النظرية الفيسيولوجية ، طبيعة الهيجان
ب - النظرية الفيسيولوجية
بينما نحن نجد القدماء من علماء النفس يفرقون بين الإحساس الانفعالي والهيجان على الوجه الذي أوضحناه سابقاً نجد ( ويليم جيمس ) ( ۳ ) العالم النفسي الامريكي و ( لانج ) العالم الفيسيولوجي الدانمركي لا يفصلان أحدهما عن الآخر . فقد جاءنا كل منهما ( جيمس في سنة ١٨٨٤ ، ولانج في سنة ۱۸۸٥ ) بنظرية واحدة مخالفة تماماً للاعتقاد القديم . وكان لآرائها صدى عظيم في العالم العلمي ، فانبرى على أثرهما للبحث في طبيعة الهيجان طائفة كبيرة من علماء النفس ، مثل ( سرجي ) و ( ريبو ) و( جورج دوماس ) و ( ريفولت داللون ) ، وكان للمباحث الفياضة التي جاؤا بها أحسن النتائج .
لقد أولع العلماء منذ أوائل القرن التاسع عشر بالبحث في تأثير الشروط الفيسيولوجية في أحوال النفس ، فمز واحدوث الهيجان إلى التبدلات المتعلقة بسطح الجسد ، لا إلى التغيرات المركزية أو الدماغية ، وقد قال بيشا ( Bichat ( سنة ۱۸۸۰ : وليس للدماغ علاقة بالأهواء لأن الأحشاء تنفرد بها ، وهي الكبد والرئتان والقلب والطحال .
لا يمكن إدراك قيمة هذه النظرية إلا بعد مقارنتها بالاعتقاد القديم والرأي الشائع بين الناس . يعتقد جمهور الناس أن كل هيجان مسبوق بفكرة يترجم الجسد عنها بالعوامل الفيسيولوجية ، والظواهر الجسدية الخارجيـ ــة ، من صراخ ، وحركات ، واصفرار ، واحمرار ، وارتجاف ، وغير ذلك .
فرأي الجمهور قريب إذن من رأي ( هربارت ) الذي يربط الانفعالي بالعقلي . لأن الخوف عنده مسبوق بفكرة الخطر ، ومتبوع بالظواهر الجسدية ، مثال ذلك : ان الأم تفكر في ابنها العليل ، فيحزنها سوء حاله ، فتبكي ، والرجل يتذكر الاهانة التي لحقته ، فيمتعض منها ، ثم تبدو على وجهه أمارات الغضب . فعناصر الهيجان الثلاثة مرتبة كما رأيت على الصورة التالية : ١ - الفكرة ٢ - الهيجان . ٣ - الظواهر الفيسيولوجية .
إلا أن ( ويليم جيمس ) و ( لانج ) عكسا الآية ، فقالا : الأم تفكر في ابنها العليل ، فتبكي عليه ، ثم تحزن . فالفكرة تولد الظواهر الفيسيولوجية ، والظواهر الفيسيولوجية تولد الهيجان ، بحيث يكون تتابع عناصر الهيجان بحسب النظرية الفيسيولوجية كما يلي : الفكرة ٢ - الظواهر الفيسيولوجية ٣ - الهيجان '
قال ( ويليم جيمس ) : « نظريقي هي أن التغيرات الجسدية تعقب مباشرة ادراك الحادث المنبه ، وان الهيجان هو الشعور بهذه التغيرات الحاصلة . يقول الناس : نحن نضيع ثروتنا ، فنغتم ، ثم نبكي ، ونصادف دبا ، فنخاف منه ، ثم نلجأ إلى الحرب ، ويشتمنا أحد أقراننا ، فتغضب منه ، ثم بعد ذلك نضربه . أما أنا فأقول إن هذا التتابع غير صحيح ، لأنه لا يمكن أن يتلو حادث نفسي حادثاً نفسياً مباشراً من غير أن تفصل الظواهر الجسدية بينهما والقول الفصل في ذلك هو أننا حزانى لأننا نبكي . وغضاب لأننا نضرب . ومذعورون لأننا ترتجف . لا كما قيل ، إننا نبكي لأننا حزانى . ونضرب لأننا غضاب . ونرتجف لأننا مذعورون » .
ولو حذفنا الظواهر الفيسيولوجية لما بقى من الهيجان شيء . ولكان الإدراك حالة عقلية هادئة ، لا أثر للاضطراب وحرارة الهيجان فيها . ولو زال التغير الجسدي ، لرأينا الدب ، وحكمنا بضرورة الهرب منه من غير أن نخاف . ولسمعنا الشتائم والمعايب ، وفكرنا في الانتقام ، من غير أن نغضب .
( شکل - ۲۷ )
ويليم جيمس William James ( ١٨٤٢ - ١٩١٠ )
فيلسوف امريكي من جامعة ( هارفارد ) ، كان لمذهبه أثر عظيم في الفلسفة الحديثة . أشهر مؤلفاته : ( ۱ ) مباديء علم النفس ( ٢ ) أنواع التجربة الدينية ( ٣ ) البراغماسية قال أحد المفكرين ( هوفدينغ ) : « جيمس العظام في أيامنا هذه جمع قوة الملاحظة إلى المعرفة الواسعة ، والنقد النافذ إلى إلهام الخيال ، ( الفلاسفة المعاصرون ، ص ۱۸ ) .
فالهيجان إذن هو الشعور بهذه الظواهر الجسدية أو هو كما قيل نسيج الإحساس ، قال ( ويليم جيمس ) :
و هل يبقى من الخوف شيء إذا زال الشعور بخفقان القلب ، وارتعاد الفرائص ، وذهب الإحساس بقشعريرة الجسد واضطراب الأحشاء ؟ انه ليمتنع علي تصور ذلك ، هل يمكن تصور الغيظ الشديد دون غليان المراجل الداخلية ، واحمرار الوجه ، وانتفاخ المنخرين ، وصرير الأسنان ، والإندفاع إلى الأمام ؟ وهل يمكن بقاء هذه الحالة إذا حل محل ذلك كله ارتخاء في العضلات ، وهدوء في التنفس وسكون في الوجه ؟ إن كاتب هذه السطور عاجز عن تصور ذلك ( ١ ) .
وقال أيضاً : « وكذلك الحزن ، فماذا يبقى منه إذا جرد من الدموع ، والزفرات ، وضيق الصدر ، وانقباض القلب . لا يبقى منه إلا حكم ذهني مجرد من كل إحساس . ان هیجانا لا صلة له بالجسد غير موجود - أنا لا أقول إن ذلك مناقض لطبائع الاشياء ، أو إن النفوس المحضة محكوم عليها بالتقلب في حياة عقلية باردة . بل أقول إن الهيجان ـ كما أعتقد لا يتصور إذا عري من كل إحساس جسدي . كلما دخلت إلى أعماق نفسي ، ودققت في أحوالها اقتنعت بأن كل ما أشعر به من الاضطراب ، أو الانفعال ، أو الهوى مركب من التغيرات الجسدية التي نسميها بالظواهر أو النتائج . واني إذا أضعت قوة حساسيتي الجسدية أضعت معها حياة الانفعال ، عذبة كانت أو قاسية ، ووجدتني في حياة عقلية محضة ) وقد أيد ( ويليم جيمس ) نظريته هذه بالادلة التاليه :
۱ ـ ان بعض التصورات يحدث التبدلات الجسدية مباشرة لأن الجسد يعبر عن كل حالة نفسية بحركة . ولذلك كان بعض الادراكات باعثاً على حدوث التبدلات الفيسيولوجية مباشرة قبل أن يتولد الهيجان، وقد ذكر ( ويليم جيمس ) أمثلة كثيرة نقتطف منها ما يلي :
إذا رأينا صديقنا يدنو من هاوية عميقة شعرنا باحساس الوقوع فيها ، وتراجعنا إلى الوراء بسرعة ، رغم علمنا أن صديقنا سالم لا مجال لوقوعه . وقد حفظت أنا نفسي ذكرى الحيرة التي وقعت فيها بعد إغماء أصابني في السابعة أو الثامنة من سني . وذلك أني رأيت حصاناً جريحاً ، فكان دمه ينصب أمام عيني في سطل فيه عصا ، فكنت أحرك العصا وألهو بتقطير الدم ، من غير أن أشعر بهيجان ما ، اللهم إلا ما يشعر به الأطفال من حب الاطلاع ، وما أن مضيت على ذلك برهة حتى صار كل شيء حولي ظلاماً ، فسمعت بأذني طنينا ، وغبت عن الوجود ، رغم أني لم أسمع لذلك العهد أن رؤية الدم تبعث على الغشية أو التمقس ) .
٢ - لقد دلت التجارب على أن الشرائط الضرورية والكافية لحدوث الهيجان محصورة في التبدلات الجسدية الخارجية . إذ كثيراً ما تتولد الحالة النفسية من الوضع الجسدي الموافق لها .
ليس قولنا : الغناء باعث على النشاط ، صورة من صور البلاغة ، وإنما هو حقيقة راهنة . و اجلس طيلة يومك جلسة الفتور والضنى ، وأجب عن كل سؤال بصوت حزين منكسر ، تجد الغم لا يفارق سويداء قلبك ، ، فتقليدنا للأوضاع الجسدية التي تقتضيها الحالات النفسية يبعث على احداث هذه الحالات فينا ، حتى لقد ذكر ( فيشنر ) أن تقليد هذه الأوضاع يسهل علينا تفهم الأحوال النفسية المقابلة لها . وكثيراً ما يبعث العراك الرياضي في الألعاب على الهياج والغضب الشديد . وكما أن النائم نوماً مغنطيسيا يستطيع إذا جلس في وضع جسدي ما أن يشعر بالهيجان المقابل له ، فكذلك يغضب المرضى ، ويخافون ، ويفرحون ، ويحزنون من غير سبب ظاهر . ولو بحثت عن أسباب هياجهم لوجدتها جسدية محضة .
٣ - وعكس ذلك صحیح أيضاً ، لأنك إذا حذفت ظواهر الهيجان الجسدية زال الهيجان نفسه أو خف .
في الحياة اليومية أدلة كثيرة على ذلك . فمن استطاع منع نفسه من إظهار هياجه أمكنه التغلب عليه بسرعة . وقد قيل : إذا غضبت عد من واحد إلى عشرة ( ١ ) ، فتسخر حينئذ بالسبب الذي أضرم ناز الغيظ في قلبك . وإذا قيل إن التعبير عن الهيجان تفريغ عصبي يخفف وطأة الاضطراب ويسكنه ، كمن يبكي فيخف حزنه ، ومن يصرخ ويضرب ، فينتقم لنفسه ويزول غضبه ، قلنا إن هذا وهم باطل ، لأن ظواهر الهيجان ليست واسطة لتفريغ المراجل التي تغلي في أعماق النفس ، وإنما هي وسيلة لازدياد الهيجان واشتداده ، نعم ان الهيجان قد يشتد كما قال ( ويليم جيمس ) ، رغم إيقاف الظواهر الخارجية ، إلا أن هذه الشدة ناشئة عن ضغط التبدلات الجسدية الداخلية ، فلم تزل التبدلات عن الخارج إلا لتتجمع في الداخل ، ولو زالت كلها لبطل الهيجان .
ولا فرق بين ( ويليم جيمس ) و ( لانج ) في ذلك ، لولا أن هذا الأخير زعم أن التبدلات الجسدية كلها ناشئة عن توسع الأوعية الدموية وانقباضها ، وعن تبدلات الأعصاب المحركة . إلا أن العلماء لم يوافقوه على هذا الرأي ، بل قالوا إن الهيجان متعلق يجميع المراكز العصبية الموجودة في المخ المستطيل . وهذه المراكز كما تعلم مسيطرة على الحياة النباتية من دورة دموية ، وتنفس ، وهضم ، وغير ذلك .
فهم ولكن لنهمل الآن هذا الخلاف البسيط ، ولنوضح فكرة الفيسيولوجيين الأساسية ، قد اتفقوا على أن التبدلات الفيسيولوجية كافية لإحداث الهيجان ، لا تأثير للفكر والتصور فيه أبداً . حق أن الفكرة قد تزول ويبقي الهيجان إذا أحدثنا في الأعصاب الواردة أو في المراكز القابلة تأثيراً ينعكس على الشعور . فاهيجان الحادث على هذه الصورة هيجان محض ، لا أثر للفكرة والإدراك فيه . ولنوضح ذلك بالشكل التالي :
( شكل - ٢٨ )
قال ( لانج ) : ( ومن الحقائق التجريبية القديمة التي عرفتها البشرية أن الخمر تنعش القلب ، وأن الأشربة الروحية تذهب بالحزن والخوف ... وتحل مكانها السرور والشجاعة ) .
وقال أيضاً : « لم يخطر ببال أحد ان يفصل الهيجان الحقيقي عن الاضطراب الذي أنه تحدثه ضجة شديدة . ... إن هذا الاضطراب يشتمل على جميع صفات الخوف ، مع ليس بينه وبين تصور الخطر أقل صلة . لأنه لا يتولد من التداعي ، ولا من الذكريات ، ولا من أ من أية عملية عقلية أخرى . بل تعقب ظواهر الخوف هذه الضجة مباشرة من غير أن يكون للخطر المتصور أثر فيها . وما أكثر الذين لا يتعودون الجلوس بالقرب من المدفع عند اطلاق قنابل خوفاً من ضجته مع علمهم يقيناً أن الجلوس بالقرب منه لا يعرضهم لأقل خطر . وشبيه بذلك أيضاً حال الطفل الذي تبدو عليه علامات الخوف عند سماع ضجة شديدة . ولا يمكن أن يقال إن الضجة قد أيقظت في ذهنه فكرة خطر ما » ( ١ )
وعلى ذلك فالهيجان هو الشعور بالتغيرات الجسدية ، ولا فرق بين الهيجان الحقيقي وبين الشعور بهذه التغيرات . ومعنى ذلك انه يمكن توليد الهيجان بالتغيرات الجسدية وحدها . ان بعض السموم تبعث على الاحتدام والتضرم والتلهب ، فلا تظنها الا غيظاً حقيقياً منبعثاً عن فكرة ، فلا فرق ، إذن في النظرية الفيسيولوجية بين الاحساسات الانفعالية والهيجانات .
ويمكن إجمال ما تقدم بالفقرات التالية :
۱ - الهيجان مجموع إحساسات انفعالية ، ولا هيجان دون وساطة الجسد .
۲ - الهيجان هو الشعور بالتغيرات الجسدية ، فالفكرة تحدث التغيرات الفيسيولوجية والتغيرات الفيسيولوجية تولد الهيجان .
٣ - تنقسم هذه التغيرات أو التبدلات الجسدية إلى نوعين : داخلية كالدورة الدموية ، وخارجية كظواهر الوجه وحركات الأعضاء . أما الخارجية فهي ما نعبر عنه بظواهر الهيجان . وهي أقل من غيرها خطورة ، لأنها قد تزول ولا يزول الهيجان معها . وأما الداخلية فهي مجموع الأفاعيل الجسدية الكامنة في الاحشاء ، وهي لا تزول بزوال التبدلات الخارجية .
٤ - أن ( ويليم جيمس ) و ( لانج ) ( ۲ ) متفقان في تعليل الهيجانات المصادمة ، ولكنهما مختلفان في اطلاق هذا التعليل الفيسيولوجي على الانفعالات الحسية الدقيقة . لقد قصر ( لانج ) تعليله على الهيجانات المصادمة فقط ، فقال في كتاب الهيجانات ( ۳ ) ولا شك في أن الحزن والسرور والخوف والغضب وغيرها من الأحوال الشبيهة بها تؤلف جملة من الأحوال المباينة للحب والبغضاء والاحتقار والإعجاب ؛ ولذلك وجب فصلها عنها من الوجهة النفسية . فأنا لا أطلق كلمة هيجان إلا على الأولى ، وأسمي الثانية أهواء ، وعواطف أو أي اسم آخر يراد تسميتها به . فليس في وسعنا ان نساوي بين أشياء مختلفة كهذه ، وان نشبه الرعب والغضب والسرور بالحب وهوى الحرية ) .
أما ( ويليم جيمس ) فقد كان على رأي ) لانج ( حينما نشر هذه النظرية لأول مرة سنة ١٨٨٤ ، إلا أنه عدل عن هذا الرأي عندما نشر كتاب مبادىء علم النفس سنة ١٨٨٠ فعمم النظرية الفي بيولوجية وأطلقها على جميع الهيجانات من غير أن يفرق بين الحسية الدقيقة ( Subtler emotions ) والمصادمة الشديدة ) Coarse emotions ) . فالتبدلات الفيسيولوجية مقارنة لجميع أنواع الهيجان إلا أن ) ويليم - جيمس ) لم يذكر لنا منها إلا أشاء مختصرة .
قال في نظرية الهيجانات ( ص - ۹۹ ) : ( يشعر الإنسان أمام روعة الجمال برعدة في الجسد ، وطعنة في الصدر . وارتجاف في الأعضاء . ورعشة في القلب ، وقشعريرة في الظهر ، وتغرق عيناه في الدموع ، فيصبح تنفسه عميقاً ، وقلبه مضطرباً ) .
وفي الحق أن فصل الهيجان المصادم عن الهيجان الحسي أمر صعب جداً لأن حدودهما مشتبكة ، فأين يبتدى ، هذا وأين ينتهي ذاك ؛ إن كل نظرية صالحة لتعليل الأول ، يجب أن تكون صالحة لتعليل الثاني .
آ - بعض تطبيقات هذه النظرية . - من محاسن النظرية الفيسيولوجية انها تعلل الأمور التالية :
۱ - الهيجانات الخفية الأسباب . - وذلك أن المرء قد يخاف من غير أن يكون الخطر صب محدقا به ، وقد يخاف من غير ، ويغضب من لاشيء ، كمن يخاف عند سماع الضجة الشديدة ، أو يغضب عند طنين الذبابة . وقد يحزن وهو لا يعرف أسباب حزنه ، ولو تعمقنا في البحث عن علة ذلك كله لرأينا أن هذه الأحوال النفسية متعلقة بأحوال عصبية خفية .
٢ - أحداث الهيجان بالإرادة . - إذا صحت النظرية الفيسيولوجية وجب أن يكون أحداث الهيجان بالإرادة ممكنا لأننا نستطيع عند ذلك توليد الهيجان بأسباب فيسيولوجية تابعة لاختيارنا ، كتوليد الخشوع بالركوع ، والخوف بالهرب ، والحزن بالبكاء ، والسرور بشرب الخمر ، والغبطة بالحشيش ، والغضب بامتصاص بعض السموم . وقد يشعر الذي يقلد حركات الشخص الظاهرة بما تنطوي عليه نفس ذلك الشخص من الكيفيات . وقد يشعر الممثل بما يقتضيه دوره من العواطف . وكلما كان شعوره بتلك العواطف أقوى كان تمثيله لدوره أتم وأوفى .
٣ - عدوى الهيجان . وهي أصل الجاذبية ، والعطف ، والحب ، وأساس الانفعالات المشتركة التي تحدث في نفوس الجماهير كالرعب والذعر والثورة بها ينتقل الهيجان من شخص إلى آخر بسهولة ، ولولا عدوى الظواهر الخارجية ، لما تولدت تلك الهيجانات المشتركة .
٤ - امكان معالجة الهيجان . - والمعالجة إما أن تكون طبية وإما أن تكون نفسية . فإن كانت طبية كانت بالمسكنات والمقويات ، وإن كانت نفسية كانت بتسليط الإرادة على ظواهر الهيجان لمنع حدوثها . فكم سكن المهموم حزنه وسويداءه بالعلاج والشراب ، وكم أوقف الجبان خوفه بالتجلد ، والصبر ، وخفض الصوت ، واعتدال الحركات .
ب - وقد غفل ( ويليم جيمس ) عن البحث في تأثير الغدد الداخلية . مع انها تلعب دوراً كبيراً في حدوث الهيجان ، لأن افرازها يزداد أو يتناقص ، وكل هيجان شديد مصحوب بازدیاد افراز ( الأدرينالين ( وهو مادة تفرزها الغدد التي فوق الكليتين . وقد دلت التجارب على ان ضمور الغدد النخامية يؤدي إلى الوهن والسويداء . واثبت العلم أيضاً أن نمو الخصيتين وقت البلوغ يغير الطباع والعواطف والميول .
ج - مناقشة النظرية الفيسيولوجية . - هذه النظرية تبين لنا تأثير الأفاعيل الفيسيولوجية في تولد الهيجان . فلولا الجسد لبقيت الفكرة جامدة لا يخالطها انفعال ، ولصعب علينا أن ندرك كيف يحدث الهيجان بعد الفكرة مباشرة . لأن الهيجان كما علمت هو الشعور بالتبدلات الجسدية . فإذا جردت النفس من الجسد تعذر عليك توليد الهيجان من التصور والفكرة .
يعتمد الفيسيولوجيون في نظريتهم هذه على الموازاة بين التبدلات الجسدية والهيجانات ويقولون ان لكل هيجان تبدلا جسديا خاصاً به - فالغضب مثلا يبعث على ازدیاد دوران الدم في الطبقة الجلدية ، وعلى اختلال حركات القلب ، والجهاز الهضمي ، وعلى تقلص العضلات ، وتقبض اليد ، وتغير الصوت حتى يصبح مشوشاً سريعاً ، وقد تنهمر الدموع ، وتتقلص الحنجرة ويزداد افراز اللعاب حتى يصبح ساما - أما الخائف فيتجمع دمه في المراكز ويزول عن الأطراف ، فيصفر وجهه ، ويتباطأ تنفسه ، ويتشوش عقله ، ويصيبه ارتجاف وغشية ، فيصرخ بصوت مضطرب ، ويبكي ، وتتسع حدقتاه ، ويخفق قلبه ، وتصطك ركبتاه ، ثم يلجأ إلى الهرب .
( شکل - ۲۹ ) ازدیاد دقات القلب في الخوف
يمثل هذا الخط نبض الكلب ، فالقسم الذي بين A و B يدل على السكون والهدوء والقسم الذي بعد B يمثل نبض الكلب لدى سماعة صوت اطلاق البندقية .
فنحن لا نشك في أن لهذه التبدلات الجسدية أثراً عظيماً في تولد الهيجان ، ولكن هل يمكن أن يقال انها علة الهيجان الوحيدة ، وهل يمكن ان يتولد الهيجان الحقيقي من تبدلات جسدية لا تسبقها فكرة ؟
يقول الفيسيولوجيون لا فرق بين الهيجان المتولد من امتصاص المواد الكيميائية والغضب الذي يعترينا بعد الاهانة ، ولكن هل بين هاتين الحادثتين تشابه تام ؟ ان المغيظ الذي أهنته فاضرمت نفسه حقداً وحنقاً ، ليس كالهائج الذي فار فائره وتلهب جسده بعد امتصاص السم . لكل من هذين الحادثين أثره في النفس ، إلا أن كلا منها مختلف عن الآخر . فعمان فكرة الخطر لا تولد هيجان الخوف مباشرة بل تولد التغيرات الجسدية المقارنة له . وليس كل تغير جسدي مولداً للهيجان ، ولا كل فكرة بباعثة على هذه التغيرات . فمن التصورات ما يولد اضطرابا جسدياً ، ومنها ما لا يعكر مجرى الحياة وصفو النفس . فالنظرية الفيسيولوجية مصيبة في قولها ان الفكرة لا تولد الهيجان إلا إذا توسط بينهما الجسد وهي مصيبة في قولها إن التغيرات الجسدية تسبق الهيجان . ولكنها تغالي في القول عندما تزعم أنه يمكن الاستغناء عن الفكرة ، وأنه يمكن توليد الهيجان من التغيرات الجسدية وحدها . ولعل بعض الهيجانات لا تعلل إلا بالعنصر الذهني . كمثل المصور الذي يرى أن الصورة التي رسمها لا تطابق ما كان يتخيل فيقنط وبيأس لتقصيره عن بلوغ غايته ، ثم يسخر بنفسه ويغتم ويحزن ، فيلقي بريشته إلى الأرض ، ويعرض عن الصورة . فالنظرية الفيسيولوجية تقول : إن المصور يائس لأنه قلب مسنده ، ورمى بريشته إلى الأرض وإن يأسه مركب من الاحساس بهذه الحركات . ونحن نقول إن هذا التعليل ناقص ، لأنه لا يذكر العملة التي ولدت هذه الحركات . فعلتها التصور والتفكير . وقد علمت كيف يعلل ) هربارت ( السرور بتوافق التصورات ، والحزن بتخالفها . ولعل حزن المصور لم يتولد إلا من مخالفة الواقع الذي يحس به للمثل الأعلى الذي يتصوره • ( ١ )
و قصارى القول إن النظرية الفيسيولوجية تقصر عن تعليل الهيجان تعليلا تاماً ، لأنها تهمل العنصر الذهني ، وتظن أن التغير الجسدي كاف لايضاح جميع الهيجانات . والحق عن ذلك بعيد ، لأن العنصر الذهني لا يفارق الهيجان الحقيقي ، إن علة يأس المصور ذهنية . ذلك لأن تخالف تصوراته يحدث فيه اضطرايا جسدياً . ثم تنعكس آثار هذا الاضطراب على النفس . فيشعر المصور بها من غير أن يضيع شعوره الأول بتخالف تصوراته وتباينها . فالفكرة لا تنقلب إلى هيجان إلا إذا توسط الجسد بينها وبينه ، ولكن الجسد وحده لا يحدث هيجانا حقيقياً .
ب - النظرية الفيسيولوجية
بينما نحن نجد القدماء من علماء النفس يفرقون بين الإحساس الانفعالي والهيجان على الوجه الذي أوضحناه سابقاً نجد ( ويليم جيمس ) ( ۳ ) العالم النفسي الامريكي و ( لانج ) العالم الفيسيولوجي الدانمركي لا يفصلان أحدهما عن الآخر . فقد جاءنا كل منهما ( جيمس في سنة ١٨٨٤ ، ولانج في سنة ۱۸۸٥ ) بنظرية واحدة مخالفة تماماً للاعتقاد القديم . وكان لآرائها صدى عظيم في العالم العلمي ، فانبرى على أثرهما للبحث في طبيعة الهيجان طائفة كبيرة من علماء النفس ، مثل ( سرجي ) و ( ريبو ) و( جورج دوماس ) و ( ريفولت داللون ) ، وكان للمباحث الفياضة التي جاؤا بها أحسن النتائج .
لقد أولع العلماء منذ أوائل القرن التاسع عشر بالبحث في تأثير الشروط الفيسيولوجية في أحوال النفس ، فمز واحدوث الهيجان إلى التبدلات المتعلقة بسطح الجسد ، لا إلى التغيرات المركزية أو الدماغية ، وقد قال بيشا ( Bichat ( سنة ۱۸۸۰ : وليس للدماغ علاقة بالأهواء لأن الأحشاء تنفرد بها ، وهي الكبد والرئتان والقلب والطحال .
لا يمكن إدراك قيمة هذه النظرية إلا بعد مقارنتها بالاعتقاد القديم والرأي الشائع بين الناس . يعتقد جمهور الناس أن كل هيجان مسبوق بفكرة يترجم الجسد عنها بالعوامل الفيسيولوجية ، والظواهر الجسدية الخارجيـ ــة ، من صراخ ، وحركات ، واصفرار ، واحمرار ، وارتجاف ، وغير ذلك .
فرأي الجمهور قريب إذن من رأي ( هربارت ) الذي يربط الانفعالي بالعقلي . لأن الخوف عنده مسبوق بفكرة الخطر ، ومتبوع بالظواهر الجسدية ، مثال ذلك : ان الأم تفكر في ابنها العليل ، فيحزنها سوء حاله ، فتبكي ، والرجل يتذكر الاهانة التي لحقته ، فيمتعض منها ، ثم تبدو على وجهه أمارات الغضب . فعناصر الهيجان الثلاثة مرتبة كما رأيت على الصورة التالية : ١ - الفكرة ٢ - الهيجان . ٣ - الظواهر الفيسيولوجية .
إلا أن ( ويليم جيمس ) و ( لانج ) عكسا الآية ، فقالا : الأم تفكر في ابنها العليل ، فتبكي عليه ، ثم تحزن . فالفكرة تولد الظواهر الفيسيولوجية ، والظواهر الفيسيولوجية تولد الهيجان ، بحيث يكون تتابع عناصر الهيجان بحسب النظرية الفيسيولوجية كما يلي : الفكرة ٢ - الظواهر الفيسيولوجية ٣ - الهيجان '
قال ( ويليم جيمس ) : « نظريقي هي أن التغيرات الجسدية تعقب مباشرة ادراك الحادث المنبه ، وان الهيجان هو الشعور بهذه التغيرات الحاصلة . يقول الناس : نحن نضيع ثروتنا ، فنغتم ، ثم نبكي ، ونصادف دبا ، فنخاف منه ، ثم نلجأ إلى الحرب ، ويشتمنا أحد أقراننا ، فتغضب منه ، ثم بعد ذلك نضربه . أما أنا فأقول إن هذا التتابع غير صحيح ، لأنه لا يمكن أن يتلو حادث نفسي حادثاً نفسياً مباشراً من غير أن تفصل الظواهر الجسدية بينهما والقول الفصل في ذلك هو أننا حزانى لأننا نبكي . وغضاب لأننا نضرب . ومذعورون لأننا ترتجف . لا كما قيل ، إننا نبكي لأننا حزانى . ونضرب لأننا غضاب . ونرتجف لأننا مذعورون » .
ولو حذفنا الظواهر الفيسيولوجية لما بقى من الهيجان شيء . ولكان الإدراك حالة عقلية هادئة ، لا أثر للاضطراب وحرارة الهيجان فيها . ولو زال التغير الجسدي ، لرأينا الدب ، وحكمنا بضرورة الهرب منه من غير أن نخاف . ولسمعنا الشتائم والمعايب ، وفكرنا في الانتقام ، من غير أن نغضب .
( شکل - ۲۷ )
ويليم جيمس William James ( ١٨٤٢ - ١٩١٠ )
فيلسوف امريكي من جامعة ( هارفارد ) ، كان لمذهبه أثر عظيم في الفلسفة الحديثة . أشهر مؤلفاته : ( ۱ ) مباديء علم النفس ( ٢ ) أنواع التجربة الدينية ( ٣ ) البراغماسية قال أحد المفكرين ( هوفدينغ ) : « جيمس العظام في أيامنا هذه جمع قوة الملاحظة إلى المعرفة الواسعة ، والنقد النافذ إلى إلهام الخيال ، ( الفلاسفة المعاصرون ، ص ۱۸ ) .
فالهيجان إذن هو الشعور بهذه الظواهر الجسدية أو هو كما قيل نسيج الإحساس ، قال ( ويليم جيمس ) :
و هل يبقى من الخوف شيء إذا زال الشعور بخفقان القلب ، وارتعاد الفرائص ، وذهب الإحساس بقشعريرة الجسد واضطراب الأحشاء ؟ انه ليمتنع علي تصور ذلك ، هل يمكن تصور الغيظ الشديد دون غليان المراجل الداخلية ، واحمرار الوجه ، وانتفاخ المنخرين ، وصرير الأسنان ، والإندفاع إلى الأمام ؟ وهل يمكن بقاء هذه الحالة إذا حل محل ذلك كله ارتخاء في العضلات ، وهدوء في التنفس وسكون في الوجه ؟ إن كاتب هذه السطور عاجز عن تصور ذلك ( ١ ) .
وقال أيضاً : « وكذلك الحزن ، فماذا يبقى منه إذا جرد من الدموع ، والزفرات ، وضيق الصدر ، وانقباض القلب . لا يبقى منه إلا حكم ذهني مجرد من كل إحساس . ان هیجانا لا صلة له بالجسد غير موجود - أنا لا أقول إن ذلك مناقض لطبائع الاشياء ، أو إن النفوس المحضة محكوم عليها بالتقلب في حياة عقلية باردة . بل أقول إن الهيجان ـ كما أعتقد لا يتصور إذا عري من كل إحساس جسدي . كلما دخلت إلى أعماق نفسي ، ودققت في أحوالها اقتنعت بأن كل ما أشعر به من الاضطراب ، أو الانفعال ، أو الهوى مركب من التغيرات الجسدية التي نسميها بالظواهر أو النتائج . واني إذا أضعت قوة حساسيتي الجسدية أضعت معها حياة الانفعال ، عذبة كانت أو قاسية ، ووجدتني في حياة عقلية محضة ) وقد أيد ( ويليم جيمس ) نظريته هذه بالادلة التاليه :
۱ ـ ان بعض التصورات يحدث التبدلات الجسدية مباشرة لأن الجسد يعبر عن كل حالة نفسية بحركة . ولذلك كان بعض الادراكات باعثاً على حدوث التبدلات الفيسيولوجية مباشرة قبل أن يتولد الهيجان، وقد ذكر ( ويليم جيمس ) أمثلة كثيرة نقتطف منها ما يلي :
إذا رأينا صديقنا يدنو من هاوية عميقة شعرنا باحساس الوقوع فيها ، وتراجعنا إلى الوراء بسرعة ، رغم علمنا أن صديقنا سالم لا مجال لوقوعه . وقد حفظت أنا نفسي ذكرى الحيرة التي وقعت فيها بعد إغماء أصابني في السابعة أو الثامنة من سني . وذلك أني رأيت حصاناً جريحاً ، فكان دمه ينصب أمام عيني في سطل فيه عصا ، فكنت أحرك العصا وألهو بتقطير الدم ، من غير أن أشعر بهيجان ما ، اللهم إلا ما يشعر به الأطفال من حب الاطلاع ، وما أن مضيت على ذلك برهة حتى صار كل شيء حولي ظلاماً ، فسمعت بأذني طنينا ، وغبت عن الوجود ، رغم أني لم أسمع لذلك العهد أن رؤية الدم تبعث على الغشية أو التمقس ) .
٢ - لقد دلت التجارب على أن الشرائط الضرورية والكافية لحدوث الهيجان محصورة في التبدلات الجسدية الخارجية . إذ كثيراً ما تتولد الحالة النفسية من الوضع الجسدي الموافق لها .
ليس قولنا : الغناء باعث على النشاط ، صورة من صور البلاغة ، وإنما هو حقيقة راهنة . و اجلس طيلة يومك جلسة الفتور والضنى ، وأجب عن كل سؤال بصوت حزين منكسر ، تجد الغم لا يفارق سويداء قلبك ، ، فتقليدنا للأوضاع الجسدية التي تقتضيها الحالات النفسية يبعث على احداث هذه الحالات فينا ، حتى لقد ذكر ( فيشنر ) أن تقليد هذه الأوضاع يسهل علينا تفهم الأحوال النفسية المقابلة لها . وكثيراً ما يبعث العراك الرياضي في الألعاب على الهياج والغضب الشديد . وكما أن النائم نوماً مغنطيسيا يستطيع إذا جلس في وضع جسدي ما أن يشعر بالهيجان المقابل له ، فكذلك يغضب المرضى ، ويخافون ، ويفرحون ، ويحزنون من غير سبب ظاهر . ولو بحثت عن أسباب هياجهم لوجدتها جسدية محضة .
٣ - وعكس ذلك صحیح أيضاً ، لأنك إذا حذفت ظواهر الهيجان الجسدية زال الهيجان نفسه أو خف .
في الحياة اليومية أدلة كثيرة على ذلك . فمن استطاع منع نفسه من إظهار هياجه أمكنه التغلب عليه بسرعة . وقد قيل : إذا غضبت عد من واحد إلى عشرة ( ١ ) ، فتسخر حينئذ بالسبب الذي أضرم ناز الغيظ في قلبك . وإذا قيل إن التعبير عن الهيجان تفريغ عصبي يخفف وطأة الاضطراب ويسكنه ، كمن يبكي فيخف حزنه ، ومن يصرخ ويضرب ، فينتقم لنفسه ويزول غضبه ، قلنا إن هذا وهم باطل ، لأن ظواهر الهيجان ليست واسطة لتفريغ المراجل التي تغلي في أعماق النفس ، وإنما هي وسيلة لازدياد الهيجان واشتداده ، نعم ان الهيجان قد يشتد كما قال ( ويليم جيمس ) ، رغم إيقاف الظواهر الخارجية ، إلا أن هذه الشدة ناشئة عن ضغط التبدلات الجسدية الداخلية ، فلم تزل التبدلات عن الخارج إلا لتتجمع في الداخل ، ولو زالت كلها لبطل الهيجان .
ولا فرق بين ( ويليم جيمس ) و ( لانج ) في ذلك ، لولا أن هذا الأخير زعم أن التبدلات الجسدية كلها ناشئة عن توسع الأوعية الدموية وانقباضها ، وعن تبدلات الأعصاب المحركة . إلا أن العلماء لم يوافقوه على هذا الرأي ، بل قالوا إن الهيجان متعلق يجميع المراكز العصبية الموجودة في المخ المستطيل . وهذه المراكز كما تعلم مسيطرة على الحياة النباتية من دورة دموية ، وتنفس ، وهضم ، وغير ذلك .
فهم ولكن لنهمل الآن هذا الخلاف البسيط ، ولنوضح فكرة الفيسيولوجيين الأساسية ، قد اتفقوا على أن التبدلات الفيسيولوجية كافية لإحداث الهيجان ، لا تأثير للفكر والتصور فيه أبداً . حق أن الفكرة قد تزول ويبقي الهيجان إذا أحدثنا في الأعصاب الواردة أو في المراكز القابلة تأثيراً ينعكس على الشعور . فاهيجان الحادث على هذه الصورة هيجان محض ، لا أثر للفكرة والإدراك فيه . ولنوضح ذلك بالشكل التالي :
( شكل - ٢٨ )
قال ( لانج ) : ( ومن الحقائق التجريبية القديمة التي عرفتها البشرية أن الخمر تنعش القلب ، وأن الأشربة الروحية تذهب بالحزن والخوف ... وتحل مكانها السرور والشجاعة ) .
وقال أيضاً : « لم يخطر ببال أحد ان يفصل الهيجان الحقيقي عن الاضطراب الذي أنه تحدثه ضجة شديدة . ... إن هذا الاضطراب يشتمل على جميع صفات الخوف ، مع ليس بينه وبين تصور الخطر أقل صلة . لأنه لا يتولد من التداعي ، ولا من الذكريات ، ولا من أ من أية عملية عقلية أخرى . بل تعقب ظواهر الخوف هذه الضجة مباشرة من غير أن يكون للخطر المتصور أثر فيها . وما أكثر الذين لا يتعودون الجلوس بالقرب من المدفع عند اطلاق قنابل خوفاً من ضجته مع علمهم يقيناً أن الجلوس بالقرب منه لا يعرضهم لأقل خطر . وشبيه بذلك أيضاً حال الطفل الذي تبدو عليه علامات الخوف عند سماع ضجة شديدة . ولا يمكن أن يقال إن الضجة قد أيقظت في ذهنه فكرة خطر ما » ( ١ )
وعلى ذلك فالهيجان هو الشعور بالتغيرات الجسدية ، ولا فرق بين الهيجان الحقيقي وبين الشعور بهذه التغيرات . ومعنى ذلك انه يمكن توليد الهيجان بالتغيرات الجسدية وحدها . ان بعض السموم تبعث على الاحتدام والتضرم والتلهب ، فلا تظنها الا غيظاً حقيقياً منبعثاً عن فكرة ، فلا فرق ، إذن في النظرية الفيسيولوجية بين الاحساسات الانفعالية والهيجانات .
ويمكن إجمال ما تقدم بالفقرات التالية :
۱ - الهيجان مجموع إحساسات انفعالية ، ولا هيجان دون وساطة الجسد .
۲ - الهيجان هو الشعور بالتغيرات الجسدية ، فالفكرة تحدث التغيرات الفيسيولوجية والتغيرات الفيسيولوجية تولد الهيجان .
٣ - تنقسم هذه التغيرات أو التبدلات الجسدية إلى نوعين : داخلية كالدورة الدموية ، وخارجية كظواهر الوجه وحركات الأعضاء . أما الخارجية فهي ما نعبر عنه بظواهر الهيجان . وهي أقل من غيرها خطورة ، لأنها قد تزول ولا يزول الهيجان معها . وأما الداخلية فهي مجموع الأفاعيل الجسدية الكامنة في الاحشاء ، وهي لا تزول بزوال التبدلات الخارجية .
٤ - أن ( ويليم جيمس ) و ( لانج ) ( ۲ ) متفقان في تعليل الهيجانات المصادمة ، ولكنهما مختلفان في اطلاق هذا التعليل الفيسيولوجي على الانفعالات الحسية الدقيقة . لقد قصر ( لانج ) تعليله على الهيجانات المصادمة فقط ، فقال في كتاب الهيجانات ( ۳ ) ولا شك في أن الحزن والسرور والخوف والغضب وغيرها من الأحوال الشبيهة بها تؤلف جملة من الأحوال المباينة للحب والبغضاء والاحتقار والإعجاب ؛ ولذلك وجب فصلها عنها من الوجهة النفسية . فأنا لا أطلق كلمة هيجان إلا على الأولى ، وأسمي الثانية أهواء ، وعواطف أو أي اسم آخر يراد تسميتها به . فليس في وسعنا ان نساوي بين أشياء مختلفة كهذه ، وان نشبه الرعب والغضب والسرور بالحب وهوى الحرية ) .
أما ( ويليم جيمس ) فقد كان على رأي ) لانج ( حينما نشر هذه النظرية لأول مرة سنة ١٨٨٤ ، إلا أنه عدل عن هذا الرأي عندما نشر كتاب مبادىء علم النفس سنة ١٨٨٠ فعمم النظرية الفي بيولوجية وأطلقها على جميع الهيجانات من غير أن يفرق بين الحسية الدقيقة ( Subtler emotions ) والمصادمة الشديدة ) Coarse emotions ) . فالتبدلات الفيسيولوجية مقارنة لجميع أنواع الهيجان إلا أن ) ويليم - جيمس ) لم يذكر لنا منها إلا أشاء مختصرة .
قال في نظرية الهيجانات ( ص - ۹۹ ) : ( يشعر الإنسان أمام روعة الجمال برعدة في الجسد ، وطعنة في الصدر . وارتجاف في الأعضاء . ورعشة في القلب ، وقشعريرة في الظهر ، وتغرق عيناه في الدموع ، فيصبح تنفسه عميقاً ، وقلبه مضطرباً ) .
وفي الحق أن فصل الهيجان المصادم عن الهيجان الحسي أمر صعب جداً لأن حدودهما مشتبكة ، فأين يبتدى ، هذا وأين ينتهي ذاك ؛ إن كل نظرية صالحة لتعليل الأول ، يجب أن تكون صالحة لتعليل الثاني .
آ - بعض تطبيقات هذه النظرية . - من محاسن النظرية الفيسيولوجية انها تعلل الأمور التالية :
۱ - الهيجانات الخفية الأسباب . - وذلك أن المرء قد يخاف من غير أن يكون الخطر صب محدقا به ، وقد يخاف من غير ، ويغضب من لاشيء ، كمن يخاف عند سماع الضجة الشديدة ، أو يغضب عند طنين الذبابة . وقد يحزن وهو لا يعرف أسباب حزنه ، ولو تعمقنا في البحث عن علة ذلك كله لرأينا أن هذه الأحوال النفسية متعلقة بأحوال عصبية خفية .
٢ - أحداث الهيجان بالإرادة . - إذا صحت النظرية الفيسيولوجية وجب أن يكون أحداث الهيجان بالإرادة ممكنا لأننا نستطيع عند ذلك توليد الهيجان بأسباب فيسيولوجية تابعة لاختيارنا ، كتوليد الخشوع بالركوع ، والخوف بالهرب ، والحزن بالبكاء ، والسرور بشرب الخمر ، والغبطة بالحشيش ، والغضب بامتصاص بعض السموم . وقد يشعر الذي يقلد حركات الشخص الظاهرة بما تنطوي عليه نفس ذلك الشخص من الكيفيات . وقد يشعر الممثل بما يقتضيه دوره من العواطف . وكلما كان شعوره بتلك العواطف أقوى كان تمثيله لدوره أتم وأوفى .
٣ - عدوى الهيجان . وهي أصل الجاذبية ، والعطف ، والحب ، وأساس الانفعالات المشتركة التي تحدث في نفوس الجماهير كالرعب والذعر والثورة بها ينتقل الهيجان من شخص إلى آخر بسهولة ، ولولا عدوى الظواهر الخارجية ، لما تولدت تلك الهيجانات المشتركة .
٤ - امكان معالجة الهيجان . - والمعالجة إما أن تكون طبية وإما أن تكون نفسية . فإن كانت طبية كانت بالمسكنات والمقويات ، وإن كانت نفسية كانت بتسليط الإرادة على ظواهر الهيجان لمنع حدوثها . فكم سكن المهموم حزنه وسويداءه بالعلاج والشراب ، وكم أوقف الجبان خوفه بالتجلد ، والصبر ، وخفض الصوت ، واعتدال الحركات .
ب - وقد غفل ( ويليم جيمس ) عن البحث في تأثير الغدد الداخلية . مع انها تلعب دوراً كبيراً في حدوث الهيجان ، لأن افرازها يزداد أو يتناقص ، وكل هيجان شديد مصحوب بازدیاد افراز ( الأدرينالين ( وهو مادة تفرزها الغدد التي فوق الكليتين . وقد دلت التجارب على ان ضمور الغدد النخامية يؤدي إلى الوهن والسويداء . واثبت العلم أيضاً أن نمو الخصيتين وقت البلوغ يغير الطباع والعواطف والميول .
ج - مناقشة النظرية الفيسيولوجية . - هذه النظرية تبين لنا تأثير الأفاعيل الفيسيولوجية في تولد الهيجان . فلولا الجسد لبقيت الفكرة جامدة لا يخالطها انفعال ، ولصعب علينا أن ندرك كيف يحدث الهيجان بعد الفكرة مباشرة . لأن الهيجان كما علمت هو الشعور بالتبدلات الجسدية . فإذا جردت النفس من الجسد تعذر عليك توليد الهيجان من التصور والفكرة .
يعتمد الفيسيولوجيون في نظريتهم هذه على الموازاة بين التبدلات الجسدية والهيجانات ويقولون ان لكل هيجان تبدلا جسديا خاصاً به - فالغضب مثلا يبعث على ازدیاد دوران الدم في الطبقة الجلدية ، وعلى اختلال حركات القلب ، والجهاز الهضمي ، وعلى تقلص العضلات ، وتقبض اليد ، وتغير الصوت حتى يصبح مشوشاً سريعاً ، وقد تنهمر الدموع ، وتتقلص الحنجرة ويزداد افراز اللعاب حتى يصبح ساما - أما الخائف فيتجمع دمه في المراكز ويزول عن الأطراف ، فيصفر وجهه ، ويتباطأ تنفسه ، ويتشوش عقله ، ويصيبه ارتجاف وغشية ، فيصرخ بصوت مضطرب ، ويبكي ، وتتسع حدقتاه ، ويخفق قلبه ، وتصطك ركبتاه ، ثم يلجأ إلى الهرب .
( شکل - ۲۹ ) ازدیاد دقات القلب في الخوف
يمثل هذا الخط نبض الكلب ، فالقسم الذي بين A و B يدل على السكون والهدوء والقسم الذي بعد B يمثل نبض الكلب لدى سماعة صوت اطلاق البندقية .
فنحن لا نشك في أن لهذه التبدلات الجسدية أثراً عظيماً في تولد الهيجان ، ولكن هل يمكن أن يقال انها علة الهيجان الوحيدة ، وهل يمكن ان يتولد الهيجان الحقيقي من تبدلات جسدية لا تسبقها فكرة ؟
يقول الفيسيولوجيون لا فرق بين الهيجان المتولد من امتصاص المواد الكيميائية والغضب الذي يعترينا بعد الاهانة ، ولكن هل بين هاتين الحادثتين تشابه تام ؟ ان المغيظ الذي أهنته فاضرمت نفسه حقداً وحنقاً ، ليس كالهائج الذي فار فائره وتلهب جسده بعد امتصاص السم . لكل من هذين الحادثين أثره في النفس ، إلا أن كلا منها مختلف عن الآخر . فعمان فكرة الخطر لا تولد هيجان الخوف مباشرة بل تولد التغيرات الجسدية المقارنة له . وليس كل تغير جسدي مولداً للهيجان ، ولا كل فكرة بباعثة على هذه التغيرات . فمن التصورات ما يولد اضطرابا جسدياً ، ومنها ما لا يعكر مجرى الحياة وصفو النفس . فالنظرية الفيسيولوجية مصيبة في قولها ان الفكرة لا تولد الهيجان إلا إذا توسط بينهما الجسد وهي مصيبة في قولها إن التغيرات الجسدية تسبق الهيجان . ولكنها تغالي في القول عندما تزعم أنه يمكن الاستغناء عن الفكرة ، وأنه يمكن توليد الهيجان من التغيرات الجسدية وحدها . ولعل بعض الهيجانات لا تعلل إلا بالعنصر الذهني . كمثل المصور الذي يرى أن الصورة التي رسمها لا تطابق ما كان يتخيل فيقنط وبيأس لتقصيره عن بلوغ غايته ، ثم يسخر بنفسه ويغتم ويحزن ، فيلقي بريشته إلى الأرض ، ويعرض عن الصورة . فالنظرية الفيسيولوجية تقول : إن المصور يائس لأنه قلب مسنده ، ورمى بريشته إلى الأرض وإن يأسه مركب من الاحساس بهذه الحركات . ونحن نقول إن هذا التعليل ناقص ، لأنه لا يذكر العملة التي ولدت هذه الحركات . فعلتها التصور والتفكير . وقد علمت كيف يعلل ) هربارت ( السرور بتوافق التصورات ، والحزن بتخالفها . ولعل حزن المصور لم يتولد إلا من مخالفة الواقع الذي يحس به للمثل الأعلى الذي يتصوره • ( ١ )
و قصارى القول إن النظرية الفيسيولوجية تقصر عن تعليل الهيجان تعليلا تاماً ، لأنها تهمل العنصر الذهني ، وتظن أن التغير الجسدي كاف لايضاح جميع الهيجانات . والحق عن ذلك بعيد ، لأن العنصر الذهني لا يفارق الهيجان الحقيقي ، إن علة يأس المصور ذهنية . ذلك لأن تخالف تصوراته يحدث فيه اضطرايا جسدياً . ثم تنعكس آثار هذا الاضطراب على النفس . فيشعر المصور بها من غير أن يضيع شعوره الأول بتخالف تصوراته وتباينها . فالفكرة لا تنقلب إلى هيجان إلا إذا توسط الجسد بينها وبينه ، ولكن الجسد وحده لا يحدث هيجانا حقيقياً .
تعليق