معرض نيكولا دوستائيل: وجودية اللوحة
أسعد عرابي
تشكيل
ملعب دي برانس في باريس: المزج بين التشخيص والتجريد
شارك هذا المقال
حجم الخط
المعرض الأخير لنيكولا دو ستائيل (في متحف الفن المعاصر لمدينة باريس) ليس كبقية المعارض، ليس فقط لما يحتله هذا العملاق من أهمية خاصة يتربع بسببها على عرش الحداثة الوجودية الفنية في القرن العشرين، وإنما لما يطرحه من أسئلة فكرية تتجاوز النقد المتسرع الوافد غالبًا من بيروقراطية إغراء المضامين السيميولوجية أو الأدبية في مثل هذه التظاهرات المكلفة مؤسساتيًا كميزانية والبليغة التأثير إعلاميًا. وهو ما يفسر امتداد فترة العرض حتى شهر فبراير/ شباط من العام المقبل 2024م، منذ منتصف شهر سبتمبر/ أيلول من العام الحالي 2023م، بما يرافقه من سخاء المطبوعات، من مجلات وكتب وكاتالوغات وبوسترات وبطاقات الدعوات والندوات النقدية، وتنظيم الرحلات التسويقية، ومواكبة الزوار الوافدين سياحيًا، ناهيك عن التكاليف الإدارية والاستعارة والضمان، وغيرها.
لعله المعرض البانورامي الاستعادي الأرحب شمولية وسعة بعدد لوحاته المعروفة شبه الكاملة. يعانق المعرض مثلًا خمسين لوحة تعرض لأول مرة، وذلك بعد عشرين عامًا من المعرض الاستعادي الذي أقيم قبله في متحف الفن الحديث في مركز بومبيدو الثقافي في باريس.
* * *
يوسم هذا المعلم حتى اليوم بـ"المهاجر الروسي" رغم اعتباره من أبرز فناني حداثة القرن العشرين مع بيكاسو. هو مولود في سان بطرسبورغ (عاصمة الثقافة القيصرية بامتياز) عام 1914م. فقد والديه وهو في عمر الثلاث سنوات مبكرًا في تيتمه المتوحد. هاجر إثر الثورة البلشفية 1917 شابًا ليستقر في باريس متنقلًا طوال إقامته بين نقاط متباعدة منها ما بين الشمال والمدن خاصة في الجنوب المتوسطي وصولًا حتى جزيرة صقلية في إيطاليا عام 1953م. وليستقر في أواخر حياته في انتيب الفرنسية المتوسطية.
يغطي المعرض اثني عشر عامًا من سيرته التجديدية المتحولة أبدًا وهو عمر إنتاجه الرائد ابتداء من عام 1940م بقتامة ألوانه الكثيفة البائسة الأولى، وحتى أواخر أعماله قبل انتحاره الوجودي عام 1955م. تاركًا خلفه عددًا مستفيضًا من اللوحات غير المكتملة، وإن كان بعضها يثير حيرة النقاد، فهو يتوقف غالبًا بطريقة حدسية صدفوية مباغتة معلقة في زمان عبثي، يذكرنا بدرجة كبيرة بسيزيف الوجودي الأول ألبير كامي، صاحب روايتي "الطاعون"، و"الغريب"، والحائز على جائزة نوبل بالآداب.
* * *
لعل أبرز شاهد على عبثية اقتنائه في صقلية "لكميونيت" يسافر بها بقية أيامه ما بين مرسيليا وأنتيب، وغيرهما من مرافئ البحر الأبيض المتوسط وشموسه المقزحة، هي التي تركت بصماتها على إشعاع ألوان لوحاته.
يسمح ترتيب سينوغرافية المعرض الوقائعية المتسلسلة تاريخيًا بمتابعة تمفصل تحولاته الأسلوبية الجذرية من دون أن يفرق بين التجريد المحض والتشخيص السيميولوجي الحاسم.
يؤكد هذا السياق على أنه ابتدأ مختبره التجريبي منذ 1950م، مستخدمًا الفرشاة والسكين معًا من أجل نحت صدفوية المواد الكثيفة والصريحة اللون، بكثافة روحية تنأى عن التعديل ضمن مسار حدسي أحادي متجل صوفيًا أو بالأحرى وجوديًا بسبب ولعه بفلسفة ألبير كامي، رغم أنه كان يفضل العزلة، ولا يملك إلا صديقًا يشبهه في مزاجه الإنطوائي، وهو جورج براك.
كثيرًا ما كان يصوّر "موتيفًا" مجهريًا صغيرًا، وينجزه في المحترف على مساحة عملاقة تتجاوز الثلاثة أو الأربعة أمتار (استعار هذه الآلية الانفعالية جورج بازلتز في ما بعد).
ترسخت قدرية أو صدفوية أشكاله من هيئة عمائر الضياع المتسارعة أثناء سفره في قطار، أو في سيارته الكميونيت الخاصة. أشكال متسارعة نصف تجريدية لا تقبل التعديل، وقد تصل إلى التجريد اللوني الذي يملك تواصله التنزيهي مع الموسيقى (مثل بول كلي)، تكشف لوحته الأخيرة قبل انتحاره عن آلة موسيقية عملاقة هي الفيولونسيل، وكذلك البيانو وأوراق النوطة المبعثرة في الفراغ المترامي.
كان تجريده معاكسًا لسابقه الهندسي "هربان"، فهو لا يقنع إلا بالمرئيات المحسوسة المعاشة بصريًا وتبصيريًا من الداخل. بل إن تيار التجريد الغنائي الباريسي المتناسل من رحم الانطباعية مباشرة كان قد وصل نهايته عندما ابتدأ واستمر بفضل نظرته الجديدة المعاشة وجوديًا في التصور المتسارع بنزق المواد الكثيفة وتدفق الخطوط ولطخات الألوان لمرة واحدة مغامرة ومخاطرة غريزية مثل الشهيق والزفير.
أسعد عرابي
تشكيل
ملعب دي برانس في باريس: المزج بين التشخيص والتجريد
شارك هذا المقال
حجم الخط
المعرض الأخير لنيكولا دو ستائيل (في متحف الفن المعاصر لمدينة باريس) ليس كبقية المعارض، ليس فقط لما يحتله هذا العملاق من أهمية خاصة يتربع بسببها على عرش الحداثة الوجودية الفنية في القرن العشرين، وإنما لما يطرحه من أسئلة فكرية تتجاوز النقد المتسرع الوافد غالبًا من بيروقراطية إغراء المضامين السيميولوجية أو الأدبية في مثل هذه التظاهرات المكلفة مؤسساتيًا كميزانية والبليغة التأثير إعلاميًا. وهو ما يفسر امتداد فترة العرض حتى شهر فبراير/ شباط من العام المقبل 2024م، منذ منتصف شهر سبتمبر/ أيلول من العام الحالي 2023م، بما يرافقه من سخاء المطبوعات، من مجلات وكتب وكاتالوغات وبوسترات وبطاقات الدعوات والندوات النقدية، وتنظيم الرحلات التسويقية، ومواكبة الزوار الوافدين سياحيًا، ناهيك عن التكاليف الإدارية والاستعارة والضمان، وغيرها.
لعله المعرض البانورامي الاستعادي الأرحب شمولية وسعة بعدد لوحاته المعروفة شبه الكاملة. يعانق المعرض مثلًا خمسين لوحة تعرض لأول مرة، وذلك بعد عشرين عامًا من المعرض الاستعادي الذي أقيم قبله في متحف الفن الحديث في مركز بومبيدو الثقافي في باريس.
* * *
يوسم هذا المعلم حتى اليوم بـ"المهاجر الروسي" رغم اعتباره من أبرز فناني حداثة القرن العشرين مع بيكاسو. هو مولود في سان بطرسبورغ (عاصمة الثقافة القيصرية بامتياز) عام 1914م. فقد والديه وهو في عمر الثلاث سنوات مبكرًا في تيتمه المتوحد. هاجر إثر الثورة البلشفية 1917 شابًا ليستقر في باريس متنقلًا طوال إقامته بين نقاط متباعدة منها ما بين الشمال والمدن خاصة في الجنوب المتوسطي وصولًا حتى جزيرة صقلية في إيطاليا عام 1953م. وليستقر في أواخر حياته في انتيب الفرنسية المتوسطية.
بلدة "أغريغانت"، ألوان زيتية على قماش، 1954. اللوحة رسمت من قطار سريع في صقلية ليتم تنفيذها في المحترف، قياس 81*60 سم |
* * *
لعل أبرز شاهد على عبثية اقتنائه في صقلية "لكميونيت" يسافر بها بقية أيامه ما بين مرسيليا وأنتيب، وغيرهما من مرافئ البحر الأبيض المتوسط وشموسه المقزحة، هي التي تركت بصماتها على إشعاع ألوان لوحاته.
يسمح ترتيب سينوغرافية المعرض الوقائعية المتسلسلة تاريخيًا بمتابعة تمفصل تحولاته الأسلوبية الجذرية من دون أن يفرق بين التجريد المحض والتشخيص السيميولوجي الحاسم.
يؤكد هذا السياق على أنه ابتدأ مختبره التجريبي منذ 1950م، مستخدمًا الفرشاة والسكين معًا من أجل نحت صدفوية المواد الكثيفة والصريحة اللون، بكثافة روحية تنأى عن التعديل ضمن مسار حدسي أحادي متجل صوفيًا أو بالأحرى وجوديًا بسبب ولعه بفلسفة ألبير كامي، رغم أنه كان يفضل العزلة، ولا يملك إلا صديقًا يشبهه في مزاجه الإنطوائي، وهو جورج براك.
كثيرًا ما كان يصوّر "موتيفًا" مجهريًا صغيرًا، وينجزه في المحترف على مساحة عملاقة تتجاوز الثلاثة أو الأربعة أمتار (استعار هذه الآلية الانفعالية جورج بازلتز في ما بعد).
ترسخت قدرية أو صدفوية أشكاله من هيئة عمائر الضياع المتسارعة أثناء سفره في قطار، أو في سيارته الكميونيت الخاصة. أشكال متسارعة نصف تجريدية لا تقبل التعديل، وقد تصل إلى التجريد اللوني الذي يملك تواصله التنزيهي مع الموسيقى (مثل بول كلي)، تكشف لوحته الأخيرة قبل انتحاره عن آلة موسيقية عملاقة هي الفيولونسيل، وكذلك البيانو وأوراق النوطة المبعثرة في الفراغ المترامي.
كان تجريده معاكسًا لسابقه الهندسي "هربان"، فهو لا يقنع إلا بالمرئيات المحسوسة المعاشة بصريًا وتبصيريًا من الداخل. بل إن تيار التجريد الغنائي الباريسي المتناسل من رحم الانطباعية مباشرة كان قد وصل نهايته عندما ابتدأ واستمر بفضل نظرته الجديدة المعاشة وجوديًا في التصور المتسارع بنزق المواد الكثيفة وتدفق الخطوط ولطخات الألوان لمرة واحدة مغامرة ومخاطرة غريزية مثل الشهيق والزفير.