الفيلم الوثائقي روح الشعب وذاكرة البلدان
الناقد السينمائي التونسي الهادي خليل: الإنتاج الوثائقي في السينما العربية دون المأمول.
الفيلم الوثائقي يستجيب لحاجة الذاكرة ("وغدا.." لإبراهيم باباي)
من الخطأ الاعتقاد بأن الأفلام الوثائقية هي مجرد ريبورتاجات، أو ملاحقة لمعلومة أو توثيق لها، وهناك، حتى من السينمائيين، من يعتبرها أقل إبداعية من الأفلام الروائية، وهذا خطأ آخر مجحف في حق نوع سينمائي مهم للغاية. لقد صارت السينما الوثائقية اليوم صوت الشعوب وذاكرتها وإحدى الوسائل الثقافية الهامة التي تشكل وعي الأفراد.
السينما الوثائقية هي سينما العالم، أو بالأحرى السينما التي تفكر في مصير العالم وفي تقلباته ومتغيراته، بهذه العبارة المشحونة بالدلالات يفتتح الناقد السينمائي الهادي خليل كتابه “السينما الوثائقية التونسية والعالمية”، مؤكدا أن السينما الوثائقية تبحث عن حجة ودليل وبرهان في مجتمعات، سواء أكانت هنا أم هناك طمست فيها الحجج والبراهين وقبرت الحقائق والأدلة، لتصبح تعبيرة إبداعية مواكبة لتطلعات البشر وحريصة على أن تكون شاهدة على عالم انهارت فيه القيم الإنسانية من جراء الحروب والظلم وجبروت الدكتاتوريات الدينية والسياسية.
قسم خليل كتابه إلى ثلاثة أجزاء، الأول “من قضايا السينما الوثائقية وإشكالياتها”، والثاني “رموز السينما الوثائقية” والثالث “وثائقيون تونسيون”، مستحضرا أهم رموز هذه السينما عالميا وعربيا، حيث ضمنه مجموعة من صور المخرجين بعد وثيقة هامة عن السينما الوثائيقية التي بدأت تستقطب الكثير من الاهتمام في السنوات الأخيرة وخاصة بعد ظهور ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي.
وقد أصبحت الوثائقية هي وسيلة تعبير الشبان عن تحولات الشارع العربي، كما ألقى الضوء على بعض التجارب السينمائية المهمة في تونس مثل عبدالحفيظ بوعصيدة وهشام بن عمار ومحمود بن محمود وأحميدة بن عمار، أما عالميا فاهتم بالمخرج الهولندي حوريس أي فانس والأميركي مايكل مور والمخرجة اللبنانية شهال الصباغ والمخرجة المصرية سميحة الغنيمي والفرنسي لوك مولي وغيرهم.
تجارب إبداعية
الجيل الحالي من المخرجين التونسيين الوثائقيين هو دون منازع الأفضل موهبة وإبداعا على نطاق عربي ودولي
يقول الهادي خليل “أصبح ‘الرجل ـ الكاميرا’ وهو عنوان الفيلم المأثور الذي صوره سنة 1929 المخرج الروسي دزيغا فارتوف الذي ولد سنة 1885 وتوفي سنة 1954 شعار كل مخرج اقترن مصيره بتلك الكاميرا المحمولة التي كانت تتلمس من خلال شرارات السينما الوثائقية الأولى، ضوابط ناصية الإبداع وأسرار جماليته. فارتوف هو مؤسس السينما الوثائقية ورائدها الألمعي وهو من طينة الفنانين الطلائعيين السابقين لعصرهم والدافعين به إلى التجريبية الاستكشافية الخلاقة”.
ويضيف “لو استعرضنا سجلات الفن السابع المجيدة سنتبين أن أهم النقلات النوعية التي أنجزتها السينما كانت بإمضاء مخرجين ملتزمين بقضايا شعوبهم ومؤمنين بأنه ليس هناك فن محايد ينظر من عليائه إلى الصراعات الأيديولوجية والسياسية القائمة في المجتمع. لم يكن فارتوف المثال الوحيد الذي برهن على أن الأرضية الفكرية والنضالية التي ينتمي إليها الفنان تثري وتمتن إبداعاته، عوض أن تعيقها وتكبلها”.
ويتابع “من هذه الوجهة لدينا قطب آخر هو المخرج الروسي سارجي إيزنشتاين الذي انطلق في ممارسته الفنية وفي نظرته للعالم والأشياء، من قناعة وهي أن كل شكل من الأشكال (شكل إناء أو أنف أو ديدان أو نظارة أو لحم.. إلخ) يمكن أن يكون أشياء غريبة ومخيفة. وقد تأثرت أجيال من السينمائيين الوثائقيين، سواء أكانوا غربيين أو عربا، بفتوحات إيزنشتاين الفنية، ففي أفلام المخرج الهولندي يوهان فان دار كوكن نشاهد جليا حرصه على تضخيم الأشياء (آلات موسيقية أو أثاث أو إشارات مرور.. إلخ) وإبرازها بصورة مغايرة للمعتاد”.
ويرى خليل أن المخرجة الوثائقية اللبنانية جوسلين صعب هي أيضا سينمائية “إيزنشتانية” بامتياز، ففي جل أفلامها المتميزة مثل “السلطة والصراعات في إيران: زخف الطوباوية” الذي أنجزته سنة 1980، أو “حيّ الأموات” الذي صورته سنة 1982، نشاهد تشبث المخرجة التلقائي بالزج بعملية تصوير الفيلم وملابساتها ومفاجآتها، في عملية الإخراج ككل.
إن “نفايات” إنجاز الفيلم، أي كل ما يعترض فعل التصوير من عراقيل وصعوبات ومنغصات، هي جزء لا يتجزأ من الرؤية الإبداعية، فما شد انتباهنا في فيلميها عن قيام الثورة الإيرانية وهي في نشوة سنتها الأولى، هو محاولة حراس الثورة الإيرانية من منع مخرجة لا ترتدي الحجاب من التصوير. في لقطة مبهرة ومباغتة، نرى بعض الأيدي التي تريد حجب التصوير، ولو كان هناك مخرج آخر غير واع بقيمة هذه الزوائد الفجئية التي حتمها الاكتواء بنار الواقع، لحذفها واعتبرها خارجة عن الموضع.
ويبين أن فيلمها الثاني “حي الأموات”، الذي يصور حياة المساكين الفقراء الذين يسكنون في مقابر القاهرة، يتميز أيضا برصده لكل المحاولات التي قامت بها السلطة لمنع تصوير الفيلم الذي يعطي، حسب رأيهم، “نظرة مشينة عن المجتمع المصري”. ينتهي هذا الشريط الذي ينتصر إلى المعذبين في الأرض ويدين ظلم الحكام بأغنية للفنان “الشيخ إمام”.
سينما متعثرة
السينما الوثائقية العربية متعثرة لا تقوى على النهوض لتغدو مكونا ضروريا من مكونات عاداتنا الفنية والثقافية
يؤكد الهادي خليل أن الفيلم الوثائي هو روح الشعب والبلدان. فلا بلاد للشعب ولا شعب للبلاد ما لم يحتفظا بأي أثر من آثار التاريخ والعوائد والصراعات أو الآمال والأفراح والأتراح، لذلك يستجيب الفيلم الوثائقي لحاجة الذاكرة إذ يساهم عند بعضهم في تحديد صيغة رائجة من صيغ إثمار الحنين إلى الماضي وهو عند غيرهم عمل من أعمال المقاومة الثقافية والمواطنية.
ويرى أن الإنتاج الوثائقي في السينما العربية دون المأمول حتى في بلاد لها تقاليد صلبة مثل مصر. إن الشريط الوثائقي الذي كان قد مر بفترات ازدهار بفضل محمد التهامي وغيره من السينمائيين مثل توفيق صالح، وشادي عبدالسلام يعيش فترة تراجع كبير.
ويضيف خليل “إن قطاع السينما في بلاد النيل يبدو حاليا معطلا. وإنه لمن الطبيعي أن تصيب الشريط الوثائقي نتاج هذه الأزمة بسبب وضعه الهش سلفا. ولا يمكن للعوامل الاقتصادية المرتبطة بمسالك تمويل قليلة المصداقية فوضوية في مستويات الإنتاج والتوزيع أن تبرر قلة المثابرة والمداومة في مجال حيوي كهذا المجال. لا وجود عندنا لأفراد جعلوا هذا اللون من الأفلام علة وجودهم وحياتهم فاختصوا فيه إذ يتصور بعض السينمائيين في بدء مسيرتهم الشريط الوثائقي مقدمة لشريط خيال طويل، ويتعامل سينمائيون آخرون لا يريدون أن يظلوا عاطلين عن العمل في بلدان يبدو فيها الإنتاج السينمائي شيئا فشيئا أشبه بالحديث العجيب المازوشي باعتباره وقفة خلاص أو قارب نجاة في انتظار مستقبل أفضل”.
ويرى أنه إذا كانت السينما الوثائقية العربية متعثرة لا تقوى على النهوض لتغدو مكونا ضروريا من مكونات عاداتنا الفنية والثقافية، فلأن الأمر يعود أيضا للحالة الذهنية للذين يشتغلون بها. إن الشريط الوثائقي بالنسبة إلى الكثير من السينمائيين الذين يحلمون بالنجاح الجماهيري ويبحثون عن التقدير والاعتراف ما هو إلا ملجأ لا يمكنهم أن ينقطعوا إليه طوال حياتهم ليجعلوا منه مهنة يمتهنونها أو متعلقا به يتعلقون، والدول التي تدعم الأشرطة الوثائقية لا تقدم دعمها عن طيب خاطر حقا لأن هذا اللون من الأفلام قلما يحقق ربحا وليس من السينما المرموقة والملائمة لواجهات التظاهرات الدولية رغم أن الوثائقي مدرسة وجنس في غاية الازدهار في الغرب.
تجربة تونس وفلسطين
لقد تطورت منزلة الشريط الوثائقي
يلفت خليل إلى أن تونس تمتلك رصيدا محدودا كميا من الأشرطة الوثائقية فضلا عن قلة انتظام الإنتاج الوثائقي بها، لكن هذا الرصيد المحدود كميا جدير بالتقدير نوعيا. إن الجيل الحالي من المخرجين التونسيين الوثائقيين هو دون منازع الأفضل موهبة وإبداعا على نطاق عربي بعد ذلك الجيل من الوثائقيين الذي أنجبه لبنان خلال السبعينات مثل رندة شهال “خطوة خطوة” وجوسلين صعب “مدينة الموتى، اليوتوبيا الغازية”.
لقد تطورت منزلة الشريط الوثائقي في السنين الأخيرة فاكتسب أهمية وحجما بعد أن تمت مقاربته باحتشام في السنوات الأولى التي تلت ولادة السينما التونسية ولم يعد للعزلة التي عرفها هذا النوع السينمائي من سبب. ففي السنوات السبعين كانت مشاعل بعض الأفلام الوثائقية التي تم إنجازها هي ذات المشاعل الاجتماعية التي عكستها الأشرطة الطويلة المؤسسة مثل “وغدا..” لإبراهيم باباي أو “سجنان” لعبداللطيف بن عمار. ويمكننا الجزم بأن الشريط الوثائقي التونسي قد اكتسب خلال السنوات 1980 و1990 و2000 حيوية واعدة وكشف عن حساسيات وتيارات مكونة لما يجد بنا تسميته “المدرسة التونسية” في هذا الميدان.
ويتابع “شغف أحميدة بن عمار الرائد الذي لا نظير له بتاريخ تونس السياسي والاجتماعي والثقافي القديم والمعاصر أما عبدالحفيظ بوعصيدة فقد حاول أن يوجه نظرته المعطاء المستطلعة نحو ‘تونس’ بحثا عن معدن التعدد الثقافي والإثني في بلاده. إن غالبية أفلام بن عمار وبوعصيدة، وبغض النظر عن قيمتها الداخلية، هي أشرطة وثائقية داخل الأشرطة الوثائقية التي لا تنكر قيمتها في مستوى فهم الروح التي تحدو فريق التصوير أو مستوى معرفة ينابيع بعض الأشرطة الخيالية التونسية خاصة في ما يتصل بالممثلين، ففي شريط بن عمار “الزيتونة في قلب مدينة تونس” 1981 مثلا تظهر وجوه أليفة في المسرح والسينما التونسيين مثل توفيق الجبالي ونورالدين عزيزة والوافد الجديد النوري بوزيد الذي قام في نفس الوقت بمهمة المساعد وأدى دور المدرس في المؤسسة الدينية المهيبة.
ويتوقف الهادي خليل مع السينما الوثائقية الفلسطينية، لافتا إلى هؤلاء المخرجين الوثائقيين الفلسطينيين الذين استشهدوا وهم يصورون أهم الأحداث المأساوية التي مر بها شعبهم، ويذكر منهم المخرج هاني جوهرية الذي توفي في بداية الحرب الأهلية اللبنانية أثناء الهجمة الشرسة على مخيم تل الزعتر الفلسطيني.
ويتابع أن أهم مخرج وثائقي هو مصطفى أبوعلي الذي يعد من ركائز السينما الفلسطينية الذي تخرجت بفضله أجيال من المخرجين الوثائقيين الذين آمنوا بأن السينما لها دور فعال في التعريف بقضية وطنهم وفي التنديد بالاحتلال الصهيوني الغاشم. واليوم يحمل مشعل السينما الفلسطينية الوثائقية المقاومة المخرج رشيد مشهوري الذي أبهرنا بفيلم “جنين” عن المجازر الفظيعة التي اقترفها الجيش الإسرائيلي عند اقتحامه لبلدة جنين الواقعة في الضفة الغربية. لكنّ هناك مخرجين اثنين يبدو أنه لفهما النسيان، رغم قيمتهما ودورهما الحيوي في تنشيط الحركة السينمائية الوثائقية في فلسطين وهما إبراهيم مصطفى ناصر وعبدالحافظ الأسمر على هذه المنطقة.
الوثائقي والريبورتاج
نظرة أخرى إلى الواقع
يتطرق خليل إلى رموز السينما الوثائقية ويحلل جانبا من أفلامهم ومن بينهم المخرجون الأميركي روبار فلاهزتي والبريطاني جون قريرسون والمنظر الفرنسي أندري بازان والفرنسي كريس ماركر والهولندي جوريس إيفانس والهولندي يوهان فان دار كوكن، والألماني فيم فاندارس والفرنسي ريمون ديبردون، والأميركي مايكل مور، والسويسري ريشار دندو والفرنسي نيكولا فيليبار، واللبنانية جوسلين صعب، واللبنانية رندة شهال الصباغ والمصرية سميحة الغنيمي. وعلى المستوى التونسي أحميدة بن عمار، عبدالحفيظ بوعصيدة، هشام بن عمار ومحمود بن محمود.
ويخلص الهادي خليل إلى أن أغلب الأفلام الوثائقية التي رأت النور في تونس أخيرا والتي أنجزها مخرجون متمرسون أمثال مراد بن الشيخ، ومحمد الزرن وهشام بن عمار وسنية الشامخي وغيرهم، هي بمثابة الريبورتاجات التي تعودنا على رؤيتها في هذا الجهاز النهم والجشع الذي يمتلك السبق المطلق في نقل ما سمي بالواقع ألا وهو التلفزة.
ويرى أن الفيلم الوثائقي هو الفيلم الوثائقي وللريبورتاج ضوابط ومعايير مختلفة، فالجنس الأول يستند إلى فكرة ورؤية وموقف، ويتجاوز ظواهر الأمور لكي ينفذ إلى بعض المعطيات التي لا نراها، بطريقة تنبذ الثرثرة والإسهاب في الخطابية الفجة. أما الريبورتاج فهمه الأساس هو المعلومة الخام دون احتكام إلى رؤية وإلى صياغة جديدة لحيثيات الواقع. عندما تصبح السينما فنا متلفزا وعندما يتحول الوثائقي إلى ريبورتاج، فإن كل شيء ينبئ بسطوة لوثة التشرذم والتهجن. في تونس التي نراها اليوم، ما هو مصير الإبداع السينمائي الروائي الذي نحتاجه والذي يمثل رافدا أساسيا للإبداع الوثائقي؟
محمد الحمامصي
كاتب مصري
الناقد السينمائي التونسي الهادي خليل: الإنتاج الوثائقي في السينما العربية دون المأمول.
الفيلم الوثائقي يستجيب لحاجة الذاكرة ("وغدا.." لإبراهيم باباي)
من الخطأ الاعتقاد بأن الأفلام الوثائقية هي مجرد ريبورتاجات، أو ملاحقة لمعلومة أو توثيق لها، وهناك، حتى من السينمائيين، من يعتبرها أقل إبداعية من الأفلام الروائية، وهذا خطأ آخر مجحف في حق نوع سينمائي مهم للغاية. لقد صارت السينما الوثائقية اليوم صوت الشعوب وذاكرتها وإحدى الوسائل الثقافية الهامة التي تشكل وعي الأفراد.
السينما الوثائقية هي سينما العالم، أو بالأحرى السينما التي تفكر في مصير العالم وفي تقلباته ومتغيراته، بهذه العبارة المشحونة بالدلالات يفتتح الناقد السينمائي الهادي خليل كتابه “السينما الوثائقية التونسية والعالمية”، مؤكدا أن السينما الوثائقية تبحث عن حجة ودليل وبرهان في مجتمعات، سواء أكانت هنا أم هناك طمست فيها الحجج والبراهين وقبرت الحقائق والأدلة، لتصبح تعبيرة إبداعية مواكبة لتطلعات البشر وحريصة على أن تكون شاهدة على عالم انهارت فيه القيم الإنسانية من جراء الحروب والظلم وجبروت الدكتاتوريات الدينية والسياسية.
قسم خليل كتابه إلى ثلاثة أجزاء، الأول “من قضايا السينما الوثائقية وإشكالياتها”، والثاني “رموز السينما الوثائقية” والثالث “وثائقيون تونسيون”، مستحضرا أهم رموز هذه السينما عالميا وعربيا، حيث ضمنه مجموعة من صور المخرجين بعد وثيقة هامة عن السينما الوثائيقية التي بدأت تستقطب الكثير من الاهتمام في السنوات الأخيرة وخاصة بعد ظهور ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي.
وقد أصبحت الوثائقية هي وسيلة تعبير الشبان عن تحولات الشارع العربي، كما ألقى الضوء على بعض التجارب السينمائية المهمة في تونس مثل عبدالحفيظ بوعصيدة وهشام بن عمار ومحمود بن محمود وأحميدة بن عمار، أما عالميا فاهتم بالمخرج الهولندي حوريس أي فانس والأميركي مايكل مور والمخرجة اللبنانية شهال الصباغ والمخرجة المصرية سميحة الغنيمي والفرنسي لوك مولي وغيرهم.
تجارب إبداعية
الجيل الحالي من المخرجين التونسيين الوثائقيين هو دون منازع الأفضل موهبة وإبداعا على نطاق عربي ودولي
يقول الهادي خليل “أصبح ‘الرجل ـ الكاميرا’ وهو عنوان الفيلم المأثور الذي صوره سنة 1929 المخرج الروسي دزيغا فارتوف الذي ولد سنة 1885 وتوفي سنة 1954 شعار كل مخرج اقترن مصيره بتلك الكاميرا المحمولة التي كانت تتلمس من خلال شرارات السينما الوثائقية الأولى، ضوابط ناصية الإبداع وأسرار جماليته. فارتوف هو مؤسس السينما الوثائقية ورائدها الألمعي وهو من طينة الفنانين الطلائعيين السابقين لعصرهم والدافعين به إلى التجريبية الاستكشافية الخلاقة”.
ويضيف “لو استعرضنا سجلات الفن السابع المجيدة سنتبين أن أهم النقلات النوعية التي أنجزتها السينما كانت بإمضاء مخرجين ملتزمين بقضايا شعوبهم ومؤمنين بأنه ليس هناك فن محايد ينظر من عليائه إلى الصراعات الأيديولوجية والسياسية القائمة في المجتمع. لم يكن فارتوف المثال الوحيد الذي برهن على أن الأرضية الفكرية والنضالية التي ينتمي إليها الفنان تثري وتمتن إبداعاته، عوض أن تعيقها وتكبلها”.
ويتابع “من هذه الوجهة لدينا قطب آخر هو المخرج الروسي سارجي إيزنشتاين الذي انطلق في ممارسته الفنية وفي نظرته للعالم والأشياء، من قناعة وهي أن كل شكل من الأشكال (شكل إناء أو أنف أو ديدان أو نظارة أو لحم.. إلخ) يمكن أن يكون أشياء غريبة ومخيفة. وقد تأثرت أجيال من السينمائيين الوثائقيين، سواء أكانوا غربيين أو عربا، بفتوحات إيزنشتاين الفنية، ففي أفلام المخرج الهولندي يوهان فان دار كوكن نشاهد جليا حرصه على تضخيم الأشياء (آلات موسيقية أو أثاث أو إشارات مرور.. إلخ) وإبرازها بصورة مغايرة للمعتاد”.
الشريط الوثائقي بالنسبة إلى الكثير من السينمائيين الذين يحلمون بالنجاح الجماهيري ويبحثون عن التقدير والاعتراف ما هو إلا ملجأ
ويرى خليل أن المخرجة الوثائقية اللبنانية جوسلين صعب هي أيضا سينمائية “إيزنشتانية” بامتياز، ففي جل أفلامها المتميزة مثل “السلطة والصراعات في إيران: زخف الطوباوية” الذي أنجزته سنة 1980، أو “حيّ الأموات” الذي صورته سنة 1982، نشاهد تشبث المخرجة التلقائي بالزج بعملية تصوير الفيلم وملابساتها ومفاجآتها، في عملية الإخراج ككل.
إن “نفايات” إنجاز الفيلم، أي كل ما يعترض فعل التصوير من عراقيل وصعوبات ومنغصات، هي جزء لا يتجزأ من الرؤية الإبداعية، فما شد انتباهنا في فيلميها عن قيام الثورة الإيرانية وهي في نشوة سنتها الأولى، هو محاولة حراس الثورة الإيرانية من منع مخرجة لا ترتدي الحجاب من التصوير. في لقطة مبهرة ومباغتة، نرى بعض الأيدي التي تريد حجب التصوير، ولو كان هناك مخرج آخر غير واع بقيمة هذه الزوائد الفجئية التي حتمها الاكتواء بنار الواقع، لحذفها واعتبرها خارجة عن الموضع.
ويبين أن فيلمها الثاني “حي الأموات”، الذي يصور حياة المساكين الفقراء الذين يسكنون في مقابر القاهرة، يتميز أيضا برصده لكل المحاولات التي قامت بها السلطة لمنع تصوير الفيلم الذي يعطي، حسب رأيهم، “نظرة مشينة عن المجتمع المصري”. ينتهي هذا الشريط الذي ينتصر إلى المعذبين في الأرض ويدين ظلم الحكام بأغنية للفنان “الشيخ إمام”.
سينما متعثرة
السينما الوثائقية العربية متعثرة لا تقوى على النهوض لتغدو مكونا ضروريا من مكونات عاداتنا الفنية والثقافية
يؤكد الهادي خليل أن الفيلم الوثائي هو روح الشعب والبلدان. فلا بلاد للشعب ولا شعب للبلاد ما لم يحتفظا بأي أثر من آثار التاريخ والعوائد والصراعات أو الآمال والأفراح والأتراح، لذلك يستجيب الفيلم الوثائقي لحاجة الذاكرة إذ يساهم عند بعضهم في تحديد صيغة رائجة من صيغ إثمار الحنين إلى الماضي وهو عند غيرهم عمل من أعمال المقاومة الثقافية والمواطنية.
ويرى أن الإنتاج الوثائقي في السينما العربية دون المأمول حتى في بلاد لها تقاليد صلبة مثل مصر. إن الشريط الوثائقي الذي كان قد مر بفترات ازدهار بفضل محمد التهامي وغيره من السينمائيين مثل توفيق صالح، وشادي عبدالسلام يعيش فترة تراجع كبير.
ويضيف خليل “إن قطاع السينما في بلاد النيل يبدو حاليا معطلا. وإنه لمن الطبيعي أن تصيب الشريط الوثائقي نتاج هذه الأزمة بسبب وضعه الهش سلفا. ولا يمكن للعوامل الاقتصادية المرتبطة بمسالك تمويل قليلة المصداقية فوضوية في مستويات الإنتاج والتوزيع أن تبرر قلة المثابرة والمداومة في مجال حيوي كهذا المجال. لا وجود عندنا لأفراد جعلوا هذا اللون من الأفلام علة وجودهم وحياتهم فاختصوا فيه إذ يتصور بعض السينمائيين في بدء مسيرتهم الشريط الوثائقي مقدمة لشريط خيال طويل، ويتعامل سينمائيون آخرون لا يريدون أن يظلوا عاطلين عن العمل في بلدان يبدو فيها الإنتاج السينمائي شيئا فشيئا أشبه بالحديث العجيب المازوشي باعتباره وقفة خلاص أو قارب نجاة في انتظار مستقبل أفضل”.
ويرى أنه إذا كانت السينما الوثائقية العربية متعثرة لا تقوى على النهوض لتغدو مكونا ضروريا من مكونات عاداتنا الفنية والثقافية، فلأن الأمر يعود أيضا للحالة الذهنية للذين يشتغلون بها. إن الشريط الوثائقي بالنسبة إلى الكثير من السينمائيين الذين يحلمون بالنجاح الجماهيري ويبحثون عن التقدير والاعتراف ما هو إلا ملجأ لا يمكنهم أن ينقطعوا إليه طوال حياتهم ليجعلوا منه مهنة يمتهنونها أو متعلقا به يتعلقون، والدول التي تدعم الأشرطة الوثائقية لا تقدم دعمها عن طيب خاطر حقا لأن هذا اللون من الأفلام قلما يحقق ربحا وليس من السينما المرموقة والملائمة لواجهات التظاهرات الدولية رغم أن الوثائقي مدرسة وجنس في غاية الازدهار في الغرب.
تجربة تونس وفلسطين
لقد تطورت منزلة الشريط الوثائقي
يلفت خليل إلى أن تونس تمتلك رصيدا محدودا كميا من الأشرطة الوثائقية فضلا عن قلة انتظام الإنتاج الوثائقي بها، لكن هذا الرصيد المحدود كميا جدير بالتقدير نوعيا. إن الجيل الحالي من المخرجين التونسيين الوثائقيين هو دون منازع الأفضل موهبة وإبداعا على نطاق عربي بعد ذلك الجيل من الوثائقيين الذي أنجبه لبنان خلال السبعينات مثل رندة شهال “خطوة خطوة” وجوسلين صعب “مدينة الموتى، اليوتوبيا الغازية”.
لقد تطورت منزلة الشريط الوثائقي في السنين الأخيرة فاكتسب أهمية وحجما بعد أن تمت مقاربته باحتشام في السنوات الأولى التي تلت ولادة السينما التونسية ولم يعد للعزلة التي عرفها هذا النوع السينمائي من سبب. ففي السنوات السبعين كانت مشاعل بعض الأفلام الوثائقية التي تم إنجازها هي ذات المشاعل الاجتماعية التي عكستها الأشرطة الطويلة المؤسسة مثل “وغدا..” لإبراهيم باباي أو “سجنان” لعبداللطيف بن عمار. ويمكننا الجزم بأن الشريط الوثائقي التونسي قد اكتسب خلال السنوات 1980 و1990 و2000 حيوية واعدة وكشف عن حساسيات وتيارات مكونة لما يجد بنا تسميته “المدرسة التونسية” في هذا الميدان.
ويتابع “شغف أحميدة بن عمار الرائد الذي لا نظير له بتاريخ تونس السياسي والاجتماعي والثقافي القديم والمعاصر أما عبدالحفيظ بوعصيدة فقد حاول أن يوجه نظرته المعطاء المستطلعة نحو ‘تونس’ بحثا عن معدن التعدد الثقافي والإثني في بلاده. إن غالبية أفلام بن عمار وبوعصيدة، وبغض النظر عن قيمتها الداخلية، هي أشرطة وثائقية داخل الأشرطة الوثائقية التي لا تنكر قيمتها في مستوى فهم الروح التي تحدو فريق التصوير أو مستوى معرفة ينابيع بعض الأشرطة الخيالية التونسية خاصة في ما يتصل بالممثلين، ففي شريط بن عمار “الزيتونة في قلب مدينة تونس” 1981 مثلا تظهر وجوه أليفة في المسرح والسينما التونسيين مثل توفيق الجبالي ونورالدين عزيزة والوافد الجديد النوري بوزيد الذي قام في نفس الوقت بمهمة المساعد وأدى دور المدرس في المؤسسة الدينية المهيبة.
ويتوقف الهادي خليل مع السينما الوثائقية الفلسطينية، لافتا إلى هؤلاء المخرجين الوثائقيين الفلسطينيين الذين استشهدوا وهم يصورون أهم الأحداث المأساوية التي مر بها شعبهم، ويذكر منهم المخرج هاني جوهرية الذي توفي في بداية الحرب الأهلية اللبنانية أثناء الهجمة الشرسة على مخيم تل الزعتر الفلسطيني.
ويتابع أن أهم مخرج وثائقي هو مصطفى أبوعلي الذي يعد من ركائز السينما الفلسطينية الذي تخرجت بفضله أجيال من المخرجين الوثائقيين الذين آمنوا بأن السينما لها دور فعال في التعريف بقضية وطنهم وفي التنديد بالاحتلال الصهيوني الغاشم. واليوم يحمل مشعل السينما الفلسطينية الوثائقية المقاومة المخرج رشيد مشهوري الذي أبهرنا بفيلم “جنين” عن المجازر الفظيعة التي اقترفها الجيش الإسرائيلي عند اقتحامه لبلدة جنين الواقعة في الضفة الغربية. لكنّ هناك مخرجين اثنين يبدو أنه لفهما النسيان، رغم قيمتهما ودورهما الحيوي في تنشيط الحركة السينمائية الوثائقية في فلسطين وهما إبراهيم مصطفى ناصر وعبدالحافظ الأسمر على هذه المنطقة.
الوثائقي والريبورتاج
نظرة أخرى إلى الواقع
يتطرق خليل إلى رموز السينما الوثائقية ويحلل جانبا من أفلامهم ومن بينهم المخرجون الأميركي روبار فلاهزتي والبريطاني جون قريرسون والمنظر الفرنسي أندري بازان والفرنسي كريس ماركر والهولندي جوريس إيفانس والهولندي يوهان فان دار كوكن، والألماني فيم فاندارس والفرنسي ريمون ديبردون، والأميركي مايكل مور، والسويسري ريشار دندو والفرنسي نيكولا فيليبار، واللبنانية جوسلين صعب، واللبنانية رندة شهال الصباغ والمصرية سميحة الغنيمي. وعلى المستوى التونسي أحميدة بن عمار، عبدالحفيظ بوعصيدة، هشام بن عمار ومحمود بن محمود.
ويخلص الهادي خليل إلى أن أغلب الأفلام الوثائقية التي رأت النور في تونس أخيرا والتي أنجزها مخرجون متمرسون أمثال مراد بن الشيخ، ومحمد الزرن وهشام بن عمار وسنية الشامخي وغيرهم، هي بمثابة الريبورتاجات التي تعودنا على رؤيتها في هذا الجهاز النهم والجشع الذي يمتلك السبق المطلق في نقل ما سمي بالواقع ألا وهو التلفزة.
ويرى أن الفيلم الوثائقي هو الفيلم الوثائقي وللريبورتاج ضوابط ومعايير مختلفة، فالجنس الأول يستند إلى فكرة ورؤية وموقف، ويتجاوز ظواهر الأمور لكي ينفذ إلى بعض المعطيات التي لا نراها، بطريقة تنبذ الثرثرة والإسهاب في الخطابية الفجة. أما الريبورتاج فهمه الأساس هو المعلومة الخام دون احتكام إلى رؤية وإلى صياغة جديدة لحيثيات الواقع. عندما تصبح السينما فنا متلفزا وعندما يتحول الوثائقي إلى ريبورتاج، فإن كل شيء ينبئ بسطوة لوثة التشرذم والتهجن. في تونس التي نراها اليوم، ما هو مصير الإبداع السينمائي الروائي الذي نحتاجه والذي يمثل رافدا أساسيا للإبداع الوثائقي؟
محمد الحمامصي
كاتب مصري