القصبجي (محمد ـ)
(1892ـ 1966)
محمد القصبجي ملحن موسيقي مصري ولد وتوفي في القاهرة، وتزامنت ولادته مع ولادة سيد درويش. أبوه الشيخ علي القصبجي، كان منشداً يعمل مع أشهر مطربي زمانه، كما كان من أبرع عازفي العود، وملحناً قديراً، لحن لعبده الحامولي، ويوسف المنيلاوي، والمطربة ودودة، وزكي مراد، ومحمد السنباطي.
حينما بلغ محمد القصبجي الثامنة من عمره أخذ يقلد أباه في العزف بالعود ويدندن مثله بالأغاني الدارجة. في العام 1902 ألحقه أبوه بمدرسة دينية على الرغم من تعلقه بالموسيقى والغناء. وفي العام 1913 أنهى دراسته بنجاح، فألحقه أبوه بمدرسة المعلمين الأولية، وإرضاء لوالده تابع دراسته ونجح، وعينته الحكومة بمكتب زينب بنت خليل في بولاق. ولم تمنعه وظيفته من الاشتغال بالفن، إذ كان يمارس وظيفته نهاراً معمَّماً، وفي الليل يمارس الفن بالبدلة والطربوش. وبعد عامين على ذلك استقال من مكتب زينب وتفرغ للفن، وبلغ إيراده الشهري عشرين جنيهاً من عمله عازف عود ضمن التخت الشرقي[ر. الفرقة الموسيقية] في الأفراح والحفلات. قرر محمد القصبجي أن ينصرف إلى التلحين أسوة بغيره ممن يقلون عنه موهبة، وابتسم له الحظ فجأة حينما غنت له المطربة توحيدة التي تعمل في صالة «ألف ليلة وليلة» أول ألحانه دَوْر «الحب له في الناس أحكام» فطارت شهرته إلى المغنيات وشركات الأسطوانات على حد سواء. في عام 1920 لحن أغنيته الماجنة الشهيرة «بعد العشا يحلا الهزار والفرفشة» التي تخاطفتها مطربات زمانه كافة مثل: ملك، واللاوندية، وفاطمة قدري، وعزيزة فخري. وفي العام نفسه تعرف المطربتين الكبيرتين فتحية أحمد، ومنيرة المهدية التي غنت له قبل أن تراه أغنية «بعد العشا…». وتعرف أيضاً محمد عبد الوهاب الذي درس العزف بالعود على يديه. وفي العام 1924 غنّت له أم كلثوم من ألحانه طقطوقة (أغنية خفيفة) «قال إيه حلف ما يكلمنيش»، ومن ثم تتابعت ألحانه فغنت له «أنا عندي أمل تنسى اللي حصل» و«من السنة للسنة يا حلو لما أنظرك» و«إن حالي في هواها عجب» و«صحيح خصامك ولا هزار» و«بحبك وأنت مش داري»، وقد ارتفع أجر القصبجي في هذه الألحان من ثمانية جنيهات إلى خمسة عشر جنيهاً للحن الواحد، وكان عليه، وقد غدا من كبار الملحنين، أن يقدم جديداً في ألحانه، وأن يجعل هذا الجديد لصوت أم كلثوم من دون أن يقطع صلته بمنيرة المهدية التي لحن لها «شال الحمام» و«اسمع أغاني المهدية» وأوبريت «كيد النساء» ليونس القاضي، و«المظلومة» التي شاركه في تلحينها كامل الخلعي ومحمد عبد الوهاب، وأوبريت «حياة النفوس» التي ألفها أحمد زكي السيد. كذلك لحن في الفترة نفسها لمسرح نجيب الريحاني أوبريت «نجمة الصباح» التي شاركه في تلحين أجزاء من الفصل الأخير الموسيقي إبراهيم فوزي. وفي العام 1926 لحَّن لأم كلثوم أربعاً وعشرين أغنية مختلفة الأنواع. وفي العام 1927 لحّن ثلاث أغنيات واحدة منها في رثاء «سعد زغلول»، ومثلها في العام 1928 وكانت من بينها مونولوغ «إن كنت أسامح» الذي عُدّ منعطفاً مهماً في تاريخ الغناء العربي. ففي هذا المونولوغ أعطى القصبجي الصوت الإنساني- للمرة الأولى في تاريخ الغناء العربي- أبعاده الدرامية في التعبير، ولم يعد المطرب مجرد مغنٍ يؤدي ألحاناً لكلمات مجردة من المشاعر، وإنما أضحى يخصص ما يعرف من فنون الغناء لخدمة الغناء. وقد بيع من هذه الأغنية المسجلة على أسطوانات أوديون مليون أسطوانة، وهو رقم أسطوري لعام 1928، وربحت شركة الأسطوانات مئة ألف جنيه، بينما قبض القصبجي ثمن اللحن خمسة عشر جنيهاً، وأم كلثوم ثمانين جنيهاً مقابل الأداء. بعد هذا المونولوغ تراوحت ألحان القصبجي في قوتها بين مد وجزر إلى أن أعطى لأم كلثوم مونولوغ «خاصمتني» وأعقبه بمونولوغ «ياما ناديت» لتستتب له من خلالهما السيادة على فن المونولوغ الذي جاء به. ولكي يحقق القصبجي هدفه بصورة أقوى وأعمق انصرف مع الشاعر أحمد رامي إلى دراسة الأغنية الحديثة التي يتطلبها عصر ثلاثينات القرن العشرين، ولما كان رامي متأثراً بالرومنسية الفرنسية فقد عرض أفكاره لنظم الأغنية على القصبجي فتجاوب معها واشترط عليه في الوقت نفسه أن تكون تفعيلات القصيدة أو الزجل متعددة لتساعد التلحين على التنويع والتلوين في المقامات والإيقاعات، وأطلق على هذا النوع من الأغاني التسمية نفسها السائدة في أوربا (مونولوغ) monologue المأخوذ أصلاً من «آريا» (أغنية) aria في الأوبرا، علماً أن المونولوغ عرف في مصر منذ العام 1917، وغناه كثيرون من دون أن يتوصلوا إلى الهدف الرومنسي المقصود من وراء ذلك. وهكذا وُلدت بفضل القصبجي ورامي المرحلة الرومنسية في الغناء العربي لتلتهم شيئاً فشيئاً قوالب الغناء المعروفة، وكان فن الدور أول ضحاياها، وكذلك الأغنية الدارجة ذات الهدف الاجتماعي والسياسي التي أرسى دعائمها سيد درويش. وفي عقد الثلاثينات، أعطى القصبجي ورامي فيضاً من الأغاني الرومنسية لأم كلثوم من أبرزها: «يانجم» و«طالت ليالي البعاد» و«فين العيون» و«ياللي جفاك المنام» و«أيها الفلك على وشك الرحيل» و«انظري هذه دموع الفرح» و«يا غائباً عن عيوني». تمرد القصبجي على الأوضاع الموسيقية السائدة في عصره قبل محمد عبد الوهاب، وفي خط موازٍ لسيد درويش، إذ كان ينطلق من فكرة التخلص من أساليب الغناء الأعجمية إلى أساليب معاصرة أكثر حداثة من تلك التي عفا عليها الدهر. وإذا كان الشيخ أبو العلا محمد قد اهتم بالقصيدة لفظاً ونحواً وإلقاء من دون سائر أنواع النظم، فإن القصبجي اهتم بأنواع النظم كافة من طقطوقة ومواليا ودور وموشحة وقصيدة ثم بالمونولوغ الذي أبدعه، وهو في هذا يختلف عن سيد درويش الذي اهتم بالطقطوقة كأغنية جماهيرية ومن ثم بالدور والموشحة والأوبريت. وتَمَرُّد القصبجي على الأساليب الغنائية والموسيقية نابع من أرضيته الثقافية والفكرية، فهو الوحيد بين زملائه الموسيقيين الذين عاصروه حاصل على مؤهل علمي أتاح له التدريس في مدرسة المعلمين قبل أن يتمرد على الزي الرسمي الملزم للمعلمين، وهذا يعني أنه يمتلك الوسائل التي تساعده على التعليم والتعلم وتثقيف نفسه قبل تثقيف غيره، وهذا التمرد قاده إلى التخلص من الدولاب الموسيقي الذي كان يسبق الغناء، والذي ظل الملحنون بما فيهم محمد عبد الوهاب يعملون به زمناً قبل أن يأخذوا بالتجديد الذي جاء به القصبجي، والذي هو عبارة عن مقدمة موسيقية قصيرة، أو لازمة موسيقية تترجم إلى حد ما معنى وروح الأغنية. ورافق هذا التمرد تمرد آخر على أسلوب الإلقاء الغنائي الذي اتخذ شكلاً إبداعياً، وهذا الإبداع لم يأت عفو الخاطر، وإنما نتيجة احتكاك القصبجي بأساليب الغناء الغربية التي عايشها وتعلمها ودرسها من وراء إدمانه عروض الأوبرا والفرق السمفونية وأشكال التأليف الغربي الأخرى والتي ألزم نفسه بمشاهدتها والاستماع إليها كثقافة موسيقية مثل الأغنيات الفردية الشاعرية (المونولوغ) الذي يقوم على المناجاة العاطفية، الذي قبسه وقدمه بلغة موسيقية عربية خالية من الشوائب، مخصصاً في ذلك الأساليب الغربية في الإلقاء الغنائي لخدمة الغناء العربي في الاستعارة والمد والترجيع. وهو في مونولوغ «يا ما ناديت من أسايا» الذي لحنه لأم كلثوم في مستهل ثلاثينات القرن العشرين رسم المستقبل الوضاء الذي ينتظره الغناء العربي على أيدي العمالقة. ويتضح الأسلوب الذي جاء به أكثر فأكثر في أعماله اللاحقة ليتصاعد باستمرار ليبلغ الأوج عام 1936 في مونولوغات «منيت شبابي» و«يا مجد» و«نامي يا ملاكي» و«ياللي صنعت الجميل» لأم كلثوم، ولاسيما حينما طبق على «منيت شبابي» الانسجام[ر] الموسيقي (هارموني) harmony على مقام الراست الشرقي، وفي مونولوغ «يامجد» تعدد الأصوات «بوليفوني» polyphony وهو أسلوب غربي استخدمه فيما بعد في مونولوغ «يا طيور» لأسمهان. والقصبجي بعمله هذا نقل الثقافة الموسيقية الغربية ليعممها بأسلوبه وشخصيته عن طريق الأصوات القادرة والأثيرة إلى نفسه والجماهير.
امتد تمرد القصبجي على الشكل الفني للطقطوقة الذي جاء به سيد درويش، إذ ألغى الرتابة اللحنية التي تشمل أغصان الطقطوقة كلها من دون أن يمس القالب الفني كشكل غنائي معتمد. وكانت أول أغنية طبق فيها ذلك هي طقطوقة «ليه تلاوعيني»، ومن ثم طقطوقة «إنت فاكراني واللا نسياني» عام 1932 لأم كلثوم. وقد دفع بذلك سائر الملحنين بما فيهم محمد عبد الوهاب والسنباطي إلى الاقتداء به. وقد وجد في صوت ليلى مراد الصوت المثالي لأداء هذا النوع من الغناء الخفيف فلحن لها، ولأسمهان، ولأم كلثوم عشرات الأغنيات التي استخدم في بعضها الكورال على صوتين، وفي بعضها الآخر الانسجام الموسيقي كما في أغنية «قلبي دليلي» لليلى مراد و«إيمتى ح تعرف إيمتى» و«يا طيور» لأسمهان وفيها استخدم في التلحين أسلوب الإلقاء الغنائي الأوبرالي، كما أنه أول من استخدم الأصوات الملونة (الكروماتيك) chromatique من الملحنين في أغنية «إضحك كركر» لليلى مراد، و«نورك يا ست الكل» لأم كلثوم.
شارك القصبجي في عقد ونيِّف من الزمن (1935ـ1948) في تلحين أكثر من خمسين فيلماً لحن فيها أغنيات لعدد كبير من المطربات والمطربين منهم: نور الهدى، وصباح، وسعاد محمد، وأسمهان، وليلى مراد، وشادية، وهدى سلطان، وشارك ليلى مراد غناءً في أغنية واحدة في فيلم «ليلى في الظلام»، وغنى أيضاً في فيلم «الاتهام»، وشارك في تلحين خمسة أفلام من أفلام أم كلثوم الستة، والفصل الأول من أوبرا عايدة في فيلم «عايدة». ووضع من وراء تجربته التلحينية في السينما قالباً للطقطوقة السينمائية تتميز بلازمتها الموسيقية الحيوية، وآخر للقصيدة السينمائية، أعطى فيها نموذجاً خالداً في قصيدة «ليت للبراق عيناً فترى» التي ظهرت في فيلم «ليلى بنت الصحراء»، لتصير الأساس الذي سار عليه السنباطي فيما بعد في تلحين القصيدة السينمائية كما في قصائد «أصون كرامتي وأنا وحدي»، و«أيها النائم» وغيرها.
تزوج القصبجي أربع مرات وكله أمل في ولد يرثه ويرث اسمه ويتابع مسيرته، ولكن أياً من زوجاته الأربع لم تسعده بولد، فاكتشف أنه عقيم، ومن هنا كانت أعماله المبدعة الخلاقة وبصماته الواضحة في الموسيقى والغناء هي أولاده.
أجمل أعماله غير التي وردت آنفاً: «رق الحبيب» لأم كلثوم، وهي تحفة فنية لازالت تطرب السامعين حتى هذا اليوم، وقصيدتا «هل تيم البان» و«اسقنيها بأبي أنت وأمي» لأسمهان، وطقاطيق «يا ريتني أنسى الحب» و«يا جمال العصفور» و«يا خوفي بابا يشوفني» لليلى مراد، ومقطوعتا «ذكرياتي وسماعي بياتي»[ر. الصيغ الموسيقية].
قال فيه محمد عبد الوهاب: «علمني محمد القصبجي العزف على العود، كما علمني كيف ألحن المونولوغ». وقال السنباطي: «القصبجي حاجة تانية، منه تعلمت تلحين المونولوغ، وهو معلم كبير لا يجارى». وقالت أم كلثوم: «القصبجي عالم ومعلم كبير سبق عصره بمئة سنة على الأقل». وقال فريد الأطرش: «كان يمكن لأسمهان لو عاشت أن تغدو من وراء ألحان القصبجي في قمة نائية جداً عن القمم التي تتربع عليها سائر المطربات».
وعن لحن أغنية «قلبي دليلي» قال محمد فوزي هذا لحن من عام 2000 وليس من عام 1948.
حينما حضرت الوفاة محمد القصبجي، طلب أن يدفن قريباً من قبر أسمهان، وهو بطلبه هذا كان يرد على أم كلثوم التي شككت بنبوغه وعبقريته بعد موت أسمهان انتقاماً منه لاهتمامه الكبير بصوتها الرائع.
صميم الشريف
(1892ـ 1966)
حينما بلغ محمد القصبجي الثامنة من عمره أخذ يقلد أباه في العزف بالعود ويدندن مثله بالأغاني الدارجة. في العام 1902 ألحقه أبوه بمدرسة دينية على الرغم من تعلقه بالموسيقى والغناء. وفي العام 1913 أنهى دراسته بنجاح، فألحقه أبوه بمدرسة المعلمين الأولية، وإرضاء لوالده تابع دراسته ونجح، وعينته الحكومة بمكتب زينب بنت خليل في بولاق. ولم تمنعه وظيفته من الاشتغال بالفن، إذ كان يمارس وظيفته نهاراً معمَّماً، وفي الليل يمارس الفن بالبدلة والطربوش. وبعد عامين على ذلك استقال من مكتب زينب وتفرغ للفن، وبلغ إيراده الشهري عشرين جنيهاً من عمله عازف عود ضمن التخت الشرقي[ر. الفرقة الموسيقية] في الأفراح والحفلات. قرر محمد القصبجي أن ينصرف إلى التلحين أسوة بغيره ممن يقلون عنه موهبة، وابتسم له الحظ فجأة حينما غنت له المطربة توحيدة التي تعمل في صالة «ألف ليلة وليلة» أول ألحانه دَوْر «الحب له في الناس أحكام» فطارت شهرته إلى المغنيات وشركات الأسطوانات على حد سواء. في عام 1920 لحن أغنيته الماجنة الشهيرة «بعد العشا يحلا الهزار والفرفشة» التي تخاطفتها مطربات زمانه كافة مثل: ملك، واللاوندية، وفاطمة قدري، وعزيزة فخري. وفي العام نفسه تعرف المطربتين الكبيرتين فتحية أحمد، ومنيرة المهدية التي غنت له قبل أن تراه أغنية «بعد العشا…». وتعرف أيضاً محمد عبد الوهاب الذي درس العزف بالعود على يديه. وفي العام 1924 غنّت له أم كلثوم من ألحانه طقطوقة (أغنية خفيفة) «قال إيه حلف ما يكلمنيش»، ومن ثم تتابعت ألحانه فغنت له «أنا عندي أمل تنسى اللي حصل» و«من السنة للسنة يا حلو لما أنظرك» و«إن حالي في هواها عجب» و«صحيح خصامك ولا هزار» و«بحبك وأنت مش داري»، وقد ارتفع أجر القصبجي في هذه الألحان من ثمانية جنيهات إلى خمسة عشر جنيهاً للحن الواحد، وكان عليه، وقد غدا من كبار الملحنين، أن يقدم جديداً في ألحانه، وأن يجعل هذا الجديد لصوت أم كلثوم من دون أن يقطع صلته بمنيرة المهدية التي لحن لها «شال الحمام» و«اسمع أغاني المهدية» وأوبريت «كيد النساء» ليونس القاضي، و«المظلومة» التي شاركه في تلحينها كامل الخلعي ومحمد عبد الوهاب، وأوبريت «حياة النفوس» التي ألفها أحمد زكي السيد. كذلك لحن في الفترة نفسها لمسرح نجيب الريحاني أوبريت «نجمة الصباح» التي شاركه في تلحين أجزاء من الفصل الأخير الموسيقي إبراهيم فوزي. وفي العام 1926 لحَّن لأم كلثوم أربعاً وعشرين أغنية مختلفة الأنواع. وفي العام 1927 لحّن ثلاث أغنيات واحدة منها في رثاء «سعد زغلول»، ومثلها في العام 1928 وكانت من بينها مونولوغ «إن كنت أسامح» الذي عُدّ منعطفاً مهماً في تاريخ الغناء العربي. ففي هذا المونولوغ أعطى القصبجي الصوت الإنساني- للمرة الأولى في تاريخ الغناء العربي- أبعاده الدرامية في التعبير، ولم يعد المطرب مجرد مغنٍ يؤدي ألحاناً لكلمات مجردة من المشاعر، وإنما أضحى يخصص ما يعرف من فنون الغناء لخدمة الغناء. وقد بيع من هذه الأغنية المسجلة على أسطوانات أوديون مليون أسطوانة، وهو رقم أسطوري لعام 1928، وربحت شركة الأسطوانات مئة ألف جنيه، بينما قبض القصبجي ثمن اللحن خمسة عشر جنيهاً، وأم كلثوم ثمانين جنيهاً مقابل الأداء. بعد هذا المونولوغ تراوحت ألحان القصبجي في قوتها بين مد وجزر إلى أن أعطى لأم كلثوم مونولوغ «خاصمتني» وأعقبه بمونولوغ «ياما ناديت» لتستتب له من خلالهما السيادة على فن المونولوغ الذي جاء به. ولكي يحقق القصبجي هدفه بصورة أقوى وأعمق انصرف مع الشاعر أحمد رامي إلى دراسة الأغنية الحديثة التي يتطلبها عصر ثلاثينات القرن العشرين، ولما كان رامي متأثراً بالرومنسية الفرنسية فقد عرض أفكاره لنظم الأغنية على القصبجي فتجاوب معها واشترط عليه في الوقت نفسه أن تكون تفعيلات القصيدة أو الزجل متعددة لتساعد التلحين على التنويع والتلوين في المقامات والإيقاعات، وأطلق على هذا النوع من الأغاني التسمية نفسها السائدة في أوربا (مونولوغ) monologue المأخوذ أصلاً من «آريا» (أغنية) aria في الأوبرا، علماً أن المونولوغ عرف في مصر منذ العام 1917، وغناه كثيرون من دون أن يتوصلوا إلى الهدف الرومنسي المقصود من وراء ذلك. وهكذا وُلدت بفضل القصبجي ورامي المرحلة الرومنسية في الغناء العربي لتلتهم شيئاً فشيئاً قوالب الغناء المعروفة، وكان فن الدور أول ضحاياها، وكذلك الأغنية الدارجة ذات الهدف الاجتماعي والسياسي التي أرسى دعائمها سيد درويش. وفي عقد الثلاثينات، أعطى القصبجي ورامي فيضاً من الأغاني الرومنسية لأم كلثوم من أبرزها: «يانجم» و«طالت ليالي البعاد» و«فين العيون» و«ياللي جفاك المنام» و«أيها الفلك على وشك الرحيل» و«انظري هذه دموع الفرح» و«يا غائباً عن عيوني». تمرد القصبجي على الأوضاع الموسيقية السائدة في عصره قبل محمد عبد الوهاب، وفي خط موازٍ لسيد درويش، إذ كان ينطلق من فكرة التخلص من أساليب الغناء الأعجمية إلى أساليب معاصرة أكثر حداثة من تلك التي عفا عليها الدهر. وإذا كان الشيخ أبو العلا محمد قد اهتم بالقصيدة لفظاً ونحواً وإلقاء من دون سائر أنواع النظم، فإن القصبجي اهتم بأنواع النظم كافة من طقطوقة ومواليا ودور وموشحة وقصيدة ثم بالمونولوغ الذي أبدعه، وهو في هذا يختلف عن سيد درويش الذي اهتم بالطقطوقة كأغنية جماهيرية ومن ثم بالدور والموشحة والأوبريت. وتَمَرُّد القصبجي على الأساليب الغنائية والموسيقية نابع من أرضيته الثقافية والفكرية، فهو الوحيد بين زملائه الموسيقيين الذين عاصروه حاصل على مؤهل علمي أتاح له التدريس في مدرسة المعلمين قبل أن يتمرد على الزي الرسمي الملزم للمعلمين، وهذا يعني أنه يمتلك الوسائل التي تساعده على التعليم والتعلم وتثقيف نفسه قبل تثقيف غيره، وهذا التمرد قاده إلى التخلص من الدولاب الموسيقي الذي كان يسبق الغناء، والذي ظل الملحنون بما فيهم محمد عبد الوهاب يعملون به زمناً قبل أن يأخذوا بالتجديد الذي جاء به القصبجي، والذي هو عبارة عن مقدمة موسيقية قصيرة، أو لازمة موسيقية تترجم إلى حد ما معنى وروح الأغنية. ورافق هذا التمرد تمرد آخر على أسلوب الإلقاء الغنائي الذي اتخذ شكلاً إبداعياً، وهذا الإبداع لم يأت عفو الخاطر، وإنما نتيجة احتكاك القصبجي بأساليب الغناء الغربية التي عايشها وتعلمها ودرسها من وراء إدمانه عروض الأوبرا والفرق السمفونية وأشكال التأليف الغربي الأخرى والتي ألزم نفسه بمشاهدتها والاستماع إليها كثقافة موسيقية مثل الأغنيات الفردية الشاعرية (المونولوغ) الذي يقوم على المناجاة العاطفية، الذي قبسه وقدمه بلغة موسيقية عربية خالية من الشوائب، مخصصاً في ذلك الأساليب الغربية في الإلقاء الغنائي لخدمة الغناء العربي في الاستعارة والمد والترجيع. وهو في مونولوغ «يا ما ناديت من أسايا» الذي لحنه لأم كلثوم في مستهل ثلاثينات القرن العشرين رسم المستقبل الوضاء الذي ينتظره الغناء العربي على أيدي العمالقة. ويتضح الأسلوب الذي جاء به أكثر فأكثر في أعماله اللاحقة ليتصاعد باستمرار ليبلغ الأوج عام 1936 في مونولوغات «منيت شبابي» و«يا مجد» و«نامي يا ملاكي» و«ياللي صنعت الجميل» لأم كلثوم، ولاسيما حينما طبق على «منيت شبابي» الانسجام[ر] الموسيقي (هارموني) harmony على مقام الراست الشرقي، وفي مونولوغ «يامجد» تعدد الأصوات «بوليفوني» polyphony وهو أسلوب غربي استخدمه فيما بعد في مونولوغ «يا طيور» لأسمهان. والقصبجي بعمله هذا نقل الثقافة الموسيقية الغربية ليعممها بأسلوبه وشخصيته عن طريق الأصوات القادرة والأثيرة إلى نفسه والجماهير.
امتد تمرد القصبجي على الشكل الفني للطقطوقة الذي جاء به سيد درويش، إذ ألغى الرتابة اللحنية التي تشمل أغصان الطقطوقة كلها من دون أن يمس القالب الفني كشكل غنائي معتمد. وكانت أول أغنية طبق فيها ذلك هي طقطوقة «ليه تلاوعيني»، ومن ثم طقطوقة «إنت فاكراني واللا نسياني» عام 1932 لأم كلثوم. وقد دفع بذلك سائر الملحنين بما فيهم محمد عبد الوهاب والسنباطي إلى الاقتداء به. وقد وجد في صوت ليلى مراد الصوت المثالي لأداء هذا النوع من الغناء الخفيف فلحن لها، ولأسمهان، ولأم كلثوم عشرات الأغنيات التي استخدم في بعضها الكورال على صوتين، وفي بعضها الآخر الانسجام الموسيقي كما في أغنية «قلبي دليلي» لليلى مراد و«إيمتى ح تعرف إيمتى» و«يا طيور» لأسمهان وفيها استخدم في التلحين أسلوب الإلقاء الغنائي الأوبرالي، كما أنه أول من استخدم الأصوات الملونة (الكروماتيك) chromatique من الملحنين في أغنية «إضحك كركر» لليلى مراد، و«نورك يا ست الكل» لأم كلثوم.
شارك القصبجي في عقد ونيِّف من الزمن (1935ـ1948) في تلحين أكثر من خمسين فيلماً لحن فيها أغنيات لعدد كبير من المطربات والمطربين منهم: نور الهدى، وصباح، وسعاد محمد، وأسمهان، وليلى مراد، وشادية، وهدى سلطان، وشارك ليلى مراد غناءً في أغنية واحدة في فيلم «ليلى في الظلام»، وغنى أيضاً في فيلم «الاتهام»، وشارك في تلحين خمسة أفلام من أفلام أم كلثوم الستة، والفصل الأول من أوبرا عايدة في فيلم «عايدة». ووضع من وراء تجربته التلحينية في السينما قالباً للطقطوقة السينمائية تتميز بلازمتها الموسيقية الحيوية، وآخر للقصيدة السينمائية، أعطى فيها نموذجاً خالداً في قصيدة «ليت للبراق عيناً فترى» التي ظهرت في فيلم «ليلى بنت الصحراء»، لتصير الأساس الذي سار عليه السنباطي فيما بعد في تلحين القصيدة السينمائية كما في قصائد «أصون كرامتي وأنا وحدي»، و«أيها النائم» وغيرها.
تزوج القصبجي أربع مرات وكله أمل في ولد يرثه ويرث اسمه ويتابع مسيرته، ولكن أياً من زوجاته الأربع لم تسعده بولد، فاكتشف أنه عقيم، ومن هنا كانت أعماله المبدعة الخلاقة وبصماته الواضحة في الموسيقى والغناء هي أولاده.
أجمل أعماله غير التي وردت آنفاً: «رق الحبيب» لأم كلثوم، وهي تحفة فنية لازالت تطرب السامعين حتى هذا اليوم، وقصيدتا «هل تيم البان» و«اسقنيها بأبي أنت وأمي» لأسمهان، وطقاطيق «يا ريتني أنسى الحب» و«يا جمال العصفور» و«يا خوفي بابا يشوفني» لليلى مراد، ومقطوعتا «ذكرياتي وسماعي بياتي»[ر. الصيغ الموسيقية].
قال فيه محمد عبد الوهاب: «علمني محمد القصبجي العزف على العود، كما علمني كيف ألحن المونولوغ». وقال السنباطي: «القصبجي حاجة تانية، منه تعلمت تلحين المونولوغ، وهو معلم كبير لا يجارى». وقالت أم كلثوم: «القصبجي عالم ومعلم كبير سبق عصره بمئة سنة على الأقل». وقال فريد الأطرش: «كان يمكن لأسمهان لو عاشت أن تغدو من وراء ألحان القصبجي في قمة نائية جداً عن القمم التي تتربع عليها سائر المطربات».
وعن لحن أغنية «قلبي دليلي» قال محمد فوزي هذا لحن من عام 2000 وليس من عام 1948.
حينما حضرت الوفاة محمد القصبجي، طلب أن يدفن قريباً من قبر أسمهان، وهو بطلبه هذا كان يرد على أم كلثوم التي شككت بنبوغه وعبقريته بعد موت أسمهان انتقاماً منه لاهتمامه الكبير بصوتها الرائع.
صميم الشريف