"يمام الرؤى".. قصائد تستلهم التراث الإسلامي وأساطير الإنسان
الشاعر المصري محمد عبدالستار الدش يكتب قصيدته الرمزية دون مبالغات.
الأحد 2023/12/31
ShareWhatsAppTwitterFacebook
رؤية متجددة للوجود (لوحة للفنان بسام ناصر)
تحفل قصائد التفعيلة بمساحات هامة للتجريب لا في الوزن والإيقاع الخارجي فحسب، بل كذلك في الإيقاع الداخلي والاستلهام من الأساطير والتناص مع النصوص المؤسسة في الحضارة الإسلامية مثل النص المقدس، وغيرها من تقاطعات أجاد الشعراء ترسيخها بامتياز، ومن هؤلاء الشاعر المصري محمد عبدالستار الدش.
بعد أن استقرت قصيدة الشكل التفعيلي بعض الشيء على أيدي رواد هذا الشكل في مصر وبعض البلاد العربية، وبعد أن أسهم شعراء الموجة الثانية لهذا الشكل من أمثال: أمل دنقل ومحمد إبراهيم أبوسنة وفاروق شوشة وأحمد سويلم ومحمد عفيفي مطر ومحمد فهمي سند ومحمد أبودومة وبدر توفيق وغيرهم، ـ بعد أن أسهموا ـ في شيوع هذا الشكل الشعري من خلال أعمالهم المتتالية، وبعد أن ثبتت دعائم الشكل الجديد، خرج علينا بعض شعراء السبعينات بمغامرات شكلية جديدة، تضيف إلى الشكل التفعيلي الذي كان سائدا في الخمسينات والستينات، فجاءت موجة جديدة في بحر الشعر العربي الجديد.
من عباءة هذه الموجة وما تلاها من موجات يخرج علينا الشاعر محمد عبدالستار الدش بديوانه الجميل “يمام الرؤى” مختصرا تجارب عديدة في حيز صغير، منفذا وصية النفري “كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة”، مستفيدا من إنجازات جيله الشعرية وما سبقه من إنجازات وإضافات إلى شكل القصيدة العربية وأيضا مضمونها.
قصائد مكثفة
هناك توظيفات لقصص قرآنية كثيرة في قصائد الديوان نذكر منها قصة موسى عليه السلام وهاجر وإبراهيم وغيرها
نتوقف أولا عند اسم الديوان “يمام الرؤى”، فاليمام ـ كما قال لسان العرب ـ طائر، وقيل: هو أعمّ من الحمام، وقيل هو ضربٌ منه، وقيل: اليمام الذي يستفرخ، والحمام هو البري الذي لا يألف البيوت، وقيل: اليمام البري من الحمام الذي لا طوق له. وقال الجوهري ـ صاحب الصحاح ـ اليمام: الحمام الوحشي، الواحدة يمامة. وقال الكسائي: اليمامة هي التي تألف البيوت. والياموم: فرخ الحمامة كأنه من اليمامة.
وأيا كان الأمر من ألفة اليمام للبيوت أو عدم ألفتها، فقد استطاع الدش أن يجعل لهذا اليمام رؤى شعرية، بل هو يضيف الرؤى إلى اليمام ليصبح العنوان الدال “يمام الرؤى” وليس “رؤى اليمام”، وبالتأكيد هناك فرق بين المعنيين ودلالتهما، خاصة أننا لم نجد ـ وكما تعودنا في دواوين شعرية كثيرة ـ عنوانا لإحدى قصائد الديوان ـ الست والثلاثين ـ تحمل هذا العنوان الدال، ولكننا وجدنا قصيدة بعنوان “بعض من يمام الغيوم” (ص 13) وهذا العنوان من نسيج عنوان الديوان نفسه، حيث الغيوم مضافة إلى اليمام، وليس العكس، أي ليس غيوم اليمام.
يتناثر اليمام والحمام في قصائد كثيرة من الديوان مثل قول الشاعر: هل تجيء اليمامات/ تبحث عن مأمن في دمي (ص29) الحمام الشديد البياض (ص 33) تبيض الحمامة (ص 47) حمام الجنة (ص93) وباض الحمام (ص 113) .. الخ. وعلى الرغم من كل هذا البث الشعري الذي بثه الشاعر إلى اليمام أو الحمام، وعلى الرغم من اتخاذه معادلا موضوعيا أحيانا أخرى، ورمزا شفافا في أحايين أخر، وحاملا لرؤاه الشعرية في جميع الأحوال، فإن هذا اليمام أو الحمام يخذله في نهاية الأمر، أو في نهاية الديوان، يقول الشاعر: “قالت: ..أطربني/ غنيت لوجعي/ طارت،/ وتوسدني الشوك”.
وعلى الرغم من أن عنوان هذه القصيدة الأخيرة “نجمة”، وفي مطلعها يقول الشاعر “رقرقت الكلمات على قمة شجرة”، إلا أن استبدال النجمة والكلمة بيمامة أو حمامة ـ عند التلقي ـ لا يفسد المعنى الشعري، خاصة أن الكلمات أحيانا تشبّه بالنجوم أو بالحمام واليمام، وإذا قمنا باستعارة عنوان الديوان “يمام الرؤى” وطبقناه على هذه القصيدة الأخيرة لاتسع المدلول أكثر مما ذهبنا إليه الآن.
لم يثرثر الشاعر في هذا الديوان كثيرا، لذا جاءت معظم قصائده قصيرة محكمة الإغلاق، شديدة التكثيف والترميز، وهو لم يهدر مكتسبات القصيدة الحديثة، بالهبوط بها إلى درك النثر غير الفني، كما نلاحظ عند عدد من شعراء جيله الذين لم تكتملْ لديهم الأداة والرؤية، فلجأوا إلى ما يسمّى بقصيدة النثر، وهو يتكئ على تراث شعري عريض وممتد ويستفيد من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، ويستوحي الكثير من مفرداتهما وقصصهما ويوظفهما بطريقة غير تقليدية، مثلما عهدناه عند شعراء آخرين.
على سبيل المثال عندما يراجع الشاعر قصة هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر الصديق، فإنه يحدثنا عنها بطريقته هو، وقبل أن نذهب في رؤيتنا الخاصة لهذه القصيدة المتميزة، نضعها بين أيدي القارئ: يمرون/ فوق عباب النخيل/ بأحذية تقتل الفرح المتخلق/ يسقط حزنا جنيا/ يسيل على الأرض غارا/ تبيض الحمامة/ والغيم فوق الرؤوس جمد/ يمرون/ فوق سماء الصغار/ بماء من المهل/ يشوي النجوم الزكية/ والأعين الناظرات/ لأفق جميل/ يماثل فيه الصغار الديوك/ فيخرج ناسٌ إلى قبلة الفجر/ والنهر يطرح نوما/ ليحتضن القادمين/ يمرون/ فوق الحقول/ نيازك تخطف أوردة الطيبين/ يدوسون سلمى/ تعالج تحت النخيل جراحا/ وتسرج أقمارها للصغار/ وتشغل “طاقية”/ بالفؤاد الخصيب تقبلها/ في انتظار المسافر/ تثمر/ توتا/ وأغنية/ وندى/ يمرون/ لا يسمعون/ يمرون/ لا يبصرون/ يمرون/ فوق دمي”.
كما نرى فإن الشاعر وضع عدسته الشعرية في بؤرة هذا الحدث الجلل الذي غيّر مجرى التاريخ البشري، والتقط زوايا جديدة لم يحفلْ بها كثيرٌ ممن تناولوا قصة الهجرة من قبل، فقد ركز الشاعر جل اهتمامه على صورة الطرف الآخر، الكفر مقابل الإيمان.
على الرغم من اتكاء الشاعر على تراث إسلامي عريق وممتد في الزمان والمكان، فإنه مازال يبحث عن هوية له
فهو يصف الكفار الذين خرجوا في طلب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه، بأنهم يمرون فوق عباب النخيل، يدوسون فوق الفرح المتخلق في أحداق الكون جراء هجرة الرسول لإقامة الدولة الإسلامية الجديدة في المدينة المنورة، ولكن هذا المرور الذي أحس به أبوبكر الصديق خلّف حزنا جنيا في قلبه شعر به الرسول الكريم فقال قولته الشهيرة: “لا تحزن إن الله معنا”. وعند وقوف الكفار فوق غار ثور باضت الحمامة وعشش العنكبوت وجمد الغيم في الرؤوس. إنهم في مرورهم هذا وطلبهم رأس محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدوسون “سلمى”، وسلمى هنا رمز التراث العربي والحضارة العربية والشعر العربي القديم، إنهم يدوسون كل شيء، ويقتلون كل حلم، وكل رمز أصيل، فالكفر قد أعمى قلوبهم.
وسلمى هذا الرمز العربي الأصيل، على الرغم من جراحاتها المتتالية، فإنها تجلس في انتظار الرسول وصاحبه لتستقبله بالأغنيات والفاكهة والخير. ومازال الكفار يمرون على الغار وهم لا يسمعون ولا يبصرون.
هكذا أرى قصيدة “يمرون” التي تفككت رموزها من خلال ما قدمه لنا الشاعر من مفردات مثل: الحزن، الغار، الحمامة، سلمى، أغنية، غير أن هناك رمزا آخر أجدني في موقف المتسائل عنه، وهو رمز “الطاقية” في قول الشاعر “وتشغل طاقية”، وهو رمز ينقلنا إلى بينلوب زوجة أودوسيوس في أوديسة هوميروس، والتي كانت تقوم بغزل الثوب ثم تنقض غزلها إلى حين عودة زوجها من أسره في حرب طروادة، رفضا لمن يتقدم لخطبتها (على اعتبار أن زوجها لن يعود) فتتعلل بأنه من الممكن أن تقبله زوجا شريطة أن تنتهي من غزل الثوب، ولكن إحساسها كان يخبرها أن أودوسيوس لا بد عائد.
أيضا من الممكن لهذه القصيدة أن تقرأ قراءة أخرى، كأن يقال مثلا إن الضمير المستتر في “يمرون” يعود على اليهود، وأن سلمى رمز الأمة العربية تنسج الطاقية انتظارا لمن يخلصها من الاحتلال الإسرائيلي الغاشم.
هكذا تتعدد القراءات والتأويلات للعمل الشعري الجيد، وما أكثر الجيد في ديوان “رؤى اليمام”.
التراث والأساطير
الشاعر لم يثرثر في هذا الديوان كثيرا لذا جاءت معظم قصائده قصيرة محكمة الإغلاق، شديدة التكثيف والترميز
زاوية أخرى ومعالجة جديدة لقصة هاجر وإسماعيل، لم نقرأ لها مثيلا في ديوان الشعر العربي المعاصر. يقول الشاعر مستثمرا أحداث هذه القصة التي غيرت بدورها مجرى التاريخ الإنساني، ومستنبطا حكمة جديدة من واقع هذه القصة:
“تمْرٌ يعتمد على الوقت/ الوقت يضج،/ ويقطع سبعة أشواط/ بين القفر وبين الصحراء/ فتخرج من تحت القدمين/ العين الدافئة/ يسيل،/ يشق طريقا للبحر/ ويترك للتمْر البر،/ ويرسل من موطنه/ باقة ورد: حاولْ/ أن تصنع شيئا لحياتك/ غير الموت” (حياة، ص 105).
إن الحكمة التي يستخرجها أو يستنبطها الشاعر من هذه القصة الفريدة تتلخص في قوله “حاولْ أن تصنع شيئا لحياتك غير الموت”. فقد ترك إبراهيم عليه السلام ـ بوحي من الله تعالى ـ هاجر وإسماعيل في واد بغير ذي زرع، وفي مواجهة الموت، ولكنهما لم يستسلما لقسوة الصحراء، وطبول الموت التي تقرع في تلك البقعة النائية، وحاولت هاجر وطافت وسعت وجرت وصنعت بعد أن تفجرت بئر زمزم تحت قدمي الطفل إسماعيل ـ بفضل من الله ـ حياة وأسست أمة خرج من صلبها أفضل خلق الله كلهم عليه الصلاة والسلام. وكانت الرسالة أو باقة الورد التي أرسلتها هاجر إلى العالم ـ والتي مازالت تتردد أصداؤها في جنبات الكون حتى الآن ـ عبارة عن الحكمة التي وضع الشاعر يده عليها بمهارة “حاولْ أن تصنع شيئا لحياتك غير الموت”. وأعتقد أن الرموز الشفيفة في هذه القصيدة أوضح نوعا من رموز القصيدة السابقة التي حيرتنا فيها “الطاقية”. وأعتقد أيضا أن الشاعر كان موفقا في استخدامه لرمز “التمر” الذي تدل عليه الآية الكريمة.
أيضا هناك توظيفات لقصص قرآنية أخرى في قصائد الديوان، نذكر منها قصة موسى عليه السلام، ولعلها تكون من أهم ما لفت انتباه الشاعر ووظفه في بعض قصائده، فيقول على سبيل المثال: العصا في يميني فألقيتها / تلقف الزحف نحوي (ص 16). وللروض أسئلةٌ / ومآرب أخرى (ص 25).
وبالإضافة إلى ذلك فهناك الكثير من الألفاظ القرآنية التي وظفها الشاعر مثل: ماء من المهل يشوي/ 47. يطعمهم من جوع/ يحميهم من خوف /66. فقرأت كتابي/ 66. من كل زوجان اثنان /93. الجب / 93. جاء من أقصى المدينة /109. طير أبابيل /121. أنذرني للعمر/ 134.. الخ.
ومثلما يوظف الشاعر المفردات القرآنية والحديثية، فإنه يلجأ أحيانا إلى توظيف بعض الأساطير الغربية القديمة، مثل أسطورة سيزيف في قصيدة “سفر” والتي كانت عن الراحل جمال حمدان، فيقول: يستطيب الصخور على ظهره/ في طريق الصعود/ يدحرج للقاع/ لا يعرف الآن كيف النهوض”.
كما أشرنا من قبل إلى قصة بينلوب وأوديسة هوميروس.
وعلى الرغم من اتكاء الشاعر على تراث إسلامي عريق وممتد في الزمان والمكان، فإنه مازال يبحث عن هوية له، إنه يحس أحيانا ـ نتيجة العولمة والانفتاح والغزو الفكري ـ بتمييع في الشخصية المصرية، فيعبر عن ذلك في قصيدة “مرآة”، ـ وهي تعد من أهم قصائد الديوان ـ بقوله “شيء وهمي يتماوج في المرآة أمامي/ بعض ملامحه هيروغليفية/ والبعض الآخر/ زغبٌ في العصر الإسلامي/ شيءٌ وهمي يسقط في المرآة أمامي/ لا ثوب عليه/ ولا رؤيا للآتي تحميه/ يطأطئ/ يتكسر/ أضحك/ وجموع الناس/ تدوس على وجهي/ وتمد أياد/ أضحك/ تضحك/ نضحك/ ووجوه الناس تكسر قدامي”.
الطيور والزهور
هناك ظاهرة طريفة في هذا الديوان وهي كثرة أسماء الطيور ـ فبالإضافة إلى اليمام والحمام ـ، هناك: الغراب (هل الآن أتركها للغراب/ ص15) الرخ (فهل طائر الرخ خادع هذا الوفاق/ وطار بهم / 34) الطواويس (الطواويس تدخل ماء السماء/ 37) الذباب (وذبابة / وقفت تراقبنا وتضحك/ 43 تطن ذبابة عرجاء في الميدان/ 163) الديوك (أفق جميل يماثل فيه الصغار الديوك /48) الجراد (على مركب الصحو /هذا الجراد/ 89) العنكبوت (ينسج تفاحة العنكبوت/89) العصافير (يجيء المساء إلى دراهم / فتغشى العصافير هيئته / 97 عصفور الوقت/ 139 “عصفورة “عنوان قصيدة”/ 171). الخفاش (أخشى إن وصل إليه الخفاش / تخفش/ 134 ـ 135) البلابل (تعزل روح السطور البلابل/ 147) الفراشة (تطير فراشة الإخصاب / 163).
كما أن هناك كلمة الطيور بعامة مثل: ثم أطلقت الطيور إلى الجهات/ فلم تغب / ص21. في مناقير الطيور العائدة / 56. النخل مصطف وطير واقف /61. أتمايل في ملكوت الساحة طيرا أخضر/66. هذي الطيور تفزع /71. يرق الطير /101. طيور على البعد تبكي /113. طير أبابيل /121. هل يجد الأطيار تسانده أم ..؟/136. الطير تسبح /147).
أيضا كثر في الديوان استخدام بعض أنواع الزهور والورود، مثل: الفل والرياحين، ولكن يلاحظ أن البنفسج ـ وهو نبات زهري معمر قصير، يزهر في الربيع ـ كان الأكثر تداولا في قصائد الديوان. ويرتبط البنفسج في وجدان الإنسان المصري بالحزن والشجن، ولعلنا نتذكر كلمات بيرم التونسي التي تغنى بها الموسيقار زكريا أحمد التي يقول فيها: “ليه يا بنفسج بتبهج .. وإنت زهر حزين”. ومن أمثال البنفسج عند الدش: نهر يعشش فوق أوراق البنفسج/ 41. على ورق البنفسج/ 41. وبنفسجة ولهى / 65. رأيت بنفسجتي نعلا في قدم عرجاء/ 66.
وقد ضم الديوان ـ الذي احتوى على ستة وثلاثين نصا شعريا ـ عددا من القصائد التفعيلية القصيرة جدا، وهو اتجاه راده منذ سنوات عدد من شعرائنا العرب في مصر وخارجها، وصدرت دواوين شعرية تضم بين دفتيها هذه القصائد القصيرة مثل ديوان الشاعر فوزي خضر “قطرات من شلال النار” الذي يضم أكثر من مائة وخمس وعشرين قطرة / قصيدة، حيث القصيدة تمثل بالفعل قطرة شعرية، أو ومضة شعرية، أو طلقة شعرية إن صح التعبير، وأصحاب هذا الاتجاه يرون أن هذه القصائد لا بد أن تكون شديدة التكثيف، شديدة التركيز، شديدة الإيحاء، ذات كلمات قليلة جدا، تلعب فيها المفارقة أو المفاجأة دورا رئيسيا، بل دون هذه المفارقة أو المفاجأة لا يصح أن تكون القصيدة القصيرة قصيرة بالفعل، وهي في هذا تكون مثل الإبجرامات الموجودة في الشعر الأجنبي، حيث الإبجرام أو الإبجرامة، مقطوعة من أبيات قليلة تنتهي بلفتة طريفة مفاجئة إلى حقيقة من حقائق الحياة أو النفس أو المجتمع.
وانطلاقا من هذا المفهوم حاول الشاعر محمد عبدالستار الدش أن يكتب عددا من قصائده القصيرة جدا مثل: “ربما” و”غياب” و”صحو” و”شمس” و”حياة” و”طمع” وغيرها، وخصوصا في النصف الثاني من الديوان، وهو لئن حقق مفهوم القصيدة القصيرة / الطلقة / الومضة / القطرة / في بعض هذه القصائد مثل: “مفارقة” التي يقول فيها: “ـ لا أبغي عسلا./ أو قرصا/ يا وطني/ ـ كيف إذن/ ستجدف في” فإنه لم يحققها في بعض القصائد الأخرى.
وهكذا رأينا أن ديوان “يمام الرؤى” يعد من العلامات الشعرية المهمة في شعرنا العربي المعاصر.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أحمد فضل شبلول
كاتب مصري
الشاعر المصري محمد عبدالستار الدش يكتب قصيدته الرمزية دون مبالغات.
الأحد 2023/12/31
ShareWhatsAppTwitterFacebook
رؤية متجددة للوجود (لوحة للفنان بسام ناصر)
تحفل قصائد التفعيلة بمساحات هامة للتجريب لا في الوزن والإيقاع الخارجي فحسب، بل كذلك في الإيقاع الداخلي والاستلهام من الأساطير والتناص مع النصوص المؤسسة في الحضارة الإسلامية مثل النص المقدس، وغيرها من تقاطعات أجاد الشعراء ترسيخها بامتياز، ومن هؤلاء الشاعر المصري محمد عبدالستار الدش.
بعد أن استقرت قصيدة الشكل التفعيلي بعض الشيء على أيدي رواد هذا الشكل في مصر وبعض البلاد العربية، وبعد أن أسهم شعراء الموجة الثانية لهذا الشكل من أمثال: أمل دنقل ومحمد إبراهيم أبوسنة وفاروق شوشة وأحمد سويلم ومحمد عفيفي مطر ومحمد فهمي سند ومحمد أبودومة وبدر توفيق وغيرهم، ـ بعد أن أسهموا ـ في شيوع هذا الشكل الشعري من خلال أعمالهم المتتالية، وبعد أن ثبتت دعائم الشكل الجديد، خرج علينا بعض شعراء السبعينات بمغامرات شكلية جديدة، تضيف إلى الشكل التفعيلي الذي كان سائدا في الخمسينات والستينات، فجاءت موجة جديدة في بحر الشعر العربي الجديد.
من عباءة هذه الموجة وما تلاها من موجات يخرج علينا الشاعر محمد عبدالستار الدش بديوانه الجميل “يمام الرؤى” مختصرا تجارب عديدة في حيز صغير، منفذا وصية النفري “كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة”، مستفيدا من إنجازات جيله الشعرية وما سبقه من إنجازات وإضافات إلى شكل القصيدة العربية وأيضا مضمونها.
قصائد مكثفة
هناك توظيفات لقصص قرآنية كثيرة في قصائد الديوان نذكر منها قصة موسى عليه السلام وهاجر وإبراهيم وغيرها
نتوقف أولا عند اسم الديوان “يمام الرؤى”، فاليمام ـ كما قال لسان العرب ـ طائر، وقيل: هو أعمّ من الحمام، وقيل هو ضربٌ منه، وقيل: اليمام الذي يستفرخ، والحمام هو البري الذي لا يألف البيوت، وقيل: اليمام البري من الحمام الذي لا طوق له. وقال الجوهري ـ صاحب الصحاح ـ اليمام: الحمام الوحشي، الواحدة يمامة. وقال الكسائي: اليمامة هي التي تألف البيوت. والياموم: فرخ الحمامة كأنه من اليمامة.
وأيا كان الأمر من ألفة اليمام للبيوت أو عدم ألفتها، فقد استطاع الدش أن يجعل لهذا اليمام رؤى شعرية، بل هو يضيف الرؤى إلى اليمام ليصبح العنوان الدال “يمام الرؤى” وليس “رؤى اليمام”، وبالتأكيد هناك فرق بين المعنيين ودلالتهما، خاصة أننا لم نجد ـ وكما تعودنا في دواوين شعرية كثيرة ـ عنوانا لإحدى قصائد الديوان ـ الست والثلاثين ـ تحمل هذا العنوان الدال، ولكننا وجدنا قصيدة بعنوان “بعض من يمام الغيوم” (ص 13) وهذا العنوان من نسيج عنوان الديوان نفسه، حيث الغيوم مضافة إلى اليمام، وليس العكس، أي ليس غيوم اليمام.
يتناثر اليمام والحمام في قصائد كثيرة من الديوان مثل قول الشاعر: هل تجيء اليمامات/ تبحث عن مأمن في دمي (ص29) الحمام الشديد البياض (ص 33) تبيض الحمامة (ص 47) حمام الجنة (ص93) وباض الحمام (ص 113) .. الخ. وعلى الرغم من كل هذا البث الشعري الذي بثه الشاعر إلى اليمام أو الحمام، وعلى الرغم من اتخاذه معادلا موضوعيا أحيانا أخرى، ورمزا شفافا في أحايين أخر، وحاملا لرؤاه الشعرية في جميع الأحوال، فإن هذا اليمام أو الحمام يخذله في نهاية الأمر، أو في نهاية الديوان، يقول الشاعر: “قالت: ..أطربني/ غنيت لوجعي/ طارت،/ وتوسدني الشوك”.
وعلى الرغم من أن عنوان هذه القصيدة الأخيرة “نجمة”، وفي مطلعها يقول الشاعر “رقرقت الكلمات على قمة شجرة”، إلا أن استبدال النجمة والكلمة بيمامة أو حمامة ـ عند التلقي ـ لا يفسد المعنى الشعري، خاصة أن الكلمات أحيانا تشبّه بالنجوم أو بالحمام واليمام، وإذا قمنا باستعارة عنوان الديوان “يمام الرؤى” وطبقناه على هذه القصيدة الأخيرة لاتسع المدلول أكثر مما ذهبنا إليه الآن.
لم يثرثر الشاعر في هذا الديوان كثيرا، لذا جاءت معظم قصائده قصيرة محكمة الإغلاق، شديدة التكثيف والترميز، وهو لم يهدر مكتسبات القصيدة الحديثة، بالهبوط بها إلى درك النثر غير الفني، كما نلاحظ عند عدد من شعراء جيله الذين لم تكتملْ لديهم الأداة والرؤية، فلجأوا إلى ما يسمّى بقصيدة النثر، وهو يتكئ على تراث شعري عريض وممتد ويستفيد من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، ويستوحي الكثير من مفرداتهما وقصصهما ويوظفهما بطريقة غير تقليدية، مثلما عهدناه عند شعراء آخرين.
على سبيل المثال عندما يراجع الشاعر قصة هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر الصديق، فإنه يحدثنا عنها بطريقته هو، وقبل أن نذهب في رؤيتنا الخاصة لهذه القصيدة المتميزة، نضعها بين أيدي القارئ: يمرون/ فوق عباب النخيل/ بأحذية تقتل الفرح المتخلق/ يسقط حزنا جنيا/ يسيل على الأرض غارا/ تبيض الحمامة/ والغيم فوق الرؤوس جمد/ يمرون/ فوق سماء الصغار/ بماء من المهل/ يشوي النجوم الزكية/ والأعين الناظرات/ لأفق جميل/ يماثل فيه الصغار الديوك/ فيخرج ناسٌ إلى قبلة الفجر/ والنهر يطرح نوما/ ليحتضن القادمين/ يمرون/ فوق الحقول/ نيازك تخطف أوردة الطيبين/ يدوسون سلمى/ تعالج تحت النخيل جراحا/ وتسرج أقمارها للصغار/ وتشغل “طاقية”/ بالفؤاد الخصيب تقبلها/ في انتظار المسافر/ تثمر/ توتا/ وأغنية/ وندى/ يمرون/ لا يسمعون/ يمرون/ لا يبصرون/ يمرون/ فوق دمي”.
كما نرى فإن الشاعر وضع عدسته الشعرية في بؤرة هذا الحدث الجلل الذي غيّر مجرى التاريخ البشري، والتقط زوايا جديدة لم يحفلْ بها كثيرٌ ممن تناولوا قصة الهجرة من قبل، فقد ركز الشاعر جل اهتمامه على صورة الطرف الآخر، الكفر مقابل الإيمان.
على الرغم من اتكاء الشاعر على تراث إسلامي عريق وممتد في الزمان والمكان، فإنه مازال يبحث عن هوية له
فهو يصف الكفار الذين خرجوا في طلب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه، بأنهم يمرون فوق عباب النخيل، يدوسون فوق الفرح المتخلق في أحداق الكون جراء هجرة الرسول لإقامة الدولة الإسلامية الجديدة في المدينة المنورة، ولكن هذا المرور الذي أحس به أبوبكر الصديق خلّف حزنا جنيا في قلبه شعر به الرسول الكريم فقال قولته الشهيرة: “لا تحزن إن الله معنا”. وعند وقوف الكفار فوق غار ثور باضت الحمامة وعشش العنكبوت وجمد الغيم في الرؤوس. إنهم في مرورهم هذا وطلبهم رأس محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدوسون “سلمى”، وسلمى هنا رمز التراث العربي والحضارة العربية والشعر العربي القديم، إنهم يدوسون كل شيء، ويقتلون كل حلم، وكل رمز أصيل، فالكفر قد أعمى قلوبهم.
وسلمى هذا الرمز العربي الأصيل، على الرغم من جراحاتها المتتالية، فإنها تجلس في انتظار الرسول وصاحبه لتستقبله بالأغنيات والفاكهة والخير. ومازال الكفار يمرون على الغار وهم لا يسمعون ولا يبصرون.
هكذا أرى قصيدة “يمرون” التي تفككت رموزها من خلال ما قدمه لنا الشاعر من مفردات مثل: الحزن، الغار، الحمامة، سلمى، أغنية، غير أن هناك رمزا آخر أجدني في موقف المتسائل عنه، وهو رمز “الطاقية” في قول الشاعر “وتشغل طاقية”، وهو رمز ينقلنا إلى بينلوب زوجة أودوسيوس في أوديسة هوميروس، والتي كانت تقوم بغزل الثوب ثم تنقض غزلها إلى حين عودة زوجها من أسره في حرب طروادة، رفضا لمن يتقدم لخطبتها (على اعتبار أن زوجها لن يعود) فتتعلل بأنه من الممكن أن تقبله زوجا شريطة أن تنتهي من غزل الثوب، ولكن إحساسها كان يخبرها أن أودوسيوس لا بد عائد.
أيضا من الممكن لهذه القصيدة أن تقرأ قراءة أخرى، كأن يقال مثلا إن الضمير المستتر في “يمرون” يعود على اليهود، وأن سلمى رمز الأمة العربية تنسج الطاقية انتظارا لمن يخلصها من الاحتلال الإسرائيلي الغاشم.
هكذا تتعدد القراءات والتأويلات للعمل الشعري الجيد، وما أكثر الجيد في ديوان “رؤى اليمام”.
التراث والأساطير
الشاعر لم يثرثر في هذا الديوان كثيرا لذا جاءت معظم قصائده قصيرة محكمة الإغلاق، شديدة التكثيف والترميز
زاوية أخرى ومعالجة جديدة لقصة هاجر وإسماعيل، لم نقرأ لها مثيلا في ديوان الشعر العربي المعاصر. يقول الشاعر مستثمرا أحداث هذه القصة التي غيرت بدورها مجرى التاريخ الإنساني، ومستنبطا حكمة جديدة من واقع هذه القصة:
“تمْرٌ يعتمد على الوقت/ الوقت يضج،/ ويقطع سبعة أشواط/ بين القفر وبين الصحراء/ فتخرج من تحت القدمين/ العين الدافئة/ يسيل،/ يشق طريقا للبحر/ ويترك للتمْر البر،/ ويرسل من موطنه/ باقة ورد: حاولْ/ أن تصنع شيئا لحياتك/ غير الموت” (حياة، ص 105).
إن الحكمة التي يستخرجها أو يستنبطها الشاعر من هذه القصة الفريدة تتلخص في قوله “حاولْ أن تصنع شيئا لحياتك غير الموت”. فقد ترك إبراهيم عليه السلام ـ بوحي من الله تعالى ـ هاجر وإسماعيل في واد بغير ذي زرع، وفي مواجهة الموت، ولكنهما لم يستسلما لقسوة الصحراء، وطبول الموت التي تقرع في تلك البقعة النائية، وحاولت هاجر وطافت وسعت وجرت وصنعت بعد أن تفجرت بئر زمزم تحت قدمي الطفل إسماعيل ـ بفضل من الله ـ حياة وأسست أمة خرج من صلبها أفضل خلق الله كلهم عليه الصلاة والسلام. وكانت الرسالة أو باقة الورد التي أرسلتها هاجر إلى العالم ـ والتي مازالت تتردد أصداؤها في جنبات الكون حتى الآن ـ عبارة عن الحكمة التي وضع الشاعر يده عليها بمهارة “حاولْ أن تصنع شيئا لحياتك غير الموت”. وأعتقد أن الرموز الشفيفة في هذه القصيدة أوضح نوعا من رموز القصيدة السابقة التي حيرتنا فيها “الطاقية”. وأعتقد أيضا أن الشاعر كان موفقا في استخدامه لرمز “التمر” الذي تدل عليه الآية الكريمة.
أيضا هناك توظيفات لقصص قرآنية أخرى في قصائد الديوان، نذكر منها قصة موسى عليه السلام، ولعلها تكون من أهم ما لفت انتباه الشاعر ووظفه في بعض قصائده، فيقول على سبيل المثال: العصا في يميني فألقيتها / تلقف الزحف نحوي (ص 16). وللروض أسئلةٌ / ومآرب أخرى (ص 25).
وبالإضافة إلى ذلك فهناك الكثير من الألفاظ القرآنية التي وظفها الشاعر مثل: ماء من المهل يشوي/ 47. يطعمهم من جوع/ يحميهم من خوف /66. فقرأت كتابي/ 66. من كل زوجان اثنان /93. الجب / 93. جاء من أقصى المدينة /109. طير أبابيل /121. أنذرني للعمر/ 134.. الخ.
ومثلما يوظف الشاعر المفردات القرآنية والحديثية، فإنه يلجأ أحيانا إلى توظيف بعض الأساطير الغربية القديمة، مثل أسطورة سيزيف في قصيدة “سفر” والتي كانت عن الراحل جمال حمدان، فيقول: يستطيب الصخور على ظهره/ في طريق الصعود/ يدحرج للقاع/ لا يعرف الآن كيف النهوض”.
كما أشرنا من قبل إلى قصة بينلوب وأوديسة هوميروس.
وعلى الرغم من اتكاء الشاعر على تراث إسلامي عريق وممتد في الزمان والمكان، فإنه مازال يبحث عن هوية له، إنه يحس أحيانا ـ نتيجة العولمة والانفتاح والغزو الفكري ـ بتمييع في الشخصية المصرية، فيعبر عن ذلك في قصيدة “مرآة”، ـ وهي تعد من أهم قصائد الديوان ـ بقوله “شيء وهمي يتماوج في المرآة أمامي/ بعض ملامحه هيروغليفية/ والبعض الآخر/ زغبٌ في العصر الإسلامي/ شيءٌ وهمي يسقط في المرآة أمامي/ لا ثوب عليه/ ولا رؤيا للآتي تحميه/ يطأطئ/ يتكسر/ أضحك/ وجموع الناس/ تدوس على وجهي/ وتمد أياد/ أضحك/ تضحك/ نضحك/ ووجوه الناس تكسر قدامي”.
الطيور والزهور
هناك ظاهرة طريفة في هذا الديوان وهي كثرة أسماء الطيور ـ فبالإضافة إلى اليمام والحمام ـ، هناك: الغراب (هل الآن أتركها للغراب/ ص15) الرخ (فهل طائر الرخ خادع هذا الوفاق/ وطار بهم / 34) الطواويس (الطواويس تدخل ماء السماء/ 37) الذباب (وذبابة / وقفت تراقبنا وتضحك/ 43 تطن ذبابة عرجاء في الميدان/ 163) الديوك (أفق جميل يماثل فيه الصغار الديوك /48) الجراد (على مركب الصحو /هذا الجراد/ 89) العنكبوت (ينسج تفاحة العنكبوت/89) العصافير (يجيء المساء إلى دراهم / فتغشى العصافير هيئته / 97 عصفور الوقت/ 139 “عصفورة “عنوان قصيدة”/ 171). الخفاش (أخشى إن وصل إليه الخفاش / تخفش/ 134 ـ 135) البلابل (تعزل روح السطور البلابل/ 147) الفراشة (تطير فراشة الإخصاب / 163).
كما أن هناك كلمة الطيور بعامة مثل: ثم أطلقت الطيور إلى الجهات/ فلم تغب / ص21. في مناقير الطيور العائدة / 56. النخل مصطف وطير واقف /61. أتمايل في ملكوت الساحة طيرا أخضر/66. هذي الطيور تفزع /71. يرق الطير /101. طيور على البعد تبكي /113. طير أبابيل /121. هل يجد الأطيار تسانده أم ..؟/136. الطير تسبح /147).
أيضا كثر في الديوان استخدام بعض أنواع الزهور والورود، مثل: الفل والرياحين، ولكن يلاحظ أن البنفسج ـ وهو نبات زهري معمر قصير، يزهر في الربيع ـ كان الأكثر تداولا في قصائد الديوان. ويرتبط البنفسج في وجدان الإنسان المصري بالحزن والشجن، ولعلنا نتذكر كلمات بيرم التونسي التي تغنى بها الموسيقار زكريا أحمد التي يقول فيها: “ليه يا بنفسج بتبهج .. وإنت زهر حزين”. ومن أمثال البنفسج عند الدش: نهر يعشش فوق أوراق البنفسج/ 41. على ورق البنفسج/ 41. وبنفسجة ولهى / 65. رأيت بنفسجتي نعلا في قدم عرجاء/ 66.
وقد ضم الديوان ـ الذي احتوى على ستة وثلاثين نصا شعريا ـ عددا من القصائد التفعيلية القصيرة جدا، وهو اتجاه راده منذ سنوات عدد من شعرائنا العرب في مصر وخارجها، وصدرت دواوين شعرية تضم بين دفتيها هذه القصائد القصيرة مثل ديوان الشاعر فوزي خضر “قطرات من شلال النار” الذي يضم أكثر من مائة وخمس وعشرين قطرة / قصيدة، حيث القصيدة تمثل بالفعل قطرة شعرية، أو ومضة شعرية، أو طلقة شعرية إن صح التعبير، وأصحاب هذا الاتجاه يرون أن هذه القصائد لا بد أن تكون شديدة التكثيف، شديدة التركيز، شديدة الإيحاء، ذات كلمات قليلة جدا، تلعب فيها المفارقة أو المفاجأة دورا رئيسيا، بل دون هذه المفارقة أو المفاجأة لا يصح أن تكون القصيدة القصيرة قصيرة بالفعل، وهي في هذا تكون مثل الإبجرامات الموجودة في الشعر الأجنبي، حيث الإبجرام أو الإبجرامة، مقطوعة من أبيات قليلة تنتهي بلفتة طريفة مفاجئة إلى حقيقة من حقائق الحياة أو النفس أو المجتمع.
وانطلاقا من هذا المفهوم حاول الشاعر محمد عبدالستار الدش أن يكتب عددا من قصائده القصيرة جدا مثل: “ربما” و”غياب” و”صحو” و”شمس” و”حياة” و”طمع” وغيرها، وخصوصا في النصف الثاني من الديوان، وهو لئن حقق مفهوم القصيدة القصيرة / الطلقة / الومضة / القطرة / في بعض هذه القصائد مثل: “مفارقة” التي يقول فيها: “ـ لا أبغي عسلا./ أو قرصا/ يا وطني/ ـ كيف إذن/ ستجدف في” فإنه لم يحققها في بعض القصائد الأخرى.
وهكذا رأينا أن ديوان “يمام الرؤى” يعد من العلامات الشعرية المهمة في شعرنا العربي المعاصر.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
أحمد فضل شبلول
كاتب مصري