"موج عالي": مصائر البشر في كفاحهم
أنور محمد
مسرح
مشهد من مسرحية "موج عالي"
شارك هذا المقال
حجم الخط
رقصٌ وغناء، شجاراتٌ وعراكات؛ غضبٌ ورضى، هزلٌ وجدٌّ؛ يسبقه مشهد (فيديو) لمسافرٍ وصل توًا من البحر، يدخل من الجانب الأيمن للمنصة عبر المدخل الرئيس إلى صالة المتفرجين، يصعدُ درجاتٍ، ويصير فوق الخشبة؛ يصير في البر، لتبدأ الرواية المسرحية، لحكاياتٍ تُروى، ولمَّا تنتهي ـ والحكاياتُ وقد رُوِيَتْ، يُغادرُنا المسافرُ منسحبًا وهو بكامل أناقته من دون أن يتلوَّث بمياه ورمال الموج العالي في مشهدٍ فيديوهِي حيث نهاية المسرحية.
بين المَشهديْن سنتفرَّجُ على مسرحية "موج عالي" في مقهى بحري لاستراحة الصيادين؛ تتوزَّع على جانبيه ثمانية أبواب/ مداخل/ كواليس... من أعمدة خشبية تتدلى من أعلاها أشرطة وشراشيب، لتنفذ منها حكايات وانفجارات أرواح شخصياتٍ تسكن شاطئًا بحريًا سوريًا، والتي استلَّها المؤلِّف والمخرج د. سامر عمران من روايات حنا مينه، ومن رواية "اللبش" لوديع اسمندر، وهي الرواية التي أهداها وديع إلى "شهداء لقمة الخبز من عمَّال البحر في ميناء جبلة"، والتي يرصد فيها قصصًا عن حياة الصيادين القائمة على المغامرات والمحفوفة بالمخاطر. فيكشف عمران مرَّةً بالعلبة الإيطالية، ومرَّةً بكسر الجدار الرابع، عن وحدة التجربة الإنسانية لبشر يشكِّلُ البحرُ نافذتهم على المستقبل، فيغامرون بالسفر، أو يعودون محمَّلين بالخيبة، أو بالغرق، أو سفرٌ بلا عودة؛ مصائر يذهبون إليها بمصادفات عفوية، ومصائر يشتغل عليها المتآمرون، مثل المختار أبو فهد وجماعته.
عمران ومن آلامٍ وأحزانٍ وحواراتٍ تملي على الممثلين الأفعال الحركية، يستدرجنا كمتفرجين، ويتركنا في حدثٍ مسرحي كأنَّه يحدثُ الآن ـ هنا، في الحاضر ـ الحاضر المستمر، حدثٌ يتفتَّت ويتشظى، وهو يذهب من السرد الواقعي إلى القصيدة الملحمية، ثمَّ يحطِّمها، ويضعنا ثانية في مواجهة ما يحدث لنتفرَّج على عرضه "موج عالي" مشروع تخرُّج لمجموعة طلاب في جامعة "المنارة" باللاذقية قسم التمثيل: إبراهيم طبولي، أنيس الحكيم، آلاء الخطيب، حيدره اسمندر، راما محفوض، رباح الصالح، سليم خندرية، سمهر بدور، عامر إسماعيل، عبد الكريم خطاب، عمر الأعور، غدير جديد، لمى غريب، لين سليمان، محمود أحمد، مروى سليمان، مريم إبراهيم، هادي طنيش، يوسف طجميه، يوسف المرعي. على مدى 110 دقائق نرى جسد المسرح، وطابعه الأكاديمي في التمثيل: الحركي/ الصامت/ الرقص/ الغناء. والاستجابات الحسيَّة العاطفية والعضلية للحركة وهم يؤدُّون أدوارهم بتقنية التعبير الجسدي من الحركات الصعبة والمعقَّدة، خاصة دور يوسف المرعي، ولين إسماعيل، وقد كسرا الأداء النمطي، فنرى الجروح العميقة لأحلامهما وقد انكسرت ـ كسرتها أمواج البحر العالية؛ وصارت ذراري، ولكنَّهما لم ينكسرا كممثلين، فنسمع ونرى تصعيدات وذبذبات وتمزقات روحيهما وهما يذهبان على مدى الزمن المسرحي للعرض نحو بلوغ اللحظة الحاسمة؛ نحو الذروة.
العرض "موج عالي" ليس استعراضًا لحياة البحارة أو ناس السواحل فحسب؛ هو رؤية لحياة يومية يتأمَّلُ فيه المُخرج مصائرَ البشر في كفاحهم ـ صراعاتهم وصداماتهم وتناقض مشاعرهم وتضارب أحاسيسهم. بل هو يقوم بسبر أغوار النفس ـ نفوسهم، ويعالجُ مشاعرهم كي تسمو فلا تنحط. فيقوم بتصويرٍ دقيق لحياة هؤلاء البشر، ويكشف عن الحقائق العميقة لهزائمهم أمام زحف أسماك القرش إلى الشواطئ؛ إِنْ من البحر، أو مِنْ البر.
إنه يرسم، أو نرى الممثلين كلٌّ بدوره، وهم يقاربون ما بين الشخصية؛ فنرى ظلال مشاعرها ـ وهذا من أهم وأكثر ما يجب أن يشتغل عليه ويجسِّده الممثِّل، وأنَّه عرض تخرُّج ـ وما بين ذاته. فلا يقع في الأداء التقليدي؛ النمطي بالاعتماد على الصوت ـ رقَّته وخشونته، جهارته ودرجته ومقامه، وتلونه في الحالة الانفعالية حسب حالة الحزن أو الفرح، وعلى حركة ولياقة الجسد البدنية ـ وذلك بعيدًا عن الصنعة والتكلُّف.
الممثِّلون/ الطُلاَّب في مسرحية "موج عالي" كُنَّا نرى أغلبهم وهم يحقِّقون التزامن في حركاتهم، إنْ في الحوارات، أو في تشابكاتهم، وكذلك الروابط الحميمية والحركات المتناغمة خاصة في مشهد صاحبة المقهى البحري، الممثِّلة مريم إبراهيم؛ وهي تضم ابن حبيبها البحار الذي غرق كونه من رائحة أبيه، فنرى كلا الممثلين في مشهدٍ وإنْ كان عاطفيًا إنَّما أدَّيَاهُ بطريقةٍ عقلانية، فرأينا شيئًا من دراما بانفعالات محدَّدة ومؤثِّرة.
مسرحية "موج عالي" كأيِّ عرض مسرحي؛ فهنا عرضٌ يُفترَض أنَّه مصنوعٌ بمقاييس جامعية/ أكاديمية صرفة، هو شكلٌ دال، يُصوِّر تجربة حسِّية شعورية من (وَهْمْ) ـ لتكن من وهم؛ ولكن في نسقٍ جمالي يبدأ من الذات نحو الموضوع، وفي جدلية مستمرة بينهما؛ ذاتٌ استبطانية تذهبُ إلى الاستظهار ـ استظهار الأفعال كلحظة معاناة لا عقلانية ونسأل: هل حقيقٌ هذا الذي شاهدناه على أرض خشبة المسرح؟ وهل ما رواه المُخرج هنا عن الذات حكايات الشخصيات التي من تراجيديا وكوميديا هو الذاتُ، فيما سؤالنا الاستنكاري عن حقيقة ما رأيناه عليه هو الذات وقد صارت فرجةً، صارت موضوعًا؟ الممثِّل لمَّا يقف على خشبة المسرح يُمَثِّل، فهو ليُحوِّل الأنا ـ الذات موضوعًا للتأمُّل، كونُه ذاتًا تبحثُ عن وجودها في هذا العدم الذي من استبداد؛ من مآسٍ. فما شاهدناه، وما اقترحه علينا الممثِّلون والممثِلات، كان إعادة خلق لخلقٍ بعد تعميده بـ(الجمال) و(الحريَّة)، وليس نقلًا أو تحليلًا لحكايات البحارة، أو ناس البحر؛ إِنْ بالتسليم بفجائعيتها، أو بمقاومتها والتمرُّد عليها، وما هدمُ الكواليس ورميها على أرض خشبة المسرح كأقصى ما يمكن أن تفعله الشخصيات المسرحية، ومن ثمَّ الرحيل، والنهاية التي مرَّرها المخرج في شريط فيديو إلاَّ استعدادٌ للمواجهة التي صارت مشروعة لأصحاب الموج العالي.
المخرج في مسرحيته "موج عالي" اختار حكايات وقصصًا من الروائيَيْنْ حنا مينه ووديع اسمندر، كشفت عن الوَعيْ الفلسفي اليومي للإِنسان العَادي بشَيْئيةِ الشيء، أي شيء، حين يتحكَّم بأفعاله، ولمَّا يُقاوم باندفاعات عفوية تراه كمن ارتكب خطيئة تاريخية، فهناك من يترَّصده ليحوله إلى طعام على مائدته، فيتمرَّد.
أنور محمد
مسرح
مشهد من مسرحية "موج عالي"
شارك هذا المقال
حجم الخط
رقصٌ وغناء، شجاراتٌ وعراكات؛ غضبٌ ورضى، هزلٌ وجدٌّ؛ يسبقه مشهد (فيديو) لمسافرٍ وصل توًا من البحر، يدخل من الجانب الأيمن للمنصة عبر المدخل الرئيس إلى صالة المتفرجين، يصعدُ درجاتٍ، ويصير فوق الخشبة؛ يصير في البر، لتبدأ الرواية المسرحية، لحكاياتٍ تُروى، ولمَّا تنتهي ـ والحكاياتُ وقد رُوِيَتْ، يُغادرُنا المسافرُ منسحبًا وهو بكامل أناقته من دون أن يتلوَّث بمياه ورمال الموج العالي في مشهدٍ فيديوهِي حيث نهاية المسرحية.
بين المَشهديْن سنتفرَّجُ على مسرحية "موج عالي" في مقهى بحري لاستراحة الصيادين؛ تتوزَّع على جانبيه ثمانية أبواب/ مداخل/ كواليس... من أعمدة خشبية تتدلى من أعلاها أشرطة وشراشيب، لتنفذ منها حكايات وانفجارات أرواح شخصياتٍ تسكن شاطئًا بحريًا سوريًا، والتي استلَّها المؤلِّف والمخرج د. سامر عمران من روايات حنا مينه، ومن رواية "اللبش" لوديع اسمندر، وهي الرواية التي أهداها وديع إلى "شهداء لقمة الخبز من عمَّال البحر في ميناء جبلة"، والتي يرصد فيها قصصًا عن حياة الصيادين القائمة على المغامرات والمحفوفة بالمخاطر. فيكشف عمران مرَّةً بالعلبة الإيطالية، ومرَّةً بكسر الجدار الرابع، عن وحدة التجربة الإنسانية لبشر يشكِّلُ البحرُ نافذتهم على المستقبل، فيغامرون بالسفر، أو يعودون محمَّلين بالخيبة، أو بالغرق، أو سفرٌ بلا عودة؛ مصائر يذهبون إليها بمصادفات عفوية، ومصائر يشتغل عليها المتآمرون، مثل المختار أبو فهد وجماعته.
عمران ومن آلامٍ وأحزانٍ وحواراتٍ تملي على الممثلين الأفعال الحركية، يستدرجنا كمتفرجين، ويتركنا في حدثٍ مسرحي كأنَّه يحدثُ الآن ـ هنا، في الحاضر ـ الحاضر المستمر، حدثٌ يتفتَّت ويتشظى، وهو يذهب من السرد الواقعي إلى القصيدة الملحمية، ثمَّ يحطِّمها، ويضعنا ثانية في مواجهة ما يحدث لنتفرَّج على عرضه "موج عالي" مشروع تخرُّج لمجموعة طلاب في جامعة "المنارة" باللاذقية قسم التمثيل: إبراهيم طبولي، أنيس الحكيم، آلاء الخطيب، حيدره اسمندر، راما محفوض، رباح الصالح، سليم خندرية، سمهر بدور، عامر إسماعيل، عبد الكريم خطاب، عمر الأعور، غدير جديد، لمى غريب، لين سليمان، محمود أحمد، مروى سليمان، مريم إبراهيم، هادي طنيش، يوسف طجميه، يوسف المرعي. على مدى 110 دقائق نرى جسد المسرح، وطابعه الأكاديمي في التمثيل: الحركي/ الصامت/ الرقص/ الغناء. والاستجابات الحسيَّة العاطفية والعضلية للحركة وهم يؤدُّون أدوارهم بتقنية التعبير الجسدي من الحركات الصعبة والمعقَّدة، خاصة دور يوسف المرعي، ولين إسماعيل، وقد كسرا الأداء النمطي، فنرى الجروح العميقة لأحلامهما وقد انكسرت ـ كسرتها أمواج البحر العالية؛ وصارت ذراري، ولكنَّهما لم ينكسرا كممثلين، فنسمع ونرى تصعيدات وذبذبات وتمزقات روحيهما وهما يذهبان على مدى الزمن المسرحي للعرض نحو بلوغ اللحظة الحاسمة؛ نحو الذروة.
العرض "موج عالي" ليس استعراضًا لحياة البحارة أو ناس السواحل فحسب؛ هو رؤية لحياة يومية يتأمَّلُ فيه المُخرج مصائرَ البشر في كفاحهم ـ صراعاتهم وصداماتهم وتناقض مشاعرهم وتضارب أحاسيسهم. بل هو يقوم بسبر أغوار النفس ـ نفوسهم، ويعالجُ مشاعرهم كي تسمو فلا تنحط. فيقوم بتصويرٍ دقيق لحياة هؤلاء البشر، ويكشف عن الحقائق العميقة لهزائمهم أمام زحف أسماك القرش إلى الشواطئ؛ إِنْ من البحر، أو مِنْ البر.
""موج عالي" هو رؤية لحياة يومية يتأمَّلُ فيه المُخرج مصائرَ البشر في كفاحهم وصراعاتهم وصداماتهم وتناقض مشاعرهم وتضارب أحاسيسهم" |
إنه يرسم، أو نرى الممثلين كلٌّ بدوره، وهم يقاربون ما بين الشخصية؛ فنرى ظلال مشاعرها ـ وهذا من أهم وأكثر ما يجب أن يشتغل عليه ويجسِّده الممثِّل، وأنَّه عرض تخرُّج ـ وما بين ذاته. فلا يقع في الأداء التقليدي؛ النمطي بالاعتماد على الصوت ـ رقَّته وخشونته، جهارته ودرجته ومقامه، وتلونه في الحالة الانفعالية حسب حالة الحزن أو الفرح، وعلى حركة ولياقة الجسد البدنية ـ وذلك بعيدًا عن الصنعة والتكلُّف.
الممثِّلون/ الطُلاَّب في مسرحية "موج عالي" كُنَّا نرى أغلبهم وهم يحقِّقون التزامن في حركاتهم، إنْ في الحوارات، أو في تشابكاتهم، وكذلك الروابط الحميمية والحركات المتناغمة خاصة في مشهد صاحبة المقهى البحري، الممثِّلة مريم إبراهيم؛ وهي تضم ابن حبيبها البحار الذي غرق كونه من رائحة أبيه، فنرى كلا الممثلين في مشهدٍ وإنْ كان عاطفيًا إنَّما أدَّيَاهُ بطريقةٍ عقلانية، فرأينا شيئًا من دراما بانفعالات محدَّدة ومؤثِّرة.
مسرحية "موج عالي" كأيِّ عرض مسرحي؛ فهنا عرضٌ يُفترَض أنَّه مصنوعٌ بمقاييس جامعية/ أكاديمية صرفة، هو شكلٌ دال، يُصوِّر تجربة حسِّية شعورية من (وَهْمْ) ـ لتكن من وهم؛ ولكن في نسقٍ جمالي يبدأ من الذات نحو الموضوع، وفي جدلية مستمرة بينهما؛ ذاتٌ استبطانية تذهبُ إلى الاستظهار ـ استظهار الأفعال كلحظة معاناة لا عقلانية ونسأل: هل حقيقٌ هذا الذي شاهدناه على أرض خشبة المسرح؟ وهل ما رواه المُخرج هنا عن الذات حكايات الشخصيات التي من تراجيديا وكوميديا هو الذاتُ، فيما سؤالنا الاستنكاري عن حقيقة ما رأيناه عليه هو الذات وقد صارت فرجةً، صارت موضوعًا؟ الممثِّل لمَّا يقف على خشبة المسرح يُمَثِّل، فهو ليُحوِّل الأنا ـ الذات موضوعًا للتأمُّل، كونُه ذاتًا تبحثُ عن وجودها في هذا العدم الذي من استبداد؛ من مآسٍ. فما شاهدناه، وما اقترحه علينا الممثِّلون والممثِلات، كان إعادة خلق لخلقٍ بعد تعميده بـ(الجمال) و(الحريَّة)، وليس نقلًا أو تحليلًا لحكايات البحارة، أو ناس البحر؛ إِنْ بالتسليم بفجائعيتها، أو بمقاومتها والتمرُّد عليها، وما هدمُ الكواليس ورميها على أرض خشبة المسرح كأقصى ما يمكن أن تفعله الشخصيات المسرحية، ومن ثمَّ الرحيل، والنهاية التي مرَّرها المخرج في شريط فيديو إلاَّ استعدادٌ للمواجهة التي صارت مشروعة لأصحاب الموج العالي.
المخرج في مسرحيته "موج عالي" اختار حكايات وقصصًا من الروائيَيْنْ حنا مينه ووديع اسمندر، كشفت عن الوَعيْ الفلسفي اليومي للإِنسان العَادي بشَيْئيةِ الشيء، أي شيء، حين يتحكَّم بأفعاله، ولمَّا يُقاوم باندفاعات عفوية تراه كمن ارتكب خطيئة تاريخية، فهناك من يترَّصده ليحوله إلى طعام على مائدته، فيتمرَّد.