الأنانية والايثار ، الميول الغيرية .. الميول والنزاعات
٤ - الميول الغيرية
من الميول الغيرية تبعثنا على محبة الناس ، فنجد اللذة في سعادتهم ، والالم في شقائهم . فكما يحب الانسان نفسه ، ويرغب في البقاء ونعمي العيش ، كذلك يحب أولاده وأصدقاءه ، ويضحي في سبيلهم بأعز الاشياء ، وأثمنها لديه والإنسان صديق الإنسان ، لا بل هو أخوه ، أحب أم كره . وسواء لديه أكان هذا الانسان . أصدقائه أم من اعدائه ، فإنه يحبه ويحب بلاده ، ويجب البشرية جمعاء ، ويحزن لما يحل بها من الشر ، حتى لقد ينسى مصلحته ، ويجود بنفسه في سبيل الخير العام وسعادة المجتمع . ويطلق على هذه الميول الغيرية أسم الإيثار .
لقد كان ارسطو يقول : الانسان حيوان اجتماعي . وهو مدني بالطبع ، يريد أن يعيش مع أقرانه . وهذا أمر ضروري ، لأنه لو عاش وحده منفرداً لما استطاع أن يقوم بأعباء نفسه ، فالانسان اجتماعي ، لانه مموز فقير ، لا يستطيع أن يعيش وحده ، ومن أقوال آرسطو أيضاً أن المرء لا يكون إنساناً حقيقياً ، إلا إذا عاش بين الناس ، واستعان بهم على توفير حاجاته .
من ذا الذي يريد أن تكون له خيرات الدنيا كلها شريطة أن يعيش منفرداً بعيداً عن الناس ؟ لا يستطيع أن يعيش خارج الهيئة الاجتماعية إلا الذي يرتقي إلى مرتبة الالوهية أو ينحط إلى درجة الحيوانية . فالميل إلى الاجتماع طبيعي ، وهو عام يشمل الانسان والكثير من أنواع الحيوان ، فلا تجد طفلا إلا فرحاً بمعاشرة أقرانه ، ولا رجلا إلا قوياً بمحبة إخوانه .
يتولد من الحياة الاجتماعية ميول كثيرة كالعطف والحنان والميل إلى التقليد ، وتقسم هذه الميول بوجه من القسمة إلى قسمين : الميول الفردية المشتركة ، والميول الاجتماعية الخالصة .
١ - الأنانية والايثار ( ۱ ) - ولا بد قبل البحث في هذه الميول من إظهار عناصرها وبيان نشأتها ، فهل تنحل الى الايثار أم الى الانانية .
آ - نظرية لاروشفو كولد ( ٢ )
- وهي نظرية ترجع الايثار الى الانانية ؛ لان
( لاروشفو كولد ) يعتقد أن الايثار لا حقيقة له ، وأن الاخلاص أسطورة كاذبة ، وأن الإنسان لا يحب إلا نفسه ، ولا يفكر إلا في منفعته الخاصة . وقد جمع نظريته في قوله : الفضيلة تضيع في المنفعة كما تضيع الانهار في البحار ، وفي كتاب الحكم Maximes كثير من الأقوال الدالة على أن الانانية هي الغريزة الأساسية التي ترتكز عليها جميع نزعاتنا .
قال لاروشفو كولد : ( الانسان لا يهدأ أبداً ولا يقبل على الناس إلا كما يقبل النحل على الزهر ليمتص منه ما يحتاج اليه . وأنى لنا تصور ما يتصف به من المرونة . إن تبدله يفوق كل استحالة سريعة ، ولطافته تفوق دقة الكيمياء ، وهو موجود في كل مواقف الحياة ، و في جميع المنازل والحالات ، يعيش في كل مكان ، ويعيش من كل شيء ، ويعيش من لاشيء . ويألف جميع الأشياء ، ويتعود فقدانها ، وينحاز إلى حزب الذين يحاربونه ، فيشاركهم في خططهم . واعجب من ذلك كله أنه يعمل على هدم . ذاته ويبغض نفسه ، ويتآمر ملاكها . وقد يصبح عدو نفسه ، ولكن شريطة أن يبقى ، لانه لا يهتم إلا بالبقاء . فلا عجب إذا انضم في بعض الأحيان إلى السلطة الغاشمة ، وتجرأ على الانتساب إلى بعض الجماعات ليهدم نفسه ، لأنه لا يهدم في محل الا ليبني في آخر . وإذا ظن انه يعرض عن لذته ، فهو لا يهملها إلا ليستبدل بها غيرها . وقد يغلب ، وتظن انك تخلصت تجده يظفر في مخصص هزيمته ) .
يتصل رأي ( لاروشفو كولد ) هذا بآراء الفلاسفة النفعيين الذين يقولون : إن الإنسان مجبول على الشر ، وانه لا يحب إلا نفسه ، حق لقد قال ( هوبس ) : الإنسان ذئب على أخيه الانسان ( Homo Homini Lupus ) ، وقال ( هلفيسيوس ) ( ۲ ) إذا كان العالم المادي خاضعاً لقوانين الحركة ، فالعالم الأدبي خاضع لقوانين المنفعة .
ولم يزد ( لارو شنو كولد ) على ذلك شيئاً ، إلا أنه خبر الفضائل فوجدها تنحل كلها إلى المنفعة الشخصية والأنانية ، فليست الصداقة الخالصة في زعمه إلا تجارة رابحة تكسبنا قوة وانصاراً ، ولولا خوف الناس من الظلم ما أحبوا العدالة ، ولولا رغبتهم في أن يمدحوا مرتين لما رفضوا المديح الأول . ولولا اشفاقهم على أنفسهم من الوقوع في المصائب لما أشفقوا على غيرهم ، ولا رحموا أحداً . والاعتراف بالجميل دليل على الرغبة في أرضاء المحسن للحصول على أكثر مما جاد به ، والقناعة في الحياة كالإعتدال في الطعام ، يريد الإنسان أن يكثر من الأكل ، ولكنه يخشى أن يضر نفسه .
ينتج من هذا التحليل ان ( لاروشفو كولد ) لا يقتصر على القول بندرة الفضائل الحقيقية ، بل ينكر وجودها تماماً . فما هي قيمة نظريته ؟
مناقشة نظرية لاروشفو كولد .
- ربما كان الباعث الأول على هذه النظرية ما شاهده ( لاروشفو كولد ) في زمانه من الفضائل المزيفة ، ولكن الفضائل الحقيقية لا تقل انتشاراً عن الرذائل ، ونريد الآن أن نذكر في الرد على نظرية ( لاروشفو كولد ) بعض الاعتراضات التي تكدر عليه اعتقاده .
١ - لا يمكننا أن نبطل نظرية ( لاروشفو كولد ) بقولنا ان في الحياة أمثلة كثيرة تدل على الفضائل الحقيقية . ان هذا القول لا يقطع مظان الاشتباه ، لأن ( لاروشفو كولد ) يستطيع أن يجد وراء كل فضيلة خالصة باعثاً نفسياً ، وعنصراً مزيفاً . كمثل الراهبة الممرضة التي تعرض نفسها للامراض المعدية ، فهي لا تفكر إلا في ثواب الآخرة . و كمثل الجندي الباسل الذي يبعثه حب بلاده على الاستشهاد في سبيلها ، فهو لا يفكر إلا في المجد والبطولة ، وكالكريم الذي يظعم الجياع ، ويعول البؤساء ، ويأوى لليتامى ، فهو لا يفكر إلا في الشرف والسمعة الحسنة . وإذا قيل أن الرجل يلقي بنفسه في الماء حبا بانقاذ غريق قال ( لاروشفو كولد ) ان هذا الرجل لا يفكر إلا في اشتهار اسمه ، وذيوع صيته ، فإذا أثبتنا ان هذا الرجل لم يفكر بنفع ، ولا بصيت ، ولا بصلة ، بل ألقى بنفسه في الماء ، بدافع نفسي مجرد ، قال انه لا يستطيع أن يرى الفريق ولا ينقذه ، ولو فعل ذلك لأنبه ضميره ، فهو إذن قد أنقذ الفريق بدافع شخصي ، لا بدافع مجرد .
٢ - لا شك إن الطريقة التي سار عليها ( لاروشفو كولد ) طريقة فاسدة ؛ لأنه لا يبحث عن حقيقة ما تنطوي عليه النفس خلال فعل الخير ، بل يذكر ما يتصوره هو نفسه من البواعث الأنانية المحركة . فإذا قيل له : ان هذا الرجل قد ألقى بنفسه في النار لينقذ طفلا ، قال : لو لم يفكر في الشهرة لما فعل ذلك ، فهو إذن حاسب ماهر . ولو قيل له : ان
الأم تحب طفلها محبة خالصة ، لقال : إنها تفكر في النفع الذي سيعود عليها منه في المستقبل ، فهي إذن تزرع لتحصد ، ولولا ذلك لما حرمت نفسها الراحة ، في سبيل إسعاده . ونحن نقول ان هذا الحساب ممكن الوقوع ، ولو كنا نبحث في الامكان لما خالفنا لاروشفو كولد في شيء ، ولكننا لا نبحث في ما يمكن وجوده ، بل نبحث في ما هو موجود بالفعل . فطريقة لاروشفو كولد إذن فاسدة ، لأنها تقتصر على البحث في امكان حصول الحساب النفعي في نفس فاعل الخير ، مع انه كان ينبغي لها البحث في حصول هذا الحساب بالفعل .
٣ - وهذا الحساب النفعي لا يدخل في كل فضيلة ، لأن علم النفس يثبت لنا ان هناك أفعالاً تلقائية غريزية لا أثر للتأمل والارادة فيها ، وكما يوجد في أفعال الانسان التلقائية انه ما ينطوي على الشر ، فكذلك يوجد فيها ما يدل على الخير . ومع أن يكون الفكر مبدأ العمل . فإن أكثر أفعال الانسان تلقائية وطبيعية تنشأ عن الغريزة تارة ، وعن العادة أخرى ، وهذه الأفعال التلقائية الناشئة عن الغريزة أو العادة لا تخلو من عناصر الخير ، فمنها الميل الطبيعي إلى العدالة ، وهو منتشر في الأطفال ، ومنها ميول الام المتصلة بغريزة الامومة ، ومنها الميل إلى الاجتماع بالناس ، والحاجة إلى الاصدقاء . نعم ان الانانية قد تلابس الكثير من الميول ، ولكن ليس في وسع كل انسان أن يكون أنانياً .
٤ - ثم إن في نظرية ( لاروشفو كولد ( هذه تناقضاً داخلياً ، لأنها تعترف بوجود الفضائل المزيفة . ولكن لولا وجود الفضائل الحقيقية لما أمكن التزييف ؛ إن النقود لا تزيف في بلد إلا إذا كانت رائجة فيه . ومع ان ( لاروشفو كولد ينكر وجود الفضائل الحقيقية ، فانك تجده يذعن إلى القول بها عند بحثه في الرياء ، لانه يقول : « الرياء دليل على احترام الرذيلة للفضيلة ) . وفي الحق لولا وجود الفضائل الحقيقية لما وجد الرياء ، لأن الذي يضمر لي العداوة لا يستطيع أن يخدعني باظهار الصداقة لي إذا كنت لا أشعر بوجود الصداقة الحقيقية . والذي يتظاهر بالاعتراف بالجميل لا يستطيع أن يخدع من أحسن اليه إذا كان هذا المحسن يعتقد ان الاعتراف بالجميل كذب ورياء . فالرياء إذن دليل صادق على وجود الفضائل الحقيقية .
ه - ونقول أيضاً إن ضلال هذه النظرية ناشيء عن عدم تحديد معنى المنفعة . فلفظ المنفعة يدل أولاً على المنفعة الحيوية ، وهي كل ما ينفع الجسم ويسكن شهواته ، ويرضي نزعاته . فإذا كان ( لاروشفو كولد ) يطلق لفظ المنفعة على هذه المنفعة الحيوية كانت نظريته صحيحة ، لانه لا يعقل ان يفعل الانسان أمراً لا علاقة له بنزعاته الحيوية . وقد قلنا ان هذه النزعات لا تنطوي جميعها على الشر . ويدل لفظ المنفعة ثانياً على حب الذات والأنانية . وهذا المعنى الأخير هو الذي أخذ به ) لاروشفو كولد ) . ولكن نظريته غير صادقة بالنسبة اليه ، لانه لا يعقل ان تكون جميع أفعال الانسان ناشئة عن حساب نفعي ، وقد بينا آنها ان كثيراً من أفعال الأنسان الطبيعية أفعال تلقائية لا أثر للحساب فيها ،
ب : - نظرية سبنسر :
- وهي نظرية المتأخرين من الفلاسفة النفعيين ( كجيمس ميل ) و ( ستوارت ميل ) وغيرهما - وهم لا ينكرون وجود العواطف الغيرية بل يقولون إنها مشتقة في الأصل من الأنانية ، فالأنانية عندهم هي العاطفة الأساسية ، والتطور الاجتماعي هو الذي يبعث على تولد الايثار من الاثرة ، والأنانية من الغيرية .
يرجع القول بهذه النظرية إلى ( سبينوزا ) ( ۱ ) الذي زعم ان الإنانية تبعث الانسان على تفضيل الاجتماع على الوحدة والعزلة . قال : ان منفعة الاجتماع أكثر من مضرته ، فالناس يجتمعون لأن لهم في الاجتماع منفعة ، ولأن تعاونهم يساعدهم على توفير حاجاتهم ، واتقاء المهالك التي تهددهم . والمرء كثير بأخيه قليل بنفسه ، يجب أخوانه لانهم كما قيل زينة في الرخاء ، وعدة في البلاء ، ومعونة على الاعداء . والحياة الاجتماعية تقتضي الاخلاص والتعاون والمحبة . فالناس قد أرادوا الحياة الاجتماعية أولاً بدافع الأنانية ، إلا ان الاجتماع ولد في نفوسهم بعد ذلك عادة الصداقة والمحبة ، فصار المرء يحب أخاه لذاته بعد ان كان يحبه لمنفعته ، وهذا شبيه بالابدال النفسي الذي يحصل في ذهن البخيل . لان البخيل يحب المال أولاً المنفعته ، ثم يحبه بعد ذلك بحكم العادة لذاته ، وهذا يصدق على جميع الناس ، لأن المرء يحب أخاه أولاً للانتفاع به ، ثم يحبه بعد ذلك لذاته .
مناقشة نظرية سبنسر :
- لا نستطيع الأخذ بهذه النظرية للاسباب التالية :
ان المبدأ الذي تقرره هذه النظرية دون انتقاد ، وتستند اليه دون مناقشة ، هو القول ان الانانية عاطفة أولية ، وانك كلما هبطت في الحياة الاجتماعية من طور أعلى إلى طور أدنى وجدت الانانية أشد وأقوى . والانانية في عالم الحيوان أشد منها في عالم الانسان ، وظهور العواطف الغيرية لم يتم الا بالقهر الاجتماعي ، والتنازع ، وبما تقتضيه الحرب من التضحية وانكار الذات ، هكذا تولدت العواطف ( الغيرية - الانانية ) من العواطف الانانية ، ثم تولدت العواطف الغيرية من العواطف ( الغيرية - الأنانية ) . وهذا الرأي موافق لنظرية ( داروين ) لانه يعتقد ان تطور الأنواع الحيوانية ناشيء عن تنازع البقاء ، والمحرك الأساسي لهذا التنازع هو الانانية . فالأنانية إذن من الأوليات النفسية ، ولو كان الانسان الابتدائي غير لذاته لما استطاع أن ينازع الحيوانات الاخرى في قوته الضروري . فالعواطف الغيرية تصلح اذن في نظرهم الحياة الحضارة لالحياة البداوة . وهي من الامور الكمالية ، لا من الامور الحاجية .
ونقول في مناقشة هذه النظرية أنها مخالفة للعقل والتجربة معاً .
۱ - فهي مخالفة للعقل ، لأن العقل يبين لنا انه ليس في وسع الطفل والرجل الابتدائي أن يكونا أنانيين . الانانية تقتضي شعوراً تاماً بالشخصية ، كما تقتضي قوة تأمل كافية للتفريق بين الأنا واللا أنا . وهذا الشعور بالشخصية غير موجود لدى الطفل . نعم ان حركات الطفل الأولى تدل على تفضيله منفعته على منفعة غيره ، ولكن هذه الحركات ناشئة عن غريزة حفظ البقاء لا عن الانانية الواعية .
وقد أثبت العلماء أن الشعور بالشخصية يتكون عند الطفل بالتدريج ، فهو يبدأ أولاً بفصل جسده عن العالم الخارجي ، ثم يفوق بعد ذلك بين الاشخاص والأشياء . ثم يميل بالطبع إلى تقليد الآخرين والنسج على منوالهم ( ۱ ) . والتقليد أول صورة من صور المطف والمحبة . وكذلك الانسان الابتدائي فهو لا يشعر بشخصيته شعوراً واضحاً ، ولا يفرق بين منفعته ومنفعة قبيلته . وقد انتقد ( دور كهايم ) ( ۲ ) طريقة علماء التطور فقال : إن الانسان الابتدائى لم يكن شاعراً بشخصيته ، بل كان مصهور النفس في البيئة الاجتماعية .
ولو كان للفرد شخصية في تلك المجتمعات الابتدائية لكان له شأن فيها ، إلا أنه كان فاقد الشخصية ، فلم تكن الهيئة الاجتماعية بحاجة إلى قهره ولا إلى التضييق عليه .
٢ - وهي مخالفة للتجربة ، لأن التجربة تبين لنا أن تنازع البقاء لا ينفرد بالتأثير في تبدل الكائنات وارتقائها من طور إلى آخر ، فكما يوجد بين الكائنات الحية تنازع في سبيل البقاء كذلك يوجد بينها تعاون متبادل . وقد جمع ) كروبوتكين Kropotkine ) في كتاب التعاون ) Entr ' aide ) كثيراً من الأمثلة الدالة على ذلك في عالم الحيوان وعالم الإنسان . وإذا استقصيت الواقعات وجدت أن التعاون ظاهرة عامة لا ينفرد بها الرجل المتحضر ، بل كثيراً ما تجدها في عالم البداوة وعالم الحيوان . حتى لقد قال العلماء أن مبدأ ( داروين ( لا يدل إلا على نصف الحقيقة . وإذا ارتقيت من طور البداوة إلى طور الحضارة انقلب التضامن الميكانيكي إلى تضامن عضوي ، وصار الفرد رد أشد شعوراً باستقلاله لنمو شخصيته ووفرة الوسائل التي تفي بحاجاته .
قال ( كروبوتكين ) : « لقد انحلت روابط التعاون الدائم بين سكان طريق واحد أو . حي واحد في النظام الاجتماعي الحاضر . فالناس يعيشون في الأحياء الغنية من المدن الكبيرة من غير أن يعرفوا أقرب جيرانهم . أما في الطرق الآهلة بالفقراء فإنهم يتعارفون جيداً ، ويتصلون دائماً بعضهم ببعض . ولو نظرنا إلى أولاد حي فقير وهم يلعبون معا في طريق أو مقبرة أو مرج ، لرأينا مباشرة أن بينهم اتصالاً وثيقاً بالرغم من المنازعات العارضة ) ( ۱ ) . ولولا تعاون الفقراء لما استطاعوا التغلب على شظف العيش ، إنهم يتهادون الأطعمة ، ويتعاورون الأدوات والألبسة ، ويخدم بعضهم بعضاً ، في حين أن الأغنياء لا يعرف واحدهم صاحبه . فكأنه لا فرق بين أموال الفقراء ، وكأن حياتهم المشتركة حياة شخص واحد .
٣ - ونقول أيضاً : ان حياة الجسد غير كافية لبيان حقيقة الشعور الفردي ، لأن الإنسان موجود اجتماعي ، ولأن الحياة الاجتماعية تقتضي وجود الغيرية ، وحب الغير لم يتولد من الاجتماع بل هو سابق له ، وهو طبيعي في الإنسان ، فلو كانت أنانية الإنسان الإبتدائي مطلقة ، لما حرم نفسه التمتع بالحرية في سبيل منافع بعيدة قد يصعب عليه تحقيقها . إلا أن الإنسان اجتماعي بالطبع ، والغيرية لازمة له بالذات لا بالعرض .
قال دور كهايم : ( حيثما يظهر الاجتماع تظهر الغيرية ، لحاجة الاجتماع إلى التصامن ، ولذلك نجد الغيرية في أوائل البشرية زائدة على حد الإعتدال ، فحرمان المتوحش نفسه بعض الأشياء في سبيل الخضوع للتقاليد الدينية ، وتضحيته بنفسه استجابة لنداء الهيئة الاجتماعية ، واقدام الأرملة الهندية على الإنتحار بعد وفاة زوجها ، ورغبة ( الغالي ) في الموت بعد هلاك سيده ، وجود ( السلتي ) بنفسه في سبيل انقاذ رفاقه العاجزين عن الحرب ؛ أفلا يدل ذلك كله على الغيرية والايثار ؟ إن هذه الأفعال ليست من الأفعال الوهمية الباطلة ، وإنما هي من الأمور الواقعية التي تثبت أن الإنسان قادر على البذل والجود . فلا ينبغي أن يقال إذن أن الغيرية قد تولدت من الأنانية ، لأن هذا الاشتقاق لا يمكن أن يتم إلا بإبداع من العدم . والحق أن هذين المحركين للسلوك الإنساني موجودان منذ القدم في جميع النفوس البشرية .
فأنت ترى أن الغيرية لم تتولد من الأنانية لأن نفس الرجل الإبتدائي لا تنطوي على المشاعر النفعية فحسب ، بل تنطوي على كثير من المشاعر الغيرية . ونريد الآن أن نأتي ببعض الأمثلة التي تبين لنا أن في الطبيعة البشرية ميولاً غيرية لم تتولد من الأنانية . فمن هذه الميول : العطف والرأفة ، وغريزة الأمومة ، وغريزة الاجتماع .
٤ - الميول الغيرية
من الميول الغيرية تبعثنا على محبة الناس ، فنجد اللذة في سعادتهم ، والالم في شقائهم . فكما يحب الانسان نفسه ، ويرغب في البقاء ونعمي العيش ، كذلك يحب أولاده وأصدقاءه ، ويضحي في سبيلهم بأعز الاشياء ، وأثمنها لديه والإنسان صديق الإنسان ، لا بل هو أخوه ، أحب أم كره . وسواء لديه أكان هذا الانسان . أصدقائه أم من اعدائه ، فإنه يحبه ويحب بلاده ، ويجب البشرية جمعاء ، ويحزن لما يحل بها من الشر ، حتى لقد ينسى مصلحته ، ويجود بنفسه في سبيل الخير العام وسعادة المجتمع . ويطلق على هذه الميول الغيرية أسم الإيثار .
لقد كان ارسطو يقول : الانسان حيوان اجتماعي . وهو مدني بالطبع ، يريد أن يعيش مع أقرانه . وهذا أمر ضروري ، لأنه لو عاش وحده منفرداً لما استطاع أن يقوم بأعباء نفسه ، فالانسان اجتماعي ، لانه مموز فقير ، لا يستطيع أن يعيش وحده ، ومن أقوال آرسطو أيضاً أن المرء لا يكون إنساناً حقيقياً ، إلا إذا عاش بين الناس ، واستعان بهم على توفير حاجاته .
من ذا الذي يريد أن تكون له خيرات الدنيا كلها شريطة أن يعيش منفرداً بعيداً عن الناس ؟ لا يستطيع أن يعيش خارج الهيئة الاجتماعية إلا الذي يرتقي إلى مرتبة الالوهية أو ينحط إلى درجة الحيوانية . فالميل إلى الاجتماع طبيعي ، وهو عام يشمل الانسان والكثير من أنواع الحيوان ، فلا تجد طفلا إلا فرحاً بمعاشرة أقرانه ، ولا رجلا إلا قوياً بمحبة إخوانه .
يتولد من الحياة الاجتماعية ميول كثيرة كالعطف والحنان والميل إلى التقليد ، وتقسم هذه الميول بوجه من القسمة إلى قسمين : الميول الفردية المشتركة ، والميول الاجتماعية الخالصة .
١ - الأنانية والايثار ( ۱ ) - ولا بد قبل البحث في هذه الميول من إظهار عناصرها وبيان نشأتها ، فهل تنحل الى الايثار أم الى الانانية .
آ - نظرية لاروشفو كولد ( ٢ )
- وهي نظرية ترجع الايثار الى الانانية ؛ لان
( لاروشفو كولد ) يعتقد أن الايثار لا حقيقة له ، وأن الاخلاص أسطورة كاذبة ، وأن الإنسان لا يحب إلا نفسه ، ولا يفكر إلا في منفعته الخاصة . وقد جمع نظريته في قوله : الفضيلة تضيع في المنفعة كما تضيع الانهار في البحار ، وفي كتاب الحكم Maximes كثير من الأقوال الدالة على أن الانانية هي الغريزة الأساسية التي ترتكز عليها جميع نزعاتنا .
قال لاروشفو كولد : ( الانسان لا يهدأ أبداً ولا يقبل على الناس إلا كما يقبل النحل على الزهر ليمتص منه ما يحتاج اليه . وأنى لنا تصور ما يتصف به من المرونة . إن تبدله يفوق كل استحالة سريعة ، ولطافته تفوق دقة الكيمياء ، وهو موجود في كل مواقف الحياة ، و في جميع المنازل والحالات ، يعيش في كل مكان ، ويعيش من كل شيء ، ويعيش من لاشيء . ويألف جميع الأشياء ، ويتعود فقدانها ، وينحاز إلى حزب الذين يحاربونه ، فيشاركهم في خططهم . واعجب من ذلك كله أنه يعمل على هدم . ذاته ويبغض نفسه ، ويتآمر ملاكها . وقد يصبح عدو نفسه ، ولكن شريطة أن يبقى ، لانه لا يهتم إلا بالبقاء . فلا عجب إذا انضم في بعض الأحيان إلى السلطة الغاشمة ، وتجرأ على الانتساب إلى بعض الجماعات ليهدم نفسه ، لأنه لا يهدم في محل الا ليبني في آخر . وإذا ظن انه يعرض عن لذته ، فهو لا يهملها إلا ليستبدل بها غيرها . وقد يغلب ، وتظن انك تخلصت تجده يظفر في مخصص هزيمته ) .
يتصل رأي ( لاروشفو كولد ) هذا بآراء الفلاسفة النفعيين الذين يقولون : إن الإنسان مجبول على الشر ، وانه لا يحب إلا نفسه ، حق لقد قال ( هوبس ) : الإنسان ذئب على أخيه الانسان ( Homo Homini Lupus ) ، وقال ( هلفيسيوس ) ( ۲ ) إذا كان العالم المادي خاضعاً لقوانين الحركة ، فالعالم الأدبي خاضع لقوانين المنفعة .
ولم يزد ( لارو شنو كولد ) على ذلك شيئاً ، إلا أنه خبر الفضائل فوجدها تنحل كلها إلى المنفعة الشخصية والأنانية ، فليست الصداقة الخالصة في زعمه إلا تجارة رابحة تكسبنا قوة وانصاراً ، ولولا خوف الناس من الظلم ما أحبوا العدالة ، ولولا رغبتهم في أن يمدحوا مرتين لما رفضوا المديح الأول . ولولا اشفاقهم على أنفسهم من الوقوع في المصائب لما أشفقوا على غيرهم ، ولا رحموا أحداً . والاعتراف بالجميل دليل على الرغبة في أرضاء المحسن للحصول على أكثر مما جاد به ، والقناعة في الحياة كالإعتدال في الطعام ، يريد الإنسان أن يكثر من الأكل ، ولكنه يخشى أن يضر نفسه .
ينتج من هذا التحليل ان ( لاروشفو كولد ) لا يقتصر على القول بندرة الفضائل الحقيقية ، بل ينكر وجودها تماماً . فما هي قيمة نظريته ؟
مناقشة نظرية لاروشفو كولد .
- ربما كان الباعث الأول على هذه النظرية ما شاهده ( لاروشفو كولد ) في زمانه من الفضائل المزيفة ، ولكن الفضائل الحقيقية لا تقل انتشاراً عن الرذائل ، ونريد الآن أن نذكر في الرد على نظرية ( لاروشفو كولد ) بعض الاعتراضات التي تكدر عليه اعتقاده .
١ - لا يمكننا أن نبطل نظرية ( لاروشفو كولد ) بقولنا ان في الحياة أمثلة كثيرة تدل على الفضائل الحقيقية . ان هذا القول لا يقطع مظان الاشتباه ، لأن ( لاروشفو كولد ) يستطيع أن يجد وراء كل فضيلة خالصة باعثاً نفسياً ، وعنصراً مزيفاً . كمثل الراهبة الممرضة التي تعرض نفسها للامراض المعدية ، فهي لا تفكر إلا في ثواب الآخرة . و كمثل الجندي الباسل الذي يبعثه حب بلاده على الاستشهاد في سبيلها ، فهو لا يفكر إلا في المجد والبطولة ، وكالكريم الذي يظعم الجياع ، ويعول البؤساء ، ويأوى لليتامى ، فهو لا يفكر إلا في الشرف والسمعة الحسنة . وإذا قيل أن الرجل يلقي بنفسه في الماء حبا بانقاذ غريق قال ( لاروشفو كولد ) ان هذا الرجل لا يفكر إلا في اشتهار اسمه ، وذيوع صيته ، فإذا أثبتنا ان هذا الرجل لم يفكر بنفع ، ولا بصيت ، ولا بصلة ، بل ألقى بنفسه في الماء ، بدافع نفسي مجرد ، قال انه لا يستطيع أن يرى الفريق ولا ينقذه ، ولو فعل ذلك لأنبه ضميره ، فهو إذن قد أنقذ الفريق بدافع شخصي ، لا بدافع مجرد .
٢ - لا شك إن الطريقة التي سار عليها ( لاروشفو كولد ) طريقة فاسدة ؛ لأنه لا يبحث عن حقيقة ما تنطوي عليه النفس خلال فعل الخير ، بل يذكر ما يتصوره هو نفسه من البواعث الأنانية المحركة . فإذا قيل له : ان هذا الرجل قد ألقى بنفسه في النار لينقذ طفلا ، قال : لو لم يفكر في الشهرة لما فعل ذلك ، فهو إذن حاسب ماهر . ولو قيل له : ان
الأم تحب طفلها محبة خالصة ، لقال : إنها تفكر في النفع الذي سيعود عليها منه في المستقبل ، فهي إذن تزرع لتحصد ، ولولا ذلك لما حرمت نفسها الراحة ، في سبيل إسعاده . ونحن نقول ان هذا الحساب ممكن الوقوع ، ولو كنا نبحث في الامكان لما خالفنا لاروشفو كولد في شيء ، ولكننا لا نبحث في ما يمكن وجوده ، بل نبحث في ما هو موجود بالفعل . فطريقة لاروشفو كولد إذن فاسدة ، لأنها تقتصر على البحث في امكان حصول الحساب النفعي في نفس فاعل الخير ، مع انه كان ينبغي لها البحث في حصول هذا الحساب بالفعل .
٣ - وهذا الحساب النفعي لا يدخل في كل فضيلة ، لأن علم النفس يثبت لنا ان هناك أفعالاً تلقائية غريزية لا أثر للتأمل والارادة فيها ، وكما يوجد في أفعال الانسان التلقائية انه ما ينطوي على الشر ، فكذلك يوجد فيها ما يدل على الخير . ومع أن يكون الفكر مبدأ العمل . فإن أكثر أفعال الانسان تلقائية وطبيعية تنشأ عن الغريزة تارة ، وعن العادة أخرى ، وهذه الأفعال التلقائية الناشئة عن الغريزة أو العادة لا تخلو من عناصر الخير ، فمنها الميل الطبيعي إلى العدالة ، وهو منتشر في الأطفال ، ومنها ميول الام المتصلة بغريزة الامومة ، ومنها الميل إلى الاجتماع بالناس ، والحاجة إلى الاصدقاء . نعم ان الانانية قد تلابس الكثير من الميول ، ولكن ليس في وسع كل انسان أن يكون أنانياً .
٤ - ثم إن في نظرية ( لاروشفو كولد ( هذه تناقضاً داخلياً ، لأنها تعترف بوجود الفضائل المزيفة . ولكن لولا وجود الفضائل الحقيقية لما أمكن التزييف ؛ إن النقود لا تزيف في بلد إلا إذا كانت رائجة فيه . ومع ان ( لاروشفو كولد ينكر وجود الفضائل الحقيقية ، فانك تجده يذعن إلى القول بها عند بحثه في الرياء ، لانه يقول : « الرياء دليل على احترام الرذيلة للفضيلة ) . وفي الحق لولا وجود الفضائل الحقيقية لما وجد الرياء ، لأن الذي يضمر لي العداوة لا يستطيع أن يخدعني باظهار الصداقة لي إذا كنت لا أشعر بوجود الصداقة الحقيقية . والذي يتظاهر بالاعتراف بالجميل لا يستطيع أن يخدع من أحسن اليه إذا كان هذا المحسن يعتقد ان الاعتراف بالجميل كذب ورياء . فالرياء إذن دليل صادق على وجود الفضائل الحقيقية .
ه - ونقول أيضاً إن ضلال هذه النظرية ناشيء عن عدم تحديد معنى المنفعة . فلفظ المنفعة يدل أولاً على المنفعة الحيوية ، وهي كل ما ينفع الجسم ويسكن شهواته ، ويرضي نزعاته . فإذا كان ( لاروشفو كولد ) يطلق لفظ المنفعة على هذه المنفعة الحيوية كانت نظريته صحيحة ، لانه لا يعقل ان يفعل الانسان أمراً لا علاقة له بنزعاته الحيوية . وقد قلنا ان هذه النزعات لا تنطوي جميعها على الشر . ويدل لفظ المنفعة ثانياً على حب الذات والأنانية . وهذا المعنى الأخير هو الذي أخذ به ) لاروشفو كولد ) . ولكن نظريته غير صادقة بالنسبة اليه ، لانه لا يعقل ان تكون جميع أفعال الانسان ناشئة عن حساب نفعي ، وقد بينا آنها ان كثيراً من أفعال الأنسان الطبيعية أفعال تلقائية لا أثر للحساب فيها ،
ب : - نظرية سبنسر :
- وهي نظرية المتأخرين من الفلاسفة النفعيين ( كجيمس ميل ) و ( ستوارت ميل ) وغيرهما - وهم لا ينكرون وجود العواطف الغيرية بل يقولون إنها مشتقة في الأصل من الأنانية ، فالأنانية عندهم هي العاطفة الأساسية ، والتطور الاجتماعي هو الذي يبعث على تولد الايثار من الاثرة ، والأنانية من الغيرية .
يرجع القول بهذه النظرية إلى ( سبينوزا ) ( ۱ ) الذي زعم ان الإنانية تبعث الانسان على تفضيل الاجتماع على الوحدة والعزلة . قال : ان منفعة الاجتماع أكثر من مضرته ، فالناس يجتمعون لأن لهم في الاجتماع منفعة ، ولأن تعاونهم يساعدهم على توفير حاجاتهم ، واتقاء المهالك التي تهددهم . والمرء كثير بأخيه قليل بنفسه ، يجب أخوانه لانهم كما قيل زينة في الرخاء ، وعدة في البلاء ، ومعونة على الاعداء . والحياة الاجتماعية تقتضي الاخلاص والتعاون والمحبة . فالناس قد أرادوا الحياة الاجتماعية أولاً بدافع الأنانية ، إلا ان الاجتماع ولد في نفوسهم بعد ذلك عادة الصداقة والمحبة ، فصار المرء يحب أخاه لذاته بعد ان كان يحبه لمنفعته ، وهذا شبيه بالابدال النفسي الذي يحصل في ذهن البخيل . لان البخيل يحب المال أولاً المنفعته ، ثم يحبه بعد ذلك بحكم العادة لذاته ، وهذا يصدق على جميع الناس ، لأن المرء يحب أخاه أولاً للانتفاع به ، ثم يحبه بعد ذلك لذاته .
مناقشة نظرية سبنسر :
- لا نستطيع الأخذ بهذه النظرية للاسباب التالية :
ان المبدأ الذي تقرره هذه النظرية دون انتقاد ، وتستند اليه دون مناقشة ، هو القول ان الانانية عاطفة أولية ، وانك كلما هبطت في الحياة الاجتماعية من طور أعلى إلى طور أدنى وجدت الانانية أشد وأقوى . والانانية في عالم الحيوان أشد منها في عالم الانسان ، وظهور العواطف الغيرية لم يتم الا بالقهر الاجتماعي ، والتنازع ، وبما تقتضيه الحرب من التضحية وانكار الذات ، هكذا تولدت العواطف ( الغيرية - الانانية ) من العواطف الانانية ، ثم تولدت العواطف الغيرية من العواطف ( الغيرية - الأنانية ) . وهذا الرأي موافق لنظرية ( داروين ) لانه يعتقد ان تطور الأنواع الحيوانية ناشيء عن تنازع البقاء ، والمحرك الأساسي لهذا التنازع هو الانانية . فالأنانية إذن من الأوليات النفسية ، ولو كان الانسان الابتدائي غير لذاته لما استطاع أن ينازع الحيوانات الاخرى في قوته الضروري . فالعواطف الغيرية تصلح اذن في نظرهم الحياة الحضارة لالحياة البداوة . وهي من الامور الكمالية ، لا من الامور الحاجية .
ونقول في مناقشة هذه النظرية أنها مخالفة للعقل والتجربة معاً .
۱ - فهي مخالفة للعقل ، لأن العقل يبين لنا انه ليس في وسع الطفل والرجل الابتدائي أن يكونا أنانيين . الانانية تقتضي شعوراً تاماً بالشخصية ، كما تقتضي قوة تأمل كافية للتفريق بين الأنا واللا أنا . وهذا الشعور بالشخصية غير موجود لدى الطفل . نعم ان حركات الطفل الأولى تدل على تفضيله منفعته على منفعة غيره ، ولكن هذه الحركات ناشئة عن غريزة حفظ البقاء لا عن الانانية الواعية .
وقد أثبت العلماء أن الشعور بالشخصية يتكون عند الطفل بالتدريج ، فهو يبدأ أولاً بفصل جسده عن العالم الخارجي ، ثم يفوق بعد ذلك بين الاشخاص والأشياء . ثم يميل بالطبع إلى تقليد الآخرين والنسج على منوالهم ( ۱ ) . والتقليد أول صورة من صور المطف والمحبة . وكذلك الانسان الابتدائي فهو لا يشعر بشخصيته شعوراً واضحاً ، ولا يفرق بين منفعته ومنفعة قبيلته . وقد انتقد ( دور كهايم ) ( ۲ ) طريقة علماء التطور فقال : إن الانسان الابتدائى لم يكن شاعراً بشخصيته ، بل كان مصهور النفس في البيئة الاجتماعية .
ولو كان للفرد شخصية في تلك المجتمعات الابتدائية لكان له شأن فيها ، إلا أنه كان فاقد الشخصية ، فلم تكن الهيئة الاجتماعية بحاجة إلى قهره ولا إلى التضييق عليه .
٢ - وهي مخالفة للتجربة ، لأن التجربة تبين لنا أن تنازع البقاء لا ينفرد بالتأثير في تبدل الكائنات وارتقائها من طور إلى آخر ، فكما يوجد بين الكائنات الحية تنازع في سبيل البقاء كذلك يوجد بينها تعاون متبادل . وقد جمع ) كروبوتكين Kropotkine ) في كتاب التعاون ) Entr ' aide ) كثيراً من الأمثلة الدالة على ذلك في عالم الحيوان وعالم الإنسان . وإذا استقصيت الواقعات وجدت أن التعاون ظاهرة عامة لا ينفرد بها الرجل المتحضر ، بل كثيراً ما تجدها في عالم البداوة وعالم الحيوان . حتى لقد قال العلماء أن مبدأ ( داروين ( لا يدل إلا على نصف الحقيقة . وإذا ارتقيت من طور البداوة إلى طور الحضارة انقلب التضامن الميكانيكي إلى تضامن عضوي ، وصار الفرد رد أشد شعوراً باستقلاله لنمو شخصيته ووفرة الوسائل التي تفي بحاجاته .
قال ( كروبوتكين ) : « لقد انحلت روابط التعاون الدائم بين سكان طريق واحد أو . حي واحد في النظام الاجتماعي الحاضر . فالناس يعيشون في الأحياء الغنية من المدن الكبيرة من غير أن يعرفوا أقرب جيرانهم . أما في الطرق الآهلة بالفقراء فإنهم يتعارفون جيداً ، ويتصلون دائماً بعضهم ببعض . ولو نظرنا إلى أولاد حي فقير وهم يلعبون معا في طريق أو مقبرة أو مرج ، لرأينا مباشرة أن بينهم اتصالاً وثيقاً بالرغم من المنازعات العارضة ) ( ۱ ) . ولولا تعاون الفقراء لما استطاعوا التغلب على شظف العيش ، إنهم يتهادون الأطعمة ، ويتعاورون الأدوات والألبسة ، ويخدم بعضهم بعضاً ، في حين أن الأغنياء لا يعرف واحدهم صاحبه . فكأنه لا فرق بين أموال الفقراء ، وكأن حياتهم المشتركة حياة شخص واحد .
٣ - ونقول أيضاً : ان حياة الجسد غير كافية لبيان حقيقة الشعور الفردي ، لأن الإنسان موجود اجتماعي ، ولأن الحياة الاجتماعية تقتضي وجود الغيرية ، وحب الغير لم يتولد من الاجتماع بل هو سابق له ، وهو طبيعي في الإنسان ، فلو كانت أنانية الإنسان الإبتدائي مطلقة ، لما حرم نفسه التمتع بالحرية في سبيل منافع بعيدة قد يصعب عليه تحقيقها . إلا أن الإنسان اجتماعي بالطبع ، والغيرية لازمة له بالذات لا بالعرض .
قال دور كهايم : ( حيثما يظهر الاجتماع تظهر الغيرية ، لحاجة الاجتماع إلى التصامن ، ولذلك نجد الغيرية في أوائل البشرية زائدة على حد الإعتدال ، فحرمان المتوحش نفسه بعض الأشياء في سبيل الخضوع للتقاليد الدينية ، وتضحيته بنفسه استجابة لنداء الهيئة الاجتماعية ، واقدام الأرملة الهندية على الإنتحار بعد وفاة زوجها ، ورغبة ( الغالي ) في الموت بعد هلاك سيده ، وجود ( السلتي ) بنفسه في سبيل انقاذ رفاقه العاجزين عن الحرب ؛ أفلا يدل ذلك كله على الغيرية والايثار ؟ إن هذه الأفعال ليست من الأفعال الوهمية الباطلة ، وإنما هي من الأمور الواقعية التي تثبت أن الإنسان قادر على البذل والجود . فلا ينبغي أن يقال إذن أن الغيرية قد تولدت من الأنانية ، لأن هذا الاشتقاق لا يمكن أن يتم إلا بإبداع من العدم . والحق أن هذين المحركين للسلوك الإنساني موجودان منذ القدم في جميع النفوس البشرية .
فأنت ترى أن الغيرية لم تتولد من الأنانية لأن نفس الرجل الإبتدائي لا تنطوي على المشاعر النفعية فحسب ، بل تنطوي على كثير من المشاعر الغيرية . ونريد الآن أن نأتي ببعض الأمثلة التي تبين لنا أن في الطبيعة البشرية ميولاً غيرية لم تتولد من الأنانية . فمن هذه الميول : العطف والرأفة ، وغريزة الأمومة ، وغريزة الاجتماع .
تعليق