جريمــة أمريكية An American Crime
هل أراد مخرج هذا الفيلم بعنوان فيلمه ( جريمة أمريكية ) تحديد مكان الجريمة الحقيقية التي استقى منها قصة فيلمه ، و هو : أمريكا ؟ أم إنه أراد أن يحدد هوية هكذا نوع من الجرائم ؟ بمعنى أنها : جريمة أمريكية محض و لا تقع خارج هذه البلاد ؟
سواء أكان هذا ما أراده أم ذاك ، أم أن هناك تفسيراً آخر ، فإن الجريمة التي حصلت ، و هزت المجتمع الأمريكي في العام 1965 ، هي أمريكية بامتياز .. و قد وقعت في أمريكا تحديداً . ذلك إن أمريكا هي البلد المؤهل أكثر من سواه لأن تقع فيه جرائم من هذا الطراز ، مع أن هذا التحديد غير مطلق . غير أن ما يتناوله الفيلم لا يقع ضمن سياق الجرائم التي عرفها المجتمع الأمريكي من عمليات اغتيال أو سطو على البنوك أو حرب عصابات أو مافيات . بل هي جريمة اجتماعية بطيئة بدأت في شهر يوليو/ تموز عام 1965 لتنتهي في أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه بوفاة فتاة تبلغ السادسة عشرة من عمرها على يد امرأة تولت رعايتها و رعاية اختها ذات الخمس عشرة سنة مقابل 20 دولاراً تتقاضاها من والديهما ، اسبوعياً ، واللذين كانا منشغلين بعملهما في مدينة ملاه ٍ صغيرة و متواضعة .
أحداث هذا الفيلم مأخوذة من واقعة حقيقية بدأت خيوطها في شهر يوليو/ تموز عام 1965 ، في ولاية انديانا ، عندما قرر الزوجان المنفصلان منذ أسابيع ( ليستر) و ( پيتي ) ، ايداع ابنتيهما : ( سلـڤيا ) ذات الستة عشر عاماً ( مثلت دورها " ايلين پيج " ) و ( جيني ) التي تصغرها بعام ( مثلت دورها " هيلي ماكفرلاند " ) لدى السيدة ( گريترود بانيشڤسكي ) ــ تمثيل " كاثرين كينر " . و هذه السيدة تعيش مع ستة من أبنائها ( أربع بنات و صَبيّـان ) من دون معيل ، ولكنها تعتمد على البطاقة التموينية في اعالة اطفالها ، و قد جاء مبلغ العشرين دولاراً اسبوعياً عن رعايتها للفتاتين بمثابة معونة اضافية ، خصوصاً و أنها مدمنة على التدخين و تناول الكحول ، ولكنها فوق هذا تتناول الأدوية أيضاً ، و من هذه الأدوية ، كما ذكرت في المحكمة : عقار ( فينوباربيتال Phenobarbital ) و هو شراب مضاد للتشنج و يؤخذ عن طريق الفم ، و يتراوح مستوى العلاج به بين 10 و 25 ملليتر ، ولكن اذا ما تجاوز المرء ذلك الى 30 ملليتر فما فوق فإنه يسبب أعراضاً سمومية ، منها : الحركات اللاإرادية في العين و الجسم ، و كذلك الغيبوبة ، كما أن ( بانيشڤسكي ) تتناول عقاراً آخر هو ( كيروسيدين ) ، و هذا العقار راحت الحكومة الأمريكية تحذر من استخدامه ، وذلك لاحتوائه على مركب الـ ( فينيل برونالامين ) ، لما يسببه من جلطة دماغية .
و قد يكون للجرعات الإعتباطية التي كانت تتناولها ( بانيشڤسكي ) دون اعتبار لكونها قد تناولت كحولاً ــ كما ظهرت في الفيلم ــ قد يكون لها تأثير على خلاياها و أعصابها ، غير أن ذلك لا يبرر سلوكها الوحشي الذي مارسته .. بما هز ليس المجتمع الأمريكي حسب ، بل المجتمعات الأخرى ، خصوصاً بعد مشاهدة هذا الفيلم . في أي مكان . فصحـّت عبارة اعلانه على غلاف الـDVD : ( أنك لن تنسى هذا الفيلم قريباً ) . حقاً هو فيلم من الصعوبة نسيانه.
يبدأ الفيلم بموسيقى طربيـّة من فترة الستينيات من القرن الماضي ، مع صوت فتاة هادئ و هي تروي الحكاية ، متحدثة ًعن مدينة الملاهي الصغيرة التي يعمل فيها الوالدان ، و تظهر الفتاتان سعيدتين ، و هما تلهوان على الأحصنة منصة فوق خشبية دوارة . و هو ذات المشهد الذي ينتهي به الفيلم ، حيث تلهو روح الضحية ( سلـڤيا ) مع ذات الحصان بعد أن تنتهي الرواية المؤلمة حقاُ في فيلم يحمل ــ في حقيقته ــ ادانة ضمنية غير معلنة لطبيعة حياة المجتمع الأمريكي ، بما يجعل عنوان الفيلم صائباً واختياره موفقاً .
خيط ٌبسيط ٌ ، و غير محسوب ، هو الذي قاد الأحداث الى هذه البشاعة ، فعندما كانت الأم و ابنتاها ( سلـڤيا ) و ( جيني ) يَهممن بدخول الكنيسة ، تواجَدَ الأبُ عند مدخلها ، مبدياً لزوجته رغبته في التحدث معها بشأن العائلة ، فتستجيب لطلبة ، طالبة ًمن الإبنتين الدخول و بالتالي استقلال حافلة الكنيسة إذا ما تأخرت عليهما في حديثها مع أبيهما . و يصادف وجود فتاتين في هذه الحافلة ، تلتفتان اليهما بلطف ، فيتحدثن حديث مجاملة عابر .. ولكن احداهما تقترح على ( سلـڤيا ) و ( جيني ) أن تذهبا معهما الى منزلهما . و اذ توافقان بخجل ، فإن خيط المأساة يبدأ من هنا . فهاتان الفتاتان ــ صاحبتا الدعوة ــ أختان لأربعة أخوة ، ترعاهم أم مدمنة على الكحول و التدخين و العقاقير الطبية ، و لديها صديق يكاد يكون بعمر ابنتها الكبرى ، و قد أنجبت منه طفلاً ، و هو بدل أن يصرف على ابنه الرضيع ، فأنه يبتزها و يسئ معاملتها باستهتار .. كأي فتى غر و طائش ( لعب دوره " جيمس فرانكو " ) . و من غير أن نعرف أين هو أب أطفالها ألأصلي ، ولكن لقطة عابرة في نشرة الأخبار التلفزيونية ــ و هي تنقل خبراً من ڤييتنام ــ قد توحي أما بأنه محارب في ڤييتنام أو أنه أحد ضحايا حربها .. فيما ابنتاها الكبريان ( ستيفاني ) و ( پاولا ) تلهوان مع صديقين . و ( پاولا ) هي سبب المأساة كلها . فصديقها متزوج ، وحملت منه ، و قد باحت ــ ذات يوم ــ بسرها لـ ( سلـڤيا ) ، و هذه لم تبح بالسر لأحد ، ولكن تلك شكـَـتْ الى أمها بأن ( سلـڤيا ) تشيع عنها أنها ( عاهرة ) و بالتالي هي حامل . انه تصرف مراهقة .. سخيف و طائش ، ولكن من هذه النقطة تبدأ ( بانيشفسكي ) بعملية الإنتقام من الصبية ، انتقام يبدأ من تعنيفها بحجة أن والدها قد تأخر في ارسال العشرين دولاراً ، ثم باتهامها بالكذب ، ثم بالسرقة ، ثم بالعهر ، و هي أباطيلٌ كلها . و بعد ضربها أمام شقيقتها ( جيني ) المتألمة الكتوم ، يتخذ الإنتقام منحى خطيراً بكـَيّ الصبية بالسجائر .. بل يتقدم خطوات أخطر الى درجة إجبار الفتاة على إدخال قنينة الكوكاكولا في فرجها ، ثم استخدام إبرة ساخنة و الكتابة على بطنها عبارة : ( أنا عاهرة .. و أفتخر بذلك ) ، و من ثم اجبارها على كتابة اعتراف بأنها كانت بحاجة الى النقود فذهبت مع بعض الشبان لتقضيَ وَطْرَهم مقابل نقود . ويتقدم الأمر خطوة أخطرحين تدعو ( بانيشفسكي ) أطفالَ الحي الى المشاركة في عملية التعذيب .. حتى ينتهي الأمر ــ أخيراً ــ بموت ( سلـڤيا ) التي قضت هذه الفترة و هي مقيدة الى عمود داخل قبو المنزل.
قصة هذا الفيلم مأخوذة من ملفات التحقيق و المحاكمة التابعة للمحكمة الجنائية الكبرى في ولاية انديانا الأمريكية . و أحسب أن المشاهد سيتفق مع المخرج و كاتب السيناريو ــ بعد المشاهدة ــ على عَنوَنة الفيلم بـ ( جريمة أمريكية ) ، لأن أحداثاً ، كهذه ، مكانها أمريكا بامتياز ، على الرغم من أنها من الممكن أن تحصل في أي بلد آخر . فأمريكا هي الي تميزت بانفتاح بالغ خرّب البـنى الإجتماعية ، بحيث باتت أمٌ كهذه أماً بلا وازع ، و الأب بلا مانع ، و البنت بلا رادع .. فماذا تبقى ؟ صحيح أن المسألة نسبية ، ولكن الحرية الشخصية المطلقة لمن يبلغ السادسة عشرة من العمر ، هي التي منحت الشابة ( جيرترود نادين ڤان فوسين ) ــ كما حصل فعلاً ــ الفرصة في أن تترك المدرسة عندما بلغت هذه السن ، فتزوجت من شاب يكبرها بعامين هو ( جون بانيشڤسكي ) و أنجبت منه أربعة أطفال ثم تطلقت منه بعد عشر سنوات و تزوجت شخصا ً آخر ، لتتطلق منه أيضا ًفتعود الى ( جون ) مرة أخرى فتنجب منه طفلين ، ثم تطلقت منه ثانية ً عام 1963 ، فانتقلت الى العيش مع ( دينيس لي رايت ) الذي يصغرها بإحدى عشرة سنة لتنجب منه طفلاً قبل أن يتركها ويختفي ، وهذه المرأة النحيلة ، التي كانت مصابة بالربو ، حملت ثلاث عشرة مرة من زيجاتها الفاشلة ، كانت بينها سبع حالات إسقاط . ومن الطبيعي أن تقودها هذه الرحلة ــ بما يلفها من ادمان و عوز مادي مزمن و سوء تربية و انفلات شخصي و عائلي ــ الى مأزق نفسي ، كانت ضحيته الصبية الوديعة ( سيلـڤيا ) .
و هنا ينطرح السؤال : لماذا كانت هذه المنحرفة تواضب على حضور قداسات الكنيسة ، مصطحبةً معها أطفالها الذين كانت شديدة العناية بهم ، اذا كانت على هذه الدرجة من القسوة و الوحشية و البشاعة الروحية ؟ هل كانت توارب مع نفسها ؟ هل كانت تريد التكفير عن آثامها التي لا يدرك أحدٌ سعتها و مداها ؟ هل كان اصطحابها لأطفالها الى الكنيسة محاولة للتعويض عن النقص التربوي الذي مرت به بسبب تلك الحرية الشخصية المطلقة التي قطعت بها دراستها و تزوجت بطيش ؟ لماذا ــ إذاً ــ لم تكتفِ لوحدها بممارسة القسوة مع ضحيتها ، بل أشركت معها أطفالها الأبرياء و حولتهم الى مجرمين وهي التي تأخذهم الى الكنيسة .. بل أشركت معهم صبيان الحي في شارع ( نيويورك ) ، حيث منزلها الذي وصفه المحامون بـ ( البالوعة ) ؟ لقد بلغ غياب المسؤولية لدى هذه المرأة درجة أنها لم تكثرث لزيارة القس لها في بيتها و إخبارها بأن ابنتها ( پاولا ) كانت قد زارته في الكنيسة و اعترفت له بأنها حامل ، مما يكذب رواية الإبنة و اتهامها للضحية ( سِلـڤيا ) باشاعة حكاية الحمل.
من الواضح أن هذه المرأة تنطوي على ماض ربما كان يتصف بالعنف الأسري ، و بالتالي فأنها هي نفسها ضحية غير معلنة .. اذا ما صح هذا الإفتراض . و في حالة كهذه ، فإن مبادئ الأخلاق معدومة لديها و مطمورة منذ فتوتها عندما انفردت بقرارها و تركت الدراسة و تزوجت ، و ما ذهابها الى الكنيسة إلا تعويض هش و غطاء وهمي . و إلا كيف يمكن لإمرأة سوية أن تتجرأ على الإتيان بفعل تـُـقدِمُ من خلاله على إطعام ( سلڤيا ) فضلاتها ، كما تبين فيما بعد من خلال شهادة شقيقتها ( جيني ) التي كانت قد قالت للشرطة : ابعدوني من هنا و سأخبركم بكل شئ ؟ .
على أية حال فقد حُكم على المجرمة بالسجن لمدة عشرين عاماً ، بعد أن رأى المُحلـَّـفون أن جريمتها هي من الدرجة الأولى ، دون أن تنفعها أكاذيبها بأنها لا تدري كيف حصل كل ذلك . فيما حُكم على ابنائها و أبناء الجيران المشاركين في الجريمة بالسجن لمدة سنتين . و في عام 1985 اُطلق سراح ( بانيشڤسكي ) و تم تغيير اسمها الى ( نادين ڤان فوسين ) ، و انتقلت الى العيش في ولاية ( أيوا ) لتموت بسرطان الرئة في 16 يونيو / حزيران عام 1990 . اما ابنتها ( پاولا ) فقد تزوجت و انتقلت الى ( أيَوا ) أيضاً بعد أن غيّرت هويتها . ( ستيڤاني ) غيّرت هويتها كذلك و أصبحت مدرّسة ً بعد أن أكملت تعليمها . الصبي ( جون ) ، الذي شارك في الجريمة و كان له من العمر اثنتاعشرة سنة ، غيّر اسمه الى ( جون بليك ) و عمل ، لاحقاً ، سائقَ شاحنة ثم اصبح وكيلاً للعقارات قبل أن يتطور مسارُهُ فيصبح وزيراً في ولاية تكساس ، ثم بعد ذلك مرشداً و مُقدّمَ نصائح لأبناء الأزواج المنفصلين.
وهذه القصة البشعة كانت قد تحولت الى رواية رعب ثم الى فيلم بعنوان ( الفتاة في المنزل المجاور ) The girl next door على يد المخرج " جاك كيچوم " . فيما حمل فيلم " تومّي أوهافر " عنواناً موفقاً مقصوداً هو : ( جريمة أمريكية )An American Crime .
ولا ندري من أين جاء المخرج بهؤلاء الأطفال باهري الأداء في تمثيلهم البارع . لقد كانوا مذهلين حقاً ، بحيث أنهم أكتسحوا ــ أمامهم في الفيلم ــ الممثلين المحترفين الكبار .
وكانت الممثلة الكندية الشابة " إيلين بيج " التي مثلت دور الضحية ( سلڤيا ) ، في مقدمة الجميع في أداء عبقري مُلفت . وهذه الممثلة المذهلة ، مولودة في ( هاليفاكس ) بكندا عام 1987 . و كانت قد ترشحت كأحسن ممثلة لجائزة الأوسكار عام 2007 ، و عمرها عشرون سنة ، عن دورها الجميل في فيلم ( جونو ) الكوميدي الرومانسي ، و الذي نالت عنه جائزة ( غولدن غلوب ) ، لتتوالى عليها العروض ، لاحقاً ، لما لمسه المخرجون من موهبة مذهلة لديها في التمثيل ، ولكن في العام 2014 أعلنت أنها ذات ميول مثلية ، فيما أعلنت عام 2020 أنها تحولت جنسياً و أصبح " إليوت " هو ( إسمه ) الجديد . أما الممثلة " هيلي ماكفرلاند " التي مثلت دور الشقيقة ( جيني ) فلم تكن لتقل مهارة في ادائها الذي بات في حسبان المخرجين فظهر لاحقاً في العديد من الأفلام و المسلسلات التلفزيونية.
إن فيلم ( جريمة أمريكية ) من الأفلام التي لا تنسى بسهولة .. فيلمٌ يترك ندبة في الذاكرة و أسى في وجدان المشاهد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
في الصورة : المجرمة الحقيقية " گريترود بانيشڤسكي " أثناء تقديمها للمحاكمة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ
رابط الفيلم في التعليق الأول
هل أراد مخرج هذا الفيلم بعنوان فيلمه ( جريمة أمريكية ) تحديد مكان الجريمة الحقيقية التي استقى منها قصة فيلمه ، و هو : أمريكا ؟ أم إنه أراد أن يحدد هوية هكذا نوع من الجرائم ؟ بمعنى أنها : جريمة أمريكية محض و لا تقع خارج هذه البلاد ؟
سواء أكان هذا ما أراده أم ذاك ، أم أن هناك تفسيراً آخر ، فإن الجريمة التي حصلت ، و هزت المجتمع الأمريكي في العام 1965 ، هي أمريكية بامتياز .. و قد وقعت في أمريكا تحديداً . ذلك إن أمريكا هي البلد المؤهل أكثر من سواه لأن تقع فيه جرائم من هذا الطراز ، مع أن هذا التحديد غير مطلق . غير أن ما يتناوله الفيلم لا يقع ضمن سياق الجرائم التي عرفها المجتمع الأمريكي من عمليات اغتيال أو سطو على البنوك أو حرب عصابات أو مافيات . بل هي جريمة اجتماعية بطيئة بدأت في شهر يوليو/ تموز عام 1965 لتنتهي في أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه بوفاة فتاة تبلغ السادسة عشرة من عمرها على يد امرأة تولت رعايتها و رعاية اختها ذات الخمس عشرة سنة مقابل 20 دولاراً تتقاضاها من والديهما ، اسبوعياً ، واللذين كانا منشغلين بعملهما في مدينة ملاه ٍ صغيرة و متواضعة .
أحداث هذا الفيلم مأخوذة من واقعة حقيقية بدأت خيوطها في شهر يوليو/ تموز عام 1965 ، في ولاية انديانا ، عندما قرر الزوجان المنفصلان منذ أسابيع ( ليستر) و ( پيتي ) ، ايداع ابنتيهما : ( سلـڤيا ) ذات الستة عشر عاماً ( مثلت دورها " ايلين پيج " ) و ( جيني ) التي تصغرها بعام ( مثلت دورها " هيلي ماكفرلاند " ) لدى السيدة ( گريترود بانيشڤسكي ) ــ تمثيل " كاثرين كينر " . و هذه السيدة تعيش مع ستة من أبنائها ( أربع بنات و صَبيّـان ) من دون معيل ، ولكنها تعتمد على البطاقة التموينية في اعالة اطفالها ، و قد جاء مبلغ العشرين دولاراً اسبوعياً عن رعايتها للفتاتين بمثابة معونة اضافية ، خصوصاً و أنها مدمنة على التدخين و تناول الكحول ، ولكنها فوق هذا تتناول الأدوية أيضاً ، و من هذه الأدوية ، كما ذكرت في المحكمة : عقار ( فينوباربيتال Phenobarbital ) و هو شراب مضاد للتشنج و يؤخذ عن طريق الفم ، و يتراوح مستوى العلاج به بين 10 و 25 ملليتر ، ولكن اذا ما تجاوز المرء ذلك الى 30 ملليتر فما فوق فإنه يسبب أعراضاً سمومية ، منها : الحركات اللاإرادية في العين و الجسم ، و كذلك الغيبوبة ، كما أن ( بانيشڤسكي ) تتناول عقاراً آخر هو ( كيروسيدين ) ، و هذا العقار راحت الحكومة الأمريكية تحذر من استخدامه ، وذلك لاحتوائه على مركب الـ ( فينيل برونالامين ) ، لما يسببه من جلطة دماغية .
و قد يكون للجرعات الإعتباطية التي كانت تتناولها ( بانيشڤسكي ) دون اعتبار لكونها قد تناولت كحولاً ــ كما ظهرت في الفيلم ــ قد يكون لها تأثير على خلاياها و أعصابها ، غير أن ذلك لا يبرر سلوكها الوحشي الذي مارسته .. بما هز ليس المجتمع الأمريكي حسب ، بل المجتمعات الأخرى ، خصوصاً بعد مشاهدة هذا الفيلم . في أي مكان . فصحـّت عبارة اعلانه على غلاف الـDVD : ( أنك لن تنسى هذا الفيلم قريباً ) . حقاً هو فيلم من الصعوبة نسيانه.
يبدأ الفيلم بموسيقى طربيـّة من فترة الستينيات من القرن الماضي ، مع صوت فتاة هادئ و هي تروي الحكاية ، متحدثة ًعن مدينة الملاهي الصغيرة التي يعمل فيها الوالدان ، و تظهر الفتاتان سعيدتين ، و هما تلهوان على الأحصنة منصة فوق خشبية دوارة . و هو ذات المشهد الذي ينتهي به الفيلم ، حيث تلهو روح الضحية ( سلـڤيا ) مع ذات الحصان بعد أن تنتهي الرواية المؤلمة حقاُ في فيلم يحمل ــ في حقيقته ــ ادانة ضمنية غير معلنة لطبيعة حياة المجتمع الأمريكي ، بما يجعل عنوان الفيلم صائباً واختياره موفقاً .
خيط ٌبسيط ٌ ، و غير محسوب ، هو الذي قاد الأحداث الى هذه البشاعة ، فعندما كانت الأم و ابنتاها ( سلـڤيا ) و ( جيني ) يَهممن بدخول الكنيسة ، تواجَدَ الأبُ عند مدخلها ، مبدياً لزوجته رغبته في التحدث معها بشأن العائلة ، فتستجيب لطلبة ، طالبة ًمن الإبنتين الدخول و بالتالي استقلال حافلة الكنيسة إذا ما تأخرت عليهما في حديثها مع أبيهما . و يصادف وجود فتاتين في هذه الحافلة ، تلتفتان اليهما بلطف ، فيتحدثن حديث مجاملة عابر .. ولكن احداهما تقترح على ( سلـڤيا ) و ( جيني ) أن تذهبا معهما الى منزلهما . و اذ توافقان بخجل ، فإن خيط المأساة يبدأ من هنا . فهاتان الفتاتان ــ صاحبتا الدعوة ــ أختان لأربعة أخوة ، ترعاهم أم مدمنة على الكحول و التدخين و العقاقير الطبية ، و لديها صديق يكاد يكون بعمر ابنتها الكبرى ، و قد أنجبت منه طفلاً ، و هو بدل أن يصرف على ابنه الرضيع ، فأنه يبتزها و يسئ معاملتها باستهتار .. كأي فتى غر و طائش ( لعب دوره " جيمس فرانكو " ) . و من غير أن نعرف أين هو أب أطفالها ألأصلي ، ولكن لقطة عابرة في نشرة الأخبار التلفزيونية ــ و هي تنقل خبراً من ڤييتنام ــ قد توحي أما بأنه محارب في ڤييتنام أو أنه أحد ضحايا حربها .. فيما ابنتاها الكبريان ( ستيفاني ) و ( پاولا ) تلهوان مع صديقين . و ( پاولا ) هي سبب المأساة كلها . فصديقها متزوج ، وحملت منه ، و قد باحت ــ ذات يوم ــ بسرها لـ ( سلـڤيا ) ، و هذه لم تبح بالسر لأحد ، ولكن تلك شكـَـتْ الى أمها بأن ( سلـڤيا ) تشيع عنها أنها ( عاهرة ) و بالتالي هي حامل . انه تصرف مراهقة .. سخيف و طائش ، ولكن من هذه النقطة تبدأ ( بانيشفسكي ) بعملية الإنتقام من الصبية ، انتقام يبدأ من تعنيفها بحجة أن والدها قد تأخر في ارسال العشرين دولاراً ، ثم باتهامها بالكذب ، ثم بالسرقة ، ثم بالعهر ، و هي أباطيلٌ كلها . و بعد ضربها أمام شقيقتها ( جيني ) المتألمة الكتوم ، يتخذ الإنتقام منحى خطيراً بكـَيّ الصبية بالسجائر .. بل يتقدم خطوات أخطر الى درجة إجبار الفتاة على إدخال قنينة الكوكاكولا في فرجها ، ثم استخدام إبرة ساخنة و الكتابة على بطنها عبارة : ( أنا عاهرة .. و أفتخر بذلك ) ، و من ثم اجبارها على كتابة اعتراف بأنها كانت بحاجة الى النقود فذهبت مع بعض الشبان لتقضيَ وَطْرَهم مقابل نقود . ويتقدم الأمر خطوة أخطرحين تدعو ( بانيشفسكي ) أطفالَ الحي الى المشاركة في عملية التعذيب .. حتى ينتهي الأمر ــ أخيراً ــ بموت ( سلـڤيا ) التي قضت هذه الفترة و هي مقيدة الى عمود داخل قبو المنزل.
قصة هذا الفيلم مأخوذة من ملفات التحقيق و المحاكمة التابعة للمحكمة الجنائية الكبرى في ولاية انديانا الأمريكية . و أحسب أن المشاهد سيتفق مع المخرج و كاتب السيناريو ــ بعد المشاهدة ــ على عَنوَنة الفيلم بـ ( جريمة أمريكية ) ، لأن أحداثاً ، كهذه ، مكانها أمريكا بامتياز ، على الرغم من أنها من الممكن أن تحصل في أي بلد آخر . فأمريكا هي الي تميزت بانفتاح بالغ خرّب البـنى الإجتماعية ، بحيث باتت أمٌ كهذه أماً بلا وازع ، و الأب بلا مانع ، و البنت بلا رادع .. فماذا تبقى ؟ صحيح أن المسألة نسبية ، ولكن الحرية الشخصية المطلقة لمن يبلغ السادسة عشرة من العمر ، هي التي منحت الشابة ( جيرترود نادين ڤان فوسين ) ــ كما حصل فعلاً ــ الفرصة في أن تترك المدرسة عندما بلغت هذه السن ، فتزوجت من شاب يكبرها بعامين هو ( جون بانيشڤسكي ) و أنجبت منه أربعة أطفال ثم تطلقت منه بعد عشر سنوات و تزوجت شخصا ً آخر ، لتتطلق منه أيضا ًفتعود الى ( جون ) مرة أخرى فتنجب منه طفلين ، ثم تطلقت منه ثانية ً عام 1963 ، فانتقلت الى العيش مع ( دينيس لي رايت ) الذي يصغرها بإحدى عشرة سنة لتنجب منه طفلاً قبل أن يتركها ويختفي ، وهذه المرأة النحيلة ، التي كانت مصابة بالربو ، حملت ثلاث عشرة مرة من زيجاتها الفاشلة ، كانت بينها سبع حالات إسقاط . ومن الطبيعي أن تقودها هذه الرحلة ــ بما يلفها من ادمان و عوز مادي مزمن و سوء تربية و انفلات شخصي و عائلي ــ الى مأزق نفسي ، كانت ضحيته الصبية الوديعة ( سيلـڤيا ) .
و هنا ينطرح السؤال : لماذا كانت هذه المنحرفة تواضب على حضور قداسات الكنيسة ، مصطحبةً معها أطفالها الذين كانت شديدة العناية بهم ، اذا كانت على هذه الدرجة من القسوة و الوحشية و البشاعة الروحية ؟ هل كانت توارب مع نفسها ؟ هل كانت تريد التكفير عن آثامها التي لا يدرك أحدٌ سعتها و مداها ؟ هل كان اصطحابها لأطفالها الى الكنيسة محاولة للتعويض عن النقص التربوي الذي مرت به بسبب تلك الحرية الشخصية المطلقة التي قطعت بها دراستها و تزوجت بطيش ؟ لماذا ــ إذاً ــ لم تكتفِ لوحدها بممارسة القسوة مع ضحيتها ، بل أشركت معها أطفالها الأبرياء و حولتهم الى مجرمين وهي التي تأخذهم الى الكنيسة .. بل أشركت معهم صبيان الحي في شارع ( نيويورك ) ، حيث منزلها الذي وصفه المحامون بـ ( البالوعة ) ؟ لقد بلغ غياب المسؤولية لدى هذه المرأة درجة أنها لم تكثرث لزيارة القس لها في بيتها و إخبارها بأن ابنتها ( پاولا ) كانت قد زارته في الكنيسة و اعترفت له بأنها حامل ، مما يكذب رواية الإبنة و اتهامها للضحية ( سِلـڤيا ) باشاعة حكاية الحمل.
من الواضح أن هذه المرأة تنطوي على ماض ربما كان يتصف بالعنف الأسري ، و بالتالي فأنها هي نفسها ضحية غير معلنة .. اذا ما صح هذا الإفتراض . و في حالة كهذه ، فإن مبادئ الأخلاق معدومة لديها و مطمورة منذ فتوتها عندما انفردت بقرارها و تركت الدراسة و تزوجت ، و ما ذهابها الى الكنيسة إلا تعويض هش و غطاء وهمي . و إلا كيف يمكن لإمرأة سوية أن تتجرأ على الإتيان بفعل تـُـقدِمُ من خلاله على إطعام ( سلڤيا ) فضلاتها ، كما تبين فيما بعد من خلال شهادة شقيقتها ( جيني ) التي كانت قد قالت للشرطة : ابعدوني من هنا و سأخبركم بكل شئ ؟ .
على أية حال فقد حُكم على المجرمة بالسجن لمدة عشرين عاماً ، بعد أن رأى المُحلـَّـفون أن جريمتها هي من الدرجة الأولى ، دون أن تنفعها أكاذيبها بأنها لا تدري كيف حصل كل ذلك . فيما حُكم على ابنائها و أبناء الجيران المشاركين في الجريمة بالسجن لمدة سنتين . و في عام 1985 اُطلق سراح ( بانيشڤسكي ) و تم تغيير اسمها الى ( نادين ڤان فوسين ) ، و انتقلت الى العيش في ولاية ( أيوا ) لتموت بسرطان الرئة في 16 يونيو / حزيران عام 1990 . اما ابنتها ( پاولا ) فقد تزوجت و انتقلت الى ( أيَوا ) أيضاً بعد أن غيّرت هويتها . ( ستيڤاني ) غيّرت هويتها كذلك و أصبحت مدرّسة ً بعد أن أكملت تعليمها . الصبي ( جون ) ، الذي شارك في الجريمة و كان له من العمر اثنتاعشرة سنة ، غيّر اسمه الى ( جون بليك ) و عمل ، لاحقاً ، سائقَ شاحنة ثم اصبح وكيلاً للعقارات قبل أن يتطور مسارُهُ فيصبح وزيراً في ولاية تكساس ، ثم بعد ذلك مرشداً و مُقدّمَ نصائح لأبناء الأزواج المنفصلين.
وهذه القصة البشعة كانت قد تحولت الى رواية رعب ثم الى فيلم بعنوان ( الفتاة في المنزل المجاور ) The girl next door على يد المخرج " جاك كيچوم " . فيما حمل فيلم " تومّي أوهافر " عنواناً موفقاً مقصوداً هو : ( جريمة أمريكية )An American Crime .
ولا ندري من أين جاء المخرج بهؤلاء الأطفال باهري الأداء في تمثيلهم البارع . لقد كانوا مذهلين حقاً ، بحيث أنهم أكتسحوا ــ أمامهم في الفيلم ــ الممثلين المحترفين الكبار .
وكانت الممثلة الكندية الشابة " إيلين بيج " التي مثلت دور الضحية ( سلڤيا ) ، في مقدمة الجميع في أداء عبقري مُلفت . وهذه الممثلة المذهلة ، مولودة في ( هاليفاكس ) بكندا عام 1987 . و كانت قد ترشحت كأحسن ممثلة لجائزة الأوسكار عام 2007 ، و عمرها عشرون سنة ، عن دورها الجميل في فيلم ( جونو ) الكوميدي الرومانسي ، و الذي نالت عنه جائزة ( غولدن غلوب ) ، لتتوالى عليها العروض ، لاحقاً ، لما لمسه المخرجون من موهبة مذهلة لديها في التمثيل ، ولكن في العام 2014 أعلنت أنها ذات ميول مثلية ، فيما أعلنت عام 2020 أنها تحولت جنسياً و أصبح " إليوت " هو ( إسمه ) الجديد . أما الممثلة " هيلي ماكفرلاند " التي مثلت دور الشقيقة ( جيني ) فلم تكن لتقل مهارة في ادائها الذي بات في حسبان المخرجين فظهر لاحقاً في العديد من الأفلام و المسلسلات التلفزيونية.
إن فيلم ( جريمة أمريكية ) من الأفلام التي لا تنسى بسهولة .. فيلمٌ يترك ندبة في الذاكرة و أسى في وجدان المشاهد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
في الصورة : المجرمة الحقيقية " گريترود بانيشڤسكي " أثناء تقديمها للمحاكمة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــ
رابط الفيلم في التعليق الأول