مونودراما "أُحبُّها": في ثنائية العقلاني واللاعقلاني
أنور محمد
مسرح
الممثل والمخرج عبد الكريم عمرين
شارك هذا المقال
حجم الخط
مسرحية "أُحبُّها" هي مونودراما للكاتب السوري فرحان بلبل، أداء وإخراج الناقد والممثِّل عبد الكريم عمرين، وقد عُرضت في كاتدرائية الروح القدس للسريان الكاثوليك في حمص، ونجد فيها غرفة مُفترضة بأثاث فاخر وأنيق لكنَّه قديم، وتسودُها الفوضى، مع أصواتِ رصاص كثيفة، وأصوات قذائف قريبة وبعيدة؛ في إشارة ربَّما إلى الحرب الظالمة في وعلى سورية التي لم تنته، أو إلى القذائف التي تُطلق على العمَّال المتظاهرين لتفريقهم؛ كما نجد عمالًا طفح بهم الكيل لأنهم جوعى وضد الفساد، تظاهروا داخل المعمل، وصرخوا بشعارين، واعتصموا منتظرين من السلطات العليا أن تجد لهم حلًا. هنا، وضعنا فرحان بلبل مع ثلاث شخصيات: الأب، والابن، والزوجة.
جمال؛ وهو في الخامسة والستين، يجلس خلف الطاولة، ويبدو متوترًا وهو يقوم بالنقر على أرقام الهاتف: ألو. لا تقولي عمو، ولا تقولي خالو. أعطيني كامل. إن كامل يطبخ؟ يستغرب جمال، فابنه يطبخ وينفخ، وامرأته تتسلى بالرد على الهاتف. ناديه بسرعة. فيوبخه، فيستعيد جمال شريط الذكريات يوم تخرَّج من الجامعة، وتعيَّن موظفًا تحت إدارة مها، التي ستمسي زوجته لاحقًا، فيذهب الممثل عبد الكريم عمرين من الإلقاء وهو خلف الطاولة، إلى التمثيل الحيّْ، فتتحوَّل الطاولة إلى مناطق قوَّة؛ فالممثِّل بحركاته المُفتعلة ـ حركات يديه وجذعه ورأسه ـ يصير مصدرًا لنشر التراجيديا، فيقيم تلك العلاقة المجازية بين الصوت والصورة، بين الشكل والمضمون ووحدتهما، وهو يؤدي أدوار ثلاث شخصيات متنافرة ومتناقضة، بل ومتصارعة. فجمال لمَّا تعيَّن موظفًا أحبَّ مها رئيسته، ومن ثمَّ خَطَبَها، وكان كلَّما التقى بها تفتح له حديثًا في السياسة. وأَحَبُّ حديثٍ عندها هو عن جَدِّها الذي حاربَ في جيش الإنقاذ عام نكبة فلسطين 1948، وقُتل هناك. أمَّا كلمة (قُتِل) فكانت تثيرها، وتتحوِّل إلى وحشٍ مفترس إذا قال جمال عن جدها إنه ُقتل. يجب عليه أن يقول: اسْتُشْهِد. وفي ليلة الدخلة؛ تسألُ مها جمال: ما رأيك بالقضية الفلسطينية؟ القضية الفلسطينية؟ هل هذا وقت السؤال عن القضية الفلسطينية؟ صحيح أن جَدَّكِ اسْتُشهدَ في فلسطين. لكنَّكِ لستِ فلسطينية حتى تسألي ليلة عرسنا عن القضية الفلسطينية. أَفْحَل فلسطيني لا يسأل هذا السؤال ليلة عرسه حتى لو كان كل أهله شهداء. ينسى فلسطين، وأمَّ فلسطين، وجَدَّ جَدِّ فلسطين، وينشغل بشيء آخر. وتردُّ عليه: القضيةُ الفلسطينية لا تخصُّ الفلسطينيين وحدهم. ويُجيبها: هذه ليلة عرسنا يا حبيبتي، والناسُ في ليلة العرس يتحدَّثون عن الحُبْ، عن المستقبل. تُقاطعه قائلة: أعرفُ، أعرف، لكن لا يمكن أن تقترب مني إذا لم تكن تعرف تفاصيل القضية الفلسطينية، لأنِّي أشعرُ أنَّي أخون أبي وأهلي.
فرحان بلبل في هذا المطلب من العروس مها، الذي يبدو استفزازيًا للعريس جمال في مسرحيته هذه "أُحبُّها")، وهو مطلبٌ غريب قلَّ أن يحدث، يقف ضدَّ تسليع القضية الفلسطينية، محاولًا إغلاق كل "السوبرماركتات" السياسية القومجية للأنظمة العربية التي حوَّلت القضية إلى سلعة تجارية، فتهدر حقوق الشعب العربي ـ والعربي الفلسطيني باسمها. فرحان بلبل يحاول إحداث تغيير سياسي وجمالي، فشرط الزواج، أو مهر الزواج، هو إعادة الاعتبار لهذه القضية التي نسيتها الأنظمة الاستبدادية، وهو موقف مُثقَّف مسرحي من أمَّةٍ تفقد كينونتها أمام ضراوة الوحش الصهيوني والأميركي. فرحان بلبل في هذا الطلب الاستفزازي، كما قلنا، من الزوجة للزوج في ليلة الدخلة يُثير الاستغراب، وربَّما التهكُّم، لكنه يؤسس لعلاقة حوارية نقدية بين الغاصب والمغصوب ـ ولو أنها صعبة، لأن هنالك قيمًا عقلية وأخلاقية مدنية عند مها، وععندما تصرُّ على تحقيقها، فذلك لتتحوَّل إلى قوَّة مادية. وهذا ما يفجِّر عند جمال ما بقي من عقل عنده على حساب غريزته الجنسية فيصرخ: يا ناس.. يا هوه.. يا عالم.. يا مجانين.. يا عقلاء.. يا قرود.. هل سمع أحدٌ عن امرأةٍ تسألُ زوجها ليلة عرسها عن السياسة؟ ثمَّ يسألها: وهل أنا مُتزوِّج من ياسر عرفات؟ اتركيني من هذه الأسئلة السخيفة، واقتربي مني، فهذه ليلةٌ تحدث في العمر كله مرَّةً واحدة؛ فهل أتذكَّرُ بعد عشرين سنة أنَّنا أمضينا ليلة عرسنا ونحن نتحدَّثُ عن القضية الفلسطينية؟ وتردُّ مَهَا على عريسها جمال كَمَنْ يَحمِلُ صَليبَه على ظَهرِه: لكني لا أستطيع أن أقتربَ منكَ إذا لم تكُن تعرفُ كلَّ شيءٍ عن القضية الفلسطينية، وعمَّا يجري في فلسطين. كيف يمكنني أن أفرح وأولادُ فلسطين يتألمون؟
فرحان بلبل يُصَعِّد الفعل التراجيدي نحو الذروة، فنورُ العقل عند مَهَا يريدُ فلسطين، وفي هذه الليلة التي تحدث في العمر مرَّةً واحدةً مهما كان سلطان الاستبداد السياسي والجنسي قويًا ومُظلمًا. هنا في هذا الموقف الذي تصرُّ عليه مَهَا نحن مع ثنائية العقلاني واللاَّعقلاني، فهما منقسمان، ولكنَّهما مندمجان تحت سطح القيد الزوجي، ومَهَا هي مَنْ يتحكَّم بالقرار، ذلك لتكشف في ما بعد عن الجوهر الانتهازي اللاعقلاني لزوجها جمال، والذي سينغمس في الفساد الاقتصادي مع شلة من المسؤولين في مؤسَّسته، والذين كان سلوكهم الوحشي في افتراس الحريات والعدالة سببًا في الإضرابات والاعتصامات والاعتراضات من قبل العمال الذين يأمر هو وعصابته الحاكمة بضرِبهم بالرصاص، وبقتل كلَّ من يعتصم، أو يعترض، لأنَّ هذا الرصاص سيحمي العصابة من الفضيحة؛ فاقضوا على هؤلاء العمال والموظفين المعتصمين، اقضوا على القضية الفلسطينية، وما يتبعها، فصوتُ رصاصكم أجمل من أجمل موسيقى.
في هذا الموقف الذي يدعم فيه مَهَا ردُّ اعتبارٍ لسلسلة الهزائم التي مُني بها المشروع النهضوي العربي، فلا فلسطين فلسطين، ولا سورية سورية، ولا العراق عراق، ولا لبنان لبنان، ولا... حتى لو كان الموقف خياليًا، كما فعل من قبل أريستوفانيس في مسرحيته "ليزيستراتا" التي تمَّ عرضها للمرة الأولى في أثينا في عام 411 ق.م، حين جمعت ليزيستراتا نساء الطرفين المتحاربين لإنهاء الحروب البيلوبونيسية بين دول المُدن اليونانية في قلعتها وهي تسألهن: ما رأيكن يا صديقاتي في أن نمتنع عن إقامة العلاقات الجنسية مع رجالنا، فنحرمهم من تلك المتعة، ونجعلهم يدفعون غاليًا ثمن ما يرتكبون؟ وفرضت على المتحاربين الذين تجمَّعوا تحت القلعة إيقاف الحرب مقابل استلام كل محارب زوجته ليتماسا ذاك التماس الذي أرضخ جمال، فخضع لدورة دراسية تابع فيها القضية الجهنمية كما سمَّاها، وبعد شهرين من القراءة والاطلاع وغير ذلك، اقتحمَ غرفة مها مثل فارس مغوار: اسمعي يا مَهَا. أنا اليوم أعرفُ كلَّ شيءٍ عن قضيتك الفلسطينية. فتقول له: اجلسْ وحدِّثني عمَّا تعرف. فجلسَ على طرف السرير يُحدثُها عن فلسطين منذ كانت كنعانية، إلى صلب المسيح وقيامته، ومعراج رسول الإسلام، والغزو الصليبي وصلاح الدين الأيوبي، واحتلال الإنكليز، ووعد بلفور، وزحف الصهاينة، والنكبة. فتُسّرُّ مها وتعانقه وهي تبكي. ثمَّ... ثمَّ كانت ليلة من ليالي العمر، ليلة سيتمادى بعدها جمال على مَهَا، وينفصل عنها، ويغتصبها، وتحمل منه ولدًا تسميه "كامل"، وليس "ناقص"، وسيدرس ويتخرَّج في الجامعة، ويحبُّ فتاة ويتزوجها، ولا يدعو أباه جمال إلى عقد قرانه، ومن ثمَّ إلى عرسه.
الممثِّل والمُخرج عبد الكريم عمرين في إخراجه وأدائه لمونودراما "أُحبُّها"، ذهب نحو "التجريب"، ولكن وهو يمتحُ من ينابيع المسرح الطبيعي، فالأداء كان من دون أقنعة، ومن دون موسيقى وألبسة وإضاءة، إلاَّ ضوء الصالة في الكنيسة، ومن دون ديكورات إلاَّ من طاولة وكرسي وجهاز هاتف وزجاجة مشروب وميكروفون؛ كمن يُلقي درسًا، أو محاضرة، معتمدًا على جذعه ويديه ورأسه في أداء أدوار شخصيات المسرحية. فبدا ـ شاهدتُ العرض من خلال شريط فيديو ـ مُمثِّلًا ومُخرِجًا يكسر الحائط الرابع بين الممثل والجمهور في عملية تلاحم تمَّحي فيها المسافة بين الطاولة والكواليس؛ لا كواليس، بل علاقة مباشرة مع الجمهور، ليُحقِّق الشعور بالتواصل، ليُحقِّق المسرح الخالص ليس كحكَّاء، ولكن كممثل بأدوارٍ ووجوهٍ متعددة. فالطاولة هي الخشبة، وهي صياغة إخراجية جديدة في تحويل النص الورقي إلى عرضٍ مادي، والورقةُ ما تزالُ بين يديه على الطاولة.
عمرين وهو يؤدي ـ وهذه تُحسب له ـ كان حريصًا ألاَّ يكون حضوره التمثيلي حضورًا سرديًا يأخذنا إلى الحكي القصصي. لقد كان واعيًا وهو يبذل ما يبذل من جهدٍ في أدائه أن يكون حضوره على الطاولة/ الخشبة تمثيليًا، فهناك: ممثِّل ومكان وزمان. فكان حضوره يشيع الفعل التراجيدي/ المأساوي/ حضورًا دراميًا، فيترك للمتفرِّج أن يتصوَّر المَشَاهِد من دون المؤثِّرات البصرية والصوتية، وظلَّ خلال فترة العرض (30 دقيقة) في علاقة متحرِّكة مع المتفرِّج، وفلسطين/ القضية الفلسطينية تنفجر به وينفجر بها نفسيًا وفكريًا، وهو ينتقل ويتنقَّل في أدائه من مجال المسرحة إلى مجال الأفعال الطبيعية، فلم تكن الحوارات بين شخصيات مسرحية "اُحبُّها" أقوالًا لغوية، بل كانت جُمَلًا تُفصِحُ عن معانيها: لا رموز؛ انتهازي وشلة لصوص يسرقون المال العام، ويستهينون بعرق وتعب العمال، ويُريقون دماءهم، ويُشيعون الفساد والانحلال الأخلاقي، ومن قبل سرقَ آباؤهم وأجدادُهم في مراكز السلطة (فلسطين)، وقدّموها على طبق من ذهب للحركة الصهيونية.
فرحان بلبل مؤلفًا ومُشرفًا، وعبد الكريم عمرين ممثِّلًا ومُخرجًا، يحاولان إيقاف مرسوم من القوَّة العظمى للاستبداد العربي لتنفيذ حكم الإعدام بالقضية الفلسطينية. وفلسطين جاءت من حكاية ذات طبيعة أسروية عائلية بين زوجين؛ الزوج لا تعنيه فلسطين بشيء، بل هو يبيعها مقابل ليلة في حضن امرأة، فيما زوجته ترفض ملامسته إذا لم يعجن دمه بتراب فلسطين. ولذا سيدفع هذا الزوج ثمن خياناته، فكما بدأ وهو يرفع سمَّاعة الهاتف سينتهي وهو يرفعها ويسقط ميتًا فوق الطاولة.
أنور محمد
مسرح
الممثل والمخرج عبد الكريم عمرين
شارك هذا المقال
حجم الخط
مسرحية "أُحبُّها" هي مونودراما للكاتب السوري فرحان بلبل، أداء وإخراج الناقد والممثِّل عبد الكريم عمرين، وقد عُرضت في كاتدرائية الروح القدس للسريان الكاثوليك في حمص، ونجد فيها غرفة مُفترضة بأثاث فاخر وأنيق لكنَّه قديم، وتسودُها الفوضى، مع أصواتِ رصاص كثيفة، وأصوات قذائف قريبة وبعيدة؛ في إشارة ربَّما إلى الحرب الظالمة في وعلى سورية التي لم تنته، أو إلى القذائف التي تُطلق على العمَّال المتظاهرين لتفريقهم؛ كما نجد عمالًا طفح بهم الكيل لأنهم جوعى وضد الفساد، تظاهروا داخل المعمل، وصرخوا بشعارين، واعتصموا منتظرين من السلطات العليا أن تجد لهم حلًا. هنا، وضعنا فرحان بلبل مع ثلاث شخصيات: الأب، والابن، والزوجة.
جمال؛ وهو في الخامسة والستين، يجلس خلف الطاولة، ويبدو متوترًا وهو يقوم بالنقر على أرقام الهاتف: ألو. لا تقولي عمو، ولا تقولي خالو. أعطيني كامل. إن كامل يطبخ؟ يستغرب جمال، فابنه يطبخ وينفخ، وامرأته تتسلى بالرد على الهاتف. ناديه بسرعة. فيوبخه، فيستعيد جمال شريط الذكريات يوم تخرَّج من الجامعة، وتعيَّن موظفًا تحت إدارة مها، التي ستمسي زوجته لاحقًا، فيذهب الممثل عبد الكريم عمرين من الإلقاء وهو خلف الطاولة، إلى التمثيل الحيّْ، فتتحوَّل الطاولة إلى مناطق قوَّة؛ فالممثِّل بحركاته المُفتعلة ـ حركات يديه وجذعه ورأسه ـ يصير مصدرًا لنشر التراجيديا، فيقيم تلك العلاقة المجازية بين الصوت والصورة، بين الشكل والمضمون ووحدتهما، وهو يؤدي أدوار ثلاث شخصيات متنافرة ومتناقضة، بل ومتصارعة. فجمال لمَّا تعيَّن موظفًا أحبَّ مها رئيسته، ومن ثمَّ خَطَبَها، وكان كلَّما التقى بها تفتح له حديثًا في السياسة. وأَحَبُّ حديثٍ عندها هو عن جَدِّها الذي حاربَ في جيش الإنقاذ عام نكبة فلسطين 1948، وقُتل هناك. أمَّا كلمة (قُتِل) فكانت تثيرها، وتتحوِّل إلى وحشٍ مفترس إذا قال جمال عن جدها إنه ُقتل. يجب عليه أن يقول: اسْتُشْهِد. وفي ليلة الدخلة؛ تسألُ مها جمال: ما رأيك بالقضية الفلسطينية؟ القضية الفلسطينية؟ هل هذا وقت السؤال عن القضية الفلسطينية؟ صحيح أن جَدَّكِ اسْتُشهدَ في فلسطين. لكنَّكِ لستِ فلسطينية حتى تسألي ليلة عرسنا عن القضية الفلسطينية. أَفْحَل فلسطيني لا يسأل هذا السؤال ليلة عرسه حتى لو كان كل أهله شهداء. ينسى فلسطين، وأمَّ فلسطين، وجَدَّ جَدِّ فلسطين، وينشغل بشيء آخر. وتردُّ عليه: القضيةُ الفلسطينية لا تخصُّ الفلسطينيين وحدهم. ويُجيبها: هذه ليلة عرسنا يا حبيبتي، والناسُ في ليلة العرس يتحدَّثون عن الحُبْ، عن المستقبل. تُقاطعه قائلة: أعرفُ، أعرف، لكن لا يمكن أن تقترب مني إذا لم تكن تعرف تفاصيل القضية الفلسطينية، لأنِّي أشعرُ أنَّي أخون أبي وأهلي.
فرحان بلبل في هذا المطلب من العروس مها، الذي يبدو استفزازيًا للعريس جمال في مسرحيته هذه "أُحبُّها")، وهو مطلبٌ غريب قلَّ أن يحدث، يقف ضدَّ تسليع القضية الفلسطينية، محاولًا إغلاق كل "السوبرماركتات" السياسية القومجية للأنظمة العربية التي حوَّلت القضية إلى سلعة تجارية، فتهدر حقوق الشعب العربي ـ والعربي الفلسطيني باسمها. فرحان بلبل يحاول إحداث تغيير سياسي وجمالي، فشرط الزواج، أو مهر الزواج، هو إعادة الاعتبار لهذه القضية التي نسيتها الأنظمة الاستبدادية، وهو موقف مُثقَّف مسرحي من أمَّةٍ تفقد كينونتها أمام ضراوة الوحش الصهيوني والأميركي. فرحان بلبل في هذا الطلب الاستفزازي، كما قلنا، من الزوجة للزوج في ليلة الدخلة يُثير الاستغراب، وربَّما التهكُّم، لكنه يؤسس لعلاقة حوارية نقدية بين الغاصب والمغصوب ـ ولو أنها صعبة، لأن هنالك قيمًا عقلية وأخلاقية مدنية عند مها، وععندما تصرُّ على تحقيقها، فذلك لتتحوَّل إلى قوَّة مادية. وهذا ما يفجِّر عند جمال ما بقي من عقل عنده على حساب غريزته الجنسية فيصرخ: يا ناس.. يا هوه.. يا عالم.. يا مجانين.. يا عقلاء.. يا قرود.. هل سمع أحدٌ عن امرأةٍ تسألُ زوجها ليلة عرسها عن السياسة؟ ثمَّ يسألها: وهل أنا مُتزوِّج من ياسر عرفات؟ اتركيني من هذه الأسئلة السخيفة، واقتربي مني، فهذه ليلةٌ تحدث في العمر كله مرَّةً واحدة؛ فهل أتذكَّرُ بعد عشرين سنة أنَّنا أمضينا ليلة عرسنا ونحن نتحدَّثُ عن القضية الفلسطينية؟ وتردُّ مَهَا على عريسها جمال كَمَنْ يَحمِلُ صَليبَه على ظَهرِه: لكني لا أستطيع أن أقتربَ منكَ إذا لم تكُن تعرفُ كلَّ شيءٍ عن القضية الفلسطينية، وعمَّا يجري في فلسطين. كيف يمكنني أن أفرح وأولادُ فلسطين يتألمون؟
"فرحان بلبل مؤلفًا ومُشرفًا، وعبد الكريم عمرين ممثِّلًا ومُخرجًا، يحاولان إيقاف مرسوم من القوَّة العظمى للاستبداد العربي لتنفيذ حكم الإعدام بالقضية الفلسطينية" |
فرحان بلبل يُصَعِّد الفعل التراجيدي نحو الذروة، فنورُ العقل عند مَهَا يريدُ فلسطين، وفي هذه الليلة التي تحدث في العمر مرَّةً واحدةً مهما كان سلطان الاستبداد السياسي والجنسي قويًا ومُظلمًا. هنا في هذا الموقف الذي تصرُّ عليه مَهَا نحن مع ثنائية العقلاني واللاَّعقلاني، فهما منقسمان، ولكنَّهما مندمجان تحت سطح القيد الزوجي، ومَهَا هي مَنْ يتحكَّم بالقرار، ذلك لتكشف في ما بعد عن الجوهر الانتهازي اللاعقلاني لزوجها جمال، والذي سينغمس في الفساد الاقتصادي مع شلة من المسؤولين في مؤسَّسته، والذين كان سلوكهم الوحشي في افتراس الحريات والعدالة سببًا في الإضرابات والاعتصامات والاعتراضات من قبل العمال الذين يأمر هو وعصابته الحاكمة بضرِبهم بالرصاص، وبقتل كلَّ من يعتصم، أو يعترض، لأنَّ هذا الرصاص سيحمي العصابة من الفضيحة؛ فاقضوا على هؤلاء العمال والموظفين المعتصمين، اقضوا على القضية الفلسطينية، وما يتبعها، فصوتُ رصاصكم أجمل من أجمل موسيقى.
في هذا الموقف الذي يدعم فيه مَهَا ردُّ اعتبارٍ لسلسلة الهزائم التي مُني بها المشروع النهضوي العربي، فلا فلسطين فلسطين، ولا سورية سورية، ولا العراق عراق، ولا لبنان لبنان، ولا... حتى لو كان الموقف خياليًا، كما فعل من قبل أريستوفانيس في مسرحيته "ليزيستراتا" التي تمَّ عرضها للمرة الأولى في أثينا في عام 411 ق.م، حين جمعت ليزيستراتا نساء الطرفين المتحاربين لإنهاء الحروب البيلوبونيسية بين دول المُدن اليونانية في قلعتها وهي تسألهن: ما رأيكن يا صديقاتي في أن نمتنع عن إقامة العلاقات الجنسية مع رجالنا، فنحرمهم من تلك المتعة، ونجعلهم يدفعون غاليًا ثمن ما يرتكبون؟ وفرضت على المتحاربين الذين تجمَّعوا تحت القلعة إيقاف الحرب مقابل استلام كل محارب زوجته ليتماسا ذاك التماس الذي أرضخ جمال، فخضع لدورة دراسية تابع فيها القضية الجهنمية كما سمَّاها، وبعد شهرين من القراءة والاطلاع وغير ذلك، اقتحمَ غرفة مها مثل فارس مغوار: اسمعي يا مَهَا. أنا اليوم أعرفُ كلَّ شيءٍ عن قضيتك الفلسطينية. فتقول له: اجلسْ وحدِّثني عمَّا تعرف. فجلسَ على طرف السرير يُحدثُها عن فلسطين منذ كانت كنعانية، إلى صلب المسيح وقيامته، ومعراج رسول الإسلام، والغزو الصليبي وصلاح الدين الأيوبي، واحتلال الإنكليز، ووعد بلفور، وزحف الصهاينة، والنكبة. فتُسّرُّ مها وتعانقه وهي تبكي. ثمَّ... ثمَّ كانت ليلة من ليالي العمر، ليلة سيتمادى بعدها جمال على مَهَا، وينفصل عنها، ويغتصبها، وتحمل منه ولدًا تسميه "كامل"، وليس "ناقص"، وسيدرس ويتخرَّج في الجامعة، ويحبُّ فتاة ويتزوجها، ولا يدعو أباه جمال إلى عقد قرانه، ومن ثمَّ إلى عرسه.
الممثِّل والمُخرج عبد الكريم عمرين في إخراجه وأدائه لمونودراما "أُحبُّها"، ذهب نحو "التجريب"، ولكن وهو يمتحُ من ينابيع المسرح الطبيعي، فالأداء كان من دون أقنعة، ومن دون موسيقى وألبسة وإضاءة، إلاَّ ضوء الصالة في الكنيسة، ومن دون ديكورات إلاَّ من طاولة وكرسي وجهاز هاتف وزجاجة مشروب وميكروفون؛ كمن يُلقي درسًا، أو محاضرة، معتمدًا على جذعه ويديه ورأسه في أداء أدوار شخصيات المسرحية. فبدا ـ شاهدتُ العرض من خلال شريط فيديو ـ مُمثِّلًا ومُخرِجًا يكسر الحائط الرابع بين الممثل والجمهور في عملية تلاحم تمَّحي فيها المسافة بين الطاولة والكواليس؛ لا كواليس، بل علاقة مباشرة مع الجمهور، ليُحقِّق الشعور بالتواصل، ليُحقِّق المسرح الخالص ليس كحكَّاء، ولكن كممثل بأدوارٍ ووجوهٍ متعددة. فالطاولة هي الخشبة، وهي صياغة إخراجية جديدة في تحويل النص الورقي إلى عرضٍ مادي، والورقةُ ما تزالُ بين يديه على الطاولة.
عمرين وهو يؤدي ـ وهذه تُحسب له ـ كان حريصًا ألاَّ يكون حضوره التمثيلي حضورًا سرديًا يأخذنا إلى الحكي القصصي. لقد كان واعيًا وهو يبذل ما يبذل من جهدٍ في أدائه أن يكون حضوره على الطاولة/ الخشبة تمثيليًا، فهناك: ممثِّل ومكان وزمان. فكان حضوره يشيع الفعل التراجيدي/ المأساوي/ حضورًا دراميًا، فيترك للمتفرِّج أن يتصوَّر المَشَاهِد من دون المؤثِّرات البصرية والصوتية، وظلَّ خلال فترة العرض (30 دقيقة) في علاقة متحرِّكة مع المتفرِّج، وفلسطين/ القضية الفلسطينية تنفجر به وينفجر بها نفسيًا وفكريًا، وهو ينتقل ويتنقَّل في أدائه من مجال المسرحة إلى مجال الأفعال الطبيعية، فلم تكن الحوارات بين شخصيات مسرحية "اُحبُّها" أقوالًا لغوية، بل كانت جُمَلًا تُفصِحُ عن معانيها: لا رموز؛ انتهازي وشلة لصوص يسرقون المال العام، ويستهينون بعرق وتعب العمال، ويُريقون دماءهم، ويُشيعون الفساد والانحلال الأخلاقي، ومن قبل سرقَ آباؤهم وأجدادُهم في مراكز السلطة (فلسطين)، وقدّموها على طبق من ذهب للحركة الصهيونية.
فرحان بلبل مؤلفًا ومُشرفًا، وعبد الكريم عمرين ممثِّلًا ومُخرجًا، يحاولان إيقاف مرسوم من القوَّة العظمى للاستبداد العربي لتنفيذ حكم الإعدام بالقضية الفلسطينية. وفلسطين جاءت من حكاية ذات طبيعة أسروية عائلية بين زوجين؛ الزوج لا تعنيه فلسطين بشيء، بل هو يبيعها مقابل ليلة في حضن امرأة، فيما زوجته ترفض ملامسته إذا لم يعجن دمه بتراب فلسطين. ولذا سيدفع هذا الزوج ثمن خياناته، فكما بدأ وهو يرفع سمَّاعة الهاتف سينتهي وهو يرفعها ويسقط ميتًا فوق الطاولة.