غزّة والسينما: الدهشة والألم
أشرف الحساني
سينما
دمار في مخيم المغازي بعد قصف إسرائيلي همجي (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
تحتلّ المُدن مكانة كبيرة في السينما العالمية، لكنّها تغيب في سينما العالم العربي. غيابٌ كهذا ليس له مُبرّر معرفي، ما دامت الكتابة فعلًا ذاتيًا لا علاقة له دائمًا بالآخر. السيناريست حين يكتُب لا ينبغي أنْ يلهث وراء مسار الموجات التي تطاول السينما العربيّة، فتبدو الصُوَر في هذه الحالة خاضعة إلى منطق المؤسّسات الغربية المانحة للدعم لعددٍ من الأفلام السينمائية العربيّة في إطار شراكات، رغم مساهمتها الجدية في نمو سينما العالم العربي. غياب الاهتمام بسينما المُدن، يعود بدرجةٍ أولى إلى قلّة الوعي بموضوع المدينة كبراديغم قويّ منه تتبلور القصص والحكايات والرؤى والأحلام، وما يُمكن أنْ تُتيحه للسيناريست والمُخرج من مسرّات ذات صلةٍ بالكتابة والصورة. إنّ المخرج حين يشتغل على المدينة سينمائيًا، فهو يُحوّلها إلى أيقونة بصريّة ذائعة الصيت. فالسينما وبسبب شعبيتها تتوفّر على إمكانات لا يُمكن أنْ نتخيّلها، لكونها قادرة على الوصول إلى أكبر عددٍ مُمكنٍ من الناس. من هنا تزداد أهمية الاشتغال في السينما على شعريّة المدينة، بوصفها فضاءً مُولّدًا للحكايات الرمزيّة القادرة على نسج تواصل خاصّ مع المُشاهد. إنّ سينما المُدن مفقودة داخل العالم العربي، رغم أنّ السينما العربيّة في حاجةٍ ماسّة إلى هذا النّمط من السينما المُركّبة التي يُحاول المخرج استشعارها والقبض على هسيسها داخل الصورة. وعلى مدار سنوات طويلة أصبح المُشاهد يفتقد إلى المُدن في السينما، بعدٍ تجربةٍ خاصّة اشتغلت عليها السينما اللبنانيّة في إطار ما سُميّ بـ"السينما المستقلّة" مع جان شمعون، ومارون بغدادي، وبرهان علوية، وجوسلين صعب، ورندة الشهّال. وهي تجربة سينمائية مُذهلة احتلّ فيها فضاء المدينة مكانة مميّزة على مُستوى تخييل القصص وترويض الحكايات على بعضها البعض والدفع بها صوب عتبة التخييل.
أخذت بيروت من خلال هذه الفيلموغرافيا اللبنانيّة مكانة كبيرة، لا لأنّها كانت مركز الإشعاع الحضاري، أو حتّى لكونها مختبرًا للحداثة داخل عالم عربيّ مُتصدّع، وإنّما لمكانتها الرمزية في قلوب المقاومين والمناضلين. لكن هذا الإشعاع كان سببه وردة فلسطين وأهميتها في قلوب المثقفين العرب الذين فضّلوا العيش داخل بيروت، والنضال من بعيد عن طريق الكتابة والكاميرا، وغيرهما. فلا غرابة أنْ تحتلّ فلسطين أهمية كبرى في هذه الأفلام التي بدا بعضها، وكأنّه ينطلق من الجُرح الفلسطيني لاستكشاف مآلات اللحظة العربيّة الراهنة. احتفظت هذه الأفلام من دون استثناء بحرارتها على مُستوى تفاعلها مع الحدث السياسي داخل فلسطين، فجاءت الصُوَر تُدين الواقع الإسرائيلي وتُعرّي جرائمه ومذابحه تجاه فلسطين. لم تخبُ يومًا شرارة هذه الأسماء في جعل فلسطين قضيّة مركزيّة في أفلامها، لأنّ الواقع الفلسطيني كان بمثابة مختبرٍ حقيقي للبحث عن سينما تنتقد وتُفكّك وتُعرّي فتُظهر الاحتلال على حقيقته أمام عدسة الكاميرا وهي تلتقط التفاصيل والنتوءات. لقد اهتمّت السينما اللبنانيّة "البديلة" بتخييل فضاء المدينة، والتعامل معه على أساس أنّه مُختبر يُفجّر آلاف القصص والحكايات. واتخّذ هذا الاشتغال على فضاء المدينة أبعادًا مختلفة، رغم أنّ الملمح السياسيّ ظلّ واضحًا ومُسيطرًا على مختلف الأفلام السينمائية ومُتخيّلها.
ما نُريد التأكيد عليه هو أنّ السينما قادرة على الغوص في المُدن وتفكيكها من الداخل، والاستماع إلى نبضها، والقبض على قصص وحكايات أناسها. ذلك أنّ المُدن مثل العلب الساحرة كلّما فتحت قلبها تُدهشك بما يوجد في داخلها من أسرار. والسينما تُعدُّ الفنّ البصريّ الأكثر قُدرة على القبض على روحها. وذلك لأنّ السينما تمتلك وعيًا قويًا بالواقع، رغم أنّ هناك عددًا من المخرجين يرون فيها فنًا واقعيًا بامتياز. ناهيك عن إمكاناتها التخييلية في التعامل مع الحكايات وفق مقاربات بصريّة مختلفة ومتنوّعة بقدر ما تلتحم بالواقع تنفلت منه في آن واحد. كما أنّ السينما، وبسبب شعبيتها وذيوعها، وتمركز خطابها على مفهوم الصورة، تأخذ المُشاهد إلى عوالم مُدهشة من الواقع، ومُلامسة الكينونة البشرية والكشف عن أعطابها وتناقضاتها.
ما تعيشه غزّة اليوم بسبب الجرائم الإسرائيلية يحتاج إلى تفكير عميق في ما يُمكن أنْ تلعبه السينما في التعامل مع هذا الواقع غير المتكافئ. وتستطيع السينما بسبب شعبيتها أنْ تفُكّ الحصار عن غزّة عبر المقاومة بالصورة وتوثيق يوميات المقاومين في السراديب المُظلمة وتحت وقع نيران احتلال غاشم يقتل الأطفال والنساء ويُريد أنْ يجعل من المدينة مجرّد رماد. أمام سُلطة الاحتلال، تستطيع الكاميرا إظهار ما تتستّر عليه الأنظمة العربيّة من جرائم وتنكيل وتهجير في حق سكّان المدينة. بيد أنّ طريقة الاشتغال على فيلمٍ حول غزّة الآن يحتاج إلى تفكير مُسبق في طريقة المُعاينة، وكيفيات التصوير. وبالعودة إلى تاريخ السينما العالمية، نعثر على كثير من الأفلام التي صُوّرت خلال لحظات الحرب، واستطاعت إلى حدّ كبير الحفاظ على حرارة الحدث ونقله إلى المُشاهد في مختلف دول العالم.
وقد عملت كثير من الأنظمة الغربية على التضييق على شركات الإنتاج من أجل توقيف التصوير إيمانًا منها بقوّة السينما في التأثير على مجريات الحرب. في مثل هذه الحالات، يبدو العمل الوثائقي قريبًا من يوميّات الناس، لأنّ الوثائقي، أو التسجيلي، لا يرتبط دومًا بوجود ممثلين، أو كتابة مُسبقة للسيناريو. وبالتالي، فإنّ الصورة تكون مفتوحة بتلقائية على تضاريس الواقع، بحكم أنّ الكاميرا لها القُدرة على التجوّل داخل الأقبية والممرّات والمنازل ومناطق الاحتلال، وتصوير الجرائم التي تُنفذّها إسرائيل أمام عيون العالم. لا يوجد قانون يمنع السينما من حكي الواقع بطريقتها الخاصّة، والكشف عن أشياء تُساهم في تعطيل هذا الواقع. ولأنّ واقع غزّة أصبح قضيّة رأي دولية، فإنّ السينما تستطيع أنْ تتحايل على الصورة، وتنقل بحواراتها ما يروج على الساحة العالمية من تضليل للرأي العام وعدم إشراكه في ما يحدث داخل غزّة. إنّ الصورة الوثائقية تضع إسرائيل في ورطة يستحيل الخروج منها، ما دامت عدسات العالم تشتغل في نقل ما يحدث للناس، حاضرًا ومُستقبلًا، إذْ لم يعُد يُسجّل ما يروج داخل الواقع فقط، وإنّما يعمل بطريقته الخاصّة على إدانة القوى التي تُساهم في تأزيم هذا الواقع.
أمّا الفيلم الروائي فيمتلك هو الآخر طريقته في التعامل مع حرب إسرائيل على غزّة بكيفيات مختلفة من الاشتغال. لكنّ مُشكلة الروائي في حالة غزّة أنّه في حاجة إلى الكتابة والتفكير والتأمّل والبحث عن شخصيات تتماشى مع جوهر الحكاية، في وقتٍ لا تملك فيه مدينة غزّة الوقت لردع قوّات الاحتلال. وذلك بحكم أنّ الروائي مُنشغل بقصص وحكايات يُعيد بلورتها على عرش الصورة، وفق أنماطٍ مختلفة من الصُوَر. إنّ السينما تستطيع أنْ تُوثّق بشكل دقيق مقاومة الناس داخل الشوارع والأزقّة والمستشفيات، ولها القُدرة على تمحيص الأحداث العسكرية وخلفياتها السياسيّة. ناهيك عن تستّر الأنظمة العربيّة، وكشف كثير من التصدّعات على مستوى العلاقات الدولية، وما يُمكن أنْ تستفيد منه أميركا في تضامنها مع إسرائيل. السينما تستطيع إعادة بلورة كلّ أقاويل وأحداث الرأي العام، والقبض عليها داخل صورةٍ سينمائية فيها كثير من دهشة الفنّ السابع، وتضحيات المجتمع الفلسطيني في سبيل تحرير أرضه وتاريخه وذاكرته، وهو الأمر نفسه الذي تقوم به المقاومة الشعبية في فلسطين، وهي تكتب تاريخها بالدم على أجساد الشهداء من الرجال والنساء والأطفال، وبسمة المقاومة، وفخر الانتماء إلى هذه الأرض، تعلو وجوههم.
أشرف الحساني
سينما
دمار في مخيم المغازي بعد قصف إسرائيلي همجي (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
تحتلّ المُدن مكانة كبيرة في السينما العالمية، لكنّها تغيب في سينما العالم العربي. غيابٌ كهذا ليس له مُبرّر معرفي، ما دامت الكتابة فعلًا ذاتيًا لا علاقة له دائمًا بالآخر. السيناريست حين يكتُب لا ينبغي أنْ يلهث وراء مسار الموجات التي تطاول السينما العربيّة، فتبدو الصُوَر في هذه الحالة خاضعة إلى منطق المؤسّسات الغربية المانحة للدعم لعددٍ من الأفلام السينمائية العربيّة في إطار شراكات، رغم مساهمتها الجدية في نمو سينما العالم العربي. غياب الاهتمام بسينما المُدن، يعود بدرجةٍ أولى إلى قلّة الوعي بموضوع المدينة كبراديغم قويّ منه تتبلور القصص والحكايات والرؤى والأحلام، وما يُمكن أنْ تُتيحه للسيناريست والمُخرج من مسرّات ذات صلةٍ بالكتابة والصورة. إنّ المخرج حين يشتغل على المدينة سينمائيًا، فهو يُحوّلها إلى أيقونة بصريّة ذائعة الصيت. فالسينما وبسبب شعبيتها تتوفّر على إمكانات لا يُمكن أنْ نتخيّلها، لكونها قادرة على الوصول إلى أكبر عددٍ مُمكنٍ من الناس. من هنا تزداد أهمية الاشتغال في السينما على شعريّة المدينة، بوصفها فضاءً مُولّدًا للحكايات الرمزيّة القادرة على نسج تواصل خاصّ مع المُشاهد. إنّ سينما المُدن مفقودة داخل العالم العربي، رغم أنّ السينما العربيّة في حاجةٍ ماسّة إلى هذا النّمط من السينما المُركّبة التي يُحاول المخرج استشعارها والقبض على هسيسها داخل الصورة. وعلى مدار سنوات طويلة أصبح المُشاهد يفتقد إلى المُدن في السينما، بعدٍ تجربةٍ خاصّة اشتغلت عليها السينما اللبنانيّة في إطار ما سُميّ بـ"السينما المستقلّة" مع جان شمعون، ومارون بغدادي، وبرهان علوية، وجوسلين صعب، ورندة الشهّال. وهي تجربة سينمائية مُذهلة احتلّ فيها فضاء المدينة مكانة مميّزة على مُستوى تخييل القصص وترويض الحكايات على بعضها البعض والدفع بها صوب عتبة التخييل.
أخذت بيروت من خلال هذه الفيلموغرافيا اللبنانيّة مكانة كبيرة، لا لأنّها كانت مركز الإشعاع الحضاري، أو حتّى لكونها مختبرًا للحداثة داخل عالم عربيّ مُتصدّع، وإنّما لمكانتها الرمزية في قلوب المقاومين والمناضلين. لكن هذا الإشعاع كان سببه وردة فلسطين وأهميتها في قلوب المثقفين العرب الذين فضّلوا العيش داخل بيروت، والنضال من بعيد عن طريق الكتابة والكاميرا، وغيرهما. فلا غرابة أنْ تحتلّ فلسطين أهمية كبرى في هذه الأفلام التي بدا بعضها، وكأنّه ينطلق من الجُرح الفلسطيني لاستكشاف مآلات اللحظة العربيّة الراهنة. احتفظت هذه الأفلام من دون استثناء بحرارتها على مُستوى تفاعلها مع الحدث السياسي داخل فلسطين، فجاءت الصُوَر تُدين الواقع الإسرائيلي وتُعرّي جرائمه ومذابحه تجاه فلسطين. لم تخبُ يومًا شرارة هذه الأسماء في جعل فلسطين قضيّة مركزيّة في أفلامها، لأنّ الواقع الفلسطيني كان بمثابة مختبرٍ حقيقي للبحث عن سينما تنتقد وتُفكّك وتُعرّي فتُظهر الاحتلال على حقيقته أمام عدسة الكاميرا وهي تلتقط التفاصيل والنتوءات. لقد اهتمّت السينما اللبنانيّة "البديلة" بتخييل فضاء المدينة، والتعامل معه على أساس أنّه مُختبر يُفجّر آلاف القصص والحكايات. واتخّذ هذا الاشتغال على فضاء المدينة أبعادًا مختلفة، رغم أنّ الملمح السياسيّ ظلّ واضحًا ومُسيطرًا على مختلف الأفلام السينمائية ومُتخيّلها.
"السينما قادرة على الغوص في المُدن وتفكيكها من الداخل، والاستماع إلى نبضها، والقبض على قصص وحكايات أناسها" |
ما نُريد التأكيد عليه هو أنّ السينما قادرة على الغوص في المُدن وتفكيكها من الداخل، والاستماع إلى نبضها، والقبض على قصص وحكايات أناسها. ذلك أنّ المُدن مثل العلب الساحرة كلّما فتحت قلبها تُدهشك بما يوجد في داخلها من أسرار. والسينما تُعدُّ الفنّ البصريّ الأكثر قُدرة على القبض على روحها. وذلك لأنّ السينما تمتلك وعيًا قويًا بالواقع، رغم أنّ هناك عددًا من المخرجين يرون فيها فنًا واقعيًا بامتياز. ناهيك عن إمكاناتها التخييلية في التعامل مع الحكايات وفق مقاربات بصريّة مختلفة ومتنوّعة بقدر ما تلتحم بالواقع تنفلت منه في آن واحد. كما أنّ السينما، وبسبب شعبيتها وذيوعها، وتمركز خطابها على مفهوم الصورة، تأخذ المُشاهد إلى عوالم مُدهشة من الواقع، ومُلامسة الكينونة البشرية والكشف عن أعطابها وتناقضاتها.
ما تعيشه غزّة اليوم بسبب الجرائم الإسرائيلية يحتاج إلى تفكير عميق في ما يُمكن أنْ تلعبه السينما في التعامل مع هذا الواقع غير المتكافئ. وتستطيع السينما بسبب شعبيتها أنْ تفُكّ الحصار عن غزّة عبر المقاومة بالصورة وتوثيق يوميات المقاومين في السراديب المُظلمة وتحت وقع نيران احتلال غاشم يقتل الأطفال والنساء ويُريد أنْ يجعل من المدينة مجرّد رماد. أمام سُلطة الاحتلال، تستطيع الكاميرا إظهار ما تتستّر عليه الأنظمة العربيّة من جرائم وتنكيل وتهجير في حق سكّان المدينة. بيد أنّ طريقة الاشتغال على فيلمٍ حول غزّة الآن يحتاج إلى تفكير مُسبق في طريقة المُعاينة، وكيفيات التصوير. وبالعودة إلى تاريخ السينما العالمية، نعثر على كثير من الأفلام التي صُوّرت خلال لحظات الحرب، واستطاعت إلى حدّ كبير الحفاظ على حرارة الحدث ونقله إلى المُشاهد في مختلف دول العالم.
وقد عملت كثير من الأنظمة الغربية على التضييق على شركات الإنتاج من أجل توقيف التصوير إيمانًا منها بقوّة السينما في التأثير على مجريات الحرب. في مثل هذه الحالات، يبدو العمل الوثائقي قريبًا من يوميّات الناس، لأنّ الوثائقي، أو التسجيلي، لا يرتبط دومًا بوجود ممثلين، أو كتابة مُسبقة للسيناريو. وبالتالي، فإنّ الصورة تكون مفتوحة بتلقائية على تضاريس الواقع، بحكم أنّ الكاميرا لها القُدرة على التجوّل داخل الأقبية والممرّات والمنازل ومناطق الاحتلال، وتصوير الجرائم التي تُنفذّها إسرائيل أمام عيون العالم. لا يوجد قانون يمنع السينما من حكي الواقع بطريقتها الخاصّة، والكشف عن أشياء تُساهم في تعطيل هذا الواقع. ولأنّ واقع غزّة أصبح قضيّة رأي دولية، فإنّ السينما تستطيع أنْ تتحايل على الصورة، وتنقل بحواراتها ما يروج على الساحة العالمية من تضليل للرأي العام وعدم إشراكه في ما يحدث داخل غزّة. إنّ الصورة الوثائقية تضع إسرائيل في ورطة يستحيل الخروج منها، ما دامت عدسات العالم تشتغل في نقل ما يحدث للناس، حاضرًا ومُستقبلًا، إذْ لم يعُد يُسجّل ما يروج داخل الواقع فقط، وإنّما يعمل بطريقته الخاصّة على إدانة القوى التي تُساهم في تأزيم هذا الواقع.
أمّا الفيلم الروائي فيمتلك هو الآخر طريقته في التعامل مع حرب إسرائيل على غزّة بكيفيات مختلفة من الاشتغال. لكنّ مُشكلة الروائي في حالة غزّة أنّه في حاجة إلى الكتابة والتفكير والتأمّل والبحث عن شخصيات تتماشى مع جوهر الحكاية، في وقتٍ لا تملك فيه مدينة غزّة الوقت لردع قوّات الاحتلال. وذلك بحكم أنّ الروائي مُنشغل بقصص وحكايات يُعيد بلورتها على عرش الصورة، وفق أنماطٍ مختلفة من الصُوَر. إنّ السينما تستطيع أنْ تُوثّق بشكل دقيق مقاومة الناس داخل الشوارع والأزقّة والمستشفيات، ولها القُدرة على تمحيص الأحداث العسكرية وخلفياتها السياسيّة. ناهيك عن تستّر الأنظمة العربيّة، وكشف كثير من التصدّعات على مستوى العلاقات الدولية، وما يُمكن أنْ تستفيد منه أميركا في تضامنها مع إسرائيل. السينما تستطيع إعادة بلورة كلّ أقاويل وأحداث الرأي العام، والقبض عليها داخل صورةٍ سينمائية فيها كثير من دهشة الفنّ السابع، وتضحيات المجتمع الفلسطيني في سبيل تحرير أرضه وتاريخه وذاكرته، وهو الأمر نفسه الذي تقوم به المقاومة الشعبية في فلسطين، وهي تكتب تاريخها بالدم على أجساد الشهداء من الرجال والنساء والأطفال، وبسمة المقاومة، وفخر الانتماء إلى هذه الأرض، تعلو وجوههم.