"ناس الغيوان" صنعت من ألحان الفقراء وأهازيجهم وصخبهم ورقصهم ظاهرة فنية
مجموعة حررت الموسيقى المغربية وأعادت إنتاج الهوية وتماسكها.
الأحد 2023/12/31
مجموعة استلهمت التراث الشفوي والشعبي المغربي
“ناس الغيوان” لم تكن مجرد فرقة موسيقية مغربية نالت نجاحا عالميا، فعلى مدار عقود لم تقف أغانيها عند حدود السياسة، بل تغنّت بالحياة والوجدان والتراث والأحلام والوطن والهموم الصغيرة للناس، وذاع صيتها في السبعينات والثمانينات، وانتشرت أغانيها بسرعة غريبة، وهو ما جعلها ظاهرة تستحق الدرس.
دور الثقافة بتعبيرها الفني، أي الفن، في تعميق الانتماء الجماعي في المغرب المتعدد هو ما يشكل مادة دراسة الباحث محمد همام “الفن المغربي جاذبا للاندماج الاجتماعي” من خلال التركيز على النص الغنائي لمجموعة “ناس الغيوان” التي ارتبط بها المواطن المغربي لأنه وجد فيها هويته بروافدها المتعددة؛ نص يساعد في استعادة جذوره بمرجعياتها الدينية والإثنية واللسانية وتجذيها للتخلص. حيث كان “ناس الغيوان” تعبيرا بصيغة الجمع عن مجتمع مندمج ومتماسك ومتضامن في آماله وآلامه.
يتصدى همام في دراسته، الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لمشكلة ندرة الأبحاث الخاصة بالثقافة الشعبية والشفوية المغربية، خصوصا في الجانب المتعلق بالمجموعات الموسيقية مثل مجموعة “ناس الغيوان”، مع أنها موسيقى ذات أصول قديمة، تناقل المغاربة قواعدها وتقنياتها ومدخراتها الشعرية والرمزية عبر المشافهة، كما أنها تحمل جملة من القيم والمزايا تضفي على الانتماء إلى الجماعة الوطنية المندمجة معنى وفاعلية.
النشيد العربي
الفرقة ظاهرة فنية تجاوبت مع هموم الشباب واليافعين وعكست قلقهم الفكري والوجداني وهواجسهم ومثلهم وأحلامهم
يرى همام أن النص الغنائي شكّل مكونا أساسيا في المشهد السياسي المغربي، سواء تعلق بالدولة وأجهزتها أو بالقوى الاجتماعية الواسعة؛ وحرص السلاطين المغاربة منذ القديم على تنظيم الاحتفالات الموسيقية، بمناسبة انتصارات عسكرية أو ولادات أو حفلات رسمية وطنية ودينية، حيث تلقى الأشعار أو تقرع فيها الطبول.
كما شكل النص الغنائي بعد الاستقلال أداة من أدوات الصراع على السلطة وأداة مواجهة الاستعمار عبر الأناشيد الوطنية. والنشيد الوطني عبارة عن مقطوعة شعرية قصيرة تقوم على إيقاع خفيف وسريع وتعتمد أداء جماعيا، وغالبا ما تكون مجهولة المصدر؛ إذ كثيرا ما تشارك في صوغها وإنتاجها على مستوى النظم أو على مستوى التلحين نخبة من مثقفي الحركة الوطنية، ومن ضمنها الشاعر والأديب والفنان الموسيقي، أناشيد تبلور أماني الحركة الوطنية وطموحها.
واستمر النشيد الوطني المغربي يستمد قوته من النشيد العربي الذي بقي ملازما الإنسان العربي في التعبير عن مواقفه البطولية، وكان شعار كفاحه من أجل الحياة الحرة والكريمة، كما عكس بطولات المرأة والرجل المغربيين؛ إذ انتشرت أناشيد وطنية بطولية بلغات محلية مثل الأمازيغية، ذات نبرة سياسية مرتفعة تستخف بالمستعمر وتدعو إلى مقاومته.
ناس الغيوان بعثوا الحياة في الإيقاعات المطمورة
ويلفت الكاتب إلى أن النهضة الأدبية العربية الحديثة، مع الرابطة القلمية والعُصبة الأندلسية في المهجر الأميركي، أعطت دفعة فنية وفكرية جديدة للنشيد الوطني بخصائصه الموسيقية وأنماطه الشعرية وقوالبه الغنائية، واشتهر بعض الأناشيد في العالم العربي مثل نشيد “ربنا إياك ندعو” الذي نظمه الأديب المصري والبلاغي محمد صادق الرافعي ولحنه محمد داود، ومنه: “ربنا إياك ندعو ربنا/ آتنا النصر الذي وعدتنا/ إننا نبغي رضاك إننا/ ما ارتضينا غير ما ترضى لنا/ أنفسا طاهرة طهر الحرم/ تملأ التاريخ مجدا وكرم/ وافيات بالعهود والذمم/ راقيات للمعالي والهمم”.
أو نشيد الحرية الذي وضع كلماته الشاعر كمال الشناوي ولحنه محمد عبدالوهاب في عام 1952، بمقدمته الموسيقية التي اتخذت في عهد الثورة شعارا لنشرة أخبار القاهرة، وحولت كلمات اللازمة إلى ما يناسب الأوضاع الوطنية في المغرب خلال الخمسينات من القرن الماضي، فجاء ذلك على النحو التالي: “يا قومنا انهضوا/ وكونوا إخوانا/ واتحدوا كي تبلغوا الأمل/ سيروا يدا في يد”، وأصبحت اللازمة المغربية: نحن يا قطر بنوك نفتديك/ نفتدي بالروح حماك نفتديك/ دمنا ملء ثراك نفتديك/ نحن يا قطر بنوك نفتديك”.
وكذلك نشيد “نحن طلال المعالي” الذي لحنه فضول الصائغ وانتشر في المغرب وسط الشباب: “نحن طلال المعالي/ نحن جند العرب/ حين نمشي لا نبالي/ بالأذى والنوب/ بعلوم وفنون/ واتحاد وثبات/ سنقوم ونصون مجدنا حتى الممات”.
ويشير همام إلى أن النشيد قدم للحركة الوطنية المغربية نمطا إبداعيا جديدا في أسلوب نظمه وفي طبيعة لحنه وقوة تأثيره من حيث هز النفوس وإثارة الهمم، متجاوزا المدائح النبوية بألحانها الرتيبة والخاشعة، أو الموشحات الأندلسية بإيقاعها المترف والمسترخي، ما يعني انبثاق روح، وإنسان جديد ارتوى بمضامين أناشيد قوية آتية من المهجر أو من المشرق، مثل نشيد الرياح لميخائيل نعيمة، ومطلعه: “هللي هللي يا رياح/ وانسجي حول نومي وشاح”، ونشيد الشباب لبشارة الخوري ومطلعه: “نحن الشباب لنا الغد/ ومجده المخلد”.
ظاهرة فنية
أغاني ناس الغيوان "كشكول" متداخل من الصيحات والأصوات والموسيقى والإيقاعات قادمة من عمق البادية المغربية والهامش
يؤكد الباحث أن “ناس الغيون” برزت لتعيد إنتاج الاندماج في الهوية والمجال، بعدما فككها الاستعمار وعوامل الصراع على السلطة بعد الاستقلال، وأعادت إنتاج الهوية وتماسكها في مضمون جديد ولحن أصيل ولغة بسيطة وبآلات غنائية شعبية ضاربة الجذور في التراثين المغربي والعربي الأصيلين مثل البندير والدف والطبل والسنتير والبانجو والعود والدعدوع (الهراز) والطمطام.
ويعني استثمار الموروث الشعبي عند ناس الغيوان اللحن الشعبي ولغة يومية متداولة، مشكلين بذلك صورا واستعارات من حياتهم ليحيوا بها، ناقدين حياة البذخ والترف والاستهلاك.
كما استثمرت المجموعة ألحانا شعبية نابعة من الموسيقى العامية ومن منابع لحنية منغرسة في جذور الناس وأعماقهم. بذلك أخرجت “ناس الغيوان” ألحان الفقراء وأهازيجهم وصخبهم ورقصهم وموسيقاهم من التهميش والفضاءات المغلقة في الحارات الشعبية على هامش المدن الكبرى (الدار البيضاء نموذجا)، أو في البوادي المنقطعة والمعزولة، إلى التداول العام عبر الخشبة وعبر الحفلات المتنوعة داخل المغرب وخارجه. وبذلك استطاعت أغاني ناس الغيوان استعادة الجمهور المستلب غربيا إلى أصوله المغربية والعربية وتجذير جذوره وأصوله.
ويوضح همام أن موسيقى ناس الغيوان حررت الموسيقى المغربية من خلال بعث الحياة من جديد في الإيقاعات المطمورة وموسيقاها المهمشة، علاوة على تحريرها الجمهور الفني المغربي من التنميط التعسفي للذوق والموسيقى الذي فرضه المستعمرون عليه، أو فرضته أغنية السلطة التي تمجدها، أو أغنية المعارضة المسكونة بالروح الحزبية المغلقة.
كان خيار ناس الغيوان خارج الخيارات الموجودة، الاستعمارية أو السلطوية أو الحزبية، خيارا فنيا بتعابير موسيقية وإيقاعية تنتمي إلى جل مناطق المغرب السهلية والجبلية والصحراوية، كالعيطة والملحون وكناوة (إيقاع أفريقيا) وأنغام الجنوب (الصحراء) وعبيدات الرمي واللحن الشرقي العربي الأصيل واللحن الأمازيغي (أجماك).
ويلفت الكاتب إلى أن “ناس الغيوان” أحيت الانتماء الجماعي من خلال أدائها الغنائي لفن اجتماعي شاركت الجماعة الاجتماعية في صوغه من حيث التنوع والغنى؛ فإذا كانت الأغنية الوطنية الموالية للسلطة تؤديها جوقة كبيرة (الجوقة الملكية أو الجوقة الوطنية)، فيها عدد من المرددين، في جو يتميز بالسكون، وسطهم مطرب أو مغن أو رايس (مطرب في الحالة الأمازيغية)، جاءت “ناس الغيوان” بأداء جديد كما وكيفا: خمسة أفراد يغنون ويرقصون جميعا ويملأون الخشبة حيوية وتفاعلا ونشاطا.
"ناس الغيوان" برزت لتعيد إنتاج الاندماج في الهوية والمجال، بعدما فككها الاستعمار وعوامل الصراع على السلطة
وإذا كانت الأغنية الوطنية متمركزة حول شخص الحاكم تمدحه وتذكر منجزاته، أو حول تيمة الحب والشوق والحنين، وجاءت بموضوعات سياسية واجتماعية وقومية، يتناوب أعضاؤها في أدائها غناء ورقصا وصياحا وبكاء، فأغنية ناس الغيوان “كشكول” متداخل من الصيحات والأصوات والموسيقى والإيقاعات قادمة من عمق البادية المغربية، المادة الرمادية للشخصية المغربية.
وإذا اعتاد الجمهور جوقات موسيقية جالسة، في الأغنية الوطنية والعصرية، تردد مدح الحاكم وشكاوى الحب والهجران، يقف ناس الغيوان على الخشبة بلباس شعبي بسيط ينتقدون الحاكم، ويرقصون ويصيحون من أجل المساكين ومن أجل فلسطين، ومن أجل أطفال صبرا وشاتيلا، وبلغة وصور وحكم وتعابير مغربية شعبية قريبة من اليومي، لكنه اليومي الجزل والموحي والقوي، وليس المبتذل أو المتآكل من التعابير. يستعملون كلمات عتيقة وموغلة في الانتماء إلى الثقافة المغربية بجذورها العربية: “الخلخال، الكمية، الخيل، الكافلة، النوار”، في جو موسيقي من الاستعاذة والتذكر والحنين إلى حياة الكرامة والنهضة والتألق.
ويتابع همام أنه لهذه الأسباب استقطبت “ناس الغيوان” الجمهور المغربي، فأصبحت ظاهرة فنية بامتياز، تجاوبت مع هموم الشباب واليافعين، وعكست قلقهم الفكري والوجداني وهواجسهم ومثلهم وأحلامهم، بل وأوهامهم، وكل ما كان يشكل خبزهم السياسي اليومي، هم الطامحون إلى أن يكونوا جيل احتجاج وجعل فعل ثقافي وسياسي ونهضوي جديد في المغرب الجديد.
كما ذكّرت “ناس الغيوان” شباب المغرب بالفرق الموسيقية العالمية الكبرى التي كانت تزور المغرب في السبعينات مثل “ذا رولينغ ستونز”، و”ليد زبيلنغ”، و”بينك فلويد” التي كان يستقدمها الموسيقار جيمي هاندريكس إلى مراكش والصويرة (جنوب المغرب)، فإذ بـ”ناس الغيوان” بالنسبة إلى الشباب منبر بوح واستماع لمعاناتهم في أعوام الجمر والرصاص التي عرفها المغرب.
كثافة النص الغنائي
تعبير بصيغة الجمع عن مجتمع مندمج
يكشف همام أن النص الغنائي لمجموعة “ناس الغيوان” حافل بالإيقاعات المعبرة عن التراث الشفوي والشعبي المغربي بامتداداته العربية والأفريقية والإنسانية. يعتمد من حيث الإيقاع على البحر السريع والبسيط، وهما من أبرز بحور الشعر العربي. كما تم توظيف الحضرة الصوفية لتكثيف الدلالة ومراكمة المعنى، وتركيب إلقاعات لحنية متنوعة وغير معهودة، مع استعمال آلات تبدو متنافرة لكنها مندمجة ومتكاملة؛ تجمع البعد الأفريقي لـ”السنتير”، والصوفي الحمدوشي لـ”الهراز” (الطريقة الحمدوشية)، و”طبيلات عيساوة” (الطريقة العساوية)، و”بندير” (دف) الأطلس الأمازيغي، و”البانجو” بصوته المعدني الحاد، والعود بألحانه ونغماته العربية الأصيلة.
ويضيف أن هذه الآلات اندمجت في أهازيج محلية، مثل العيطة والملحون، مما تجسده أغاني “الحصادة” و”الصينية” و”الشمس الطالعة” و”الله يا مولانا” و”الهمامي” و”مزين مديحك”، و”فين غادي بيا” و”جودي برضاك” و”الرغاية” و”ما هموني” و”حن واشفق” و”غادي ف حالي” و”كلام القبيلة” و”ندم” و”سبحان الله”، أو مع أهازيج كناوة وأنغام الجنوب.
كما تجسده أغاني “زاد الهم” و”الصدمة” و”اش جرى ليك” و”النادي أنا” و”ضايعين” و”أولاد العالم” و”غير خودوني” و”البطانة” و”مهمومة”، أو أهازيج عيساوة بامتداداتها اللحنية المشرقية، وتجسده أغاني “دكة” و”السلامة” و”لماذا يا كرامة” و”الله يا مولانا”، مع أهازيج الأنغام العربية الأندلسية كما في أغنية “الله يا مولانا” وهي ألحان وأهازيج قريبة من نفوس المغاربة وذات قوة نفاذ إلى أعماقهم، كما أنها جاهزة لاحتضان وحمل موضوعات اجتماعية وسياسية كبيرة في صياغات وجمل موسيقية بسيطة وسريعة وموحية، وهو ما يشعر المتلقي المغربي بالانتماء والتكتل الجماعي والإحساس بالمشترك.
ويرى همام أن النص الغنائي لمجموعة “ناس الغيوان” يجسد المزج بين إيقاعات مغرب الشاوية والحوز والإيقاعات الأمازيغية والأفريقية الكناوية، وبين الإيقاعات العربية المشرقية والأندلسية، مع الانفتاح على الإيقاعات الإنسانية ذات الخلفية التحررية، صبت فيها مضامين اجتماعية وسياسية وإنسانية، مشكلة بذلك بنية ذهنية ودلالة مندمجة ومتكاملة للهوية الوطنية بروافدها الفنية المتعددة.
إن كثافة النص الغنائي لمجموعة “ناس الغيوان” تدفعنا إلى الانفتاح على المعنى الذي حمله هذا النص والتجاوب معه؛ المعنى كحدث تاريخي ساهم في بنائه السياق، إنسانا ومجالا وزمانا، كما حدد مكوناته الموقف التاريخي للجماعة الوطنية التي صاغت رؤيته وشكلت نموذجه المعرفي الإدراكي والجمالي، وعملت “ناس الغيوان” على تجذيره وصونه بلغة شعبية مقاومة.
محمد الحمامصي
كاتب مصري
مجموعة حررت الموسيقى المغربية وأعادت إنتاج الهوية وتماسكها.
الأحد 2023/12/31
مجموعة استلهمت التراث الشفوي والشعبي المغربي
“ناس الغيوان” لم تكن مجرد فرقة موسيقية مغربية نالت نجاحا عالميا، فعلى مدار عقود لم تقف أغانيها عند حدود السياسة، بل تغنّت بالحياة والوجدان والتراث والأحلام والوطن والهموم الصغيرة للناس، وذاع صيتها في السبعينات والثمانينات، وانتشرت أغانيها بسرعة غريبة، وهو ما جعلها ظاهرة تستحق الدرس.
دور الثقافة بتعبيرها الفني، أي الفن، في تعميق الانتماء الجماعي في المغرب المتعدد هو ما يشكل مادة دراسة الباحث محمد همام “الفن المغربي جاذبا للاندماج الاجتماعي” من خلال التركيز على النص الغنائي لمجموعة “ناس الغيوان” التي ارتبط بها المواطن المغربي لأنه وجد فيها هويته بروافدها المتعددة؛ نص يساعد في استعادة جذوره بمرجعياتها الدينية والإثنية واللسانية وتجذيها للتخلص. حيث كان “ناس الغيوان” تعبيرا بصيغة الجمع عن مجتمع مندمج ومتماسك ومتضامن في آماله وآلامه.
يتصدى همام في دراسته، الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لمشكلة ندرة الأبحاث الخاصة بالثقافة الشعبية والشفوية المغربية، خصوصا في الجانب المتعلق بالمجموعات الموسيقية مثل مجموعة “ناس الغيوان”، مع أنها موسيقى ذات أصول قديمة، تناقل المغاربة قواعدها وتقنياتها ومدخراتها الشعرية والرمزية عبر المشافهة، كما أنها تحمل جملة من القيم والمزايا تضفي على الانتماء إلى الجماعة الوطنية المندمجة معنى وفاعلية.
النشيد العربي
الفرقة ظاهرة فنية تجاوبت مع هموم الشباب واليافعين وعكست قلقهم الفكري والوجداني وهواجسهم ومثلهم وأحلامهم
يرى همام أن النص الغنائي شكّل مكونا أساسيا في المشهد السياسي المغربي، سواء تعلق بالدولة وأجهزتها أو بالقوى الاجتماعية الواسعة؛ وحرص السلاطين المغاربة منذ القديم على تنظيم الاحتفالات الموسيقية، بمناسبة انتصارات عسكرية أو ولادات أو حفلات رسمية وطنية ودينية، حيث تلقى الأشعار أو تقرع فيها الطبول.
كما شكل النص الغنائي بعد الاستقلال أداة من أدوات الصراع على السلطة وأداة مواجهة الاستعمار عبر الأناشيد الوطنية. والنشيد الوطني عبارة عن مقطوعة شعرية قصيرة تقوم على إيقاع خفيف وسريع وتعتمد أداء جماعيا، وغالبا ما تكون مجهولة المصدر؛ إذ كثيرا ما تشارك في صوغها وإنتاجها على مستوى النظم أو على مستوى التلحين نخبة من مثقفي الحركة الوطنية، ومن ضمنها الشاعر والأديب والفنان الموسيقي، أناشيد تبلور أماني الحركة الوطنية وطموحها.
واستمر النشيد الوطني المغربي يستمد قوته من النشيد العربي الذي بقي ملازما الإنسان العربي في التعبير عن مواقفه البطولية، وكان شعار كفاحه من أجل الحياة الحرة والكريمة، كما عكس بطولات المرأة والرجل المغربيين؛ إذ انتشرت أناشيد وطنية بطولية بلغات محلية مثل الأمازيغية، ذات نبرة سياسية مرتفعة تستخف بالمستعمر وتدعو إلى مقاومته.
ناس الغيوان بعثوا الحياة في الإيقاعات المطمورة
ويلفت الكاتب إلى أن النهضة الأدبية العربية الحديثة، مع الرابطة القلمية والعُصبة الأندلسية في المهجر الأميركي، أعطت دفعة فنية وفكرية جديدة للنشيد الوطني بخصائصه الموسيقية وأنماطه الشعرية وقوالبه الغنائية، واشتهر بعض الأناشيد في العالم العربي مثل نشيد “ربنا إياك ندعو” الذي نظمه الأديب المصري والبلاغي محمد صادق الرافعي ولحنه محمد داود، ومنه: “ربنا إياك ندعو ربنا/ آتنا النصر الذي وعدتنا/ إننا نبغي رضاك إننا/ ما ارتضينا غير ما ترضى لنا/ أنفسا طاهرة طهر الحرم/ تملأ التاريخ مجدا وكرم/ وافيات بالعهود والذمم/ راقيات للمعالي والهمم”.
أو نشيد الحرية الذي وضع كلماته الشاعر كمال الشناوي ولحنه محمد عبدالوهاب في عام 1952، بمقدمته الموسيقية التي اتخذت في عهد الثورة شعارا لنشرة أخبار القاهرة، وحولت كلمات اللازمة إلى ما يناسب الأوضاع الوطنية في المغرب خلال الخمسينات من القرن الماضي، فجاء ذلك على النحو التالي: “يا قومنا انهضوا/ وكونوا إخوانا/ واتحدوا كي تبلغوا الأمل/ سيروا يدا في يد”، وأصبحت اللازمة المغربية: نحن يا قطر بنوك نفتديك/ نفتدي بالروح حماك نفتديك/ دمنا ملء ثراك نفتديك/ نحن يا قطر بنوك نفتديك”.
وكذلك نشيد “نحن طلال المعالي” الذي لحنه فضول الصائغ وانتشر في المغرب وسط الشباب: “نحن طلال المعالي/ نحن جند العرب/ حين نمشي لا نبالي/ بالأذى والنوب/ بعلوم وفنون/ واتحاد وثبات/ سنقوم ونصون مجدنا حتى الممات”.
ويشير همام إلى أن النشيد قدم للحركة الوطنية المغربية نمطا إبداعيا جديدا في أسلوب نظمه وفي طبيعة لحنه وقوة تأثيره من حيث هز النفوس وإثارة الهمم، متجاوزا المدائح النبوية بألحانها الرتيبة والخاشعة، أو الموشحات الأندلسية بإيقاعها المترف والمسترخي، ما يعني انبثاق روح، وإنسان جديد ارتوى بمضامين أناشيد قوية آتية من المهجر أو من المشرق، مثل نشيد الرياح لميخائيل نعيمة، ومطلعه: “هللي هللي يا رياح/ وانسجي حول نومي وشاح”، ونشيد الشباب لبشارة الخوري ومطلعه: “نحن الشباب لنا الغد/ ومجده المخلد”.
ظاهرة فنية
أغاني ناس الغيوان "كشكول" متداخل من الصيحات والأصوات والموسيقى والإيقاعات قادمة من عمق البادية المغربية والهامش
يؤكد الباحث أن “ناس الغيون” برزت لتعيد إنتاج الاندماج في الهوية والمجال، بعدما فككها الاستعمار وعوامل الصراع على السلطة بعد الاستقلال، وأعادت إنتاج الهوية وتماسكها في مضمون جديد ولحن أصيل ولغة بسيطة وبآلات غنائية شعبية ضاربة الجذور في التراثين المغربي والعربي الأصيلين مثل البندير والدف والطبل والسنتير والبانجو والعود والدعدوع (الهراز) والطمطام.
ويعني استثمار الموروث الشعبي عند ناس الغيوان اللحن الشعبي ولغة يومية متداولة، مشكلين بذلك صورا واستعارات من حياتهم ليحيوا بها، ناقدين حياة البذخ والترف والاستهلاك.
كما استثمرت المجموعة ألحانا شعبية نابعة من الموسيقى العامية ومن منابع لحنية منغرسة في جذور الناس وأعماقهم. بذلك أخرجت “ناس الغيوان” ألحان الفقراء وأهازيجهم وصخبهم ورقصهم وموسيقاهم من التهميش والفضاءات المغلقة في الحارات الشعبية على هامش المدن الكبرى (الدار البيضاء نموذجا)، أو في البوادي المنقطعة والمعزولة، إلى التداول العام عبر الخشبة وعبر الحفلات المتنوعة داخل المغرب وخارجه. وبذلك استطاعت أغاني ناس الغيوان استعادة الجمهور المستلب غربيا إلى أصوله المغربية والعربية وتجذير جذوره وأصوله.
ويوضح همام أن موسيقى ناس الغيوان حررت الموسيقى المغربية من خلال بعث الحياة من جديد في الإيقاعات المطمورة وموسيقاها المهمشة، علاوة على تحريرها الجمهور الفني المغربي من التنميط التعسفي للذوق والموسيقى الذي فرضه المستعمرون عليه، أو فرضته أغنية السلطة التي تمجدها، أو أغنية المعارضة المسكونة بالروح الحزبية المغلقة.
كان خيار ناس الغيوان خارج الخيارات الموجودة، الاستعمارية أو السلطوية أو الحزبية، خيارا فنيا بتعابير موسيقية وإيقاعية تنتمي إلى جل مناطق المغرب السهلية والجبلية والصحراوية، كالعيطة والملحون وكناوة (إيقاع أفريقيا) وأنغام الجنوب (الصحراء) وعبيدات الرمي واللحن الشرقي العربي الأصيل واللحن الأمازيغي (أجماك).
ويلفت الكاتب إلى أن “ناس الغيوان” أحيت الانتماء الجماعي من خلال أدائها الغنائي لفن اجتماعي شاركت الجماعة الاجتماعية في صوغه من حيث التنوع والغنى؛ فإذا كانت الأغنية الوطنية الموالية للسلطة تؤديها جوقة كبيرة (الجوقة الملكية أو الجوقة الوطنية)، فيها عدد من المرددين، في جو يتميز بالسكون، وسطهم مطرب أو مغن أو رايس (مطرب في الحالة الأمازيغية)، جاءت “ناس الغيوان” بأداء جديد كما وكيفا: خمسة أفراد يغنون ويرقصون جميعا ويملأون الخشبة حيوية وتفاعلا ونشاطا.
"ناس الغيوان" برزت لتعيد إنتاج الاندماج في الهوية والمجال، بعدما فككها الاستعمار وعوامل الصراع على السلطة
وإذا كانت الأغنية الوطنية متمركزة حول شخص الحاكم تمدحه وتذكر منجزاته، أو حول تيمة الحب والشوق والحنين، وجاءت بموضوعات سياسية واجتماعية وقومية، يتناوب أعضاؤها في أدائها غناء ورقصا وصياحا وبكاء، فأغنية ناس الغيوان “كشكول” متداخل من الصيحات والأصوات والموسيقى والإيقاعات قادمة من عمق البادية المغربية، المادة الرمادية للشخصية المغربية.
وإذا اعتاد الجمهور جوقات موسيقية جالسة، في الأغنية الوطنية والعصرية، تردد مدح الحاكم وشكاوى الحب والهجران، يقف ناس الغيوان على الخشبة بلباس شعبي بسيط ينتقدون الحاكم، ويرقصون ويصيحون من أجل المساكين ومن أجل فلسطين، ومن أجل أطفال صبرا وشاتيلا، وبلغة وصور وحكم وتعابير مغربية شعبية قريبة من اليومي، لكنه اليومي الجزل والموحي والقوي، وليس المبتذل أو المتآكل من التعابير. يستعملون كلمات عتيقة وموغلة في الانتماء إلى الثقافة المغربية بجذورها العربية: “الخلخال، الكمية، الخيل، الكافلة، النوار”، في جو موسيقي من الاستعاذة والتذكر والحنين إلى حياة الكرامة والنهضة والتألق.
ويتابع همام أنه لهذه الأسباب استقطبت “ناس الغيوان” الجمهور المغربي، فأصبحت ظاهرة فنية بامتياز، تجاوبت مع هموم الشباب واليافعين، وعكست قلقهم الفكري والوجداني وهواجسهم ومثلهم وأحلامهم، بل وأوهامهم، وكل ما كان يشكل خبزهم السياسي اليومي، هم الطامحون إلى أن يكونوا جيل احتجاج وجعل فعل ثقافي وسياسي ونهضوي جديد في المغرب الجديد.
كما ذكّرت “ناس الغيوان” شباب المغرب بالفرق الموسيقية العالمية الكبرى التي كانت تزور المغرب في السبعينات مثل “ذا رولينغ ستونز”، و”ليد زبيلنغ”، و”بينك فلويد” التي كان يستقدمها الموسيقار جيمي هاندريكس إلى مراكش والصويرة (جنوب المغرب)، فإذ بـ”ناس الغيوان” بالنسبة إلى الشباب منبر بوح واستماع لمعاناتهم في أعوام الجمر والرصاص التي عرفها المغرب.
كثافة النص الغنائي
تعبير بصيغة الجمع عن مجتمع مندمج
يكشف همام أن النص الغنائي لمجموعة “ناس الغيوان” حافل بالإيقاعات المعبرة عن التراث الشفوي والشعبي المغربي بامتداداته العربية والأفريقية والإنسانية. يعتمد من حيث الإيقاع على البحر السريع والبسيط، وهما من أبرز بحور الشعر العربي. كما تم توظيف الحضرة الصوفية لتكثيف الدلالة ومراكمة المعنى، وتركيب إلقاعات لحنية متنوعة وغير معهودة، مع استعمال آلات تبدو متنافرة لكنها مندمجة ومتكاملة؛ تجمع البعد الأفريقي لـ”السنتير”، والصوفي الحمدوشي لـ”الهراز” (الطريقة الحمدوشية)، و”طبيلات عيساوة” (الطريقة العساوية)، و”بندير” (دف) الأطلس الأمازيغي، و”البانجو” بصوته المعدني الحاد، والعود بألحانه ونغماته العربية الأصيلة.
ويضيف أن هذه الآلات اندمجت في أهازيج محلية، مثل العيطة والملحون، مما تجسده أغاني “الحصادة” و”الصينية” و”الشمس الطالعة” و”الله يا مولانا” و”الهمامي” و”مزين مديحك”، و”فين غادي بيا” و”جودي برضاك” و”الرغاية” و”ما هموني” و”حن واشفق” و”غادي ف حالي” و”كلام القبيلة” و”ندم” و”سبحان الله”، أو مع أهازيج كناوة وأنغام الجنوب.
كما تجسده أغاني “زاد الهم” و”الصدمة” و”اش جرى ليك” و”النادي أنا” و”ضايعين” و”أولاد العالم” و”غير خودوني” و”البطانة” و”مهمومة”، أو أهازيج عيساوة بامتداداتها اللحنية المشرقية، وتجسده أغاني “دكة” و”السلامة” و”لماذا يا كرامة” و”الله يا مولانا”، مع أهازيج الأنغام العربية الأندلسية كما في أغنية “الله يا مولانا” وهي ألحان وأهازيج قريبة من نفوس المغاربة وذات قوة نفاذ إلى أعماقهم، كما أنها جاهزة لاحتضان وحمل موضوعات اجتماعية وسياسية كبيرة في صياغات وجمل موسيقية بسيطة وسريعة وموحية، وهو ما يشعر المتلقي المغربي بالانتماء والتكتل الجماعي والإحساس بالمشترك.
ويرى همام أن النص الغنائي لمجموعة “ناس الغيوان” يجسد المزج بين إيقاعات مغرب الشاوية والحوز والإيقاعات الأمازيغية والأفريقية الكناوية، وبين الإيقاعات العربية المشرقية والأندلسية، مع الانفتاح على الإيقاعات الإنسانية ذات الخلفية التحررية، صبت فيها مضامين اجتماعية وسياسية وإنسانية، مشكلة بذلك بنية ذهنية ودلالة مندمجة ومتكاملة للهوية الوطنية بروافدها الفنية المتعددة.
إن كثافة النص الغنائي لمجموعة “ناس الغيوان” تدفعنا إلى الانفتاح على المعنى الذي حمله هذا النص والتجاوب معه؛ المعنى كحدث تاريخي ساهم في بنائه السياق، إنسانا ومجالا وزمانا، كما حدد مكوناته الموقف التاريخي للجماعة الوطنية التي صاغت رؤيته وشكلت نموذجه المعرفي الإدراكي والجمالي، وعملت “ناس الغيوان” على تجذيره وصونه بلغة شعبية مقاومة.
محمد الحمامصي
كاتب مصري