القباني (أحمد أبو خليل ـ)
(نحو 1833 ـ 1903)
أحمد أبو خليل القباني ملحن موسيقي وممثل مسرحي سوري، ومؤسس المسرح الغنائي الموسيقي العربي وأحد رواد المسرح الدرامي العربي منذ ستينات القرن التاسع عشر. اسمه الحقيقي أحمد آق بيق (أي الشوارب البيضاء)، أما لقبه القباني فقد عُرف به في دمشق لعمله في وزن البضائع الثقيلة على القبان. ولد في مدينة قونية Konya لأسرة تركية هاجرت إلى سورية واستقرت في دمشق حيث تلقى تعليمه في الكتاتيب، ثم صار يتابع دروس الدين وحلقات الصوفية في التكايا حتى نال لقب الشيخ. وإضافة إلى هذا تعلم رقص السماح، فقد كان منذ شبابه ينظم الأزجال ويلحن الموشحات والأغاني، وبرع في هذه الفنون حتى صار علماً. لم يمتلك القباني حنجرة قوية مميزة، إلا أن براعته في الأداء والعزف والتلحين جعلت منه قطباً يجذب إليه المطربين الشباب لتعليمهم فن الغناء على أصوله.
كان القباني مولعاً بفن خيال الظل[ر] (قره كوز= العيون السود) ومعجباً بعلي حبيب أبرع أهل زمانه بتحريك الخيالات الجلدية في مقهى العمارة بدمشق حينذاك. ويحتمل أن علاقة القباني ببعض المدارس التبشيرية في بيروت قد هيأت له الفرصة لمشاهدة عروض مسرحيات مارون النقاش[ر. النقاش (أسرة ـ)] أو خلفائه والتقائهم شخصياً. ويحتمل أيضاً أنه شاهد عرض «الإسكندر المقدوني» الذي قدمته فرقة إبراهيم الأحدب في دمشق عام 1868. كما يرجح بعض النقاد اطّلاعه على العروض التركية بحكم أصله وإتقانه اللغة التركية. وفي عهد الوالي صبحي باشا زارت دمشق فرقة مسرحية فرنسية قدمت عروضها في «المدرسة العازرية» في دمشق، فشاهدها القباني وأخذ فكرة عن الأسلوب الفرنسي في التمثيل والإلقاء و(المكياج) والأزياء، والديكور أيضاً.
يرجح أن أول عمل مسرحي بدأ به القباني نشاطه في هذا الميدان هو «ناكر الجميل» (نحو 1867)، وهو مقتبس من «ألف ليلة وليلة» ويجمع بين النص (الدرامي) البسيط والموسيقى والغناء، وقد عرضه في دار جده الواسعة، مستعيضاً من العنصر النسائي بالفتيان المليحين، فلاقى استحساناً كبيراً شجعه على المضي قدماً في محاولاته التجريبية على صعيد التأليف الدرامي والتلحين والتمثيل في محيط الأهل والأصدقاء والمشجعين، إلى أن حضر الوالي صبحي باشا إحدى هذه المسرحيات في إطار حفلة خاصة أقيمت على شرفه، فأعجب بالمسرحية وحفَّز القباني على الخروج بفنه إلى الجمهور العام لما فيه من فائدة وجدة ومتعة. كان تأثير ذلك في نفس القباني عميقاً. ففي ثلاثة أيام بلياليها، كتب نصه الجديد «وضاح» ووضع موسيقاه ووزع أدواره على أعضاء فرقته من الهواة، وأجرى (البروڤة) الأولى في دار أحد أصدقائه، ثم انتقل إلى «كازينو الطليان» في منطقة باب الجابية بمساعدة مالية من الوالي.
ونتيجة للاستقبال الإيجابي المشجع من قِبَل الجمهور العريض لهذا النوع الجديد من الفن، ونتيجة أيضاً لاستمرار دعم الولاة للقباني - وإن كان معنوياً فحسب- استمر المسرحي الشاب قرابة عشرة أعوام على المنوال نفسه، اكتسب في أثنائها خبرة وتمرساً في المسرح والموسيقى على حد سواء، ولكن من دون أي مردود مالي له أو لأصحابه في الفرقة (الجوق)، إلى أن استلم ولاية دمشق مدحت باشا داعية الإصلاح والتقدم وأبو الدستور الذي شمل القباني برعايته المادية والمعنوية، والتي أدت إلى اللقاء المصيري بين القباني وإسكندر فرح[ر]، موظف الجمارك المثقف والعميق الاطلاع في فن المسرح، والذي كلفه مدحت باشا تشكيل فرقة مسرحية، فتفرغ لذلك عدا ساعة يومياً من عمله في الجمارك. وبمبلغ التسعمئة ليرة ذهبية التي تلقاها القباني من مدحت باشا وبإشراف إسكندر فرح استأجر القباني مكاناً واسعاً في «جنينة الأفندي»، في حي باب توما، وأسس الفرقة وجهزها بالأزياء والديكورات وأخرج نص أوبرا (ليبرتو libertto) «عائدة» الذي ترجمه سليم النقاش[ر. النقاش (أسرة ـ)] إلى العربية وأعده ليصلح للمسرح الدرامي. وبذلك يكون القباني أول محترف في المسرح العربي، يعيش من عمله المسرحي، ويقود فرقة يخرج لها نصوصه ونصوص غيره من المؤلفين.
وعند تقديم مسرحيته «الشاه محمود» استعان القباني بآنستين لبنانيتين هما لبيبة ومريم إلى جانب بعض الفتيان لبقية الأدوار النسائية. وعلى الرغم من نجاح العرض وإطراء الوالي وتشجيعه، تحفَّظ رجال الدين تجاه هذه الظاهرة الفنية، وعدّوها بدعة مخلة بالآداب ومسيئة للأخلاق. وعندما قام القباني بخطوته التالية وهي عرض مسرحية مارون النقاش «أبو الحسن المغفل» وجد المحافظون حجتهم للتظلم لدى السلطان في الأستانة ضد العرض الذي تجرأ على تشخيص خليفة المسلمين هارون الرشيد على خشبة المسرح محاطاً بالفتيان المرْد والأوانس السافرات. فأجاب السلطان عبد الحميد طلبهم ومنع العرض وأوقف «البدعة الفاجرة»، ولم يستطع مدحت باشا تقديم يد العون، إذ كان قد نقل إلى الحجاز وقتل هناك عام 1884 بيد رجال السلطان. وتابع الشيخ سعيد الغبرا تحريضه الكبار والشباب وحتى الأطفال ضد القباني، حتى اضطر الرجل آسفاً وبناء على نصح المحبين، إلى مغادرة الشام بصحبة إسكندر فرح وأفراد الجوق إلى الإسكندرية (في مصر) عام 1884 ليبدأ مرحلة إبداعية جديدة في تاريخ المسرح التمثيلي الغنائي الموسيقي منطلقاً من مقهى «الدانوب الأزرق»، وكانت أولى مسرحياته في الإسكندرية هي «أنس الجليس» التي اقتبس قصتها من «ألف ليلة وليلة»، هذا العمل التراثي الشعبي الذي كان للقباني وغيره معيناً لا ينضب لتزويد الإبداع المسرحي بمادته الحكائية الممتعة والقابلة للتطويع للمسرح الغنائي. وتذكر المراجع أن القباني وجوقه أحيوا في الإسكندرية 35أمسية مسرحية عرضوا فيها: «أنس الجليس»، و«نفح الربى»، و«عفة المحبين أو ولاّدَة»، و«عنتر العبسي»، و«ناكر الجميل»، و«الأمير محمود»، و«الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح» من تأليف القباني، كما قدموا بإخراجه «الخل الوفي» لألفرِد دو موسيه A.de Musset و«عايدة» بإعداد سليم النقاش.
كان القباني في بعض الأحايين يضيف إلى العرض بعض الفصول القصيرة المضحكة، أو بعض المقاطع الإيمائية، أو بعض الأغاني. وقد بلغت شهرته الشخصية والفنية حداً جعل الخديوي توفيق يستضيفه في القاهرة ويكرم وفادته ويشجعه، فاستأجر القباني في العاصمة «مسرح البوليتياما» وعرض فيه مسرحيات فرقته كافة، إلى جانب «متريدات Mithridate أو لباب الغرام» عن راسين[ر] J.Racine، و«حمزة المحتال» من تأليفه. وعاد في أوائل عام 1885 إلى الإسكندرية ليعرض مسرحيتيه الجديدتين» «عاقبة الصيانة وغائلة الخيانة»، و«الانتقام».
عند منعطف القرن التاسع عشر نحو العشرين، تلقى القباني دعوة للمشاركة في «معرض شيكاغو الدولي» من قبل بعض السياح الأثرياء الذين أعجبوا بعروض فرقته، فلبى الدعوة وأقام في شيكاغو مدة ستة شهور، قدم في أثنائها عدداً من مسرحياته بصورة مختصرة، كي لا يتسرب الملل إلى نفوس المتفرجين الذين يجهلون اللغة العربية. والصورة الشخصية الوحيدة المعروفة للقباني التقطت له في معرض شيكاغو الدولي.
بقي القباني وفرقته في مصر مدة سبعة عشر عاماً متنقلين بين مدنها الرئيسة والفرعية. وكانت الفرقة متكاملة متجانسة تضم خيرة العناصر الفنية والأدبية من كتّاب وشعراء وممثلين ومخرجين وراقصي سماح ومنشدين وموسيقيين وعمال ديكور. أما رفيق دربه إسكندر فرح فقد لازمه حتى عام 1891، حين استقل عن جوق القباني ليؤسس فرقة جديدة خاصة به، أخذت تركز في عروضها على الجوانب الأدبية التمثيلية أكثر منها على الموسيقية الغنائية، في حين كان القباني بين الآونة والأخرى يُحضر من دمشق عناصر جديدة لتجديد دماء فرقته على الصعيد الموسيقي أولاً ثم التمثيلي.
أبدى المصريون اهتماماً كبيراً بفن القباني مسرحياً وموسيقياً، واستقى منه نخبة من فطاحل الفنانين المصريين الفن الموسيقي، أمثال الشيخ درويش الحريري أستاذ الشيخ سيد دوريش، وكامل الخلعي[ر] الموسيقار الشهير، والشيخ سلامة حجازي[ر] وغيرهم. وقد نقل القباني الغناء الشامي ـ وأكثره من نظم الشاعر الحمصي المشهور الشيخ أمين الجندي وتلحينه ـ ونَشَرَه في القطر المصري، فكان مسرحه منهلاً لطلاب الفن. وقال فيه محمد كامل الخلعي: «كان مرسحه (مسرحه) مورداً عذباً يؤمه الكبراء والأمراء والشعراء والأدباء لمشاهدة رواياته (مسرحياته) وجلها من منشآته. شهد بحسنها الكثير من أئمة البلاغة ومتقني صناعة الصياغة. كما شهد من قبل أكابر الموسيقيين وفطاحل الملحنين. ومن أجلِّ مزاياه أنه كان خصيصاً بطريق من طرق الغناء».
عاد القباني إلى دمشق أواخر عام 1900، وصار يقيم حفلات موسيقية غنائية، مبتعداً عن المسرح وأعماله المرهقة التي لم يحتملها سنه. وتوفي فيها بعد حينٍ قصير.
نبيل الحفار
(نحو 1833 ـ 1903)
كان القباني مولعاً بفن خيال الظل[ر] (قره كوز= العيون السود) ومعجباً بعلي حبيب أبرع أهل زمانه بتحريك الخيالات الجلدية في مقهى العمارة بدمشق حينذاك. ويحتمل أن علاقة القباني ببعض المدارس التبشيرية في بيروت قد هيأت له الفرصة لمشاهدة عروض مسرحيات مارون النقاش[ر. النقاش (أسرة ـ)] أو خلفائه والتقائهم شخصياً. ويحتمل أيضاً أنه شاهد عرض «الإسكندر المقدوني» الذي قدمته فرقة إبراهيم الأحدب في دمشق عام 1868. كما يرجح بعض النقاد اطّلاعه على العروض التركية بحكم أصله وإتقانه اللغة التركية. وفي عهد الوالي صبحي باشا زارت دمشق فرقة مسرحية فرنسية قدمت عروضها في «المدرسة العازرية» في دمشق، فشاهدها القباني وأخذ فكرة عن الأسلوب الفرنسي في التمثيل والإلقاء و(المكياج) والأزياء، والديكور أيضاً.
يرجح أن أول عمل مسرحي بدأ به القباني نشاطه في هذا الميدان هو «ناكر الجميل» (نحو 1867)، وهو مقتبس من «ألف ليلة وليلة» ويجمع بين النص (الدرامي) البسيط والموسيقى والغناء، وقد عرضه في دار جده الواسعة، مستعيضاً من العنصر النسائي بالفتيان المليحين، فلاقى استحساناً كبيراً شجعه على المضي قدماً في محاولاته التجريبية على صعيد التأليف الدرامي والتلحين والتمثيل في محيط الأهل والأصدقاء والمشجعين، إلى أن حضر الوالي صبحي باشا إحدى هذه المسرحيات في إطار حفلة خاصة أقيمت على شرفه، فأعجب بالمسرحية وحفَّز القباني على الخروج بفنه إلى الجمهور العام لما فيه من فائدة وجدة ومتعة. كان تأثير ذلك في نفس القباني عميقاً. ففي ثلاثة أيام بلياليها، كتب نصه الجديد «وضاح» ووضع موسيقاه ووزع أدواره على أعضاء فرقته من الهواة، وأجرى (البروڤة) الأولى في دار أحد أصدقائه، ثم انتقل إلى «كازينو الطليان» في منطقة باب الجابية بمساعدة مالية من الوالي.
ونتيجة للاستقبال الإيجابي المشجع من قِبَل الجمهور العريض لهذا النوع الجديد من الفن، ونتيجة أيضاً لاستمرار دعم الولاة للقباني - وإن كان معنوياً فحسب- استمر المسرحي الشاب قرابة عشرة أعوام على المنوال نفسه، اكتسب في أثنائها خبرة وتمرساً في المسرح والموسيقى على حد سواء، ولكن من دون أي مردود مالي له أو لأصحابه في الفرقة (الجوق)، إلى أن استلم ولاية دمشق مدحت باشا داعية الإصلاح والتقدم وأبو الدستور الذي شمل القباني برعايته المادية والمعنوية، والتي أدت إلى اللقاء المصيري بين القباني وإسكندر فرح[ر]، موظف الجمارك المثقف والعميق الاطلاع في فن المسرح، والذي كلفه مدحت باشا تشكيل فرقة مسرحية، فتفرغ لذلك عدا ساعة يومياً من عمله في الجمارك. وبمبلغ التسعمئة ليرة ذهبية التي تلقاها القباني من مدحت باشا وبإشراف إسكندر فرح استأجر القباني مكاناً واسعاً في «جنينة الأفندي»، في حي باب توما، وأسس الفرقة وجهزها بالأزياء والديكورات وأخرج نص أوبرا (ليبرتو libertto) «عائدة» الذي ترجمه سليم النقاش[ر. النقاش (أسرة ـ)] إلى العربية وأعده ليصلح للمسرح الدرامي. وبذلك يكون القباني أول محترف في المسرح العربي، يعيش من عمله المسرحي، ويقود فرقة يخرج لها نصوصه ونصوص غيره من المؤلفين.
وعند تقديم مسرحيته «الشاه محمود» استعان القباني بآنستين لبنانيتين هما لبيبة ومريم إلى جانب بعض الفتيان لبقية الأدوار النسائية. وعلى الرغم من نجاح العرض وإطراء الوالي وتشجيعه، تحفَّظ رجال الدين تجاه هذه الظاهرة الفنية، وعدّوها بدعة مخلة بالآداب ومسيئة للأخلاق. وعندما قام القباني بخطوته التالية وهي عرض مسرحية مارون النقاش «أبو الحسن المغفل» وجد المحافظون حجتهم للتظلم لدى السلطان في الأستانة ضد العرض الذي تجرأ على تشخيص خليفة المسلمين هارون الرشيد على خشبة المسرح محاطاً بالفتيان المرْد والأوانس السافرات. فأجاب السلطان عبد الحميد طلبهم ومنع العرض وأوقف «البدعة الفاجرة»، ولم يستطع مدحت باشا تقديم يد العون، إذ كان قد نقل إلى الحجاز وقتل هناك عام 1884 بيد رجال السلطان. وتابع الشيخ سعيد الغبرا تحريضه الكبار والشباب وحتى الأطفال ضد القباني، حتى اضطر الرجل آسفاً وبناء على نصح المحبين، إلى مغادرة الشام بصحبة إسكندر فرح وأفراد الجوق إلى الإسكندرية (في مصر) عام 1884 ليبدأ مرحلة إبداعية جديدة في تاريخ المسرح التمثيلي الغنائي الموسيقي منطلقاً من مقهى «الدانوب الأزرق»، وكانت أولى مسرحياته في الإسكندرية هي «أنس الجليس» التي اقتبس قصتها من «ألف ليلة وليلة»، هذا العمل التراثي الشعبي الذي كان للقباني وغيره معيناً لا ينضب لتزويد الإبداع المسرحي بمادته الحكائية الممتعة والقابلة للتطويع للمسرح الغنائي. وتذكر المراجع أن القباني وجوقه أحيوا في الإسكندرية 35أمسية مسرحية عرضوا فيها: «أنس الجليس»، و«نفح الربى»، و«عفة المحبين أو ولاّدَة»، و«عنتر العبسي»، و«ناكر الجميل»، و«الأمير محمود»، و«الشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح» من تأليف القباني، كما قدموا بإخراجه «الخل الوفي» لألفرِد دو موسيه A.de Musset و«عايدة» بإعداد سليم النقاش.
كان القباني في بعض الأحايين يضيف إلى العرض بعض الفصول القصيرة المضحكة، أو بعض المقاطع الإيمائية، أو بعض الأغاني. وقد بلغت شهرته الشخصية والفنية حداً جعل الخديوي توفيق يستضيفه في القاهرة ويكرم وفادته ويشجعه، فاستأجر القباني في العاصمة «مسرح البوليتياما» وعرض فيه مسرحيات فرقته كافة، إلى جانب «متريدات Mithridate أو لباب الغرام» عن راسين[ر] J.Racine، و«حمزة المحتال» من تأليفه. وعاد في أوائل عام 1885 إلى الإسكندرية ليعرض مسرحيتيه الجديدتين» «عاقبة الصيانة وغائلة الخيانة»، و«الانتقام».
عند منعطف القرن التاسع عشر نحو العشرين، تلقى القباني دعوة للمشاركة في «معرض شيكاغو الدولي» من قبل بعض السياح الأثرياء الذين أعجبوا بعروض فرقته، فلبى الدعوة وأقام في شيكاغو مدة ستة شهور، قدم في أثنائها عدداً من مسرحياته بصورة مختصرة، كي لا يتسرب الملل إلى نفوس المتفرجين الذين يجهلون اللغة العربية. والصورة الشخصية الوحيدة المعروفة للقباني التقطت له في معرض شيكاغو الدولي.
بقي القباني وفرقته في مصر مدة سبعة عشر عاماً متنقلين بين مدنها الرئيسة والفرعية. وكانت الفرقة متكاملة متجانسة تضم خيرة العناصر الفنية والأدبية من كتّاب وشعراء وممثلين ومخرجين وراقصي سماح ومنشدين وموسيقيين وعمال ديكور. أما رفيق دربه إسكندر فرح فقد لازمه حتى عام 1891، حين استقل عن جوق القباني ليؤسس فرقة جديدة خاصة به، أخذت تركز في عروضها على الجوانب الأدبية التمثيلية أكثر منها على الموسيقية الغنائية، في حين كان القباني بين الآونة والأخرى يُحضر من دمشق عناصر جديدة لتجديد دماء فرقته على الصعيد الموسيقي أولاً ثم التمثيلي.
أبدى المصريون اهتماماً كبيراً بفن القباني مسرحياً وموسيقياً، واستقى منه نخبة من فطاحل الفنانين المصريين الفن الموسيقي، أمثال الشيخ درويش الحريري أستاذ الشيخ سيد دوريش، وكامل الخلعي[ر] الموسيقار الشهير، والشيخ سلامة حجازي[ر] وغيرهم. وقد نقل القباني الغناء الشامي ـ وأكثره من نظم الشاعر الحمصي المشهور الشيخ أمين الجندي وتلحينه ـ ونَشَرَه في القطر المصري، فكان مسرحه منهلاً لطلاب الفن. وقال فيه محمد كامل الخلعي: «كان مرسحه (مسرحه) مورداً عذباً يؤمه الكبراء والأمراء والشعراء والأدباء لمشاهدة رواياته (مسرحياته) وجلها من منشآته. شهد بحسنها الكثير من أئمة البلاغة ومتقني صناعة الصياغة. كما شهد من قبل أكابر الموسيقيين وفطاحل الملحنين. ومن أجلِّ مزاياه أنه كان خصيصاً بطريق من طرق الغناء».
عاد القباني إلى دمشق أواخر عام 1900، وصار يقيم حفلات موسيقية غنائية، مبتعداً عن المسرح وأعماله المرهقة التي لم يحتملها سنه. وتوفي فيها بعد حينٍ قصير.
نبيل الحفار