"باي باي طبريا" حكاية أربعة أجيال من النساء يحرسن ذاكرة فلسطين
الفيلم رسالة إلى الأجيال القادمة تذكرها بالأماكن المفقودة والذكريات المتناثرة.
حيث تتشابك الحميمية مع اضطرابات التاريخ
لا تقل الأفلام الوثائقية أهمية عن الأفلام الروائية، وقد تمكن الجيل الجديد من المخرجين والمخرجات عبر العالم من تطويع هذا النوع من الأفلام لسرد قصص وتواريخ ووقائع من منظورات وزوايا مختلفة، وهذا ما هو ماثل في تجربة المخرجة الفرنسية – الجزائرية – الفلسطينية لينا سوالم، سواء في فيلمها الوثائقي الأول “جزائرهم” أو فيلمها الجديد “باي باي طبريا”.
في فيلمها الأول “جزائرهم” 2020 تحكي المخرجة لينا سوالم قصة جدّيها مبروك وعائشة اللذين تزوجا في قرية العوامر الجزائرية عام 1952، ثم انتقلا للعيش في فرنسا وتطلقا بعد 62 عاما من الحياة الزوجية، ومن خلال هذه القصة الشخصية تغوص في ذاكرة المهاجرين الجزائريين الأوائل إلى فرنسا. وها هي تعود هذه المرة في فيلم “باي باي طبريا” وتصور حياة والدتها (الممثلة الفلسطينية هيام عباس) وجذورها في فلسطين.
الفيلم الوثائقي “يفتح آلام الماضي” ليعكس الخيارات الحياتية الصعبة التي تواجهها هيام عباس ونساء من عائلتها، متخذا نقطة البداية من النكبة الفلسطينية عام 1948 وما رافقها من تهجير ونفي وقيام دولة الاحتلال الإسرائيلي.
أجيال من النساء
الفيلم الوثائقي "يفتح آلام الماضي" ليعكس الخيارات الحياتية الصعبة التي تواجهها النساء الفلسطينيات منذ النكبة عام 1948
وصفت المخرجة الفرنسية – الجزائرية – الفلسطينية لينا سوالم فيلمها قائلة “القصص التي ترويها هاتيك النسوة في هذا الفيلم لا تتمحور فقط حول تناقل حكاية بين امرأة وأخرى، أو من ابنة إلى أمها، أو من أم إلى ابنتها، بل إنها تنقل قصة أشخاص محرومين من هويتهم”.
هُجّرت عائلة هيام عباس قسرا عام 1948 من طبريا إلى دير حنا، على بعد حوالي ثلاثين كيلومترا إلى الشمال الغربي، وهو ما يرويه الفيلم من خلال العديد من الأرشيفات الشخصية. هيام عباس المولودة عام 1960 في شمال فلسطين المحتلة، قبل ثلاثين عاما، غادرت إلى باريس مدفوعة برغبتها في دخول مجال السينما. وأدت عباس أدوارا كثيرة خلال مسيرتها الطويلة، أبرزها فيلم “العروس السورية”، “ميرا “، “الجنة الآن”، “غزة حبيبتي”، واتخذت قرارا صعبا بترك جدتها وأمها وسبع شقيقات في قرية دير حنا الفلسطينية لمتابعة التمثيل في فرنسا.
بعد سنوات، تعود مع ابنتها مخرجة الفيلم لينا سوالم، إلى منزل طفولتها خلال فصل الصيف، وتطرح كل زيارة من زياراتهم التي تم توثيقها على الفيديو من قبل والد سوالم الممثل الجزائري الفرنسي زين الدين سوالم. تعرض المخرجة قصص شريحة من النساء الفلسطينيات في عائلتها، لتكشف نضالاتهن، والشعور بقوتهن، والحداد على خسائرهن، وفهم تعقيداتهن وقبول تناقضاتهن. أرادت المخرجة لينا التقاط صور أجيال من النسوة الفلسطينيات لغرض توثيقها قبل أن تصبح في طي النسيان. في الوقت الذي يحاول الكيان الصهيوني إبادة ومحو ذكريات وانتماء الشعب الفلسطيني إلى أرضه.
ستأخذ هيام عباس ابنتها لينا سوالم إلى بحيرة طبريا، المعروفة أيضا باسم بحر الجليل، حيث يقال إن يسوع مشى على الماء. وتسرد لها كيف طرد أجدادها من طبريا في عام 1948. ستكشف الأم لأبنتها العالم الذي كانت جزءا منه أيضا: عالم عربي مقسم بسبب الصراع والتدخل الاستعماري والاحتلال الإسرائيلي الذي أعاد تحديد المناظر الطبيعية، ومع ذلك لا تزال الأسرة والجبال والأنهار والوديان والحدود مع سوريا إلى الشرق ولبنان من الشمال والأردن من الجنوب وقريتها في الجليل مطبوعة في الذاكرة منذ مغادرتها لمتابعة أحلامها في التمثيل في فرنسا.
تقول الممثلة هيام “لفترة طويلة، كنت أتساءل عما كان من المفترض أن يعنيه ‘المنزل’. ولدت في المنزل وترعرعت في المنزل، لكنني نشأت في منزل كان حقا مثل الكثبان الرملية المتحركة. يمكن أن يبتلعك أو يبتلع أي شخص. لقد طورت فكرة أن المنزل هو هذا المنزل الذي حملته معي في قلبي، في ذاكرتي. لذلك فهي فلسطين لأن هذا هو المكان الذي أتيت منه والمكان الذي نشأت فيه. فلسطين جزء قوي من هويتي وهي الأمتعة التي أحملها معي”.
يغمرنا الفيلم عبر قصصه بروائح فلسطين وطيبة أهلها ويتداخل الماضي والحاضر ويتألق شعور قوي بالتراث والانتماء إليه
في هذه الصورة المؤثرة والشخصية للغاية والسياسية التي لا مفر منها، تتتبع المخرجة لينا سوالم قصة والدتها ووالدة والدتها وعائلتهما الممتدة، التي تم تحديد جميع حياتها من خلال الانفصال والنفي والتشريد، متشابكة مع تسجيلات الفيديو المنزلية والحنين واللقطات الأرشيفية الغنية للحياة الفلسطينية على مر العقود.
“باي باي طبرية” مذكرات مؤثرة حول عبء المغادرة والقدرة على التحمل للذاكرة، والتصميم على صياغة مصائر وهويات المرء. يتمحور الفيلم الوثائقي الشخصي العميق حول الرحلة التي دفعت عباس إلى ترك عائلتها في فلسطين لمحاولة تحقيق أهدافها التمثيلية في الغرب. وقالت هيام عباس إن “الفلسطينيين لم يقفوا أبدا على عتبة الإنسانية، ففي بعض الأحيان يتم استبعادهم، لكن هذا لا يحدث دائما لأنهم يعرفون منذ سنوات أن الإنسانية تخضع لشروط وأحيانا يتحدون هذا التوجه عندما يقررون الصمت ويختبئون.. وهنا يكمن التناقض في الحضور دون التمكن من الحديث عن سبب وجودهم”.
في هذا الفيلم الوثائقي الحميم نتابع حكاية أربعة أجيال من النساء وإرثهن المشترك لا تركز سوالم على والدتها فحسب، بل على والدة والدتها أيضا وسلسلة من النساء الشجاعات والعازمات اللواتي اضطررن إلى القيام بأشياء صعبة بشكل لا يصدق لإعالة أنفسهن وأسرهن كفلسطينيات صابرات ومناضلات. تغيرت حياة أفراد عائلة الممثلة هيام عباس بشكل لا يمكن إصلاحه خلال المنفى القسري منذ عام 1948، ويلوح في ظل تلك الصدمة بشكل كبير على قصتهم. تعلق ابنتها المخرجة لينا سوالم في الكثير من الأحيان على موقفها الخاص في هذه السلسلة العائلية، باعتبارها الأولى التي ولدت خارج فلسطين، ومع ذلك تشعر بعلاقة قوية بالعائلة التي لا تزال تعيش هناك.
يكشف الفيلم كيف تحافظ النساء الفلسطينيات على ذكرياتهن الحميمية والجماعية من خلال قوة علاقاتهن. نسيج حقيقي بين صور وذكريات مع الاستعانة بأرشيف عائلي. يصبح الفيلم استكشافا لانتقال الذاكرة والأماكن والخبرة والأنوثة والمقاومة في حياة نساء فلسطينيات يعتبر التجريد من الممتلكات، بالنسبة لهن هو القاعدة في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
حدائق الماضي
النساء ينقلن ذاكرة الأماكن
“باي باي طبريا” فيلم يدور حول الكثير من الأشياء؛ قيمة الطموح أو الحلم مقابل قيمة الأسرة؛ والصدمة العالقة في المنفى؛ والشعور بالذنب والحب والندم، ولكن قبل كل شيء يتعلق الأمر بأهمية التوثيق. ربما يكون الجزء الوحيد الأكثر تحركا من هذا الفيلم الوثائقي المؤثر للغاية هو عندما تناشدها والدتها المريضة، في مكالمة فيديو لهيام عباس وتطلب منها أن تزورها، “دعونا نحقق أقصى استفادة من بعضنا البعض”. بعد فترة وجيزة، ماتت الأم. عندما يرحل شخص ما، وكذلك أفكاره وخبراته وخصوصياته. لم يعد من الممكن سؤالهم عن حياتهم وتاريخهم وأي شيء.
على هذا النحو، فإن سعي المخرجة لينا سوالم لفهم من أين أتت، وما واجهه أولئك الذين سبقوها يحمل وجعاً ولوعة. إنها قصة عن الأماكن المفقودة والذكريات المتناثرة. توثقها المخرجة – المولودة في باريس قبل 30 عاما وأول امرأة في عائلتها لا تولد في فلسطين، نراها دائما تحاول معرفة المزيد عن عائلتها. والحاجة إلى العثور على مكانها في تاريخ النساء في عائلتها.
في وقت لاحق، ألقت المخرجة بنفسها في تحقيق شخصي لا يصدق حيث تتشابك الحميمية مع اضطرابات التاريخ، وارتدت إلى نسبها وبدأت بجدتها الكبرى أم علي، التي تحطمت حياتها السعيدة في نفس مدينة طبريا بسبب الاحتلال الإسرائيلي في عام 1948. وأجبرت العائلة على مغادرة منزلها، وتجولت على طول الطريق إلى الحدود مع لبنان، حيث فقدت إحدى البنات (حسنى)، التي انتهى بها الأمر عالقة في سوريا (والتي ستقضي بقية حياتها في اليرموك، أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في العالم، ولم يتمكنوا من رؤية أحبائها إلا بعد 30 عاما سرا).
أعادوا الذكريات إلى الوراء حين كان منزلهم في دير حنا، لأن طبريا المحتلة أصبحت الآن خارج الحدود بالنسبة إليهم. زوج أم علي مزارع، “فقد عقله ومات من الحزن، ووجدت أم علي نفسها بمفردها. لديها ثمانية أطفال وآلة خياطة لإبقائهم جميعا على قيد الحياة. بعد ذلك تأتي قصة جدتها، نعمت، وهي معلمة في مدرسة ابتدائية لديها عشرة أطفال، إحداهن كانت والدتها الممثلة هيام، التي اشتبكت خيارات حياتها (أن تصبح ممثلة وتذهب إلى المنفى) بعمق مع تقاليد والديها والتي لن تعيد الاتصال بعائلتها إلا بعد ولادة لينا”.
المخرجة تعرض قصص شريحة من النساء الفلسطينيات في عائلتها لتكشف نضالاتهن والشعور بقوتهن والحداد على خسائرهن
تكشف لقطات الأخبار والمواد الأرشيفية من عام 1948 عن المنازل المهجورة والدمار وخسائر التاريخ أثناء الانتقال إلى مستقبل غير مؤكد. تغطي سوالم عائلتها على مدى هذه الأجيال الأربعة، وهي قادرة على التأكيد بمهارة على كيفية تغير كل شيء. عن طريق الصور ومقاطع الفيديو (الخاصة والمتلفزة على حد سواء)، والرسائل، والقصائد (التي كتبتها هيام في سن المراهقة)، والنصوص المكتوبة وقرأتها والدتها، والرحلات الحالية إلى دير حنا وطبريا، تنسج لينا سوالم ببراعة خليطا احتفاليا مؤثرا للنساء في عائلتها.
يغمرنا الفيلم بروائح فلسطين وطيبة أهلها، ويتداخل الماضي والحاضر، ويتألق شعور قوي بالتراث والانتماء إليه. نراها تعود إلى مسرح الحكواتي في القدس حيث بدأت الممثلة هيام عباس حياتها المهنية في التمثيل وتصعد إلى المسرح لإعادة إنشاء مواجهات محورية مع والدها. في هذا الاستجواب الإبداعي للعائلة والذاكرة إعادة تمثيل اللحظة المتوترة من ماضيها، على مسرح الحكواتي حيث بدأت كممثلة، تعالج عباس المشاعر التي حملتها بعد مغادرة مسقط رأسها فلسطين إلى باريس.
تقول المخرجة لاحقا في التعليق الصوتي إن تعويذة والدتها المفضلة هي “لا تفتح البوابة للأحزان الماضية”. لكن فيلم “باي باي طبريا” هو “تمرين مشترك في فتح البوابة وزرع حدائق الماضي حتى تنمو الأجيال القادمة. وعلى الرغم من التقاليد والمجتمعات التي عاشوا فيها، فقد تمكنوا من التأثير على العالم من حولهم، ونقلوا الكثير من الأشياء إلى والدتي ونقلتها إلي بصفتي امرأة الآن، وليس طفلهما أو حفيدهما، أردت التواصل معهم على قدم المساواة واحتضان قوتهم وتعقيداتهم وتناقضاتهم وعيوبهم وأن أكون صادقة معهم”.
غالبا ما يكون تذكر الماضي مصدر حزن لهيام عباس، ولكن هناك فرحة واضحة في حبها لأمها وارتباطا وثيقا بإخوتها الكثيرين. إنها واحدة من عشرة الذين يشكلون نسيج العائلة ويلعبون أمام الكاميرات حيث تسجل لينا سوالم لحظة نادرة لعماتها وأعمامها معا.
خلال الفيلم تتبع المخرجة مسار تاريخ العائلة من خلال النساء اللواتي سبقنها، ويرغبن في سرد “ذكريات غير مرئية وصامتة”، وحسب قول المخرجة “يجعل هذا الفيلم من الممكن إعطاء دفعة إنسانية محرومة للفلسطينيين، شعب محروم من حقوقه، وحرم من هويته، ويجب عليه إعادة اختراع نفسه باستمرار واستعادة مكانه في العالم”. وأضافت سويلم “نحارب محو الهوية من خلال قصصنا، وهذه الصور تشكل دليلا على وجود يتم إنكاره”.
في الفيلم، تجسد المخرجة لينا الجيل الرابع من النساء الحاضرات على الشاشة، وأول من يولد خارج فلسطين. وتوثق ذكرى النساء في عائلتها؛ تاريخ المنفى والتجريد الذي واجهنه. من خلال سرد قصتهن، تستعيد الإرث الشخصي والتاريخي والبصري الذي ورثته. وتتبع مسار النساء في عائلتها كي تحارب المحو والنسيان؛ “لهذا السبب أشعر برغبة مستمرة في مشاركة هذه القصص. من خلال إعادة اختراع تاريخ عائلتي، آمل ألا أستعيد تراثي فحسب، بل أن أغتنم صور عالم يختفي بسرعة والحفاظ عليها. الصور التي تقف كدليل على وجود مرفوض“.
الذاكرة الجماعية
لينا سوالم، ابنة الفنانة الفلسطينية هيام عباس والمسرحي الجزائري زين الدين سوالم، مخرجة وممثلة فرنسية – فلسطينية – جزائرية، بعد دراسة التاريخ والعلوم السياسية في جامعة السوربون، بدأت العمل مبرمجة في المهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان في بوينس آيرس. تم عرض الفيلم الوثائقي الطويل الأول للينا لأول مرة في الجزائر في المهرجان السينمائي الدولي 2020.
حصلت الجزائر على جائزة السينما الأولى في المهرجان الدولي لفيلم البحر الأبيض المتوسط، وجائزة أفضل فيلم وثائقي عربي في مهرجان الجونة السينمائي، مثلت لينا في ثلاثة أفلام روائية من إخراج حفصية حزري وهيام عباس وريحانا. تعمل حاليا كمؤلفة في الأفلام الخيالية والأفلام الوثائقية والمسلسلات التلفزيونية، وعن زيارتها لطبريا قالت المخرجة لينا سوالم إنها كانت تذهب في طفولتها وانقطعت عن الزيارة، لكنها عادت تزورها مرة أخرى عند إنجاز الفيلم، وإن جدتها دوما عند الوصول إلى طبريا تبدأ في البكاء، وتتذكر تفاصيل حياتها الماضية في المدينة لذلك كان من المهم أن تصور ردود أفعالها لكي تستعيد ذكرياتها بالمكان.
وتقول لينا ساخرة “وكلّما نظرت إلى أرشيف الصور الضخم الذي تحتفظ به، وأُشاهد وجه جدّتي وجدّة أمّي ووجهها هي قبل 30 سنة، أُحاول أن أتخيّل ما الذي كنت سأحصل عليه، إذا ما وُلدتُ هناك وعشتُ في ذات الظروف، ربّما كانت حياتي ستأخذ منحى آخر لذا كان مهمّا للغاية أن أترابط مع قصّة حياتها”.
لا يلعب الرجال داخل عائلة سوالم أي دور في "باي باي طبريا"، ولا يتم ذكرهم إلا بشكل عابر
يستكشف “باي باي طبريا” دور الذاكرة الجماعية في نقل تراث المرء. تضحك الأخوات بفرح اللقاء وينظرن بأسى إلى الوراء إلى والدتهن الراحلة وأبيهن، اللذين يظهران في العديد من مقاطع الفيديو العائلية التي توثقها المخرجة لينا سوالم من خلال الفيلم. ينقل الفيلم صدى قصص مرونة الأخوات، وكذلك قصص والدة هيام عباس وجدتها. غالبا ما تجد المخرجة سوالم نفسها عائدة إلى صور بحر الجليل حيث جلبتها الإجازات العائلية على الرغم من طرد أجدادها من طبريا في عام 1948.
بغض النظر عن المكان الذي قد يقود إلى الحديث عن التاريخ أو السياسة أو الطموحات المهنية أو إلى تشتت العائلة، على الرغم من ذلك، يمكن للشخصية الرئيسية الممثلة هيام عباس دائما العثور على بوصلتها في دير حنا. إنها تعرف أي طريق هو الأردن وأي طريق هو لبنان، وأي أفراد الأسرة مشتتون بين تلك الحدود. تستكشف المخرجة حكمة والدتها البدوية، وتتتبع الرحلات وتجد نفسها على خطى النساء اللواتي سبقنها. إنه استكشاف لانتقال الذاكرة والفضاء والدراية والأنوثة والمقاومة. إنها رحلة عبر الحياة المختلفة للنساء الفلسطينيات اللواتي أصبح تجريدهن من ممتلكاتهن هو القاعدة.
الفيلم مؤثر بشكل كبير، سواء في لقطات الممثلة هيام الشابة التي تبدو متألمة في حفل زفاف عائلي، أو بعد سنوات، عندما تتذكر مقابلة عمتها حسنية في مخيم للاجئين السوريين. تعرفت حسنية على الفور على “رائحة العائلة” التي حرمت من الوصول إليها منذ فترة طويلة.
لا يلعب الرجال داخل عائلة سوالم أي دور في “باي باي طبريا”، ولا يتم ذكرهم إلا بشكل عابر. رغم أنها في شريطها الأول، “في الجزائر” تسرد لينا سوالم قصة والدها (الممثل زين الدين سوالم) وقصة أجدادها من أبويها. لذلك على الرغم من أنها لا تعطي وقتا للشاشة لوالدها في فيلمها الوثائقي الجديد، إلا أنها تقدم الامتنان للرجل الذي كان يحمل الكاميرا في الكثير من الأحيان والتي سجلت اللحظات المؤثرة من طفولتها. وحسب تصريح المخرجة لينا “أرادت أن تحكي قصة شعب جرد من حقوقه ويواجه النزوح والاحتلال والتجريد والمذبحة”، مضيفة “وعلى الرغم من كل شيء تمكنت النساء الفلسطينيات من نقل قيم الحب والكرم والتسامح والاحترام إلى أطفالهن”.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
علاء حسن
كاتب عراقي
الفيلم رسالة إلى الأجيال القادمة تذكرها بالأماكن المفقودة والذكريات المتناثرة.
حيث تتشابك الحميمية مع اضطرابات التاريخ
لا تقل الأفلام الوثائقية أهمية عن الأفلام الروائية، وقد تمكن الجيل الجديد من المخرجين والمخرجات عبر العالم من تطويع هذا النوع من الأفلام لسرد قصص وتواريخ ووقائع من منظورات وزوايا مختلفة، وهذا ما هو ماثل في تجربة المخرجة الفرنسية – الجزائرية – الفلسطينية لينا سوالم، سواء في فيلمها الوثائقي الأول “جزائرهم” أو فيلمها الجديد “باي باي طبريا”.
في فيلمها الأول “جزائرهم” 2020 تحكي المخرجة لينا سوالم قصة جدّيها مبروك وعائشة اللذين تزوجا في قرية العوامر الجزائرية عام 1952، ثم انتقلا للعيش في فرنسا وتطلقا بعد 62 عاما من الحياة الزوجية، ومن خلال هذه القصة الشخصية تغوص في ذاكرة المهاجرين الجزائريين الأوائل إلى فرنسا. وها هي تعود هذه المرة في فيلم “باي باي طبريا” وتصور حياة والدتها (الممثلة الفلسطينية هيام عباس) وجذورها في فلسطين.
الفيلم الوثائقي “يفتح آلام الماضي” ليعكس الخيارات الحياتية الصعبة التي تواجهها هيام عباس ونساء من عائلتها، متخذا نقطة البداية من النكبة الفلسطينية عام 1948 وما رافقها من تهجير ونفي وقيام دولة الاحتلال الإسرائيلي.
أجيال من النساء
الفيلم الوثائقي "يفتح آلام الماضي" ليعكس الخيارات الحياتية الصعبة التي تواجهها النساء الفلسطينيات منذ النكبة عام 1948
وصفت المخرجة الفرنسية – الجزائرية – الفلسطينية لينا سوالم فيلمها قائلة “القصص التي ترويها هاتيك النسوة في هذا الفيلم لا تتمحور فقط حول تناقل حكاية بين امرأة وأخرى، أو من ابنة إلى أمها، أو من أم إلى ابنتها، بل إنها تنقل قصة أشخاص محرومين من هويتهم”.
هُجّرت عائلة هيام عباس قسرا عام 1948 من طبريا إلى دير حنا، على بعد حوالي ثلاثين كيلومترا إلى الشمال الغربي، وهو ما يرويه الفيلم من خلال العديد من الأرشيفات الشخصية. هيام عباس المولودة عام 1960 في شمال فلسطين المحتلة، قبل ثلاثين عاما، غادرت إلى باريس مدفوعة برغبتها في دخول مجال السينما. وأدت عباس أدوارا كثيرة خلال مسيرتها الطويلة، أبرزها فيلم “العروس السورية”، “ميرا “، “الجنة الآن”، “غزة حبيبتي”، واتخذت قرارا صعبا بترك جدتها وأمها وسبع شقيقات في قرية دير حنا الفلسطينية لمتابعة التمثيل في فرنسا.
بعد سنوات، تعود مع ابنتها مخرجة الفيلم لينا سوالم، إلى منزل طفولتها خلال فصل الصيف، وتطرح كل زيارة من زياراتهم التي تم توثيقها على الفيديو من قبل والد سوالم الممثل الجزائري الفرنسي زين الدين سوالم. تعرض المخرجة قصص شريحة من النساء الفلسطينيات في عائلتها، لتكشف نضالاتهن، والشعور بقوتهن، والحداد على خسائرهن، وفهم تعقيداتهن وقبول تناقضاتهن. أرادت المخرجة لينا التقاط صور أجيال من النسوة الفلسطينيات لغرض توثيقها قبل أن تصبح في طي النسيان. في الوقت الذي يحاول الكيان الصهيوني إبادة ومحو ذكريات وانتماء الشعب الفلسطيني إلى أرضه.
ستأخذ هيام عباس ابنتها لينا سوالم إلى بحيرة طبريا، المعروفة أيضا باسم بحر الجليل، حيث يقال إن يسوع مشى على الماء. وتسرد لها كيف طرد أجدادها من طبريا في عام 1948. ستكشف الأم لأبنتها العالم الذي كانت جزءا منه أيضا: عالم عربي مقسم بسبب الصراع والتدخل الاستعماري والاحتلال الإسرائيلي الذي أعاد تحديد المناظر الطبيعية، ومع ذلك لا تزال الأسرة والجبال والأنهار والوديان والحدود مع سوريا إلى الشرق ولبنان من الشمال والأردن من الجنوب وقريتها في الجليل مطبوعة في الذاكرة منذ مغادرتها لمتابعة أحلامها في التمثيل في فرنسا.
تقول الممثلة هيام “لفترة طويلة، كنت أتساءل عما كان من المفترض أن يعنيه ‘المنزل’. ولدت في المنزل وترعرعت في المنزل، لكنني نشأت في منزل كان حقا مثل الكثبان الرملية المتحركة. يمكن أن يبتلعك أو يبتلع أي شخص. لقد طورت فكرة أن المنزل هو هذا المنزل الذي حملته معي في قلبي، في ذاكرتي. لذلك فهي فلسطين لأن هذا هو المكان الذي أتيت منه والمكان الذي نشأت فيه. فلسطين جزء قوي من هويتي وهي الأمتعة التي أحملها معي”.
يغمرنا الفيلم عبر قصصه بروائح فلسطين وطيبة أهلها ويتداخل الماضي والحاضر ويتألق شعور قوي بالتراث والانتماء إليه
في هذه الصورة المؤثرة والشخصية للغاية والسياسية التي لا مفر منها، تتتبع المخرجة لينا سوالم قصة والدتها ووالدة والدتها وعائلتهما الممتدة، التي تم تحديد جميع حياتها من خلال الانفصال والنفي والتشريد، متشابكة مع تسجيلات الفيديو المنزلية والحنين واللقطات الأرشيفية الغنية للحياة الفلسطينية على مر العقود.
“باي باي طبرية” مذكرات مؤثرة حول عبء المغادرة والقدرة على التحمل للذاكرة، والتصميم على صياغة مصائر وهويات المرء. يتمحور الفيلم الوثائقي الشخصي العميق حول الرحلة التي دفعت عباس إلى ترك عائلتها في فلسطين لمحاولة تحقيق أهدافها التمثيلية في الغرب. وقالت هيام عباس إن “الفلسطينيين لم يقفوا أبدا على عتبة الإنسانية، ففي بعض الأحيان يتم استبعادهم، لكن هذا لا يحدث دائما لأنهم يعرفون منذ سنوات أن الإنسانية تخضع لشروط وأحيانا يتحدون هذا التوجه عندما يقررون الصمت ويختبئون.. وهنا يكمن التناقض في الحضور دون التمكن من الحديث عن سبب وجودهم”.
في هذا الفيلم الوثائقي الحميم نتابع حكاية أربعة أجيال من النساء وإرثهن المشترك لا تركز سوالم على والدتها فحسب، بل على والدة والدتها أيضا وسلسلة من النساء الشجاعات والعازمات اللواتي اضطررن إلى القيام بأشياء صعبة بشكل لا يصدق لإعالة أنفسهن وأسرهن كفلسطينيات صابرات ومناضلات. تغيرت حياة أفراد عائلة الممثلة هيام عباس بشكل لا يمكن إصلاحه خلال المنفى القسري منذ عام 1948، ويلوح في ظل تلك الصدمة بشكل كبير على قصتهم. تعلق ابنتها المخرجة لينا سوالم في الكثير من الأحيان على موقفها الخاص في هذه السلسلة العائلية، باعتبارها الأولى التي ولدت خارج فلسطين، ومع ذلك تشعر بعلاقة قوية بالعائلة التي لا تزال تعيش هناك.
يكشف الفيلم كيف تحافظ النساء الفلسطينيات على ذكرياتهن الحميمية والجماعية من خلال قوة علاقاتهن. نسيج حقيقي بين صور وذكريات مع الاستعانة بأرشيف عائلي. يصبح الفيلم استكشافا لانتقال الذاكرة والأماكن والخبرة والأنوثة والمقاومة في حياة نساء فلسطينيات يعتبر التجريد من الممتلكات، بالنسبة لهن هو القاعدة في ظل الاحتلال الإسرائيلي.
حدائق الماضي
النساء ينقلن ذاكرة الأماكن
“باي باي طبريا” فيلم يدور حول الكثير من الأشياء؛ قيمة الطموح أو الحلم مقابل قيمة الأسرة؛ والصدمة العالقة في المنفى؛ والشعور بالذنب والحب والندم، ولكن قبل كل شيء يتعلق الأمر بأهمية التوثيق. ربما يكون الجزء الوحيد الأكثر تحركا من هذا الفيلم الوثائقي المؤثر للغاية هو عندما تناشدها والدتها المريضة، في مكالمة فيديو لهيام عباس وتطلب منها أن تزورها، “دعونا نحقق أقصى استفادة من بعضنا البعض”. بعد فترة وجيزة، ماتت الأم. عندما يرحل شخص ما، وكذلك أفكاره وخبراته وخصوصياته. لم يعد من الممكن سؤالهم عن حياتهم وتاريخهم وأي شيء.
على هذا النحو، فإن سعي المخرجة لينا سوالم لفهم من أين أتت، وما واجهه أولئك الذين سبقوها يحمل وجعاً ولوعة. إنها قصة عن الأماكن المفقودة والذكريات المتناثرة. توثقها المخرجة – المولودة في باريس قبل 30 عاما وأول امرأة في عائلتها لا تولد في فلسطين، نراها دائما تحاول معرفة المزيد عن عائلتها. والحاجة إلى العثور على مكانها في تاريخ النساء في عائلتها.
في وقت لاحق، ألقت المخرجة بنفسها في تحقيق شخصي لا يصدق حيث تتشابك الحميمية مع اضطرابات التاريخ، وارتدت إلى نسبها وبدأت بجدتها الكبرى أم علي، التي تحطمت حياتها السعيدة في نفس مدينة طبريا بسبب الاحتلال الإسرائيلي في عام 1948. وأجبرت العائلة على مغادرة منزلها، وتجولت على طول الطريق إلى الحدود مع لبنان، حيث فقدت إحدى البنات (حسنى)، التي انتهى بها الأمر عالقة في سوريا (والتي ستقضي بقية حياتها في اليرموك، أكبر مخيم للاجئين الفلسطينيين في العالم، ولم يتمكنوا من رؤية أحبائها إلا بعد 30 عاما سرا).
أعادوا الذكريات إلى الوراء حين كان منزلهم في دير حنا، لأن طبريا المحتلة أصبحت الآن خارج الحدود بالنسبة إليهم. زوج أم علي مزارع، “فقد عقله ومات من الحزن، ووجدت أم علي نفسها بمفردها. لديها ثمانية أطفال وآلة خياطة لإبقائهم جميعا على قيد الحياة. بعد ذلك تأتي قصة جدتها، نعمت، وهي معلمة في مدرسة ابتدائية لديها عشرة أطفال، إحداهن كانت والدتها الممثلة هيام، التي اشتبكت خيارات حياتها (أن تصبح ممثلة وتذهب إلى المنفى) بعمق مع تقاليد والديها والتي لن تعيد الاتصال بعائلتها إلا بعد ولادة لينا”.
المخرجة تعرض قصص شريحة من النساء الفلسطينيات في عائلتها لتكشف نضالاتهن والشعور بقوتهن والحداد على خسائرهن
تكشف لقطات الأخبار والمواد الأرشيفية من عام 1948 عن المنازل المهجورة والدمار وخسائر التاريخ أثناء الانتقال إلى مستقبل غير مؤكد. تغطي سوالم عائلتها على مدى هذه الأجيال الأربعة، وهي قادرة على التأكيد بمهارة على كيفية تغير كل شيء. عن طريق الصور ومقاطع الفيديو (الخاصة والمتلفزة على حد سواء)، والرسائل، والقصائد (التي كتبتها هيام في سن المراهقة)، والنصوص المكتوبة وقرأتها والدتها، والرحلات الحالية إلى دير حنا وطبريا، تنسج لينا سوالم ببراعة خليطا احتفاليا مؤثرا للنساء في عائلتها.
يغمرنا الفيلم بروائح فلسطين وطيبة أهلها، ويتداخل الماضي والحاضر، ويتألق شعور قوي بالتراث والانتماء إليه. نراها تعود إلى مسرح الحكواتي في القدس حيث بدأت الممثلة هيام عباس حياتها المهنية في التمثيل وتصعد إلى المسرح لإعادة إنشاء مواجهات محورية مع والدها. في هذا الاستجواب الإبداعي للعائلة والذاكرة إعادة تمثيل اللحظة المتوترة من ماضيها، على مسرح الحكواتي حيث بدأت كممثلة، تعالج عباس المشاعر التي حملتها بعد مغادرة مسقط رأسها فلسطين إلى باريس.
تقول المخرجة لاحقا في التعليق الصوتي إن تعويذة والدتها المفضلة هي “لا تفتح البوابة للأحزان الماضية”. لكن فيلم “باي باي طبريا” هو “تمرين مشترك في فتح البوابة وزرع حدائق الماضي حتى تنمو الأجيال القادمة. وعلى الرغم من التقاليد والمجتمعات التي عاشوا فيها، فقد تمكنوا من التأثير على العالم من حولهم، ونقلوا الكثير من الأشياء إلى والدتي ونقلتها إلي بصفتي امرأة الآن، وليس طفلهما أو حفيدهما، أردت التواصل معهم على قدم المساواة واحتضان قوتهم وتعقيداتهم وتناقضاتهم وعيوبهم وأن أكون صادقة معهم”.
غالبا ما يكون تذكر الماضي مصدر حزن لهيام عباس، ولكن هناك فرحة واضحة في حبها لأمها وارتباطا وثيقا بإخوتها الكثيرين. إنها واحدة من عشرة الذين يشكلون نسيج العائلة ويلعبون أمام الكاميرات حيث تسجل لينا سوالم لحظة نادرة لعماتها وأعمامها معا.
خلال الفيلم تتبع المخرجة مسار تاريخ العائلة من خلال النساء اللواتي سبقنها، ويرغبن في سرد “ذكريات غير مرئية وصامتة”، وحسب قول المخرجة “يجعل هذا الفيلم من الممكن إعطاء دفعة إنسانية محرومة للفلسطينيين، شعب محروم من حقوقه، وحرم من هويته، ويجب عليه إعادة اختراع نفسه باستمرار واستعادة مكانه في العالم”. وأضافت سويلم “نحارب محو الهوية من خلال قصصنا، وهذه الصور تشكل دليلا على وجود يتم إنكاره”.
في الفيلم، تجسد المخرجة لينا الجيل الرابع من النساء الحاضرات على الشاشة، وأول من يولد خارج فلسطين. وتوثق ذكرى النساء في عائلتها؛ تاريخ المنفى والتجريد الذي واجهنه. من خلال سرد قصتهن، تستعيد الإرث الشخصي والتاريخي والبصري الذي ورثته. وتتبع مسار النساء في عائلتها كي تحارب المحو والنسيان؛ “لهذا السبب أشعر برغبة مستمرة في مشاركة هذه القصص. من خلال إعادة اختراع تاريخ عائلتي، آمل ألا أستعيد تراثي فحسب، بل أن أغتنم صور عالم يختفي بسرعة والحفاظ عليها. الصور التي تقف كدليل على وجود مرفوض“.
الذاكرة الجماعية
لينا سوالم، ابنة الفنانة الفلسطينية هيام عباس والمسرحي الجزائري زين الدين سوالم، مخرجة وممثلة فرنسية – فلسطينية – جزائرية، بعد دراسة التاريخ والعلوم السياسية في جامعة السوربون، بدأت العمل مبرمجة في المهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان في بوينس آيرس. تم عرض الفيلم الوثائقي الطويل الأول للينا لأول مرة في الجزائر في المهرجان السينمائي الدولي 2020.
حصلت الجزائر على جائزة السينما الأولى في المهرجان الدولي لفيلم البحر الأبيض المتوسط، وجائزة أفضل فيلم وثائقي عربي في مهرجان الجونة السينمائي، مثلت لينا في ثلاثة أفلام روائية من إخراج حفصية حزري وهيام عباس وريحانا. تعمل حاليا كمؤلفة في الأفلام الخيالية والأفلام الوثائقية والمسلسلات التلفزيونية، وعن زيارتها لطبريا قالت المخرجة لينا سوالم إنها كانت تذهب في طفولتها وانقطعت عن الزيارة، لكنها عادت تزورها مرة أخرى عند إنجاز الفيلم، وإن جدتها دوما عند الوصول إلى طبريا تبدأ في البكاء، وتتذكر تفاصيل حياتها الماضية في المدينة لذلك كان من المهم أن تصور ردود أفعالها لكي تستعيد ذكرياتها بالمكان.
وتقول لينا ساخرة “وكلّما نظرت إلى أرشيف الصور الضخم الذي تحتفظ به، وأُشاهد وجه جدّتي وجدّة أمّي ووجهها هي قبل 30 سنة، أُحاول أن أتخيّل ما الذي كنت سأحصل عليه، إذا ما وُلدتُ هناك وعشتُ في ذات الظروف، ربّما كانت حياتي ستأخذ منحى آخر لذا كان مهمّا للغاية أن أترابط مع قصّة حياتها”.
لا يلعب الرجال داخل عائلة سوالم أي دور في "باي باي طبريا"، ولا يتم ذكرهم إلا بشكل عابر
يستكشف “باي باي طبريا” دور الذاكرة الجماعية في نقل تراث المرء. تضحك الأخوات بفرح اللقاء وينظرن بأسى إلى الوراء إلى والدتهن الراحلة وأبيهن، اللذين يظهران في العديد من مقاطع الفيديو العائلية التي توثقها المخرجة لينا سوالم من خلال الفيلم. ينقل الفيلم صدى قصص مرونة الأخوات، وكذلك قصص والدة هيام عباس وجدتها. غالبا ما تجد المخرجة سوالم نفسها عائدة إلى صور بحر الجليل حيث جلبتها الإجازات العائلية على الرغم من طرد أجدادها من طبريا في عام 1948.
بغض النظر عن المكان الذي قد يقود إلى الحديث عن التاريخ أو السياسة أو الطموحات المهنية أو إلى تشتت العائلة، على الرغم من ذلك، يمكن للشخصية الرئيسية الممثلة هيام عباس دائما العثور على بوصلتها في دير حنا. إنها تعرف أي طريق هو الأردن وأي طريق هو لبنان، وأي أفراد الأسرة مشتتون بين تلك الحدود. تستكشف المخرجة حكمة والدتها البدوية، وتتتبع الرحلات وتجد نفسها على خطى النساء اللواتي سبقنها. إنه استكشاف لانتقال الذاكرة والفضاء والدراية والأنوثة والمقاومة. إنها رحلة عبر الحياة المختلفة للنساء الفلسطينيات اللواتي أصبح تجريدهن من ممتلكاتهن هو القاعدة.
الفيلم مؤثر بشكل كبير، سواء في لقطات الممثلة هيام الشابة التي تبدو متألمة في حفل زفاف عائلي، أو بعد سنوات، عندما تتذكر مقابلة عمتها حسنية في مخيم للاجئين السوريين. تعرفت حسنية على الفور على “رائحة العائلة” التي حرمت من الوصول إليها منذ فترة طويلة.
لا يلعب الرجال داخل عائلة سوالم أي دور في “باي باي طبريا”، ولا يتم ذكرهم إلا بشكل عابر. رغم أنها في شريطها الأول، “في الجزائر” تسرد لينا سوالم قصة والدها (الممثل زين الدين سوالم) وقصة أجدادها من أبويها. لذلك على الرغم من أنها لا تعطي وقتا للشاشة لوالدها في فيلمها الوثائقي الجديد، إلا أنها تقدم الامتنان للرجل الذي كان يحمل الكاميرا في الكثير من الأحيان والتي سجلت اللحظات المؤثرة من طفولتها. وحسب تصريح المخرجة لينا “أرادت أن تحكي قصة شعب جرد من حقوقه ويواجه النزوح والاحتلال والتجريد والمذبحة”، مضيفة “وعلى الرغم من كل شيء تمكنت النساء الفلسطينيات من نقل قيم الحب والكرم والتسامح والاحترام إلى أطفالهن”.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
علاء حسن
كاتب عراقي