أندري تاركوفسكي" لمحة جديدة عن فلسفة رائد السينما الشعرية.

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أندري تاركوفسكي" لمحة جديدة عن فلسفة رائد السينما الشعرية.

    أندري تاركوفسكي مخرج يهتم ببطله مستمرا معه حتى النهاية


    "الشاعر في مرآته.. أندري تاركوفسكي" لمحة جديدة عن فلسفة رائد السينما الشعرية.


    مهنة المخرج مسؤولية أخلاقية تتجاوز عملية الإبداع

    تكشف الحوارات ما يخفى من حياة المبدعين، ولكنها تكشف أساسا توجهاتهم الفنية وطريقة عملهم، ولذا فإنها تشبه الدخول إلى المطابخ السرية للعمل الفني. وهذا ما تؤكده مثلا الحوارات المميزة التي أجريت مع السينمائي الروسي أندري تاركوفسكي، الذي يعتبر من قادة السينما الشعرية في العالم، ومازال تأثيره ماثلا إلى اليوم في الفن السينمائي وحتى في الشعر والأدب، وهو ما نكتشف سره من خلال إجاباته العميقة في حوارات مختلفة.

    تحفل سيرة ومسيرة المخرج والممثل والمنظر السينمائي الروسي أندري تاركوفسكي (‏1932 ـ 1986) بثراء في الرؤى والأفكار والجماليات، الأمر الذي شكلت معه أعماله على تنوعها علامة مضية ليس في عالم السينما وحده، بل في عالم الشعر كذلك.

    من خلال أفلامه القليلة التي تركها، مثل “سولاريس” و”أندريه روبليف” و”المرآة” و”المطارد” و”طفولة إيفان” و”الحنين إلى الماضي” و”التضحية”، استطاع تاركوفسكي أن يخلق عالما شعريا خاصا، بل وطريقة فريدة تمكّن من خلالها من رسم صور شعرية سينمائية ظلت خالدة ومازالت إلى الآن علامة على مدرسة سينمائية قائمة الذات، جعلت من الشعر عدسة ثانية في عالم السينما وفقا للمترجم التونسي منير عليمي في مقدمة ترجمته لكتاب حوارات مختارة “الشاعر في مرآته.. أندري تاركوفسكي”.
    حوارات كاشفة


    من خلال أفلامه القليلة التي تركها استطاع تاركوفسكي أن يخلق عالما شعريا خاصا ورسْم صور مازالت خالدة

    ترسم الحوارات التي أجراها تاركوفسكي مع صحافيين غربيين -أحد عشر حوارا- وضمها الكتاب الصادر عن دار جسور، بالتعاون مع مهرجان أفلام السعودية الذي تنظمه جمعية السينما بشراكة مع مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء”، غمار حياة هذا المخرج الذي اختار منذ بداياته نمطا آخر وتيارا مختلفا جعله المؤسس الأول لما يسمى بـ”تيار السينما الشعرية” ومجددا لمفهوم الصورة ولعلاقة البطل بعالمه؛ حيث يتطرق في هذه الحوارات إلى علاقة الشرق بالغرب وإلى الوضعية التي عاشها الفنان في الاتحاد السوفياتي، كما يتطرق إلى الأسس الجمالية التي بنيت عليها السينما السوفياتية إضافة إلى الخصائص الجديدة التي أضحت تميز السينما السوفياتية عن غيرها.

    ويوضح منير عليمي أن تاركوفسكي يخوض ضمن الحوارات أيضا في مسائل تتعلق بالحرية في المعسكر الاشتراكي وعلاقة المثقف بالسلطة، علاوة على نقاط مختلفة لها علاقة بالشعر وأثره في الحركة السينمائية في روسيا وغيرها من بلدان العالم. ولعل أبرز ما يميز هذه الحوارات رؤية تاركوفسكي للمسألة النسوية ولعلاقة المرأة بالرجل سينمائيا وفنيا وهي رؤية مغايرة، جعلت منه مخرجا إشكاليا خصوصا في الغرب.

    ويلفت إلى أن الحوارات من حوارات كثيرة نشرت في صحف غربية كثيرة وانتقاها المخرج جون جيانفيتو ونشرها مجتمعة في كتاب صدر ضمن منشورات جامعة ميسيسيبي، وقد ارتأى اختيار الحوارات التي تقدم لمحة جديدة حول الفلسفة التي يتبعها تاركوفسكي في أفلامه، كما حاول الابتعاد عن اختيار الحوارات التي تتضمن نقاطا تتكرر في حوارات أخرى كطفولته مثلا كي يتجنب التكرار، كما التجأ إلى العودة لحوارات أجريت باللغة الفرنسية، وقام بترجمتها عن اللغة الأم معتمدا في ترجمته لعناوين الأفلام الرائجة عربيا كي يتسنى للقارئ العودة إليها.
    توجهات فنية



    الصورة الفنية قادرة على إثارة مشاعر متطابقة لدى المشاهدين أما الأفكار التي تأتي لاحقا فقد تكون مختلفة تماما


    يقول تاركوفسكي في حواره مع باتريك بيرو، والذي أجري عام 1962، “توجد في الاتحاد السوفياتي في الوقت الحاضر اتجاهات متنوعة تتبع مسارات متوازية دون أن تزعج بعضها البعض كثيرا، وانطلاقا من هذه النقطة يمكنني أن أموقع نفسي. مثلا هناك اتجاه جيراسيموف الذي يبحث قبل كل شيء عن الحقيقة في هذه الحياة. كان لهذا الاتجاه تأثير كبير وأتباع كثيرون. بدأ اتجاهان آخران في الانكماش ويبدو أنهما أكثر حداثة. يمكن للمرء أن يتتبع جذورهما التي تعود إلى فترة الثلاثينات. لكن فقط بعد المؤتمر العشرين تمكنوا من تحرير أنفسهم وتطويرها، والإفصاح عن طاقاتهم المكبوتة. إذن ما هما هذان الاتجاهان؟”.

    ويضيف “الاتجاه الأول هو السينما الشعرية التي جسدها كل من تشوكروي في فيلم ‘قصيدة الجندي’ و’الرجل الذي تبع الشمس’ لميخائيل كاليك، والتي يمكن مقارنتها بفيلم ‘البالون الأحمر’ الذي أخرجه لاموريس، لكنها في رأيي أفضل بكثير. أعتقد أنني يمكن أن أكون ضمن اتجاه السينما الشعرية، لأنني لا أتبع تطورا سرديا صارما وروابط منطقية في أفلامي، كما أنني لا أحب البحث عن مبررات لأفعال البطل”.

    يذكر تاركوفسكي أن “أحد الأسباب التي دفعتني إلى الانخراط في السينما هو أنني رأيت الكثير من الفوضى التي لا تتوافق مع ما كنت أتوقعه من اللغة السينمائية. أما الاتجاه الثاني فهو ما نسميه في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية ‘السينما الفكرية’ لميخائيل روم. وعلى الرغم من أنني كنت تلميذه لبعض الوقت إلا أنني أستطيع قول أي شيء عنه لأنني لا أفهم هذا النوع من السينما. كل الفنون تحمل جانبا من الفكر، لكن بالنسبة إليّ يجب أن تكون جميعها، والسينما خصوصا وقبل كل شيء، عاطفية وتعمل وفق ما يمليه القلب”.

    ويقول عن فيلمه الأول “طفولة إيفان”: “أردت أن أوصل كراهيتي للحرب، اخترت الطفولة لأنها التيمة الأولى التي تتعارض مع فكرة الحرب، لا ينبني الفيلم على حبكة معينة ولكنه مبني على التعارض الكامن بين الحرب ومشاعر الطفل، لقد قتل جميع أفراد عائلة الطفل، والفيلم يبدأ من منتصف الحرب”.



    وردا على سؤاليْن حول فيلمه “أندريه روبليف”: ما الذي يعجبك في أندريه روبليف ليكون عزيزا عليك؟ ولماذا يجب أن يكون عزيزا علينا نحن المشاهدين؟ يقول تاركوفسكي “في الوقت الذي كانت فيه حياة الناس ميؤوسا منها، عندما كانوا مضطهدين بنير أجنبي، بالظلم، بالفقر، عبر روبليف من خلال فنه عن أمله وإيمانه بالمستقبل. لقد خلق مثلا أخلاقيا أعلى. كقاعدة عامة، كانت الأيقونات في عصره كائنات عبادة مع تمثيلات تقليدية للقديسين، لا شيء أكثر من ذلك”.

    ويضيف “مع أندريه كان الأمر مختلفا. لقد سعى جاهدا للتعبير عن انسجام شامل للعالم، وعن صفاء الروح؛ إن فكرة البحث عن هذا السلام النبيل والخلود وتناغم الروح، وهي فكرة كرس حياته كلها لها، مكنته من إنشاء روائع، والتي ستبقى خالدة على الدوام. في الفيلم نقوده إلى التطهير من خلال المعاناة، وإيجاد الفرح في الشغف الذي رفضه سابقا. الشيء الرئيسي الذي أريد أن أعبر عنه في فيلمي هو حرق شخص باسم فكرة مستهلكة بالكامل، وهي فكرة تمتلكه لدرجة الشغف”.

    ويقول تاركوفسكي في حواره مع نعوم أبراموف عام 1970 “أنا مهتم ببطل يستمر حتى النهاية رغم كل شيء. لأن مثل هذا الشخص فقط يمكنه ادعاء النصر. الشكل الدرامي لأفلامي هو رمز لرغبتي في التعبير عن نضال الروح الإنسانية وعظمتها، أعتقد أنه يمكن بسهولة ربط هذا المفهوم بأفلامي السابقة. يفعل كل من إيفان وأندريه كل شيء من أجل سلامتهما. الأول جسديا والثاني بالمعنى الروحي. كلاهما يبحث عن طريقة عيش مثالية وأخلاقية”.

    على عكس أشكال الفن الأخرى يمكن للفيلم أن يمسك بزمام الوقت ويتحكم فيه ويوقفه ويمتلكه إلى ما لا نهاية

    ويتابع “بالنسبة إلى رواية ستانيسلاف ليم ‘سولاريس’، وهي من نوع الخيال العلمي، فإن قراري بتكييفها مع الشاشة ليس نتيجة بعض الولع بهذا النوع. الشيء الرئيسي هو أنه في ‘سولاريس’ يقدم ليم مشكلة قريبة مني: مشكلة التغلب، والقناعات، والتحول الأخلاقي على طريق النضال ضمن حدود مصيره، لا يعتمد عمق رواية ليم ومناها على الإطلاق على نوع من الخيال العلمي، ولا يكفي أن نولي اهتماما بروايته بسبب هذا النمط فحسب”.

    ويقر بأن “الرواية لا تتعلق فقط بالعقل البشري الذي يواجه المجهول، بل إنها تتعلق أيضا بالقفزة الأخلاقية للإنسان فيما يتعلق بالاكتشافات الجديدة في المعرفة العلمية والتغلب على العقبات في هذا الطريق يؤدي إلى ولادة مؤلمة لأخلاق جديدة. هذا هو ‘ثمن التقدم’ الذي يدفعه كلفن في سولاريس. وثمن كلفن هو الدخول في مواجهة وجها لوجه مع تجسيد علمه المخادع، لكن كلفن لا يخون موقفه الأخلاقي. لأن الخيانة في هذه الحالة تعني البقاء في المستوى السابق، ولا حتى محاولة الارتقاء إلى مستوى أخلاقي أعلى. ويدفع كلفن ثمنا مأساويا لهذه الخطوة إلى الأمام. يخلق نوع الخيال العلمي الافتراضي الضروري لهذا الارتباط بين المشاكل الأخلاقية وعلم وظائف الأعضاء في العقل البشري”.
    الفن والشعر



    الشعر لا يغير الواقع بل يؤسسه


    في حواره مع غونتر نيتزيباند عام 1973 يسأل غونتر: عمرك الآن 41 عاما، والدك شاعر مشهور. لقد كرست اهتمامك للموسيقى والرسم قبل إنجاز الأفلام. لماذا اخترت الفيلم؟ يوضح تاركوفسكي “يبدو لي أن الفيلم يتعامل مع أشكال حقيقية ويعمل معها. وهذا يعني أشكالا مأخوذة من واقع الحياة. يذكرني عمل المخرج السينمائي في جوهره بفعل الخلق المرتبط بولادة حياة جديدة، بحياة ستحدث على الشاشة. تتطلب مهنة المخرج مسؤولية أخلاقية تتجاوز عملية الإبداع، وهي مسؤولية نشعر بها فيما يتعلق بسلوكنا في حياتنا. إنه طريقة للتأكد من الشعور بنوع خاص من المسؤولية، وبالنسبة إلي، بدا هذا العمل مثيرا للاهتمام بشكل غير عادي”.

    أما في حواره مع فيليا ياكوفينو عام 1983 فيقول تاركوفسكي “إن الفيلم يمر بلحظة أكثر صعوبة وحرجا بكثير من تلك التي ميزت بداية الصوت في الفيلم. لحظة لا أعرف كيف أتعامل معها. وهذا لم يحدث بسبب استخدام التقنيات الجديدة، ولكن بشكل صارم بسبب الضغوط والدوافع الاقتصادية. الحقيقة هي أنه في الحقيقة، أصبح الفيلم الآن في أيدي كبار المنتجين، المنتجين الأميركيين. ويهتم هؤلاء المنتجون في المقام الأول بإدخال أشرطة الفيديو إلى السوق. إنهم يريدون تحقيق أرباح أعلى من أي وقت مضى، بدلا من محاولة إرضاء أذواق تلك الشريحة الكبيرة من الجمهور التي أصبحت أكثر ذكاء، ونتيجة ذلك أصبحت أكثر تطلبا. نحن نتحدث عن الأعمال التجارية الكبيرة هنا. هذه هي القصة. نحن نتحدث عن آلية سيكون من الصعب للغاية تفكيكها أو تعطيلها، حتى لو كان ذلك باسم الجودة الفنية”.



    ويؤكد أنه إذا كانت السينما فنا، فمن الطبيعي أن تكون لها لغة قومية. لا يمكن للفن أن يظل بمعزل عن سمة القومية. باختصار السينما الروسية روسية، والسينما الإيطالية إيطالية.

    ويقول المخرج الروسي “لقد قال النقاد إنني شاعر. كل شكل فني يمكن أن يكون شعرا. كل الموسيقيين العظام والرسامين والكتاب شعراء أيضا. إن الشعر لا يغير الواقع بل يؤسسه”.

    ويضيف “على عكس أشكال الفن الأخرى يمكن للفيلم أن يمسك بزمام الوقت ويتحكم فيه ويوقفه ويمتلكه إلى ما لا نهاية. أود أن أقول إن كل فيلم هو عبارة عن نحت في الزمن. إن السينما بالنسبة إلي هي ببساطة طريقة أصيلة لخلق عالم جديد، عالم رائع نعرضه للآخرين حتى يتمكنوا من اكتشاف كل عجائبه الخفية”.

    ويكشف تاركوفسكي “أحب جميع أفلامي. لا أستطيع الإجابة في الواقع عن كوني أشعر بمودة كبيرة تجاه أحدها، ربما فيلم ‘الحنين إلى الماضي’ هو الأقرب بالنسبة إلي. هو آخر أفلامي، لقد وجدت فيه نفسي. ما يهمني هو أن الشعور بالإثارة من خلال أعمالي يجب أن يكون كونيا. الصورة الفنية قادرة على إثارة مشاعر متطابقة لدى المشاهدين، في حين أن الأفكار التي تأتي لاحقا قد تكون مختلفة تماما. إذا بدأت في البحث عن معنى أثناء الفيلم، فستفقد كل ما يحدث. المشاهد المثالي هو الشخص الذي يشاهد فيلما مثل مسافر يشاهد البلد الذي يمر به؛ هناك بعض الفنانين الذين يعلقون معنى رمزيا على صورهم، لكن هذا غير ممكن بالنسبة إليّ، يمتلك شعراء الزن طريقة جيدة للتعامل مع هذا؛ فهم يعملون على القضاء على أي إمكانية للتفسير، وفي هذه العملية ينشأ تشابه بين العالم الحقيقي وما يخلقه الفنان في عمله”.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    محمد الحمامصي
    كاتب مصري
يعمل...
X