خبر مفرح للفيمينيست.. اللغة العربية تحتفظ بآثار العصر الأمومي
من الضروري خلخلة القراءة الأصولية لإعادة تشكيل الدين الشعبي العربي وإيجاد خطاب بديل عن تراث يقمع النساء.
الأحد 2023/12/31
ShareWhatsAppTwitterFacebook
إنقاذ المرأة من صورة عشتار (لوحة للفنانة هيلدا حياري)
التشريعات التي تخص المرأة في الإسلام المبكر لم تكن أمرا متقدما على ما كان قبل ذلك، خصوصا في ما يتعلق بعلاقتها بالرجل؛ فنسبة النسل إلى الأم كانت أهم معقل أمومي عرفته مرحلة “الجاهلية” تم حسمه لمصلحة المجتمع البطريركي الذي كان يتشكل في الجزيرة العربية بقوة الحروب وقوة التجارة “انسبوهم إلى آبائهم”. كما أن الآيات القرآنية التي تناولت المرأة كانت من الوضوح والغموض في آن بحيث التبست في الفقه الإسلامي بالخضوع لسلطة الذكر خضوعا شبه مطلق، مكن الأصولية الإسلامية المعاصرة من طرح سؤال “هل المرأة إنسان؟”.
ليس آخر ذلك الخضوع ما ذكر في مقال عزيز العظمة، في عدد سبتمبر 2017 من مجلة “الجديد”، من أنه “الحجر الرمزي على المرأة من خلال الحجاب”؛ فالحجة التي أزجاها صحابة الرسول لتحرشهم بالنساء كانت أنهم ظنوهن إماء، بحسب أسباب النزول، وبذلك كان لا بد من أن تدفع المرأة “الحرة” ثمن حريتها بستر بعض أجزاء من جسمها، بينما المتحرش حر طليق، والأمة بالتأكيد بضاعة ظل يذكر بها الفقه الذكوري عندما تخلع المرأة الحجاب في كل العصور. وهو أمر خضع فيما بعد لتأويلات جعلت من المرأة ملكية خاصة، إلى درجة أن نظام الرق الذي انتهى من الجزيرة العربية، كآخر محبس للكرامة الإنسانية، قد عاد مجددا وبعنف على أيدي داعش في السنوات الأخيرة العجاف.
◙ في إطار البحث النسوي عن صورة المرأة في التراث والحاضر تقف اللغة عائقا ضخما تجاه تفعيل هذه الصورة وتحريكها تجاه العدل
وإذ أن الحجاب يفضي حتما إلى جسد المرأة، فإن الصورة الشحمية اللحمية التي استلها العظمة للمرأة من التراث الأدبي على نحو ساخر، تبطن ذوقا عصريا للمرأة الهيفاء، في حين أن صورة المرأة المبجلة هذه والتي “تكاد من ثقل الأرداف تنبتر” إنما هي بقايا صورة المرأة العشتارية إلهة الخصب والجماع. وهي صورة تتجلى في أبهتها في المقدمة الطللية للقصيدة الجاهلية، حيث نجدها تسطع كمالا وجمالا؛ وهو جمال نسبي حفظه الشعر الجاهلي وما تلاه قليلا، كنوع تعبدي وكرمز للوفرة في مواجهة الصحراء والفناء المتحقق فيها للرجال، بسبب الغزو وانعدام الكلأ.
وستعود هذه القيم الجمالية إلى الازدهار حديثا من خلال إعادة تعريف المرأة في الفقه الاجتماعي السلفي كموقظة للشهوات وحافظة للنسل. وبذلك سنجد من النساء اليوم من تتوخى ثياب الصلاة أو ما أشبه، لحركتها الحرة بين البيت والجارة، أو بين البيت والسوق، حيث تخفي الشحم واللحم الذي عاد إلى سيرته الأولى، ولكن من دون قدسية الإلهة الأم، ولا هيبة الرحم المعبود؛ فما دامت المرأة في هذه القراءة المتشددة مجرد جهاز منزوع الآدمية، يفتي الدعاة أن ضربها تكريم لها (كما في فيديو شهير)، فلا بد أن جسدها رهن لوظيفتها البيولوجية الأولى وهي الإنجاب، ووظيفتها الحسية الأولى وهي الجماع الذي عبر عنه الفقه الإسلامي بـ”الوطْء”، والوطْء أصلا الدوس على الأرض التي هي “الوطى”.
وإذ أكد معنى “التحتية” في الزواج ما جاء في الآية (66 سورة التحريم) عن زوجتي نوح ولوط وأنهما “كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين”، فإن هناك ازدهارا لقاموس الجنس في العربية بمفردات النكاح والجماع وأوضاعه، وهو ما حفلت به كتب الأخبار والأغاني والمعاجم، وأهمها في هذا السياق المخصص لابن سيده، ليشي بأن اختيار مفردة “الوطء” ليس من قبيل الصدفة، فهي تضع المرأة في مكانتها المكانية والاجتماعية الدونية المناسبة للمصلحة الذكورية العليا، وكأنها -هذه المكانة- قهر للمعبودة الأولى ولفرجها المقدس. مما يذكرنا بنظرية “الهنو (الفرج) المعبود” المقلوبة، حيث كلما كان عضو المرأة، تحديدا، مركزيا في التفكير الجمعي، أنبأ عن وضعه التعبدي لدى الجماعة أو المجتمع.
◙ من جهة عملية يبدو من المعجز أن تصان المساواة في اللغة العربية دون أن تهتك البلاغة فيها، وتصاب بالهلهلة والوهن التعبيري
وإذ العبادة، وثنية كانت أم توحيدية تجريدية، تعلن معبودها على ملأ، ومن ذلك عبادة الفرج عند بعض الأقوام في الماضي والحاضر، إلا أن العبادة المقلوبة للهنو الأنثوي في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وعبر تاريخها، لتتجلى في إخفاء المعبود كسر من أسرار النقمة عليه، والتحكم فيه عبر تقييدات نظام العفة المحكوم بعبارة صريحة “ويحفظن فروجهن”.
وهو نظام صلد يكتم أنفاس العلاقة بين الجنسين ويحكمها بحيث ينمي في المجتمع كبتا جنسيا كارثيا في مآلاته وفي مخياله المرضي، بحيث لا يكون الوصول إلى الهنو المقدس إلا عبر مسار عارم من الحرمان والجوع الجنسي الذي تتهافت مناعته عند أدنى امتحان. وإذا كانت الألوهة في التدين البشري كائن/ كائنات فاعلة، تمنح وتمنع وتنتقم وتثيب، إلا أنها في حالة هذه العبادة كائن مفعول به مسيطر عليه بالتحريم والإخفاء، بل والاحتقار؛ فهي عبادة المذموم بسبب فعله السالب في الذكورة المسيطرة عن طريق الفتنة والإغواء. وليست الخطبة والمهر وإذن “الولي” في التعاليم الإسلامية إلا طقوس استئذان ذكورية لاستلام الهنو المقدس وإذلاله بالإيلاج والاستعمال.
وعلى النقيض من ذلك، ستبدو ثقافات أخرى وقد تجاوزت مفعول هذا النوع البدائي من العبادة إلى اتخاذ الأنثى شريكة حياة، دون إيلاء جسدها إلا القدر اللازم من الاحترام كجسد بشري لا يجوز انتهاكه بأي من أشكال العنف. وستولد حركات (تملي تشريعاتها) تدافع عن أي انتهاك لحرمة هذا الجسد، سواء باقتحامه (بالنظر أو بالكلام أو باللمس أو بالاغتصاب) أو بالمتاجرة به في الإعلانات التجارية أو في تجارة الجنس بأنواعها، أو بادعاء الحفاظ عليه عبر حجبه في المكان المستل افتراء من الآية “وقرن في بيوتكن” (الأحزاب:33)، أو حجبه كعورة أو حلوى أو “شيء” ثمين.
على الضفة الأخرى من كلام عزيز العظمة عن الاحتكام إلى النصوص الذي يشكل أرضية الخطاب “النكوصي” الإسلامي، وأنه يكون بذلك “رديفا ضمنيا لمشروع الهيمنة الاجتماعية والثقافية للإسلام السياسي”، فإنه من اللازم فيما أرى، ونحن نؤكد على ضرورة “إيجاد نص بديل وتام الغربة عن النص التراثي”، كما يذهب إلى ذلك العظمة وعدد من مفكري العرب، (من اللازم) أن نشير إلى أهمية القراءة الجديدة للنص التراثي التي لا تحدث قطيعة معه كماض، إلا أنها تحدث خلخلة في بنية القراءة الأصولية السلفية. وهي خلخلة تبدو ضرورية لإعادة تشكيل الدين الشعبي العربي الذي غزته الصحراء بنشافتها الجمالية وقحطها الحضاري.
وإني لا أعتبر هذه القراءة مزاحمة لدعوة القطيعة، بمقدار ما هي مراجعة مهمة لهذا الإرث، ربما لم يجرؤ عليه إلا قلة كالمتصوفة؛ إذ من المهم أن نعلم ونحن نطلب إحداث القطيعة ما هو المضمون اللاإنساني الذي حفلت به تراثية الإسلام السياسي، ناهيك عن أنها مقدمة لإعمال الفكر النقدي في كل موروث؛ إذ يبدو لي أن تكون القطيعة مع فكرة التقديس لا مع محتوى النص كمنجز بشري تأويلي محكوم بزمان ومكان.
وصحيح أن انشغالاتنا “التقدمية” ينبغي أن تذهب إلى أبعد من إعادة قراءة للتاريخ ونصوصه، إلا أن ما قدمته فاطمة المرنيسي مثلا لهو فيروس إيجابي لخلق نسيج جمالي منتخب من بين ركام لـ”أمجاد” ماضية. فليس كل الماضي حرائق ورمادا، ولا بد من اكتشاف بعض جمرات ما تزال مشعة فيه. وليس في رأيي أن يكون النص الذي تعتمده التقدميات من الباحثات، صحيح النسبة، أو أن هذا الاعتماد صحيح الاستعمال، ما دام ذلك يؤدي إلى وعي جديد على العسف الذي يمتطيه الإسلام السياسي لبلوغ مآربه.
◙ ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية
في إطار البحث النسوي عن صورة المرأة في التراث والحاضر تقف اللغة عائقا ضخما تجاه تفعيل هذه الصورة وتحريكها تجاه العدل. فاللغة ابتداء، في بعض وجوهها، وعاء محايد، وهي قابلة للتوظيف كما ترتئيه الثقافة، ولكنها في الوقت نفسه تبدو غير متساهلة في قبول الخيارات. فإذا استطاعت النسويات الناطقات بالإنجليزية اقتراح بدائل لسيطرة المذكر على المؤنث، ونجحت في ذلك إلى حد بعيد، فإن الحال غير ذلك في العربية؛ فالعربية تتميز عن الإنجليزية، نحويا، بأنها لغة تأنيث وتذكير، قسمة عادلة؛ فكل اسم وفعل هما إما مؤنث أو مذكر، وتُستثنى من ذلك الحروف.
وهو مظهر من المفروض أن يبعث على سعادة الفيمينسيت العربيات، وخصوصا أن إحدى الفرضيات التي تطرحها المختصات باللغة أن العربية ما تزال تحتفظ بآثار واضحة من العصر الأمومي تمثل تمجيدا للذات المؤنثة، مثل تأنيث عدد من المعاني الإيجابية كالمحبة والمروءة (التي منها المرأة) والعفة والألوهة والمعرفة والمرونة والخصوبة والسلاسة والقوامة والهمة والفتوة والرجولة والأنوثة والسلامة والحضارة والجنة والنار والصفوة… وغيرها.
وإني لأظن أن عددا من المفردات التي كانت مؤنثة قد تم تذكيرها بعد الانقلاب الذكوري من مثل الشرف والنبل والحب والعلم والنضال والكفاح والخصب والنور وغيرها. وهي فرضية تتسق وتاريخ الألوهة التي هي أول سلطة قبل لغوية في تاريخ البشرية. (ننظر: زليخة أبوريشة، اللغة الغائبة، 1996، عمان، وأنثى اللغة، 2009، نينوى، دمشق).
ومن جهة عملية يبدو من المعجز أن تصان المساواة في اللغة العربية دون أن تهتك البلاغة فيها، وتصاب بالهلهلة والوهن التعبيري. ومع ذلك فقد جرت محاولات جادة قليلة للتذكير بالتأنيث في الخطاب السياسي والثقافي، ونبهت قليلا لوجود الأنثى في المجتمع، وهو تنبيه ما يزال مهددا في أي لحظة بالنكوص نتيجة النكوص الأيديولوجي العارم المتجلي في العودة إلى النص المقدس في أبشع تأويلاته.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
زليخة أبوريشة
شاعرة وأكاديمية أردنية
من الضروري خلخلة القراءة الأصولية لإعادة تشكيل الدين الشعبي العربي وإيجاد خطاب بديل عن تراث يقمع النساء.
الأحد 2023/12/31
ShareWhatsAppTwitterFacebook
إنقاذ المرأة من صورة عشتار (لوحة للفنانة هيلدا حياري)
التشريعات التي تخص المرأة في الإسلام المبكر لم تكن أمرا متقدما على ما كان قبل ذلك، خصوصا في ما يتعلق بعلاقتها بالرجل؛ فنسبة النسل إلى الأم كانت أهم معقل أمومي عرفته مرحلة “الجاهلية” تم حسمه لمصلحة المجتمع البطريركي الذي كان يتشكل في الجزيرة العربية بقوة الحروب وقوة التجارة “انسبوهم إلى آبائهم”. كما أن الآيات القرآنية التي تناولت المرأة كانت من الوضوح والغموض في آن بحيث التبست في الفقه الإسلامي بالخضوع لسلطة الذكر خضوعا شبه مطلق، مكن الأصولية الإسلامية المعاصرة من طرح سؤال “هل المرأة إنسان؟”.
ليس آخر ذلك الخضوع ما ذكر في مقال عزيز العظمة، في عدد سبتمبر 2017 من مجلة “الجديد”، من أنه “الحجر الرمزي على المرأة من خلال الحجاب”؛ فالحجة التي أزجاها صحابة الرسول لتحرشهم بالنساء كانت أنهم ظنوهن إماء، بحسب أسباب النزول، وبذلك كان لا بد من أن تدفع المرأة “الحرة” ثمن حريتها بستر بعض أجزاء من جسمها، بينما المتحرش حر طليق، والأمة بالتأكيد بضاعة ظل يذكر بها الفقه الذكوري عندما تخلع المرأة الحجاب في كل العصور. وهو أمر خضع فيما بعد لتأويلات جعلت من المرأة ملكية خاصة، إلى درجة أن نظام الرق الذي انتهى من الجزيرة العربية، كآخر محبس للكرامة الإنسانية، قد عاد مجددا وبعنف على أيدي داعش في السنوات الأخيرة العجاف.
◙ في إطار البحث النسوي عن صورة المرأة في التراث والحاضر تقف اللغة عائقا ضخما تجاه تفعيل هذه الصورة وتحريكها تجاه العدل
وإذ أن الحجاب يفضي حتما إلى جسد المرأة، فإن الصورة الشحمية اللحمية التي استلها العظمة للمرأة من التراث الأدبي على نحو ساخر، تبطن ذوقا عصريا للمرأة الهيفاء، في حين أن صورة المرأة المبجلة هذه والتي “تكاد من ثقل الأرداف تنبتر” إنما هي بقايا صورة المرأة العشتارية إلهة الخصب والجماع. وهي صورة تتجلى في أبهتها في المقدمة الطللية للقصيدة الجاهلية، حيث نجدها تسطع كمالا وجمالا؛ وهو جمال نسبي حفظه الشعر الجاهلي وما تلاه قليلا، كنوع تعبدي وكرمز للوفرة في مواجهة الصحراء والفناء المتحقق فيها للرجال، بسبب الغزو وانعدام الكلأ.
وستعود هذه القيم الجمالية إلى الازدهار حديثا من خلال إعادة تعريف المرأة في الفقه الاجتماعي السلفي كموقظة للشهوات وحافظة للنسل. وبذلك سنجد من النساء اليوم من تتوخى ثياب الصلاة أو ما أشبه، لحركتها الحرة بين البيت والجارة، أو بين البيت والسوق، حيث تخفي الشحم واللحم الذي عاد إلى سيرته الأولى، ولكن من دون قدسية الإلهة الأم، ولا هيبة الرحم المعبود؛ فما دامت المرأة في هذه القراءة المتشددة مجرد جهاز منزوع الآدمية، يفتي الدعاة أن ضربها تكريم لها (كما في فيديو شهير)، فلا بد أن جسدها رهن لوظيفتها البيولوجية الأولى وهي الإنجاب، ووظيفتها الحسية الأولى وهي الجماع الذي عبر عنه الفقه الإسلامي بـ”الوطْء”، والوطْء أصلا الدوس على الأرض التي هي “الوطى”.
وإذ أكد معنى “التحتية” في الزواج ما جاء في الآية (66 سورة التحريم) عن زوجتي نوح ولوط وأنهما “كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين”، فإن هناك ازدهارا لقاموس الجنس في العربية بمفردات النكاح والجماع وأوضاعه، وهو ما حفلت به كتب الأخبار والأغاني والمعاجم، وأهمها في هذا السياق المخصص لابن سيده، ليشي بأن اختيار مفردة “الوطء” ليس من قبيل الصدفة، فهي تضع المرأة في مكانتها المكانية والاجتماعية الدونية المناسبة للمصلحة الذكورية العليا، وكأنها -هذه المكانة- قهر للمعبودة الأولى ولفرجها المقدس. مما يذكرنا بنظرية “الهنو (الفرج) المعبود” المقلوبة، حيث كلما كان عضو المرأة، تحديدا، مركزيا في التفكير الجمعي، أنبأ عن وضعه التعبدي لدى الجماعة أو المجتمع.
◙ من جهة عملية يبدو من المعجز أن تصان المساواة في اللغة العربية دون أن تهتك البلاغة فيها، وتصاب بالهلهلة والوهن التعبيري
وإذ العبادة، وثنية كانت أم توحيدية تجريدية، تعلن معبودها على ملأ، ومن ذلك عبادة الفرج عند بعض الأقوام في الماضي والحاضر، إلا أن العبادة المقلوبة للهنو الأنثوي في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وعبر تاريخها، لتتجلى في إخفاء المعبود كسر من أسرار النقمة عليه، والتحكم فيه عبر تقييدات نظام العفة المحكوم بعبارة صريحة “ويحفظن فروجهن”.
وهو نظام صلد يكتم أنفاس العلاقة بين الجنسين ويحكمها بحيث ينمي في المجتمع كبتا جنسيا كارثيا في مآلاته وفي مخياله المرضي، بحيث لا يكون الوصول إلى الهنو المقدس إلا عبر مسار عارم من الحرمان والجوع الجنسي الذي تتهافت مناعته عند أدنى امتحان. وإذا كانت الألوهة في التدين البشري كائن/ كائنات فاعلة، تمنح وتمنع وتنتقم وتثيب، إلا أنها في حالة هذه العبادة كائن مفعول به مسيطر عليه بالتحريم والإخفاء، بل والاحتقار؛ فهي عبادة المذموم بسبب فعله السالب في الذكورة المسيطرة عن طريق الفتنة والإغواء. وليست الخطبة والمهر وإذن “الولي” في التعاليم الإسلامية إلا طقوس استئذان ذكورية لاستلام الهنو المقدس وإذلاله بالإيلاج والاستعمال.
وعلى النقيض من ذلك، ستبدو ثقافات أخرى وقد تجاوزت مفعول هذا النوع البدائي من العبادة إلى اتخاذ الأنثى شريكة حياة، دون إيلاء جسدها إلا القدر اللازم من الاحترام كجسد بشري لا يجوز انتهاكه بأي من أشكال العنف. وستولد حركات (تملي تشريعاتها) تدافع عن أي انتهاك لحرمة هذا الجسد، سواء باقتحامه (بالنظر أو بالكلام أو باللمس أو بالاغتصاب) أو بالمتاجرة به في الإعلانات التجارية أو في تجارة الجنس بأنواعها، أو بادعاء الحفاظ عليه عبر حجبه في المكان المستل افتراء من الآية “وقرن في بيوتكن” (الأحزاب:33)، أو حجبه كعورة أو حلوى أو “شيء” ثمين.
على الضفة الأخرى من كلام عزيز العظمة عن الاحتكام إلى النصوص الذي يشكل أرضية الخطاب “النكوصي” الإسلامي، وأنه يكون بذلك “رديفا ضمنيا لمشروع الهيمنة الاجتماعية والثقافية للإسلام السياسي”، فإنه من اللازم فيما أرى، ونحن نؤكد على ضرورة “إيجاد نص بديل وتام الغربة عن النص التراثي”، كما يذهب إلى ذلك العظمة وعدد من مفكري العرب، (من اللازم) أن نشير إلى أهمية القراءة الجديدة للنص التراثي التي لا تحدث قطيعة معه كماض، إلا أنها تحدث خلخلة في بنية القراءة الأصولية السلفية. وهي خلخلة تبدو ضرورية لإعادة تشكيل الدين الشعبي العربي الذي غزته الصحراء بنشافتها الجمالية وقحطها الحضاري.
وإني لا أعتبر هذه القراءة مزاحمة لدعوة القطيعة، بمقدار ما هي مراجعة مهمة لهذا الإرث، ربما لم يجرؤ عليه إلا قلة كالمتصوفة؛ إذ من المهم أن نعلم ونحن نطلب إحداث القطيعة ما هو المضمون اللاإنساني الذي حفلت به تراثية الإسلام السياسي، ناهيك عن أنها مقدمة لإعمال الفكر النقدي في كل موروث؛ إذ يبدو لي أن تكون القطيعة مع فكرة التقديس لا مع محتوى النص كمنجز بشري تأويلي محكوم بزمان ومكان.
وصحيح أن انشغالاتنا “التقدمية” ينبغي أن تذهب إلى أبعد من إعادة قراءة للتاريخ ونصوصه، إلا أن ما قدمته فاطمة المرنيسي مثلا لهو فيروس إيجابي لخلق نسيج جمالي منتخب من بين ركام لـ”أمجاد” ماضية. فليس كل الماضي حرائق ورمادا، ولا بد من اكتشاف بعض جمرات ما تزال مشعة فيه. وليس في رأيي أن يكون النص الذي تعتمده التقدميات من الباحثات، صحيح النسبة، أو أن هذا الاعتماد صحيح الاستعمال، ما دام ذلك يؤدي إلى وعي جديد على العسف الذي يمتطيه الإسلام السياسي لبلوغ مآربه.
◙ ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية
في إطار البحث النسوي عن صورة المرأة في التراث والحاضر تقف اللغة عائقا ضخما تجاه تفعيل هذه الصورة وتحريكها تجاه العدل. فاللغة ابتداء، في بعض وجوهها، وعاء محايد، وهي قابلة للتوظيف كما ترتئيه الثقافة، ولكنها في الوقت نفسه تبدو غير متساهلة في قبول الخيارات. فإذا استطاعت النسويات الناطقات بالإنجليزية اقتراح بدائل لسيطرة المذكر على المؤنث، ونجحت في ذلك إلى حد بعيد، فإن الحال غير ذلك في العربية؛ فالعربية تتميز عن الإنجليزية، نحويا، بأنها لغة تأنيث وتذكير، قسمة عادلة؛ فكل اسم وفعل هما إما مؤنث أو مذكر، وتُستثنى من ذلك الحروف.
وهو مظهر من المفروض أن يبعث على سعادة الفيمينسيت العربيات، وخصوصا أن إحدى الفرضيات التي تطرحها المختصات باللغة أن العربية ما تزال تحتفظ بآثار واضحة من العصر الأمومي تمثل تمجيدا للذات المؤنثة، مثل تأنيث عدد من المعاني الإيجابية كالمحبة والمروءة (التي منها المرأة) والعفة والألوهة والمعرفة والمرونة والخصوبة والسلاسة والقوامة والهمة والفتوة والرجولة والأنوثة والسلامة والحضارة والجنة والنار والصفوة… وغيرها.
وإني لأظن أن عددا من المفردات التي كانت مؤنثة قد تم تذكيرها بعد الانقلاب الذكوري من مثل الشرف والنبل والحب والعلم والنضال والكفاح والخصب والنور وغيرها. وهي فرضية تتسق وتاريخ الألوهة التي هي أول سلطة قبل لغوية في تاريخ البشرية. (ننظر: زليخة أبوريشة، اللغة الغائبة، 1996، عمان، وأنثى اللغة، 2009، نينوى، دمشق).
ومن جهة عملية يبدو من المعجز أن تصان المساواة في اللغة العربية دون أن تهتك البلاغة فيها، وتصاب بالهلهلة والوهن التعبيري. ومع ذلك فقد جرت محاولات جادة قليلة للتذكير بالتأنيث في الخطاب السياسي والثقافي، ونبهت قليلا لوجود الأنثى في المجتمع، وهو تنبيه ما يزال مهددا في أي لحظة بالنكوص نتيجة النكوص الأيديولوجي العارم المتجلي في العودة إلى النص المقدس في أبشع تأويلاته.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
زليخة أبوريشة
شاعرة وأكاديمية أردنية