تويت
"حكايات السينما" في "التلفزيون العربي": مُتعة مُشاهدة
سينما
شارك هذا المقال
حجم الخط
انتبهت القنوات التلفزيونية العربيّة في السنوات الأخيرة إلى الدور الذي غدت تلعبه البرامج التلفزيونية في التعبير عن الواقع الذي ننتمي إليه. فهي لم تعُد قنوات تعيش على ماضي أمجادها، بقدر ما أضحت تتطلّع بعنفوان إلى معرفة ما يروج في هذا الواقع. فقد فرضت المجتمعات المعاصرة طريقةٍ في التعبير، وشكلًا في تقديم الفرجة التلفزيونية، لا باعتبارها نمطًا فكريًا، وإنّما كوسيط ترفيهي يُحاول خلق المتعة في حياة الناس اليوميّة. إنّ التلفزيون، وبسبب طابع الاستهلاك اليوميّ الذي يطبعه، يجعل ذيوعه كبيرًا. سيما وأنّه يخترق الحواجز والسياجات ويدخل إلى بيوت الناس، ويُمارس عليهم سُلطة افتراضية تجعلهم مُدمنين عليه. ذلك أنّ سهولة انتشاره تجعله وسيطًا بصريًا يُستهلك بقوّة، مقارنة بالفيلم السينمائي الذي لا يصل عدد مشاهديه إلى العمل التلفزيوني. ورغم التشابه البيّن على مُستوى الوسائط البصرية وحواملها، فإنّ الاختلاف يبقى كبيرًا وواضحًا، خاصّة على مُستوى الكتابة والتصوير والعرض. غير أنّ التحوّل الأنطولوجي الذي شهده التلفزيون قاد عددًا من التجارب إلى منافسة الأعمال السينمائية على مُستوى انفتاحها على الواقع، لدرجةٍ يعثر المُشاهد على أفلام تلفزيونية عميقة وأكثر قُدرة على التقاط الواقع وتحويله إلى صورة. إنّ علاقة التلفزيون بالواقع قويّة جدًا، بل يُمكن اعتبار الواقع السند الأوّل والأخير للوسيط التلفزيوني، فمنه تتبلور الرؤى والأفكار والأحلام، وعلى منواله يُحاكي الإنسان المعاصر ذائقته الشعورية في التعبير عن قضايا وإشكالات تطاول جسده وتفكيره. لكنّ الصورة التلفزيونية، حين تقوم بتخييل الواقع لا تتعامل معه بطريقة ميكانيكية، وإنّما على شكل صُوَرٍ مُقتطعة من هذا الواقع. فالمشهد التلفزيوني مُكوّن من لقطات، واللقطات تُضمر مجموعة من الصُوَر، وكلّ صورة تُظهر عشرات الحقائق تجاه هذا الواقع. إنّ الصورة اليوم عبارة عن "براديغم" تُنتسج عبره مجموعة من المفاهيم المؤثرة في حياتنا المعاصرة. فالجسد نفسه صورة على حد تعبير المفكّر عبد الكبير الخطيبي، بل إنّ الموت أيضًا صورة قبل كلّ شيء كما ذهب إلى ذلك أكثر من مرّة غاستون باشلار.
لكنْ إلى جانب هذه البرامج التي يحتلّ فيها الواقع مكانة كبيرة، يعثر المرء على برامج أخرى تجعل فقط من الواقع ذريعة للسفر إلى التاريخ والنزوع صوب مادةٍ معرفية أصيلة تطرح الأسئلة وتُقدّم نفسها لا كمادة ترفيهية مُوجّهة للناس، بل كشكلٍ معرفي جديد.
إنّ برنامج "حكايات السينما" الذي يبُثّه "التلفزيون العربي" يُعدُّ خير مثال على هذه البرامج الناضجة التي تُوازي في مضامينها بين حصافة المعرفة الفنية العلمية، وبين مُتعة المُشاهدة التي تبنيها الصُوَر والموسيقى والمونتاج. هذا النوع من البرامج المتخصّصة في السينما وأحوالها تُقدّم مثالًا حقيقيًا على ما ينبغي أنْ تكون عليه الفرجة التلفزيونية، لا باعتبارها متعة يوميّة، وإنّما قلقًا علميًا يجعلنا نطرح الأسئلة الحارقة. لقد ولّى الزمن الذي كان فيه الناس يستلقون الطريقة الأميركية المخملية ويلتهمون المسلسلات الرومانسية والبرامج الهزلية التي دأب عليها التلفزيون الأميركي منذ بداية تسعينيات القرن الـ20، بل غدت الفرجة المعاصرة في حاجةٍ إلى مُشاهد ذكيّ، يقظ، له قُدرة على التحليل والتوجّه صوب برامج أكثر تعلّقًا بواقعه وتاريخه؛ كما هي الحال في "تلفزيون الواقع" الذي يُراهن بقوّة على إشكالات موغلة في الواقع يُناقشها بجرأة أمام الناس، ويدعوهم إلى الانضمام إلى حلقاتٍ أخرى. وإذا كان برنامج "حكايات السينما" لا يُراهن بقوّة على الواقع، فلأنّه يُراهن على البُعد المعرفي الذي به يُظلّل سيرته ويرسم آفاقه وجمالياته في وجدان المُتلقّي العربي. في هذا البرنامج الأسبوعي، يتعرّف الناس ويتعرّف المُشاهد على قضايا تتعلّق في مُجملها بالفن السابع، مثل التصوير، التمثيل، الأزياء، السرد، المونتاج، الستوري بورد، الألوان، وغيرها من العناصر الفنية الهامّة التي تقترحها الصورة السينمائية وصناعتها.
إنّ هذه العناصر الجماليّة تُقدّم داخل البرنامج كقضايا وإشكالات تُساهم في بناء المعنى في ذهنية المتلقّي. إنّها تُزحزح مفاهيمه السابقة حول هذه المُكوّنات وتُقدّم له بنظرةٍ علمية كيف تُساهم في صناعة صورة سينمائية بمواصفات علمية دقيقة. هذا الهاجس المعرفي، يجعل البرنامج مُمتعًا وهادفًا ويُساهم في تقديم فرجة تلفزيونية جادّة وأصيلة تُراعي ذكاء المُشاهد اليوم، وتنسج معه علاقة خاصّة قوامها الإبداع والابتكار. يُقدّم البرنامج بطريقة عادية على شكل معلومات، لكنّ كثرة الصور وحركيتها واللعب بأنماطها البصرية على شكل مشاهد من أفلام ورسومات وموسيقى وأصوات، تدفع البرنامج للخروج من التكرار البصريّ الذي عادة ما يُطالعنا في البرامج التلفزيونية. إنّ "المعاصرة" تحضر في البرنامج لا كمفهوم خفيّ يُموقعه في السياق التاريخي الراهن، بل يتخّذ من المعاصرة أسلوبًا بصريًا يُجدّد الصورة، شكلًا ومضمونًا. لهذا يعتمد "حكايات السينما" على أفلام غربية وعربية مختلفة المشارب والتوجّهات، وذلك بما يجعل البرنامج متنوّعًا في مادته ودقيقًا في عرضه للموضوعات وقويًا في تحليله للإشكالات. إنّه يأتي كشكلٍ بصريّ سنده الصورة وهاجسه المعرفة.
لا تُشجّع تلفزيونات العالم العربيّ على إنتاج برامج خاصّة بالسينما ومُتخيّلها. برامجٌ في إمكانها مناقشة قضايا وإشكالات ذات صلة بالسينما العربيّة وتحوّلاتها. لهذا يجد الناقد والصحافي والباحث نفسيهما أمام فراغ مهول، يستغرب فيه الناقد كيف يُمكن لثقافة تدعّي انتماءها إلى الحداثة لا تتوفّر على برامج خاصّة بالفن السابع؟ بل إنّ الأمر يبدو كما لو أنّنا نتحدّث عن حداثة مُتفسّخة، تكتفي بالصُوَر فقط. العالم العربي اليوم يبدو في علاقته اليوميّة وكأنّه يعيش في عالم بصريّ. ففي كلّ جهةٍ تُمطر القنوات بالصُوَر، لكنْ مع ذلك، لا تجعل بعض القنوات من عملية التفكير سليمة للتفكير بالصورة، وذلك من خلال إنتاج برامج تُفيد جمهور السينما وتدفعهم إلى معرفة كواليس هذا الفنّ الصعب والمُركّب. والحقيقة أنّ هذا الأمر يعود أساسًا إلى مفهوم السينما وطريقة فهمه من لدن المؤسسات، فهي تعده فنًا ترفيهيًا خاصّة بمُتعٍ ليليةٍ، مع أنّ السينما في بلدان أكثر تقدمًّا لها علاقة بالسياسة والاجتماع والاقتصاد. إنّ هذا الفهم يجعل مهرجانات عربيّة كثيرة، تُحاول الزجّ بالسينما في مدارات الترفيه وتنزع عنها جديتها التي بها صمدت كلّ هذه العصور. إنّ التفكير في السينما كنمطٍ فكري جديد قادرٍ على تقديم معرفة تجاه العالم، كما في "حكايات السينما"، يقودنا مباشرة للدخول إلى حداثةٍ بصريّة نتطلّع إليها جميعًا. حداثة تُبلور مفهومًا جديدًا للسينما، وتُكرّسه على أساس أنّه فنّ شعبي يُكسّر الحواجز والسياجات، ويقود الشعوب والمجتمعات إلى قراءة صورتها في مرآة أفلام سينمائية عربيّة وعالمية.
ثمّة شيءٌ مميّز في "حكايات السينما" كامنٌ في جمعه بين سلاسة العرض وقوّة المحتوى وسهولة التعبير ومُتعة المُشاهدة. هذا الجمع بين المعرفة والترفيه والمتعة نادرٌ في البرامج العربيّة. فهو برنامج غير مُملّ، بل يجعل الناس تُشاهد حلقاتٍ كثيرة في جلسة واحدة. وهذا يعود إلى أسلوبه المُترابط على مُستوى الموضوع، فبمجرّد أنْ تنتهي من التصوير تجد نفسك أمام موضوع المونتاج. بهذه الطريقة يُمسكك البرنامج ويُمارس عليك ساحرًا أمام تعدّد صُوَر وغنى موسيقاه وحركة مُقدّمته. إنّ هذا البرنامج يساهم بطريقة خفية في تكريس مفهوم المشاهدة السينيفيلية، لأنّه يُقدّم معرفة وازنة وأصيلة تُفيد المتلقّي وتدفع إلى الانخراط في مُشاهدة أفلام سينمائية بكلّ وعيّ بعناصرها الفنية وخصائصها الجماليّة.
سينما
شارك هذا المقال
حجم الخط
انتبهت القنوات التلفزيونية العربيّة في السنوات الأخيرة إلى الدور الذي غدت تلعبه البرامج التلفزيونية في التعبير عن الواقع الذي ننتمي إليه. فهي لم تعُد قنوات تعيش على ماضي أمجادها، بقدر ما أضحت تتطلّع بعنفوان إلى معرفة ما يروج في هذا الواقع. فقد فرضت المجتمعات المعاصرة طريقةٍ في التعبير، وشكلًا في تقديم الفرجة التلفزيونية، لا باعتبارها نمطًا فكريًا، وإنّما كوسيط ترفيهي يُحاول خلق المتعة في حياة الناس اليوميّة. إنّ التلفزيون، وبسبب طابع الاستهلاك اليوميّ الذي يطبعه، يجعل ذيوعه كبيرًا. سيما وأنّه يخترق الحواجز والسياجات ويدخل إلى بيوت الناس، ويُمارس عليهم سُلطة افتراضية تجعلهم مُدمنين عليه. ذلك أنّ سهولة انتشاره تجعله وسيطًا بصريًا يُستهلك بقوّة، مقارنة بالفيلم السينمائي الذي لا يصل عدد مشاهديه إلى العمل التلفزيوني. ورغم التشابه البيّن على مُستوى الوسائط البصرية وحواملها، فإنّ الاختلاف يبقى كبيرًا وواضحًا، خاصّة على مُستوى الكتابة والتصوير والعرض. غير أنّ التحوّل الأنطولوجي الذي شهده التلفزيون قاد عددًا من التجارب إلى منافسة الأعمال السينمائية على مُستوى انفتاحها على الواقع، لدرجةٍ يعثر المُشاهد على أفلام تلفزيونية عميقة وأكثر قُدرة على التقاط الواقع وتحويله إلى صورة. إنّ علاقة التلفزيون بالواقع قويّة جدًا، بل يُمكن اعتبار الواقع السند الأوّل والأخير للوسيط التلفزيوني، فمنه تتبلور الرؤى والأفكار والأحلام، وعلى منواله يُحاكي الإنسان المعاصر ذائقته الشعورية في التعبير عن قضايا وإشكالات تطاول جسده وتفكيره. لكنّ الصورة التلفزيونية، حين تقوم بتخييل الواقع لا تتعامل معه بطريقة ميكانيكية، وإنّما على شكل صُوَرٍ مُقتطعة من هذا الواقع. فالمشهد التلفزيوني مُكوّن من لقطات، واللقطات تُضمر مجموعة من الصُوَر، وكلّ صورة تُظهر عشرات الحقائق تجاه هذا الواقع. إنّ الصورة اليوم عبارة عن "براديغم" تُنتسج عبره مجموعة من المفاهيم المؤثرة في حياتنا المعاصرة. فالجسد نفسه صورة على حد تعبير المفكّر عبد الكبير الخطيبي، بل إنّ الموت أيضًا صورة قبل كلّ شيء كما ذهب إلى ذلك أكثر من مرّة غاستون باشلار.
| "لا تُشجّع تلفزيونات العالم العربيّ على إنتاج برامج خاصّة بالسينما ومُتخيّلها. برامجٌ في إمكانها مناقشة قضايا وإشكالات ذات صلة بالسينما العربيّة وتحوّلاتها" |
لكنْ إلى جانب هذه البرامج التي يحتلّ فيها الواقع مكانة كبيرة، يعثر المرء على برامج أخرى تجعل فقط من الواقع ذريعة للسفر إلى التاريخ والنزوع صوب مادةٍ معرفية أصيلة تطرح الأسئلة وتُقدّم نفسها لا كمادة ترفيهية مُوجّهة للناس، بل كشكلٍ معرفي جديد.
إنّ برنامج "حكايات السينما" الذي يبُثّه "التلفزيون العربي" يُعدُّ خير مثال على هذه البرامج الناضجة التي تُوازي في مضامينها بين حصافة المعرفة الفنية العلمية، وبين مُتعة المُشاهدة التي تبنيها الصُوَر والموسيقى والمونتاج. هذا النوع من البرامج المتخصّصة في السينما وأحوالها تُقدّم مثالًا حقيقيًا على ما ينبغي أنْ تكون عليه الفرجة التلفزيونية، لا باعتبارها متعة يوميّة، وإنّما قلقًا علميًا يجعلنا نطرح الأسئلة الحارقة. لقد ولّى الزمن الذي كان فيه الناس يستلقون الطريقة الأميركية المخملية ويلتهمون المسلسلات الرومانسية والبرامج الهزلية التي دأب عليها التلفزيون الأميركي منذ بداية تسعينيات القرن الـ20، بل غدت الفرجة المعاصرة في حاجةٍ إلى مُشاهد ذكيّ، يقظ، له قُدرة على التحليل والتوجّه صوب برامج أكثر تعلّقًا بواقعه وتاريخه؛ كما هي الحال في "تلفزيون الواقع" الذي يُراهن بقوّة على إشكالات موغلة في الواقع يُناقشها بجرأة أمام الناس، ويدعوهم إلى الانضمام إلى حلقاتٍ أخرى. وإذا كان برنامج "حكايات السينما" لا يُراهن بقوّة على الواقع، فلأنّه يُراهن على البُعد المعرفي الذي به يُظلّل سيرته ويرسم آفاقه وجمالياته في وجدان المُتلقّي العربي. في هذا البرنامج الأسبوعي، يتعرّف الناس ويتعرّف المُشاهد على قضايا تتعلّق في مُجملها بالفن السابع، مثل التصوير، التمثيل، الأزياء، السرد، المونتاج، الستوري بورد، الألوان، وغيرها من العناصر الفنية الهامّة التي تقترحها الصورة السينمائية وصناعتها.
إنّ هذه العناصر الجماليّة تُقدّم داخل البرنامج كقضايا وإشكالات تُساهم في بناء المعنى في ذهنية المتلقّي. إنّها تُزحزح مفاهيمه السابقة حول هذه المُكوّنات وتُقدّم له بنظرةٍ علمية كيف تُساهم في صناعة صورة سينمائية بمواصفات علمية دقيقة. هذا الهاجس المعرفي، يجعل البرنامج مُمتعًا وهادفًا ويُساهم في تقديم فرجة تلفزيونية جادّة وأصيلة تُراعي ذكاء المُشاهد اليوم، وتنسج معه علاقة خاصّة قوامها الإبداع والابتكار. يُقدّم البرنامج بطريقة عادية على شكل معلومات، لكنّ كثرة الصور وحركيتها واللعب بأنماطها البصرية على شكل مشاهد من أفلام ورسومات وموسيقى وأصوات، تدفع البرنامج للخروج من التكرار البصريّ الذي عادة ما يُطالعنا في البرامج التلفزيونية. إنّ "المعاصرة" تحضر في البرنامج لا كمفهوم خفيّ يُموقعه في السياق التاريخي الراهن، بل يتخّذ من المعاصرة أسلوبًا بصريًا يُجدّد الصورة، شكلًا ومضمونًا. لهذا يعتمد "حكايات السينما" على أفلام غربية وعربية مختلفة المشارب والتوجّهات، وذلك بما يجعل البرنامج متنوّعًا في مادته ودقيقًا في عرضه للموضوعات وقويًا في تحليله للإشكالات. إنّه يأتي كشكلٍ بصريّ سنده الصورة وهاجسه المعرفة.
لا تُشجّع تلفزيونات العالم العربيّ على إنتاج برامج خاصّة بالسينما ومُتخيّلها. برامجٌ في إمكانها مناقشة قضايا وإشكالات ذات صلة بالسينما العربيّة وتحوّلاتها. لهذا يجد الناقد والصحافي والباحث نفسيهما أمام فراغ مهول، يستغرب فيه الناقد كيف يُمكن لثقافة تدعّي انتماءها إلى الحداثة لا تتوفّر على برامج خاصّة بالفن السابع؟ بل إنّ الأمر يبدو كما لو أنّنا نتحدّث عن حداثة مُتفسّخة، تكتفي بالصُوَر فقط. العالم العربي اليوم يبدو في علاقته اليوميّة وكأنّه يعيش في عالم بصريّ. ففي كلّ جهةٍ تُمطر القنوات بالصُوَر، لكنْ مع ذلك، لا تجعل بعض القنوات من عملية التفكير سليمة للتفكير بالصورة، وذلك من خلال إنتاج برامج تُفيد جمهور السينما وتدفعهم إلى معرفة كواليس هذا الفنّ الصعب والمُركّب. والحقيقة أنّ هذا الأمر يعود أساسًا إلى مفهوم السينما وطريقة فهمه من لدن المؤسسات، فهي تعده فنًا ترفيهيًا خاصّة بمُتعٍ ليليةٍ، مع أنّ السينما في بلدان أكثر تقدمًّا لها علاقة بالسياسة والاجتماع والاقتصاد. إنّ هذا الفهم يجعل مهرجانات عربيّة كثيرة، تُحاول الزجّ بالسينما في مدارات الترفيه وتنزع عنها جديتها التي بها صمدت كلّ هذه العصور. إنّ التفكير في السينما كنمطٍ فكري جديد قادرٍ على تقديم معرفة تجاه العالم، كما في "حكايات السينما"، يقودنا مباشرة للدخول إلى حداثةٍ بصريّة نتطلّع إليها جميعًا. حداثة تُبلور مفهومًا جديدًا للسينما، وتُكرّسه على أساس أنّه فنّ شعبي يُكسّر الحواجز والسياجات، ويقود الشعوب والمجتمعات إلى قراءة صورتها في مرآة أفلام سينمائية عربيّة وعالمية.
ثمّة شيءٌ مميّز في "حكايات السينما" كامنٌ في جمعه بين سلاسة العرض وقوّة المحتوى وسهولة التعبير ومُتعة المُشاهدة. هذا الجمع بين المعرفة والترفيه والمتعة نادرٌ في البرامج العربيّة. فهو برنامج غير مُملّ، بل يجعل الناس تُشاهد حلقاتٍ كثيرة في جلسة واحدة. وهذا يعود إلى أسلوبه المُترابط على مُستوى الموضوع، فبمجرّد أنْ تنتهي من التصوير تجد نفسك أمام موضوع المونتاج. بهذه الطريقة يُمسكك البرنامج ويُمارس عليك ساحرًا أمام تعدّد صُوَر وغنى موسيقاه وحركة مُقدّمته. إنّ هذا البرنامج يساهم بطريقة خفية في تكريس مفهوم المشاهدة السينيفيلية، لأنّه يُقدّم معرفة وازنة وأصيلة تُفيد المتلقّي وتدفع إلى الانخراط في مُشاهدة أفلام سينمائية بكلّ وعيّ بعناصرها الفنية وخصائصها الجماليّة.