"نور على نور": البحث عمّا لا يُمكن العثور عليه!

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • "نور على نور": البحث عمّا لا يُمكن العثور عليه!

    "نور على نور": البحث عمّا لا يُمكن العثور عليه!
    أريج جمال 1 يناير 2024
    سينما
    لقطة من فيلم "نور على نور"
    شارك هذا المقال
    حجم الخط
    هل مِن اختراع قدّس النور، واقترن به، خلال القرن العشرين أكثر من السينما؟

    لعلّ في قول ذلك بعض المبالغة، وبعض الجهل بتاريخ الاختراعات، لكن الثابت من تجربة الذهاب لمشاهدة الأفلام أن الصور التي نجلس وسط ظُلمة قاعة العرض في انتظارها لا يُمكن أن تتجسَّد أمامنا على الشاشة الكبيرة بغير ذلك الشعاع المُكثَّف من النور. نحن مدينون، إذًا، لهذا النور، مع أننا لا نوليه عادة أدنى اهتمامنا. من المفارقات، أيضًا، في تاريخ علاقة الفن السابع بالنور أن الرائدين الفرنسيين الشهيرين، أصحاب أوائل عروض الأفلام العالمية في باريس سنة 1895: أوغست ولوي، يعني لقب عائلتهما لوميير lumière في اللغة الفرنسية حرفيًا ضوءًا، أو نورًا.
    إلى هذا، يُمكن الزعم أن الفيلم التسجيلي "نور على نور" (إنتاج مصري دنماركي مشترك)، والذي انطلق عرضه العالمي الأول من مهرجان كوبنهاغن الدولي للأفلام الوثائقية العام الماضي، ثم وصل لاحقًا إلى أسبوع النقاد في مهرجان القاهرة السينمائي، وعُرض مؤخرًا في سينما زاوية في وسط القاهرة، لا يفعل أكثر من محاولة إعادة الأمور إلى نصابها، حين يُقرر مُخرجه الدنماركي كريستيان سور، وفريق عمله، أن يكرسوا بحثهم في الفيلم حول سؤال النور: ماهية هذا النور، وتجسُّداته إن كان يتجسَّد، وأماكن الوصول إليه وتبيُّنه إن كان قابلًا للوصول، كيف يخفت، قبل أن نعاود العثور عليه إن كنا سنفعل، وهل له أهل، أو خاصة؟ أم أنه ليس حكرًا على أحد، لأن لكل أحد نوره الخاصّ.
    إنه موضوع ثري، كما قال أحد الأبطال في مشهد منه، لكنه في الوقت نفسه غامض، ولا يُعرف له أول من آخِر. ثم إن القبض عليه يستعصي تمامًا، علميًا تبقى السرعة التي يقطعها الضوء أقصى سرعة ممكنة، ما يجعله في طبيعة الحال قابلًا للإفلات، مقارنة بجميع عناصر الطاقة الأخرى. ولهذا، فإن فيلمًا يُطارد النور هو فيلم مغوار بطبيعة الحال، وطموح، والحالِم به يعلم مُسبقًا أن مسعاه مُكلل بالفشل، ولعلّ ما يصنع السينما في هذه الحالة هو فقط الحيرة.



    النور وسؤال الحياة اليومية
    والحيرة المقصودة هنا هي حيرة السينمائي، وكذلك المُتفرج، بل هي أيضًا حيرة المُتحدثين المُشاركين في الفيلم إزاء السؤال الذي يُطرح عليهم، ونتخيَّل من اللقاءات التي يتضمنها الفيلم معهم، أو تتبع لدردشاتهم الحُرة أمام الكاميرا، أن السؤال كان: ماذا يعني النور بالنسبة إليك؟ لكن الفيلم لا يصدمنا في البداية، بكل هذه الحمولة الفلسفية والفكرية، وحتى السينمائية، لكلمة النور، بل يُقدِّم لنفسه أولًا بحوار كريستيان ومحمد مصطفى، وهو كذلك واحد من فريق العمل خلف الكاميرا، حول الموضوع في أحد مقاهي وسط البلد، هنا نفهم أن بحث الفيلم لن يتخذ طابعًا أكاديميًا، ولا صفويًا، بل شعبيًا وإنسانيًا. كذلك المشهد الذي تتبع فيه الكاميرا الشخصية التي تتقدم باسم رامي العدوي، في مطبخه، وهو يتحدث عن فكرته عن المرض والشفاء: "المرض صورة في العقل، السعادة كمان صورة، بتبديل الصور بيحصل العلاج"، ساعيًا قدر ما يستطيع إلى تبسيط إجابته عن سؤال عملي أكثر مِن أسئلة أخرى في الفيلم: ماذا يعني النور على مستوى الحياة الجسدية للمرء، أو في قول آخر ما فائدته للحياة اليومية؟

    "النور موضوع مناسب للسينما، لأن الكاميرا تُحب النور، وتتقصى الكاميرا فعلًا الأشكال المُحدبة والغريبة من الضوء، ومن انعكاساته على الأسطح"


    يتوجه الفيلم من بعد ذلك إلى شخص آخر، أحمد، وهو يظهر في صورة التي يجوز أن نُطلِق عليها نمطية إلى حد ما، حول فكرة النور، إذ يتحدث عن سُبْحته، وعن الطاقة التي يستمدها منها حين يستعملها في الذِكر، وفي نوع من الرقص الصوفي: "السُبْحة زي الأفعى تحرك الجسم زي موج البحر بتحرك كل عضلة". ثم يُضيف ما يبدو لنا نوعًا من التفسير لهذا النزوع إلى المحجوب: "بالطريقة دي الإنسان بيبعد عن مشاكل الدنيا، ويدخل على ملكوت الله".
    وقبل أن يرتفع تشككنا في ما نرى، أو اعتراضنا لأي سبب من الأسباب عليه، لأن النور الذي يشهد عليه أحمد هنا لا يُمكن أن يكون إلا موضوعًا ذاتيًا ومُمتنعًا كُليًا على الآخر؛ يعود المخرج إلى موطنه، الدنمارك، ويُصوِّر الضباب في الشوارع، ويُحدِّث رفاقه من فريق العمل حول رأيهم في موضوعه، كما يُركز على الجانب السينمائي من بحثه، فالنور موضوع مناسب للسينما، لأن الكاميرا تُحب النور، وتتقصى الكاميرا فعلًا الأشكال المُحدبة والغريبة من الضوء، ومن انعاكاساته على الأسطح، قبل أن يعود الفيلم ثانية إلى مصر.



    بلا أحكام مُسبقة
    محمد وكريستيان في لقطة من فيلم "نور على نور"
    في هذه العودة، يتبدى اندفاع، وكذلك تصميم على الإحاطة بالموضوع من جوانبه كافة. ويصير شخص الفيلم كالمُستمِع المُحايد الذي يُصغي للجميع، ويحترم الجميع، من دون أن يحكم على أحد. فنرى مسجد السيدة زينب، بما يُحيله من حديث ضمني عن الطرق الصوفية في مصر وطقوسها، وفي بعض الأحيان شيوخها، كجزء من رحلة البحث. لكن المُقابلات الأكثر حميمية في "نور على نور" تكمن في الحوارات مع أشخاص عاديين، كشهادة عُمر الذي يرى أن الطفولة هي أكثر المراحل التي يستقبل فيها الإنسان النور بلا شك. ويلي ذلك مشهد لحلقة ذكر، لأشخاص يتركون هواتفهم المحمولة بعيدًا عن متناولهم، كي يتسنى لهم أكثر الاستغراق في الذكر، والطريف أن طفلًا صغيرًا يتسحب إلى أحد هذه الهواتف، منفصلًا بخفة ظل عن هيبة المشهد، ما يُسرب في النهاية البسمة إلى شفاه الحاضرين، وبالتأكيد المتفرجين، في السينما.
    كذلك ثمة شهادة أميرة، التي تعترف بأنها لم تكن في الماضي تُصدق هذا النوع من الحكايات عن المعجزات الشخصية، إذا جاز التعبير، والتي كان يتحدث بها أشخاص مُقربون منها، وأنها بدأت مع الوقت تتبنى فلسفة تقوم على الأقل على عدم التكذيب إزاء هذا النوع من القصص، لأنها رأتْ تأثير هذه الفكرة، أو هذا "النور"، على حياة المُحيطين بها، بما يصعب إنكاره، أو اعتباره محض كذبة. ومن بين أكثر شهادات الفيلم زخمًا وتأثيرًا تأتي شهادة ماهر، الذي قطع رحلة طويلة من القاهرة إلى أسيوط كي يزور مقام صلاح الدين المنفلوطي، ليتحدث معه عن همومه، وآلامه، ويروي أمام الكاميرا جانبًا من هذا المونولج الشخصي: "أنا جاي لك من مصر كلي شك وحاجات كتير... وحاسس إني مش قريب منك كفاية. ولا حاسس إني متصل بيك. عاوز أحس بارتباط بيك حقيقي من غير شكوك". ثم يروي "المعجزة" التي قد رآها، أو "الفتح"، أيًا كان ما يُحب السيد ماهر أن يسميه وهو يبكي بحُرقة في نهاية المشهد.



    التجربة الشخصية
    يرصد الفيلم عددًا من مَشاهد الممارسات الطقسية لأصحاب الطرق الصوفية في الصعيد، موائد الطعام المبسوطة أمام الجميع في لافتة تدل على السعي لتكريس قيمتي الرحمة المساواة، وتجمعات بعض المُريدين والمريدات، وأجوبتهم اليقينية عن سؤال النور الذي يطرحه المُخرج (وهم يبدون مُستريحين من حوله) مثل: "الله أقام الوجود على المحبة"، و"الدنيا قايمة على محبة الرسول". أو الإجابة القاطعة لإحدى السيدات "النور هو سيدنا رسول الله"، والتي يفقد معها السؤال أهميته.

    "أُنجز الفيلم بالتردد على مصر طوال ثمانية أعوام كما أوضح مخرجه كريستيان سور، بعد أن عثر على مادة ثرية، بهدف تصوير هذا الفيلم"


    وسط هذه الرحلة في جنوب مصر، ونتصوّر كيف كانت شاقة على فريق العمل والمخرج، يأتي مشهد أساسي في الفيلم، إذ نرى المخرج نفسه في لحظة هشاشة بالغة، وحيرة مؤلمة، يستنير بمصباح ضعيف في خيمته، ويحكي تجربته الخاصة حين تعرّض ابنه الرضيع إلى أزمة صحية حادّة، ودفعه الخوف على صغيره ـ هو الذي لا يعد نفسه مؤمنًا ـ إلى الصلاة، وفي صلاته رأى مخلوقات لا يستطيع أن يصفها "قولوا عنها ملائكة... قولوا ما تشاؤون"، يقول وهو أيضًا يبكي، وشاهدهم يهمون بحمل ابنه ورفعه معهم عاليًا لا يعلم إلى أين، ما جعله يقطع صلاته، وحين توقف، توقف أيضًا الرفع.
    ما الذي حدث؟ لا يعرف، ويضيف بعصبية أنه لا يعرف حتى ما الذي يفعله، في هذا المكان، في هذا الزمن. تجربة ستصير دافعًا خفيًا لإنجاز هذا الفيلم بلا شك، ولا يكتمل هضمها إلا في ما يُمكننا اعتباره الرُبع الأخير من الفيلم، والذي يجري مجددًا في الدنمارك.



    الشق الأنثروبولوجي
    يحمل "نور على نور" توجهًا أنثربولوجيًا واضحًا، فعدا عن التسجيل لبعض عادات وطقوس مُريدي الطرق الصوفية في مصر، وغوصه إلى حد كبير في الجانب الإيماني لدى مواطنين مصريين يعيشون في اللحظة الحالية بكل تعقيدها على المستويين المحلي والعالمي، وتُعلّق أميرة، ولها والدة تُصدق كثيرًا في هذا العالم غير المرئي، إلى حد أنها تراه مرئيًا، على منهج والدتها، في عبارة مُختصرة أضحكت جمهور الفيلم: "لو أنت عايش في مصر دلوقت، إما أنك تكون مجنون، وإما تكون صوفي". وهو ما يتفق مع طرح صديق آخر، عدَّ النور شيئًا من المواساة للتجربة الإنسانية بشكل عام، ذلك أن الحياة على ما يبدو صعبة في كل الأمكنة والأزمنة، ولا بد للإنسان أن يجد ما يُعينه عليها.
    في النقاش الذي أعقب العرض، سمحتُ لنفسي أن أتوجه إلى المخرج وفريق العمل بسؤالين مُختزلين: لمَ مصر؟ ولمَ النور؟
    تحدث كريستيان عن نوع الموضوعات التي كان يعمل عليها قبل هذا الفيلم، وهي الموضوعات التي بدا وكأنه يُكفِّر بها عن المزايا التي يحظى بها "كرجل أبيض" على حد وصفه: عن الرقية الشرعية، وعن الإرهاب الداعشي؛ وأن ما أدى إلى تغيير دفة تفكيره هي نصيحة أحد أصدقائه بتناول موضوعات أكثر خفّة بدلًا من هذه الموضوعات التي عدّها مُعقدة، وكلمة الخفة بالإنكليزية هي نفسها كلمه النور، وهذا ما جعل كريستيان يأخذ بنصيحة صديقه حرفيًا، بعمل فيلم عن النور. ولأن هذا الصديق تصادف أن يكون مصريًا، فقد أُنجز الفيلم بالتردد على مصر طوال ثمانية أعوام كما أوضح، بعد أن عثر على مادة ثرية، بهدف تصوير هذا الفيلم.
    حتى نهاية "نور على نور" يظلّ المخرج مهمومًا بسؤاله، ويعود به إلى الدنمارك، هناك يستدعي أغنية دنماركية شهيرة من ذاكرته تتحدث عن النور، ويُصرّ على التوجه إلى صديقه محمد، في أحد أدفأ مشاهد الفيلم، ولا نعرف لأي سبب تصوّر أن محمدًا تحديدًا يملك تقديم إجابة شافية له، يسأله بالعربية التي يُجيدها: "هل النور الذي تتحدث عنه هذه الأغنية هو نفسه النور اللي كانت الناس بتتكلم عنه"، فيجيبه محمد: "تقدر تقول إنه نفس النور لو عايز"، ليجيبه: "شكرًا أنا عاوز أفكر كده فعلا".
يعمل...
X