائياً لصالح السينما الجادة التي تستند الى النضج الفني والفكري، ومنذ عام 1940 تقريباً، حين بلغت تقنيات السينما السقف، واستقرت لغة الشاشة، وزادت النشوة الخالصة للسينما وأكتشف سحرها، وأضحى المعنى الخاص للفيلم واضحاً. فكان لا مناص من الفصل بين السينما المعدة للاستهلاك الواسع والسينما التي لا ترى في الفيلم ذلك الرسول الخاص للفن الشعبي، فقد اندفعت مرة واحدة ودون توقف سينما التجديد والتغيير . واستشراف المستقبل.
أدرك الناس من خلال السينما براءة الطفولة في الفن الحقيقي، حيث غدا الفن السينمائي محرراً من الشعور بالنقص وهو يعيد تقييم الماضي، كما كان مدهشاً ومثيراً وهو يكتشف جماليات اللون والصوت، ويعبر عن السعادة الحقيقية والألم العميق، أو وهو يقدم الملهاة والميلودراما، الموسيقى والغناء، البطولة وكفاح الإنسان وانتصاراته وتحدياته.
كما أدرك فنانو السينما أنفسهم مدى تأثير الفن السينمائي على الأشكال التعبيرية الأخرى، واكتشفوا العلاقة القائمة بينه وبين مختلف الفنون، وبين الفن والمجتمع، وكيف كانت السينما تصل الى أرقى أنواع التعبير بين ما هو خاص وما هو عام، بين ما هو روحي وما هو مادي، وفي الظاهر أو في الاعماق .
السينما اليوم تتقدم بسرعة، وتتغير بلا توقف كواقع جمالي، وكواقع اجتماعي، ونحن هنا لا نتحدث عن سينما معينة، أو عن سينما بلد معين، لكننا نتحدث عن السينما التي أصبحت أداة معرفة، وواحدة من عناصر الواقع الثقافي في العالم.
إن جزءً من ثورة الاتصالات التي نعرفها ترتبط بالسينما التي استطاعت ولأول مرة في تاريخ الحضارة الانسانية أن تقرب بين مسافات شاسعة، بل أن تقهر كل المسافات بنقلنا في لحظة إلى أي مكان من كوكبنا .
كتب أحد المؤرخين: "عشنا العصر الحجري، العصر البرونزي، عصر الصفحة المكتوبة، والآن نعيش عصر السينما".