الهَيجَانُ وَالْعَاطِفة
۱ - تحليل الهيجان وصفاته
بينا في الفصل السابق أن الحياة النفسية خضيبة باللذات والآلام ، ولم نتطرق بعد إلى البحث في الإنفعالات المركبة ، كالهيجان ، والعاطفة .
۱ - ما هو الهيجان : -- اختلف علماء النفس في دلالة هذه الكلمة ، فمنهم من وسع معناها فأطلقها على جميع الأحوال الإنفعالية من أولية ، ومركبة ، وخاصة ، وعامة . وجعلها مشتملة على اللذات والآلام ، وغيرها من الظواهر النفسية ، كما فعل ( بين ) و ( بول جانه ) ( ۱ ) . ومنهم من أطلق هذا اللفظ على الأحوال النفسية المركبة فقط ، كالخجل ، والندم ، ورعشة الحب ، والخوف ، والغضب ، وغير ذلك . وقد أخذ ( ريبو ) أيضاً بهذا الرأي الاخير ، وهو أقرب إلى الصواب من غيره ، إلا أننا سنفرق بين العاطفة والهيجان ، ونلحق بالهيجان بعض الاحوال النفسية المزمنة التي تحصل من تكرار الأحوال السابقة ( ٢ ) فتولد في النفس استعداداً لا يمكن إدراك حقيقة الهيجان إلا به .
وهذا مطابق لتقسيم اللذات والآلام إلى جسمانية ونفسانية . فالنفسانية هي التي تعبر عنها بكلمة هيجان أو تهيج أو إنفعال .
وقد فصل العلماء بين النفساني والجسماني من اللذات والآلام ، فقالوا : إن الجسماني يعلل بفاعلية فيسيولوجية ، أما النفساني فلا يعلل إلا بفاعلية نفسية .
وسنذكر في هذا الفصل شروط الهيجان ، ونبين نوع الفاعلية التي ينبغي تعليله بها .
ولعلنا اذ ذاك نجد تعليلاً واحداً للهيجانات ، واللذات ، والآلام ، جسمانية كانت أو نفسانية . خلافاً لعلم النفس القديم الذي يفرق كما رأيت بين الجسماني والنفساني من اللذات والآلام أي بين الهيجان والاحساس الانفعالي .
فالاحساس الانفعالي ( Sensation affective )
يشتمل أولاً على اللذات والآلام الجسمانية ، وثانياً على الاحساس بالجوع ، والعطش ، والحر ، والقمر ، والنشاط ، والتعب ، والاختناق ، وانشراح الصدر ، وغيرها من الاحساسات الداخلية . وجميع هذه الاحساسات ناشئة عن أسباب جدية ، وتبدلات عضوية . ونحن ندركها مباشرة ، كما ندرك اللذات والآلام كلها ، فهي اذن ذاتية لا يدركها مباشرة الا صاحبها .
أما الهيجان أو الاضطراب النفسي فلا يحدث إلا بعد التصور والتفكير ، وهو مصحوب بتغيرات جسدية ، مثال ذلك : إذا شتمت رجلاً وضربته امتعض حالاً واستشاط غيظاً . فالألم الذي شعر به بعد الضرب احساس ، والغيظ الذي احتدمت نفسه هیجان وعلى ذلك فالحزن والسرور والخوف ، والخجل كلها ميجانات أو انفعالات .
٢ - الاحساس والهيجان : - لقد فرق العلماء بين الاحساس الانفعالي والهيجان بالصفات التالية :
١ - إن علة الهيجان أي الانفعال فكرة ، أما علة الاحساس فهي تبدل في الجسد ، وبعبارة أخرى ان علة الهيجان نفسية مع أن علة الاحساس فيسيولوجية . وعلى ذلك فالخوف هيجان ، لأنه متولد من ادراك الخطر ، والشعور بالاحتراق احساس ، لانه ناشيء عن تمزق نج الأعصاب . وإذا قيل : قد تكون علة الخوف احساساً ، مثال ذلك : انك تخاف عندما ترى النار تلتهم بيتك ، قلنا : انك تخاف أيضا عندما تسمع الناس يستغيثون وينادون : الحريق الحريق ، يدل ذلك على أن الهيجان قد يعقب احساسات مختلفة ، هذا إذا رافق هذه الاحساسات المختلفة فكرة واحدة . وعكس ذلك صحيح أيضاً ، أي ان الاحساس قد يبقى واحداً ، وتختلف الفكرة المقارنة له ، فيختلف الهيجان المتولد منها . مثال ذلك : إن الانسان لا يخاف من الإسد إذا كان يعلم أن الضعف قد أثقل كاهله ، واناخ بكلكله عليه .
٢ - ليس من السهل تحديد موضع الهيجان في الجسد ، مع انه من السهل تعيين موضع الاحساس . فاذا شعر الإنسان بالم الاحتراق عرف المحل الذي يجد هذا الألم فيه . ولكن كيف يمكنه ان يعين موضع الحزن والغضب والاعجاب والحب . نعم ان اللغة تتضمن مجازات توهم بأن للهيجان موضعاً ، كقولهم : كادت كبده تتفطر من شدة الحزن ، وفي فؤاده غصة ، وشجاه الأمر وآلم قلبه ، وأبهجه ، وثلج به صدره ، حق اننا لنجعل القلب مركز العواطف ، والدماغ مركز العقل ، ونقول فيها فوق ذلك : لقد أضرمت قلبه ، وأصبت حبة قلبه ، فكأنه لا فرق بين الهيجان والإحساس من حيث تعلق كل منها بناحية من نواحي الجسد ـ ولكن علماء النفس يفرقون على الرغم من هذه الملاحظة بين الهيجان والاحساس فيقولون : إذا كانت التبدلات الفيسيولوجية في الاحساس علة ، فهي في الهيجان معلول ، لانها متولدة من الهيجان نفسه . مثال ذلك ان الجراح التي أصبت بها في يدي علة الالم الذي شعرت به . أما الخفقان الذي أشعر به في قلبي فهو متولد من الحب أو الخوف ، ولذلك كان موضع الاحساس علة ، وموضع الهيجان معلولاً ونتيجة .
٣ - الاحساس موقت يزول بزوال المؤثر ، أما الهيجان فقد يصبح دائما ، لانه تابع لفكرة يمكن احياؤها كل وقت بوساطة الذاكرة .
٤ - الاحساس ينتهي سريعاً بالتعب لان ملكاتنا الجسمانية وشهواتنا عاجزة عن الفعل باستمرار على عكس ملكاتنا العقلية والخلقية والجمالية ، فانه لا حد ولا نهاية للذات التي تتولد منها .
تلك هي الفوارق التي كان القدماء يذكرونها في الفصل بين الهيجان والاحساس . ولكن قسماً من علماء النفس المتأخرين أبطل هذه الفوارق القديمة فوحد الهيجان والاحساس من حيث تعلق كل منها بالجسد ، وسنعود إلى هذا البحث عند الكلام على طبيعة الهيجان .
٣- الهيجان والعاطفة : - يمكن تقسيم الهيجانات ، بحسب تأثيرها فينا إلى قسمين :
١ - الهيجانات المصادمة ( Emotion - choc )
۲ - الهيجانات الحسية أو الوجدانية ( Emotion - sentiment ) ) .
ونحن نسمي الأولى هيجاناً أو اضطراباً ، والثانية عاطفة .
فالهيجان ( المصادم ) يباغت النفس دفعة ، وهو أسرع من البرق ، لا بل هو في الأغلب مصحوب بالدهشة والحيرة . كالجبان ، الذي يخاف من الخطر ، فيضطرب ، ويرتعش ، وترتعد فرائصه فرقاً . أو كمن يفاجأ بموت صديق فيغتم ويحزن ، أو كمن تأتيه برقية غير منتظرة غير تجف عند استلامها . فمن صفات هذا الهيجان انه يستولي على النفس ويكسر في ذرع المرء ، فيظل كالمنزول به ، كأن في جسده موجة كهربائية ترتج لها احشاؤه ، وهو مربع العدوى كثير الانتقال والانتشار .
أما العاطفة فهي بطيئة الحدوث ، بطيئة الزوال ، كالغم ، والملالة ، والندم ، والامل وغير ذلك .
إلا ان هذا التقسيم اعتباري ، لأنه . يصعب في الغالب تعيين حدود كل من الهيجان والعاطفة . ولما كانت الهيجانات أموراً انفعالية ملائمة أو منافية ، كانت صفاتها شبيهة بصفات اللذات والآلام التي ذكرناها .
١ ) كيفية الهيجان . - الحزن والسرور يختلفان بالكيفية كما يختلف الوجل عن الخجل ، والغضب عن العجب .
۲ ) شدة الهيجان : تختلف الهيجانات بشدتها ، فمنها ما هو شديد ، ومنها ما هو خفيف ، فليس كل من الروعة ، والخشية ، والخوف ، والذعر ، بدرجة واحدة من الشدة .
٣ ) مدة الهيجان . - تختلف الهيجانات أيضاً بمدتها ، فمنها ما يزول بسرعة ، ومنها ما يدوم طويلا ، حتى لقد يتغير أثناء تطوره ، وينقلب إلى ضده في بعض الأمراض العصبية . و تهيج النفس
شبيه بعكر الماء . فكما أن الماء العكر لا يصفو إلا بالتدريج ، كذلك لا ينقلب كدر النفس إلى صفو ، ولا يزول اضطرابها إلا شيئاً فشيئاً .
ينتج من ذلك كله أن الهيجان نسبي ، فهو يتبدل بتبدل الكيفية ، والشدة ، والمدة ، وطبائع الاشخاص ، وتهيجاتهم السابقة ، فكلما كان الهيجان السابق أكثر مناقضة للهيجان اللاحق ، كان الهيجان اللاحق أوضح ، لأن الأشياء انما تتميز بإضدادها .
٤ ) - انتقال الهيجان : - ومن صفات الهيجان انه ينتقل من شخص إلى آخر بالعدوى فكلما كان عدد المصابين بالانفعال أعظم كان انتقال الهيجان أسرع وأقوى .
وقد ينتقل أيضاً من موضوع إلى آخر تبعاً لتداعي الأفكار ، فيؤثر في توليد الأحوال النفسية المركبة . مثال ذلك ؛ ان عاطفة العاشق تنتقل من المعشوق إلى رسائله ، وثيابه ، فيحب الرسالة لأنه يحب كاتبها ، ويعشق الدار لأنه يحب ساكنها . ولذلك قال ( ريبو ) : الانتقال هو نقل العاطفة من علتها الحقيقية إلى شيء آخر لا يحدثها بنفسه . فالعاطفة تتولد من الكتاب ، بل من مقارنة هذا الكتاب لذكرى كاتبه .
ولهذا الانتقال الانفعالي صورتان : الاقتران والمشابهة .
۱ - الانتقال الاقتراني : إذا اقترنت الصور النفسية بعضها ببعض ، وكانت مصحوبة بعاطفة خاضة ، فان كل صورة من هذه الصور المقارنة تولد العاطفة نفسها . واليك بعض الأمثلة :
آ ـ لقد حبب الي علم النبات سلسلة من الفكر المتتابعة التي تملأ مخيلتي ، وتذكرني بكل ما يلذ لها من الصور : المروج ، والمياه ، والغابات الغبياء ، والوحدة ، وبخاصة ما يجده الانسان في وسط هذه الأشياء من السلام والسكون . فهي تنقلني إلى تلك المساكن الهادئة بین أناس صالحين تعودوا البساطة كالذين عشت بينهم فيما مضى . وهي تذكرني صباي ولذاتي الطاهرة ) . جان جاك روسو ، أحلام المتنزه الوحيد ، آخر النزهة السابعة ) .
ب - كنت أسمع أحياناً صوت ( الرافع ) عند وصوله إلى الطابق الذي اسكنه ، فانتظر وقوفه ، وأحن اليه . فلا يقف أمام غرفتي ، بل يتابع صعوده إلى الطوابق العالية ، فيخيب أملي ، وينكسف بالي ، وأعلم أن من كنت أغذي النفس بانتظاره قد تركني اليوم وحدي . فصرت بعد ذلك إذا سمعت صوت الرافع تقسمتني الأحزان ، وأشجاني الهجران وآلم قلبي ، رغم أني لم أكن أنتظر أحداً ، . ( مارسل بروست ( 11. P. 40 Le côté des Guermantes
٢ - المشابهة : - إذا كانت الصور الذهنية متشابهة فان العاطفة التي تتولد من احداها تنتقل إلى الثانية . مثال ذلك : إن الأم تحب كل ولد يشبه ولدها . وكثيراً ما ترى شخصاً لأول مرة فتميل اليه لأنه مشابه لشخص تحبه . فالعاطفة قد انتقلت من الأول إلى الثاني حتى انها قد تعم عدة أمور متشابهة . ولعل العواطف الانسانية العامة لم تتولد إلا من توسيع حدود العاطفة الوطنية ، ونقل صلات المحبة من الجار القريب إلى الانسان البعيد لأن كلا منها مشابه للآخر في الانسانية المجردة .
ه - تحليل الهيجان . - إذا حللنا هيجان الخرف ، مثلاً وجدنا فيه ثلاثة عناصر :
١ ) العنصر الأول هو الفكرة ، وذلك ان الجبان يتصور الخطر المحدق به ، فيباغته الهم ، ويدهمه الخور ، ويشعر بالتوجس والتهيب .
٢ ) العنصر الثاني هو الاضطراب ، وذلك أن الجبان لا يطلع على الخطر إلا لترتعد فرائصه ، وتنبعثر نفسه ، ، وتتشوس عليه تصوراته ، فينقلب انسجامها إلى ارتباك ، وصفوها إلى كدر . فتارة تكون سريعة ، وأخرى بطيئة . وقد تتدفق ذكرياته كالسيل ، أو تخلو نفسه منها ، فيعجز عن توجيه أفكاره وضبطها ، ويستسلم لهذا التصور ، الذي عكر عليه صفوه ، وملك مشاعره .
٣ ) والعنصر الثالث الذي يصحب الخوف هو التبدل الفيسيولوجي ، لأن الجبان ممتقع اللون ، منخوب القلب ، منتفخ الرئة . كثير ضربات القلب ، مضطرب التنفس ، فيعرق ويبرد ، ويحس بقشعريرة في جسده الخ .
والهيجان اذن حالة انفعالية متولدة من فكرة ، ولذلك كانت عناصره أكثر اشتباكاً من عناصر اللذات والآلام الجسمانية ، وكلما كانت الحياة الفكرية أغنى كان الاستعداد للهيجان أقوى . وقد زعم بعضهم أن هناك أحوالاً مناقضة لهذا الرأي . مثال ذلك الطفل ، فهو قليل العناصر الذهنية ، كثير الهيجان ، ينتقل تباعاً من الحزن إلى السرور ، ومن السرور إلى الحزن . . وكذلك المرأة فهي أكثر انفعالاً من الرجل ، وأقل منه ميلا إلى التفكير المجرد . والمفكرون العظام معروفون بقلة الانفعال والهيجان .
الا أن العلماء لم يعدلوا قط عن الموازنة بين الهيجان والملكات الفكرية ، ففرقوا بين الهيجان وظواهره ، وقالوا أن المرأة ليست أكثر تهيجاً من الرجل ، وانما هي أكثر منه تعبيراً عن تهيجاتها . . و كذلك الطفل فهو أقل هيجاناً من الراشد ، لأن خوفه ، وغضبه ، وحزنه ، وسروره على نمط واحد . فلا : تهيجه الأمور السياسية ، والوطنية ، والعلمية ، والنفسية ، والدينية ، ولا يدرك لها معنى . واذن كلما نمت الحياة العقلية نما الاستعداد للهيجان وتنوع . وقد يمتعض الإنسان ويضطرب في صميم قلبه من غير أن يظهر ذلك عليه . فالهيجان شيء واظهار الهيجان شيء آخر . وهذا حكم سائر الرجال العظام الذين ينفعلون من غير أن يظهروا انفعالهم .
فليست حساسيتهم سطحية ، وانما هي عميقة دفينة الشوق بهزهم ، والجمال يستفزهم ، الا أنهم لا يتحركون ، لقوة ارادتهم ، ورباطة جأشهم .
۱ - تحليل الهيجان وصفاته
بينا في الفصل السابق أن الحياة النفسية خضيبة باللذات والآلام ، ولم نتطرق بعد إلى البحث في الإنفعالات المركبة ، كالهيجان ، والعاطفة .
۱ - ما هو الهيجان : -- اختلف علماء النفس في دلالة هذه الكلمة ، فمنهم من وسع معناها فأطلقها على جميع الأحوال الإنفعالية من أولية ، ومركبة ، وخاصة ، وعامة . وجعلها مشتملة على اللذات والآلام ، وغيرها من الظواهر النفسية ، كما فعل ( بين ) و ( بول جانه ) ( ۱ ) . ومنهم من أطلق هذا اللفظ على الأحوال النفسية المركبة فقط ، كالخجل ، والندم ، ورعشة الحب ، والخوف ، والغضب ، وغير ذلك . وقد أخذ ( ريبو ) أيضاً بهذا الرأي الاخير ، وهو أقرب إلى الصواب من غيره ، إلا أننا سنفرق بين العاطفة والهيجان ، ونلحق بالهيجان بعض الاحوال النفسية المزمنة التي تحصل من تكرار الأحوال السابقة ( ٢ ) فتولد في النفس استعداداً لا يمكن إدراك حقيقة الهيجان إلا به .
وهذا مطابق لتقسيم اللذات والآلام إلى جسمانية ونفسانية . فالنفسانية هي التي تعبر عنها بكلمة هيجان أو تهيج أو إنفعال .
وقد فصل العلماء بين النفساني والجسماني من اللذات والآلام ، فقالوا : إن الجسماني يعلل بفاعلية فيسيولوجية ، أما النفساني فلا يعلل إلا بفاعلية نفسية .
وسنذكر في هذا الفصل شروط الهيجان ، ونبين نوع الفاعلية التي ينبغي تعليله بها .
ولعلنا اذ ذاك نجد تعليلاً واحداً للهيجانات ، واللذات ، والآلام ، جسمانية كانت أو نفسانية . خلافاً لعلم النفس القديم الذي يفرق كما رأيت بين الجسماني والنفساني من اللذات والآلام أي بين الهيجان والاحساس الانفعالي .
فالاحساس الانفعالي ( Sensation affective )
يشتمل أولاً على اللذات والآلام الجسمانية ، وثانياً على الاحساس بالجوع ، والعطش ، والحر ، والقمر ، والنشاط ، والتعب ، والاختناق ، وانشراح الصدر ، وغيرها من الاحساسات الداخلية . وجميع هذه الاحساسات ناشئة عن أسباب جدية ، وتبدلات عضوية . ونحن ندركها مباشرة ، كما ندرك اللذات والآلام كلها ، فهي اذن ذاتية لا يدركها مباشرة الا صاحبها .
أما الهيجان أو الاضطراب النفسي فلا يحدث إلا بعد التصور والتفكير ، وهو مصحوب بتغيرات جسدية ، مثال ذلك : إذا شتمت رجلاً وضربته امتعض حالاً واستشاط غيظاً . فالألم الذي شعر به بعد الضرب احساس ، والغيظ الذي احتدمت نفسه هیجان وعلى ذلك فالحزن والسرور والخوف ، والخجل كلها ميجانات أو انفعالات .
٢ - الاحساس والهيجان : - لقد فرق العلماء بين الاحساس الانفعالي والهيجان بالصفات التالية :
١ - إن علة الهيجان أي الانفعال فكرة ، أما علة الاحساس فهي تبدل في الجسد ، وبعبارة أخرى ان علة الهيجان نفسية مع أن علة الاحساس فيسيولوجية . وعلى ذلك فالخوف هيجان ، لأنه متولد من ادراك الخطر ، والشعور بالاحتراق احساس ، لانه ناشيء عن تمزق نج الأعصاب . وإذا قيل : قد تكون علة الخوف احساساً ، مثال ذلك : انك تخاف عندما ترى النار تلتهم بيتك ، قلنا : انك تخاف أيضا عندما تسمع الناس يستغيثون وينادون : الحريق الحريق ، يدل ذلك على أن الهيجان قد يعقب احساسات مختلفة ، هذا إذا رافق هذه الاحساسات المختلفة فكرة واحدة . وعكس ذلك صحيح أيضاً ، أي ان الاحساس قد يبقى واحداً ، وتختلف الفكرة المقارنة له ، فيختلف الهيجان المتولد منها . مثال ذلك : إن الانسان لا يخاف من الإسد إذا كان يعلم أن الضعف قد أثقل كاهله ، واناخ بكلكله عليه .
٢ - ليس من السهل تحديد موضع الهيجان في الجسد ، مع انه من السهل تعيين موضع الاحساس . فاذا شعر الإنسان بالم الاحتراق عرف المحل الذي يجد هذا الألم فيه . ولكن كيف يمكنه ان يعين موضع الحزن والغضب والاعجاب والحب . نعم ان اللغة تتضمن مجازات توهم بأن للهيجان موضعاً ، كقولهم : كادت كبده تتفطر من شدة الحزن ، وفي فؤاده غصة ، وشجاه الأمر وآلم قلبه ، وأبهجه ، وثلج به صدره ، حق اننا لنجعل القلب مركز العواطف ، والدماغ مركز العقل ، ونقول فيها فوق ذلك : لقد أضرمت قلبه ، وأصبت حبة قلبه ، فكأنه لا فرق بين الهيجان والإحساس من حيث تعلق كل منها بناحية من نواحي الجسد ـ ولكن علماء النفس يفرقون على الرغم من هذه الملاحظة بين الهيجان والاحساس فيقولون : إذا كانت التبدلات الفيسيولوجية في الاحساس علة ، فهي في الهيجان معلول ، لانها متولدة من الهيجان نفسه . مثال ذلك ان الجراح التي أصبت بها في يدي علة الالم الذي شعرت به . أما الخفقان الذي أشعر به في قلبي فهو متولد من الحب أو الخوف ، ولذلك كان موضع الاحساس علة ، وموضع الهيجان معلولاً ونتيجة .
٣ - الاحساس موقت يزول بزوال المؤثر ، أما الهيجان فقد يصبح دائما ، لانه تابع لفكرة يمكن احياؤها كل وقت بوساطة الذاكرة .
٤ - الاحساس ينتهي سريعاً بالتعب لان ملكاتنا الجسمانية وشهواتنا عاجزة عن الفعل باستمرار على عكس ملكاتنا العقلية والخلقية والجمالية ، فانه لا حد ولا نهاية للذات التي تتولد منها .
تلك هي الفوارق التي كان القدماء يذكرونها في الفصل بين الهيجان والاحساس . ولكن قسماً من علماء النفس المتأخرين أبطل هذه الفوارق القديمة فوحد الهيجان والاحساس من حيث تعلق كل منها بالجسد ، وسنعود إلى هذا البحث عند الكلام على طبيعة الهيجان .
٣- الهيجان والعاطفة : - يمكن تقسيم الهيجانات ، بحسب تأثيرها فينا إلى قسمين :
١ - الهيجانات المصادمة ( Emotion - choc )
۲ - الهيجانات الحسية أو الوجدانية ( Emotion - sentiment ) ) .
ونحن نسمي الأولى هيجاناً أو اضطراباً ، والثانية عاطفة .
فالهيجان ( المصادم ) يباغت النفس دفعة ، وهو أسرع من البرق ، لا بل هو في الأغلب مصحوب بالدهشة والحيرة . كالجبان ، الذي يخاف من الخطر ، فيضطرب ، ويرتعش ، وترتعد فرائصه فرقاً . أو كمن يفاجأ بموت صديق فيغتم ويحزن ، أو كمن تأتيه برقية غير منتظرة غير تجف عند استلامها . فمن صفات هذا الهيجان انه يستولي على النفس ويكسر في ذرع المرء ، فيظل كالمنزول به ، كأن في جسده موجة كهربائية ترتج لها احشاؤه ، وهو مربع العدوى كثير الانتقال والانتشار .
أما العاطفة فهي بطيئة الحدوث ، بطيئة الزوال ، كالغم ، والملالة ، والندم ، والامل وغير ذلك .
إلا ان هذا التقسيم اعتباري ، لأنه . يصعب في الغالب تعيين حدود كل من الهيجان والعاطفة . ولما كانت الهيجانات أموراً انفعالية ملائمة أو منافية ، كانت صفاتها شبيهة بصفات اللذات والآلام التي ذكرناها .
١ ) كيفية الهيجان . - الحزن والسرور يختلفان بالكيفية كما يختلف الوجل عن الخجل ، والغضب عن العجب .
۲ ) شدة الهيجان : تختلف الهيجانات بشدتها ، فمنها ما هو شديد ، ومنها ما هو خفيف ، فليس كل من الروعة ، والخشية ، والخوف ، والذعر ، بدرجة واحدة من الشدة .
٣ ) مدة الهيجان . - تختلف الهيجانات أيضاً بمدتها ، فمنها ما يزول بسرعة ، ومنها ما يدوم طويلا ، حتى لقد يتغير أثناء تطوره ، وينقلب إلى ضده في بعض الأمراض العصبية . و تهيج النفس
شبيه بعكر الماء . فكما أن الماء العكر لا يصفو إلا بالتدريج ، كذلك لا ينقلب كدر النفس إلى صفو ، ولا يزول اضطرابها إلا شيئاً فشيئاً .
ينتج من ذلك كله أن الهيجان نسبي ، فهو يتبدل بتبدل الكيفية ، والشدة ، والمدة ، وطبائع الاشخاص ، وتهيجاتهم السابقة ، فكلما كان الهيجان السابق أكثر مناقضة للهيجان اللاحق ، كان الهيجان اللاحق أوضح ، لأن الأشياء انما تتميز بإضدادها .
٤ ) - انتقال الهيجان : - ومن صفات الهيجان انه ينتقل من شخص إلى آخر بالعدوى فكلما كان عدد المصابين بالانفعال أعظم كان انتقال الهيجان أسرع وأقوى .
وقد ينتقل أيضاً من موضوع إلى آخر تبعاً لتداعي الأفكار ، فيؤثر في توليد الأحوال النفسية المركبة . مثال ذلك ؛ ان عاطفة العاشق تنتقل من المعشوق إلى رسائله ، وثيابه ، فيحب الرسالة لأنه يحب كاتبها ، ويعشق الدار لأنه يحب ساكنها . ولذلك قال ( ريبو ) : الانتقال هو نقل العاطفة من علتها الحقيقية إلى شيء آخر لا يحدثها بنفسه . فالعاطفة تتولد من الكتاب ، بل من مقارنة هذا الكتاب لذكرى كاتبه .
ولهذا الانتقال الانفعالي صورتان : الاقتران والمشابهة .
۱ - الانتقال الاقتراني : إذا اقترنت الصور النفسية بعضها ببعض ، وكانت مصحوبة بعاطفة خاضة ، فان كل صورة من هذه الصور المقارنة تولد العاطفة نفسها . واليك بعض الأمثلة :
آ ـ لقد حبب الي علم النبات سلسلة من الفكر المتتابعة التي تملأ مخيلتي ، وتذكرني بكل ما يلذ لها من الصور : المروج ، والمياه ، والغابات الغبياء ، والوحدة ، وبخاصة ما يجده الانسان في وسط هذه الأشياء من السلام والسكون . فهي تنقلني إلى تلك المساكن الهادئة بین أناس صالحين تعودوا البساطة كالذين عشت بينهم فيما مضى . وهي تذكرني صباي ولذاتي الطاهرة ) . جان جاك روسو ، أحلام المتنزه الوحيد ، آخر النزهة السابعة ) .
ب - كنت أسمع أحياناً صوت ( الرافع ) عند وصوله إلى الطابق الذي اسكنه ، فانتظر وقوفه ، وأحن اليه . فلا يقف أمام غرفتي ، بل يتابع صعوده إلى الطوابق العالية ، فيخيب أملي ، وينكسف بالي ، وأعلم أن من كنت أغذي النفس بانتظاره قد تركني اليوم وحدي . فصرت بعد ذلك إذا سمعت صوت الرافع تقسمتني الأحزان ، وأشجاني الهجران وآلم قلبي ، رغم أني لم أكن أنتظر أحداً ، . ( مارسل بروست ( 11. P. 40 Le côté des Guermantes
٢ - المشابهة : - إذا كانت الصور الذهنية متشابهة فان العاطفة التي تتولد من احداها تنتقل إلى الثانية . مثال ذلك : إن الأم تحب كل ولد يشبه ولدها . وكثيراً ما ترى شخصاً لأول مرة فتميل اليه لأنه مشابه لشخص تحبه . فالعاطفة قد انتقلت من الأول إلى الثاني حتى انها قد تعم عدة أمور متشابهة . ولعل العواطف الانسانية العامة لم تتولد إلا من توسيع حدود العاطفة الوطنية ، ونقل صلات المحبة من الجار القريب إلى الانسان البعيد لأن كلا منها مشابه للآخر في الانسانية المجردة .
ه - تحليل الهيجان . - إذا حللنا هيجان الخرف ، مثلاً وجدنا فيه ثلاثة عناصر :
١ ) العنصر الأول هو الفكرة ، وذلك ان الجبان يتصور الخطر المحدق به ، فيباغته الهم ، ويدهمه الخور ، ويشعر بالتوجس والتهيب .
٢ ) العنصر الثاني هو الاضطراب ، وذلك أن الجبان لا يطلع على الخطر إلا لترتعد فرائصه ، وتنبعثر نفسه ، ، وتتشوس عليه تصوراته ، فينقلب انسجامها إلى ارتباك ، وصفوها إلى كدر . فتارة تكون سريعة ، وأخرى بطيئة . وقد تتدفق ذكرياته كالسيل ، أو تخلو نفسه منها ، فيعجز عن توجيه أفكاره وضبطها ، ويستسلم لهذا التصور ، الذي عكر عليه صفوه ، وملك مشاعره .
٣ ) والعنصر الثالث الذي يصحب الخوف هو التبدل الفيسيولوجي ، لأن الجبان ممتقع اللون ، منخوب القلب ، منتفخ الرئة . كثير ضربات القلب ، مضطرب التنفس ، فيعرق ويبرد ، ويحس بقشعريرة في جسده الخ .
والهيجان اذن حالة انفعالية متولدة من فكرة ، ولذلك كانت عناصره أكثر اشتباكاً من عناصر اللذات والآلام الجسمانية ، وكلما كانت الحياة الفكرية أغنى كان الاستعداد للهيجان أقوى . وقد زعم بعضهم أن هناك أحوالاً مناقضة لهذا الرأي . مثال ذلك الطفل ، فهو قليل العناصر الذهنية ، كثير الهيجان ، ينتقل تباعاً من الحزن إلى السرور ، ومن السرور إلى الحزن . . وكذلك المرأة فهي أكثر انفعالاً من الرجل ، وأقل منه ميلا إلى التفكير المجرد . والمفكرون العظام معروفون بقلة الانفعال والهيجان .
الا أن العلماء لم يعدلوا قط عن الموازنة بين الهيجان والملكات الفكرية ، ففرقوا بين الهيجان وظواهره ، وقالوا أن المرأة ليست أكثر تهيجاً من الرجل ، وانما هي أكثر منه تعبيراً عن تهيجاتها . . و كذلك الطفل فهو أقل هيجاناً من الراشد ، لأن خوفه ، وغضبه ، وحزنه ، وسروره على نمط واحد . فلا : تهيجه الأمور السياسية ، والوطنية ، والعلمية ، والنفسية ، والدينية ، ولا يدرك لها معنى . واذن كلما نمت الحياة العقلية نما الاستعداد للهيجان وتنوع . وقد يمتعض الإنسان ويضطرب في صميم قلبه من غير أن يظهر ذلك عليه . فالهيجان شيء واظهار الهيجان شيء آخر . وهذا حكم سائر الرجال العظام الذين ينفعلون من غير أن يظهروا انفعالهم .
فليست حساسيتهم سطحية ، وانما هي عميقة دفينة الشوق بهزهم ، والجمال يستفزهم ، الا أنهم لا يتحركون ، لقوة ارادتهم ، ورباطة جأشهم .
تعليق