عن الرقص المُعاصر والقضية الفلسطينية
يوسف الشايب
مسرح
من عرض "هابيتوس"
شارك هذا المقال
حجم الخط
في العرض الأخير للدورة السابعة عشرة من مهرجان رام الله للرقص المعاصر، مساء 22 يونيو/ حزيران الماضي، وتحت عنوان "أرى لا أرى"، حضرت القضية الفلسطينية في أكثر من تكوين موضوعي، وعبر نصوص محمود درويش، ما ظهر منها وما بطن، وفي التكوينات الشكلانيّة للعمل الذي جمع ما بين فرقة سرية رام الله الأولى الفلسطينية، وفرقة "إي" (E) الأميركية، وخاصة تلك المحاكاة لجدار الفصل العنصري بتأويلاتها المتعددة.
العروض المشتركة هي أحد أشكال تعريف العالم بالقضية الفلسطينية، من بوابة الرقص المُعاصر، وهي من بين أهداف المهرجان الذي تنظمه سرية رام الله الأولى، وهي مؤسسة ريّادية في أكثر من صعيد منذ تأسيسها عام 1927.
في عام 2009، زار مصمم الرقص الأميركي، كريستوفر مورغان، مدينة رام الله، والتقى على مقربة منها، عائلة فلسطينية فصل الجدار العنصري ما بين أفرادها... أثرت فيه الحادثة، خاصة أنه في الوقت الذي أنجب الابن ولدًا أضيف إلى قائمة أولاده السابقين، خسر وجود والديه اللذين باتا على الجهة الأخرى من الجدار.
كان ذلك خلال مشاركته وفرقته "سيتي دانس"/ City Dance في فعاليات الدورة الرابعة من مهرجان رام الله للرقص المعاصر، قبل أن يعود في الدورة الخامسة من المهرجان ليقدم والفرقة الأميركية عرضًا مشتركًا مع فرقة سرية رام الله الأولى الفلسطينية من وحي هذه القصة، عُرض في فلسطين، وفي أنحاء مختلفة من العالم، ناقلًا عبر هذه اللغة الفنية العالمية مآسي الفلسطينيين الإنسانية جراء سياسات الاحتلال العنصرية المتمثلة بالحواجز العسكرية كما بالجدار الفاصل.
العرض الذي حمل عنوان (+1/-1)، قدّم لوحات عبّرت عن "قسوة الفقدان"، على خلفية موسيقية فلسطينية وأميركية مشتركة أيضًا، وكانت لوحات راقصة مبتكرة، قدّم من خلالها الراقصون رؤية أميركية لواقع فلسطيني صعب، "يستحق أن نتحدث عنه"، كما أكد مدير فرقة "سيتي دانس" الأميركية، بول أميرسون، وقتها.
انطلق العرض بصوت كاميليا جبران، حين غنّت مع فرقة صابرين "بحب البحر بحب الورد وأحب الناس... وأحب نعيشها أحرار مرفوعين الراس، ولا تفرقنا لا الألوان ولا الأجناس"، قبل أن تفصل بينها وبين الموسيقى الأميركية أصوات ما يشبه الانفجارات، والتي عكست الحالة التي يعيشها الفلسطينيون، والتي حاول أميرسون ومورغان، وكل الراقصين التعبير عنها عبر (+1/-1)، وهي التسمية التي وجد فيها مورغان تعبيرًا إنسانيًا عن حالة الفقدان، فهذا الفلسطيني فقد أبويه بسبب السياسات الإسرائيلية العنصرية على الأرض، لكن ولدين اثنين أضيفا إلى العائلة، مؤكدًا أنه ورغم أن أساس الحكاية فلسطيني، إلا أن حالة الفقدان حكاية إنسانية.
ومما كان لافتًا، وقتها، أن العروض التجريبية لهذا العمل في الولايات المتحدة لاقت استحسان الجمهور الأميركي، وأثارت تساؤلات حول الواقع الصعب الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، خصوصًا أن "الإعلام الأميركي" لا ينقل في الغالب رواية الطرفين حول الصراع في الشرق الأوسط، فقد أشارت الراقصة الأميركية، جيزيل ألفيس، وهي من أصول كوبية، إلى أن العمل شكّل "فرصة لننقل إلى العالم حقيقة ما يجري في فلسطين، فكثيرون في أميركا والعالم لا يعرفون شيئًا عن الحقيقة هذه بسبب ما يحدث في الإعلام من تشويه". في حين أكدت زميلتها، أليس وايلي، أنها هي نفسها شعرت بأنها كانت مغيبة، وتقع تحت سطوة الصورة النمطية المُشوَهة والمُشوِهة، حتى جاءت إلى فلسطين، واكتشفت الأمور بنفسها.
وأتذكر في الدورة الأولى للمهرجان أن مديره، خالد عليان، أكدّ على فكرة غاية في الأهمية، انعكست في الحكاية السابقة لعرض (+1/-1) وكثير كثير من الأمثلة المشابهة، ومفادها: "ما نقوم به هو استضافة فنانين ينقلون معاناتنا وعدالة قضيتنا إلى العالم".
وفي عام 2011، اختتم المهرجان فعاليات دورته السابعة بالعرض البلجيكي "إلى الذين أحبهم"، لمصمم الرقص البلجيكي، تيري سميتس، مستعينًا بثمانية راقصين من أصول أفريقية، وهو عرض ضد التعصّب والعنصرية، مشددًا على أن العرض يحمل رسالة تضامنية إلى الشعب الفلسطيني الذي يعاني بسبب الاحتلال من مثل هذه السياسات العنصرية.
سميتس هو من المهتمين بمتابعة تفاصيل القضية الفلسطينية، وبالتالي لم يتفاجأ، على عكس الراقصين، مما يحدث على الأرض بسبب سياسات الاحتلال... لكنّه لفت، حينذاك، إلى أن زيارة الراقصين إلى فلسطين كفيلة بتغيير الصورة النمطية عن الشعب الفلسطيني، وجعْل الزائرين أكثر قربًا من الواقع، وهو ما يسهل عليهم اكتشاف كثير من الحقائق التي كانت غائبة عنهم في ما سبق.
ليس ذلك فحسب، فقد بنى المهرجان جسور التعاون مع فرق ومهرجانات من القارات كافة، طوّرت من أداء ومهارات الراقصين الفلسطينيين فرقًا وأفرادًا، وهو ما انعكس في عروض مشتركة عدّة على مدار دورات المهرجان، كان آخرها "أرى لا أرى".
وكان لفرقة "السرية" السبق في بدء الإنتاجات المشتركة، ومحورها القضية الفلسطينية، وجلّها كان يعرض في فلسطين، وفي دول الفرقة الشريكة، وأحيانًا في مهرجانات عالمية عدّة، ففي عام 2010، كان عمل "ناجي" حول الشهيد ناجي العلي بالاشتراك مع فرقة "بوتيغا" الإيطالية، وتوالت بعدها العروض، بينها "الغبار" (2012)، و"الحرية، والمساواة، والإخاء أو الموت" مع فرقة "سيلجهوم/ كريستوفرسن" النرويجية في العام نفسه، وهي الفرقة ذاتها التي أنتجت بالاشتراك مع "السرية" عمل "المنطقة (2015)"، و"فلفل وفلفلة"، و"مدينة الأشباح"، و"شريطاطا" (2016)، بالإضافة إلى عمل "سكر الربيع" مع مركز "تولوز" الفرنسي للرقص (2013)، و"إلى حد ماء" مع فرقة نوال إسكندراني التونسية (2013)، و"باوند" مع فرقة "يا سمر" الأميركية (2014)، و"وراء هذه الجدران، أعرف هذا البحر" مع فرقة "أثاناسيا كانيللوبوللو" اليونانية (2017)، وغيرها.
وفي هذا الإطار، قدّم فنانون عرب وأجانب من 21 دولة، في حفل افتتاح النسخة الخامسة عشرة من المهرجان، رسائل تضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته، بما يعزز حالة الصمود في كامل الجغرافيا الفلسطينية، وهذا كله يأتي لكون مهرجان رام الله للرقص المعاصر، وعلى مدار 17 عامًا، كان ولا يزال مساهمًا فاعلًا في زيادة الوعي العالمي حول القضية الفلسطينية، وحشد المناصرة مع شعبنا في نضاله من أجل الحرية والاستقلال، فالفنانون والفنانات الذين شاركوا في رسائل التضامن عبر عروضهم، على مدار دورات المهرجان، كانوا قد تعرّفوا عن قرب على واقع حياة ومعاناة الشعب الفلسطيني، وتمسكه بالأرض كما بالأمل، وعلى ممارسات الاحتلال ضده.
ومع توالي دورات المهرجان، يلاحظ المراقب ذلك الارتفاع الملحوظ لجهة مستوى العروض الفلسطينية، موضوعاتٍ وطرقَ تقديم، حتى أنهم، أقصد الفرق والراقصين الفلسطينيين، قدّموا في الدورة الأخيرة (2023)، عشرة عروض من أصل 15 عرضًا، وكانت جميعها بمستويات رفيعة، والأهم أنها تمثّل الكلّ الفلسطيني، متجاوزة التقسيمات التي تسعى سلطات الاحتلال إلى تكريسها، ما بين الضفة الغربية، والقدس، وقطاع غزة، والداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، بالإضافة إلى الشتات والمنافي الإجبارية، أو الاختيارية.
وفي هذا الإطار، استطاع المهرجان تحقيق "حق العودة" ولو بصورة رمزية لعدد من الفنانين الفلسطينيين الذين تحصّلوا على جنسيات أجنبية، بعد أن كانوا في مخيمّات لجوء في الدول المجاورة، فشاركوا في المهرجان، وتمكنّوا من العودة إلى الديار التي هجر منها آباؤهم أو أجدادهم، وبينهم على سبيل المثال الفنان محمد علي ديب، والفنان نضال عبده، الذي قدّم هذه العام، في زيارته الثانية إلى فلسطين، عرضه "هابيتوس" بمشاركته ومشاركة أعضاء فرقته "نفس"، التي أسسّها في باريس، هو المولود في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيّين في دمشق.
تجدر الإشارة كذلك إلى الدور اللافت لملصقات المهرجان في دوراته المختلفة في الإحالة إلى القضايا الوطنية والإنسانية، ومن بينها، على سبيل المثال، ذلك الذي استوحاه الفنان عامر الشوملي في عام 2017، ولمناسبة مرور ثلاثين عامًا على اندلاع انتفاضة الحجارة، من صورة قيل إنها لمصور فرنسي وثق فيها مشهد مناضلة فلسطينية من بيت ساحور حملت فردتي حذائها في يد، وفي اليد الأخرى حملت حجرًا تقذفه في اتجاه قوات الاحتلال، بينما صوّر الملصق الأخير شابة تركل "بسطار" جندي كناية عن رفض الاضطهاد، وغيرهما من الملصقات ذات الدلالات العميقة.
أمّا ملصق الدورة الأخيرة التي حملت شعار "للجسد ألف قصة وقصة"، من تصميم الشوملي أيضًا، فحملت رسائل مهربّة للأسرى في سجون الاحتلال على ظهر جسد ذكوري يبدو منهكًا، في رسالة للتأكيد على أنه لطالما كان ولا يزال الجسد الفلسطيني محل استهداف وتنكيل من قبل المُحتل، ولطالما مثّل، ولا يزال، أداة للمقاومة والتصدي، ما يجعل الرقص المعاصر يكتسب أهمية تعبيرية خاصة في فلسطين، حيث تعذيب الأسرى في زنازين الاحتلال يشتمل على استهداف للجسد، وحيث رحلة التهجير القسرية للفلسطينيين من ديارهم في عام 1948، في ظروف قاسية، بل وربّما مميتة أحيانًا، والتي لم يكن الجسد بعيدًا فيها عن تسجيل ما حصل، وهو ما ينطبق على معاناة الفلسطيني اليوميّة جراء سياسات الاحتلال العنصرية عند الحواجز العسكرية، وبسبب جدار الفصل العنصري، والاستهدافات المباشرة، وغير ذلك.
وتعدّ استمرارية المهرجان، الذي شكّل حالة فنيّة مغايرة في فلسطين، وعنها، إنجازًا في حدّ ذاته، ليس فقط في ظل شحّ الدعم المالي الذي هو حالة عامّة، ولكنها هنا أكثر خصوصية، بل أيضًا بسبب ما تعرّض له المهرجان ولا يزال من حروب، منذ انطلاقته، وهي حروب متعدّدة الجهات والطرق.
وعلى الرغم من ذلك، تمكّن المهرجان، وباقتدار، من أن يُمارس الدبلوماسية الثقافية في أعلى تجليّاتها، على مدار الأعوام الماضية، بحيث نقل عبر الرقص المعاصر كلغة عالمية، فلسطين إلى العالم، ناقلًا الحكاية الفلسطينية من زوايا ورؤى مختلفة، كما أحضر العالم إلى فلسطين، ولا يزال.
الرسالة، إذًا، ومنذ الدورة الأولى لمهرجان رام الله للرقص المعاصر، أن فلسطين هي أكثر من تاريخ وجغرافيا، إنها محفورة عميقًا في الأرواح، وعلى الأجساد، ويمكن فقط للجسد الحرّ أن ينطق بهذه الخبرات والتجارب المكتنزة من خلال لغة جديدة ومعاصرة قادرة، أكثر من غيرها، على التعبير مباشرة، ومن دون حواجز، عن التعقيدات التي نجابهها، خاصة بسبب استمرار الاحتلال منذ 75 عامًا هي عمر "النكبة" التي لم تغب ذكراها عن لوحات المهرجان وعروضه هذا العام، كما لم تغب نكبات الشعب الفلسطيني المتواصلة عنه منذ دورته الأولى إلى دورته الأحدث، نهاية الشهر الماضي.
يوسف الشايب
مسرح
من عرض "هابيتوس"
شارك هذا المقال
حجم الخط
في العرض الأخير للدورة السابعة عشرة من مهرجان رام الله للرقص المعاصر، مساء 22 يونيو/ حزيران الماضي، وتحت عنوان "أرى لا أرى"، حضرت القضية الفلسطينية في أكثر من تكوين موضوعي، وعبر نصوص محمود درويش، ما ظهر منها وما بطن، وفي التكوينات الشكلانيّة للعمل الذي جمع ما بين فرقة سرية رام الله الأولى الفلسطينية، وفرقة "إي" (E) الأميركية، وخاصة تلك المحاكاة لجدار الفصل العنصري بتأويلاتها المتعددة.
العروض المشتركة هي أحد أشكال تعريف العالم بالقضية الفلسطينية، من بوابة الرقص المُعاصر، وهي من بين أهداف المهرجان الذي تنظمه سرية رام الله الأولى، وهي مؤسسة ريّادية في أكثر من صعيد منذ تأسيسها عام 1927.
في عام 2009، زار مصمم الرقص الأميركي، كريستوفر مورغان، مدينة رام الله، والتقى على مقربة منها، عائلة فلسطينية فصل الجدار العنصري ما بين أفرادها... أثرت فيه الحادثة، خاصة أنه في الوقت الذي أنجب الابن ولدًا أضيف إلى قائمة أولاده السابقين، خسر وجود والديه اللذين باتا على الجهة الأخرى من الجدار.
كان ذلك خلال مشاركته وفرقته "سيتي دانس"/ City Dance في فعاليات الدورة الرابعة من مهرجان رام الله للرقص المعاصر، قبل أن يعود في الدورة الخامسة من المهرجان ليقدم والفرقة الأميركية عرضًا مشتركًا مع فرقة سرية رام الله الأولى الفلسطينية من وحي هذه القصة، عُرض في فلسطين، وفي أنحاء مختلفة من العالم، ناقلًا عبر هذه اللغة الفنية العالمية مآسي الفلسطينيين الإنسانية جراء سياسات الاحتلال العنصرية المتمثلة بالحواجز العسكرية كما بالجدار الفاصل.
"العروض التجريبية لعمل (+1/-1) في الولايات المتحدة لاقت استحسان الجمهور الأميركي، وأثارت تساؤلات حول الواقع الصعب الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، خصوصًا أن "الإعلام الأميركي" لا ينقل في الغالب رواية الطرفين حول الصراع في الشرق الأوسط" |
العرض الذي حمل عنوان (+1/-1)، قدّم لوحات عبّرت عن "قسوة الفقدان"، على خلفية موسيقية فلسطينية وأميركية مشتركة أيضًا، وكانت لوحات راقصة مبتكرة، قدّم من خلالها الراقصون رؤية أميركية لواقع فلسطيني صعب، "يستحق أن نتحدث عنه"، كما أكد مدير فرقة "سيتي دانس" الأميركية، بول أميرسون، وقتها.
انطلق العرض بصوت كاميليا جبران، حين غنّت مع فرقة صابرين "بحب البحر بحب الورد وأحب الناس... وأحب نعيشها أحرار مرفوعين الراس، ولا تفرقنا لا الألوان ولا الأجناس"، قبل أن تفصل بينها وبين الموسيقى الأميركية أصوات ما يشبه الانفجارات، والتي عكست الحالة التي يعيشها الفلسطينيون، والتي حاول أميرسون ومورغان، وكل الراقصين التعبير عنها عبر (+1/-1)، وهي التسمية التي وجد فيها مورغان تعبيرًا إنسانيًا عن حالة الفقدان، فهذا الفلسطيني فقد أبويه بسبب السياسات الإسرائيلية العنصرية على الأرض، لكن ولدين اثنين أضيفا إلى العائلة، مؤكدًا أنه ورغم أن أساس الحكاية فلسطيني، إلا أن حالة الفقدان حكاية إنسانية.
ومما كان لافتًا، وقتها، أن العروض التجريبية لهذا العمل في الولايات المتحدة لاقت استحسان الجمهور الأميركي، وأثارت تساؤلات حول الواقع الصعب الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، خصوصًا أن "الإعلام الأميركي" لا ينقل في الغالب رواية الطرفين حول الصراع في الشرق الأوسط، فقد أشارت الراقصة الأميركية، جيزيل ألفيس، وهي من أصول كوبية، إلى أن العمل شكّل "فرصة لننقل إلى العالم حقيقة ما يجري في فلسطين، فكثيرون في أميركا والعالم لا يعرفون شيئًا عن الحقيقة هذه بسبب ما يحدث في الإعلام من تشويه". في حين أكدت زميلتها، أليس وايلي، أنها هي نفسها شعرت بأنها كانت مغيبة، وتقع تحت سطوة الصورة النمطية المُشوَهة والمُشوِهة، حتى جاءت إلى فلسطين، واكتشفت الأمور بنفسها.
وأتذكر في الدورة الأولى للمهرجان أن مديره، خالد عليان، أكدّ على فكرة غاية في الأهمية، انعكست في الحكاية السابقة لعرض (+1/-1) وكثير كثير من الأمثلة المشابهة، ومفادها: "ما نقوم به هو استضافة فنانين ينقلون معاناتنا وعدالة قضيتنا إلى العالم".
وفي عام 2011، اختتم المهرجان فعاليات دورته السابعة بالعرض البلجيكي "إلى الذين أحبهم"، لمصمم الرقص البلجيكي، تيري سميتس، مستعينًا بثمانية راقصين من أصول أفريقية، وهو عرض ضد التعصّب والعنصرية، مشددًا على أن العرض يحمل رسالة تضامنية إلى الشعب الفلسطيني الذي يعاني بسبب الاحتلال من مثل هذه السياسات العنصرية.
سميتس هو من المهتمين بمتابعة تفاصيل القضية الفلسطينية، وبالتالي لم يتفاجأ، على عكس الراقصين، مما يحدث على الأرض بسبب سياسات الاحتلال... لكنّه لفت، حينذاك، إلى أن زيارة الراقصين إلى فلسطين كفيلة بتغيير الصورة النمطية عن الشعب الفلسطيني، وجعْل الزائرين أكثر قربًا من الواقع، وهو ما يسهل عليهم اكتشاف كثير من الحقائق التي كانت غائبة عنهم في ما سبق.
ليس ذلك فحسب، فقد بنى المهرجان جسور التعاون مع فرق ومهرجانات من القارات كافة، طوّرت من أداء ومهارات الراقصين الفلسطينيين فرقًا وأفرادًا، وهو ما انعكس في عروض مشتركة عدّة على مدار دورات المهرجان، كان آخرها "أرى لا أرى".
وكان لفرقة "السرية" السبق في بدء الإنتاجات المشتركة، ومحورها القضية الفلسطينية، وجلّها كان يعرض في فلسطين، وفي دول الفرقة الشريكة، وأحيانًا في مهرجانات عالمية عدّة، ففي عام 2010، كان عمل "ناجي" حول الشهيد ناجي العلي بالاشتراك مع فرقة "بوتيغا" الإيطالية، وتوالت بعدها العروض، بينها "الغبار" (2012)، و"الحرية، والمساواة، والإخاء أو الموت" مع فرقة "سيلجهوم/ كريستوفرسن" النرويجية في العام نفسه، وهي الفرقة ذاتها التي أنتجت بالاشتراك مع "السرية" عمل "المنطقة (2015)"، و"فلفل وفلفلة"، و"مدينة الأشباح"، و"شريطاطا" (2016)، بالإضافة إلى عمل "سكر الربيع" مع مركز "تولوز" الفرنسي للرقص (2013)، و"إلى حد ماء" مع فرقة نوال إسكندراني التونسية (2013)، و"باوند" مع فرقة "يا سمر" الأميركية (2014)، و"وراء هذه الجدران، أعرف هذا البحر" مع فرقة "أثاناسيا كانيللوبوللو" اليونانية (2017)، وغيرها.
"استطاع المهرجان تحقيق "حق العودة" ولو بصورة رمزية لعدد من الفنانين الفلسطينيين الذين تحصّلوا على جنسيات أجنبية، بعد أن كانوا في مخيمّات لجوء في الدول المجاورة" |
وفي هذا الإطار، قدّم فنانون عرب وأجانب من 21 دولة، في حفل افتتاح النسخة الخامسة عشرة من المهرجان، رسائل تضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته، بما يعزز حالة الصمود في كامل الجغرافيا الفلسطينية، وهذا كله يأتي لكون مهرجان رام الله للرقص المعاصر، وعلى مدار 17 عامًا، كان ولا يزال مساهمًا فاعلًا في زيادة الوعي العالمي حول القضية الفلسطينية، وحشد المناصرة مع شعبنا في نضاله من أجل الحرية والاستقلال، فالفنانون والفنانات الذين شاركوا في رسائل التضامن عبر عروضهم، على مدار دورات المهرجان، كانوا قد تعرّفوا عن قرب على واقع حياة ومعاناة الشعب الفلسطيني، وتمسكه بالأرض كما بالأمل، وعلى ممارسات الاحتلال ضده.
ومع توالي دورات المهرجان، يلاحظ المراقب ذلك الارتفاع الملحوظ لجهة مستوى العروض الفلسطينية، موضوعاتٍ وطرقَ تقديم، حتى أنهم، أقصد الفرق والراقصين الفلسطينيين، قدّموا في الدورة الأخيرة (2023)، عشرة عروض من أصل 15 عرضًا، وكانت جميعها بمستويات رفيعة، والأهم أنها تمثّل الكلّ الفلسطيني، متجاوزة التقسيمات التي تسعى سلطات الاحتلال إلى تكريسها، ما بين الضفة الغربية، والقدس، وقطاع غزة، والداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، بالإضافة إلى الشتات والمنافي الإجبارية، أو الاختيارية.
وفي هذا الإطار، استطاع المهرجان تحقيق "حق العودة" ولو بصورة رمزية لعدد من الفنانين الفلسطينيين الذين تحصّلوا على جنسيات أجنبية، بعد أن كانوا في مخيمّات لجوء في الدول المجاورة، فشاركوا في المهرجان، وتمكنّوا من العودة إلى الديار التي هجر منها آباؤهم أو أجدادهم، وبينهم على سبيل المثال الفنان محمد علي ديب، والفنان نضال عبده، الذي قدّم هذه العام، في زيارته الثانية إلى فلسطين، عرضه "هابيتوس" بمشاركته ومشاركة أعضاء فرقته "نفس"، التي أسسّها في باريس، هو المولود في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيّين في دمشق.
تجدر الإشارة كذلك إلى الدور اللافت لملصقات المهرجان في دوراته المختلفة في الإحالة إلى القضايا الوطنية والإنسانية، ومن بينها، على سبيل المثال، ذلك الذي استوحاه الفنان عامر الشوملي في عام 2017، ولمناسبة مرور ثلاثين عامًا على اندلاع انتفاضة الحجارة، من صورة قيل إنها لمصور فرنسي وثق فيها مشهد مناضلة فلسطينية من بيت ساحور حملت فردتي حذائها في يد، وفي اليد الأخرى حملت حجرًا تقذفه في اتجاه قوات الاحتلال، بينما صوّر الملصق الأخير شابة تركل "بسطار" جندي كناية عن رفض الاضطهاد، وغيرهما من الملصقات ذات الدلالات العميقة.
أمّا ملصق الدورة الأخيرة التي حملت شعار "للجسد ألف قصة وقصة"، من تصميم الشوملي أيضًا، فحملت رسائل مهربّة للأسرى في سجون الاحتلال على ظهر جسد ذكوري يبدو منهكًا، في رسالة للتأكيد على أنه لطالما كان ولا يزال الجسد الفلسطيني محل استهداف وتنكيل من قبل المُحتل، ولطالما مثّل، ولا يزال، أداة للمقاومة والتصدي، ما يجعل الرقص المعاصر يكتسب أهمية تعبيرية خاصة في فلسطين، حيث تعذيب الأسرى في زنازين الاحتلال يشتمل على استهداف للجسد، وحيث رحلة التهجير القسرية للفلسطينيين من ديارهم في عام 1948، في ظروف قاسية، بل وربّما مميتة أحيانًا، والتي لم يكن الجسد بعيدًا فيها عن تسجيل ما حصل، وهو ما ينطبق على معاناة الفلسطيني اليوميّة جراء سياسات الاحتلال العنصرية عند الحواجز العسكرية، وبسبب جدار الفصل العنصري، والاستهدافات المباشرة، وغير ذلك.
وتعدّ استمرارية المهرجان، الذي شكّل حالة فنيّة مغايرة في فلسطين، وعنها، إنجازًا في حدّ ذاته، ليس فقط في ظل شحّ الدعم المالي الذي هو حالة عامّة، ولكنها هنا أكثر خصوصية، بل أيضًا بسبب ما تعرّض له المهرجان ولا يزال من حروب، منذ انطلاقته، وهي حروب متعدّدة الجهات والطرق.
وعلى الرغم من ذلك، تمكّن المهرجان، وباقتدار، من أن يُمارس الدبلوماسية الثقافية في أعلى تجليّاتها، على مدار الأعوام الماضية، بحيث نقل عبر الرقص المعاصر كلغة عالمية، فلسطين إلى العالم، ناقلًا الحكاية الفلسطينية من زوايا ورؤى مختلفة، كما أحضر العالم إلى فلسطين، ولا يزال.
الرسالة، إذًا، ومنذ الدورة الأولى لمهرجان رام الله للرقص المعاصر، أن فلسطين هي أكثر من تاريخ وجغرافيا، إنها محفورة عميقًا في الأرواح، وعلى الأجساد، ويمكن فقط للجسد الحرّ أن ينطق بهذه الخبرات والتجارب المكتنزة من خلال لغة جديدة ومعاصرة قادرة، أكثر من غيرها، على التعبير مباشرة، ومن دون حواجز، عن التعقيدات التي نجابهها، خاصة بسبب استمرار الاحتلال منذ 75 عامًا هي عمر "النكبة" التي لم تغب ذكراها عن لوحات المهرجان وعروضه هذا العام، كما لم تغب نكبات الشعب الفلسطيني المتواصلة عنه منذ دورته الأولى إلى دورته الأحدث، نهاية الشهر الماضي.