دولاكروا وشوبان وموسيقى الألوان
أسعد عرابي
تشكيل
متحف أوجين دولاكروا في باريس، حي سان جيرمان
شارك هذا المقال
حجم الخط
أعلن متحف أوجين دولاكروا في باريس منذ فترة قريبة عن إعادة افتتاح المتحف، بمعنى تحديث سينوغرافية ترتيب المجموعة، ومحاولة استدامة العروض المستعارة من أصحاب المجموعات العالمية لهذا المعلم؛ وتعديل برنامج الزيارات بتسهيل مجانية بعض الأيام، وكذلك المواصلات السياحية بالحافلات العامة، وتكثيف برامج المواكبة في الزيارات، ومرافقتها من قبل شارحين مختصين، وكذلك تعددية الندوات، وتخصيص مكاتب للبحوث والتوثيق والدراسات الجمالية وغيرها؛ يستحضر هذا النشاط المتجدد المعرض البانورامي الحافل الذي أقيم في العام السابق، وتمدد (لنجاحه المنقطع النظير) خلال العام الراهن تحت عنوان: "دولاكروا وشوبان"، والمعرض الأسبق المرتبط به: دولاكروا والألوان.
سأقتصر في حدثيّة ما يجري مجددًا على هذين العرضين لأهميتهما. تثبت مجمل هذه التفاصيل أهمية منعطف الحداثة والمعاصرة التي يمثلها أوجين دولاكروا (مولود في شارنتون الفرنسية عام 1798م، وهو عام الثورة الفرنسية، لذا خلدها بلوحته العملاقة في أبعادها ورمزيتها: "الثورة تقود الشعب" محفوظة في متحف اللوفر، ومتوفى في باريس عام 1863م).
تنتقل أهمية هذا المعلم الأكبر إلى تجديدات متحفه اليوم. وذلك منذ تأسيسه عام 1920م، وتحوله إلى متحف وطني عام 1971م. افتتح لأول مرة عام 1932م ما قبل الحربين العالميتين.
مما يرسخ تفوق أهميته على بابلو بيكاسو كبرزخ، أو منعطف للحداثة السابقة لتيار الانطباعية، والتي تعاقبت على تيار الكلاسيكية المحدثة (لانغر ودافيد المختص بسيرة نابليون بونابرت) والواقعية الطبيعية لجوستاف كوربيه. بما أنه سليل الاستشراق في انجذابه إلى الشرق في شمال أفريقيا، فقد سمى تياره الجديد المتمسّك (بالنماذج الكلاسيكية) "بالرومانسية" (التي تعقب خطاها أيضًا تيودور جيريكو في لوحة الطوافة) مشتقة من اصطلاح بودلير. لعل أبرز لوحات هذا التحول لدى فناننا هو تصويره لعالم الحيوان والصيد خاصة الأسود (على غرار أسد الأطلسي عام 1829م) ثم "السيدة اليتيمة"، ومجموعة لوحات الأتوبورتريه في المرآة.
ثم وهي الأبرز بورتريه للموسيقي الأكبر "فريدريك شوبان". وتمجيده هذا يؤكد ذائقته الموسيقية الرهيفة، واستماعه الدؤوب اليومي لأقطاب الكلاسيكية على غرار جان سيباستيان باخ. وخاصة ندرة أمثاله من ذواقي تجديدات شوبان على سوناتات البيانو التي جذبت الكاتبة المعروفة جورج صاند، وأسطورة علاقتها العاطفية بشوبان، التي جعلت منهما ثنائيًا رومانسيًا تجمعهما لحمة العلاقة العاطفية الفنية.
يصور دولاكروا في لوحة ملحمية عملاقة الثنائي شوبان ـ صاند ما بين عامي 1863 و 1874م، من دون أن تنتهي اللوحة. لذا تجزأت وضاعت، بقي منها أشهر بورتريهات جورج صاند المحفوظة في كوبنهاغن اشتراها صاحب مجموعات معروف عام 1907م من الورثة، وأهداها إلى هذا المتحف. أما بورتريه فريدريك شوبان الشائع فقد صوره معزولًا، يعتمد في شتى مناسبات تمجيد بيانو شوبان، مثل يده اليسرى بأناملها المصبوبة من جسده بعد وفاته تمثل خصائص عزفه الحداثي على البيانو وعنايته بالأوكتافات (السلالم) الواطئة باليد اليسار.
***
يثبت المعرضان المذكوران أن حساسية دولاكروا الموسيقية قادته إلى رهافة تجديدات اللونية، والتي قادت في ما بعد تيارات الحداثة: ابتداء من الانطباعية والوحشية والتجزيئية. فأصبح يرسم الحصان والفارس مثلًا المشرقي باللون الأحمر. خرج بذلك من إسار الاستشراق المعزول عن الموضوع ليقرر السفر ميدانيًا عام 1832 م إلى المغرب والجزائر والأندلس منجذبًا إلى ألوان الزيلليج والفايانس في مدينة فاس، حاملًا معه إثر عودته دفترين ثمينين من الرسوم الملونة السريعة عن الشخوص والعمائر المغربية والجزائرية. نعثر في صفحاتها على آلة عود زرياب المتصل بالتقاسيم اللونية والتواصل بالتالي في الشرق القريب بين موسيقى المقامات الأفقية اللحنية وتداعيات الألوان المقتصرة على بعدين في فن المنمنمات (في المخطوطات العربية ـ الإسلامية).
تبدى تأثير هذا المعلم الكبير من تحول الجيل التالي المتناسل، حملة من المشرق من تراشح الموسيقى مع الألوان، وذلك منذ بواكير تجمع الانطباعية (في صالون المرفوضين عام 1873م)، وخاصة جماعة الوحشيين المتفرعة عنهم بقيادة هنري ماتيس عام 1905م، بل إن رحلة ماتيس نفسه إلى طنجة مرتين ابتداء من 1910م ما هي إلا تعقّب لرحلة دولاكروا الحميمة إلى الشرق القريب.
بلغت درجة تأثيره الذروة مع جماعة التنقيطية (التجزيئية)، وخاصة مع مؤسس النقد الفني المعاصر منظر المجموعة بول سينياك (1863 ـ 1935) م. إلى جانب جورج سورا وغروز. وذلك من خلال كتابه المعنون: "من دولاكروا إلى ما بعد الانطباعية" المنجز عام 1899 م، كان بدأه في عام 1893 م، واكتمل نشره في جريدة دولاكروا (التشابه في الأسماء هنا يخطئ به بعض النقاد) فهنا اسم لكاتب وصحافي وناقد. بينما نشر الكتاب لأهميته التأسيسية مستقلًا كما ذكرت عام 1899 م.
يؤكد، إذًا، هذا الكتاب، إضافة لمصداقية شهرته، على أهمية دولاكروا كمبشّر أول للحداثة والمعاصرة. نجده اليوم نجم تجديدات المتحف الشهير الذي خلد موروثه الفني.
أسعد عرابي
تشكيل
متحف أوجين دولاكروا في باريس، حي سان جيرمان
شارك هذا المقال
حجم الخط
أعلن متحف أوجين دولاكروا في باريس منذ فترة قريبة عن إعادة افتتاح المتحف، بمعنى تحديث سينوغرافية ترتيب المجموعة، ومحاولة استدامة العروض المستعارة من أصحاب المجموعات العالمية لهذا المعلم؛ وتعديل برنامج الزيارات بتسهيل مجانية بعض الأيام، وكذلك المواصلات السياحية بالحافلات العامة، وتكثيف برامج المواكبة في الزيارات، ومرافقتها من قبل شارحين مختصين، وكذلك تعددية الندوات، وتخصيص مكاتب للبحوث والتوثيق والدراسات الجمالية وغيرها؛ يستحضر هذا النشاط المتجدد المعرض البانورامي الحافل الذي أقيم في العام السابق، وتمدد (لنجاحه المنقطع النظير) خلال العام الراهن تحت عنوان: "دولاكروا وشوبان"، والمعرض الأسبق المرتبط به: دولاكروا والألوان.
سأقتصر في حدثيّة ما يجري مجددًا على هذين العرضين لأهميتهما. تثبت مجمل هذه التفاصيل أهمية منعطف الحداثة والمعاصرة التي يمثلها أوجين دولاكروا (مولود في شارنتون الفرنسية عام 1798م، وهو عام الثورة الفرنسية، لذا خلدها بلوحته العملاقة في أبعادها ورمزيتها: "الثورة تقود الشعب" محفوظة في متحف اللوفر، ومتوفى في باريس عام 1863م).
تنتقل أهمية هذا المعلم الأكبر إلى تجديدات متحفه اليوم. وذلك منذ تأسيسه عام 1920م، وتحوله إلى متحف وطني عام 1971م. افتتح لأول مرة عام 1932م ما قبل الحربين العالميتين.
مما يرسخ تفوق أهميته على بابلو بيكاسو كبرزخ، أو منعطف للحداثة السابقة لتيار الانطباعية، والتي تعاقبت على تيار الكلاسيكية المحدثة (لانغر ودافيد المختص بسيرة نابليون بونابرت) والواقعية الطبيعية لجوستاف كوربيه. بما أنه سليل الاستشراق في انجذابه إلى الشرق في شمال أفريقيا، فقد سمى تياره الجديد المتمسّك (بالنماذج الكلاسيكية) "بالرومانسية" (التي تعقب خطاها أيضًا تيودور جيريكو في لوحة الطوافة) مشتقة من اصطلاح بودلير. لعل أبرز لوحات هذا التحول لدى فناننا هو تصويره لعالم الحيوان والصيد خاصة الأسود (على غرار أسد الأطلسي عام 1829م) ثم "السيدة اليتيمة"، ومجموعة لوحات الأتوبورتريه في المرآة.
"يثبت المعرضان المذكوران أن حساسية دولاكروا الموسيقية قادته إلى رهافة تجديدات اللونية، والتي قادت فيما بعد تيارات الحداثة: ابتداء من الانطباعية والوحشية والتجزيئية" |
ثم وهي الأبرز بورتريه للموسيقي الأكبر "فريدريك شوبان". وتمجيده هذا يؤكد ذائقته الموسيقية الرهيفة، واستماعه الدؤوب اليومي لأقطاب الكلاسيكية على غرار جان سيباستيان باخ. وخاصة ندرة أمثاله من ذواقي تجديدات شوبان على سوناتات البيانو التي جذبت الكاتبة المعروفة جورج صاند، وأسطورة علاقتها العاطفية بشوبان، التي جعلت منهما ثنائيًا رومانسيًا تجمعهما لحمة العلاقة العاطفية الفنية.
يصور دولاكروا في لوحة ملحمية عملاقة الثنائي شوبان ـ صاند ما بين عامي 1863 و 1874م، من دون أن تنتهي اللوحة. لذا تجزأت وضاعت، بقي منها أشهر بورتريهات جورج صاند المحفوظة في كوبنهاغن اشتراها صاحب مجموعات معروف عام 1907م من الورثة، وأهداها إلى هذا المتحف. أما بورتريه فريدريك شوبان الشائع فقد صوره معزولًا، يعتمد في شتى مناسبات تمجيد بيانو شوبان، مثل يده اليسرى بأناملها المصبوبة من جسده بعد وفاته تمثل خصائص عزفه الحداثي على البيانو وعنايته بالأوكتافات (السلالم) الواطئة باليد اليسار.
***
يثبت المعرضان المذكوران أن حساسية دولاكروا الموسيقية قادته إلى رهافة تجديدات اللونية، والتي قادت في ما بعد تيارات الحداثة: ابتداء من الانطباعية والوحشية والتجزيئية. فأصبح يرسم الحصان والفارس مثلًا المشرقي باللون الأحمر. خرج بذلك من إسار الاستشراق المعزول عن الموضوع ليقرر السفر ميدانيًا عام 1832 م إلى المغرب والجزائر والأندلس منجذبًا إلى ألوان الزيلليج والفايانس في مدينة فاس، حاملًا معه إثر عودته دفترين ثمينين من الرسوم الملونة السريعة عن الشخوص والعمائر المغربية والجزائرية. نعثر في صفحاتها على آلة عود زرياب المتصل بالتقاسيم اللونية والتواصل بالتالي في الشرق القريب بين موسيقى المقامات الأفقية اللحنية وتداعيات الألوان المقتصرة على بعدين في فن المنمنمات (في المخطوطات العربية ـ الإسلامية).
تبدى تأثير هذا المعلم الكبير من تحول الجيل التالي المتناسل، حملة من المشرق من تراشح الموسيقى مع الألوان، وذلك منذ بواكير تجمع الانطباعية (في صالون المرفوضين عام 1873م)، وخاصة جماعة الوحشيين المتفرعة عنهم بقيادة هنري ماتيس عام 1905م، بل إن رحلة ماتيس نفسه إلى طنجة مرتين ابتداء من 1910م ما هي إلا تعقّب لرحلة دولاكروا الحميمة إلى الشرق القريب.
بلغت درجة تأثيره الذروة مع جماعة التنقيطية (التجزيئية)، وخاصة مع مؤسس النقد الفني المعاصر منظر المجموعة بول سينياك (1863 ـ 1935) م. إلى جانب جورج سورا وغروز. وذلك من خلال كتابه المعنون: "من دولاكروا إلى ما بعد الانطباعية" المنجز عام 1899 م، كان بدأه في عام 1893 م، واكتمل نشره في جريدة دولاكروا (التشابه في الأسماء هنا يخطئ به بعض النقاد) فهنا اسم لكاتب وصحافي وناقد. بينما نشر الكتاب لأهميته التأسيسية مستقلًا كما ذكرت عام 1899 م.
يؤكد، إذًا، هذا الكتاب، إضافة لمصداقية شهرته، على أهمية دولاكروا كمبشّر أول للحداثة والمعاصرة. نجده اليوم نجم تجديدات المتحف الشهير الذي خلد موروثه الفني.