العوامل الحيوية ونظرية التطور، اللذات والآلام
٣ - العوامل الحيوية ونظرية التطور : قلنا إن علم النفس لا يكشف عن الميول كشفاً مباشراً بل يكشف عنها بواسطة اللذات والآلام الناشئة عنها . ولذلك كان علم الحياة أقرب إلى معرفة الميول من علم النفس ، لأنه يعلقها ببنية الجسد ، ويعلل بنية الجسد بتطور الأجناس الحية وطريقة علم الحياة ( البيولوجيا ( طريقة موضوعية على عكس علم النفس الذي لا يقرر وجود نزعة خفية إلا إذا دل عليها ألم أو لذة . أما . أما علم الحياة فيعين شروط البقاء بالنسبة إلى كل كائن حي ، ويستنبط منها جملة النزعات والميول ، ثم يفحص عن الصحة ، والمرض ، والكون والفساد ، ويطابق بين حاجات الجسد وبين آثارها في النفس ، فيجد اللذات مطابقة للأفعال النافعة ، والآلام مطابقة للأفعال الضارة ( ۱ ) .
وهذه المطابقة بين اللذة والمنفعة ، وبين الألم والمضرة ، ناشئة عن قانون التكيف Adaptation
لأن الحياة لا تبلغ غايتها إلا إذا حصل بين الجسد والبيئة تكيف و توازن . دع ان الكائن الحي يتغير بسبب هذا التكيف ، وينقل هذه التغيرات المكتسبة إلى أعقابه . والعامل الأساسي في هذا التبدل هو الاصطفاء الطبيعي ، وتنازع البقاء ، فلا يفوز إلا القوي ، ولا يبقى الا الأصلح . وهذا يقتضي مطابقة اللذة للمنفعة ، لانه لو وجد في الطبيعة حيوان يجد اللذة فيما يضره ، والالم فيما ينفعه هنك وانقرض . فبقاء الأنواع الحية دليل اذن على ان الحساسية واقية من الخطر .
قال هربرت سبنسر : ( إذا استبدلنا بكلمة لذة قولنا انها حالة نسعى لاحداثها وابقائها في الشعور ، واستبدلنا بلفظ ألم قولنا انه حالة نسعى لابعادها عن الشعور وانتزاعها من النفس ، وكانت الحالات الشعورية التي يسعى الموجود الحي لابقائها مناسبة للأفعال الضارة وكانت الحالات التي يسعى لابعادها مناسبة للأفعال النافعة ، كان هذا الموجود الحي هالكا لا محالة . لانه لا يحتفظ الا بما يضره ، ولا يهرب إلا مما ينفعه ، وبعبارة أخرى لم يفز في معترك الحياة الا الأجناس الحيوانية التي تجد الأحوال الملائمة في الأفعال النافعة لبقاء الحياة ، والأحوال المنافية في الأفعال الباعثة على انحلال الحياة وفسادها ، ( ۱ ) فالتطور يقتضي إذن مطابقة اللذة للمنفعة ، والألم للمضرة .
ب - تعليل بعض الشواذ : قد يقال ان المطابقة بين اللذة والألم والمنفعة والمضرة ليست تامة ، لأن بعض الحيوانات يأكل النبات السام ، فنقول : ( لا تتفق هداية اللذة والألم في الاصطفاء الطبيعي إلا مع شروط البيئة التي نشأ الحيوان فيها ، ولا يمكن أن يكون الحيوانات المستمرة في البقاء نزعات أو ميول متفقة مع شروط لم تحس بها بعد ، ولما كان كل نوع مضطراً عند ازدياد عدد أفراده ، إلى الانحدار إلى الأقاليم المجاورة ، كان لا بد له من أن يلقى في طريقه ، من وقت إلى آخر ، بعض النباتات ، والغنائم ، والأعداء ، والتأثيرات التي ليس له ولا لأجداده عهد بها ، فيقدم على هذه الأشياء غير المألوفة ، وهو غير عالم بنتائجها . إذا كان الاصطفاء الطبيعي يبعث الحيوان على المهاجرة إلى الأقاليم المجاورة ، كان لا بد له من ان يجد فيها أشياء يجهلها ، فلا غر وإذا أخطأ في التمييز بين النافع والضار .
ج - مناقشة نظرية التطور :
- لا جرم أن مطابقة اللذة للمنفعة والالم للمضرة مطابقة صحيحة بالجملة . ولا خلاف في أن نظرية التطور تريد أن توضح لنا ذلك بصورة علمية ، الا أن ( سبنسر ) أهمل بعض المسائل الاساسية ، التي يجب ضمها إلى نظريته .
من ذلك أن نظرية التطور تعد اللذة دليلا على التكيف التام ، والالم دليلا على التكيف الناقص والحق عن ذلك بعيد . لأن التكيف التام كالعادة يؤدي إلى الاوتوماتيكية ، واللاشعور مثال ذلك أن بعض وظائف الجسد الداخلية ( كدوران الدم أو الافراز أو غير ذلك ) تقوم بعملها في نظام من غير أن نشعر بها . من منا يشعر بكبده وهو يفرز الفليكوجين ، أو بقلبه وهو يفتح سداداته ويغلقها ، أو بدمه ، وهو يجري في الشرايين والأوردة . اننا لا نشعر بهذه الحركات لانها متسقة اتساقاً تاماً . وكلما كان اتساقها أعظم كان التكيف أتم . فكأن اللذة والالم لا يوجدان إلا حيث لم تنتظم الحركات ، أي حيث لم يتم التكيف ، وهذا لم يخطر ببال ) سبنسر ( لانه ظن ان اللذة في التكيف التام ، مع ان التكيف التام ينتهي إلى اللاشعور .
والكائنات التي لم تبلغ هذا التكيف التام هي الكائنات المتحركة ، لانها تنتقل من موضع إلى آخر ، ومن بيئة إلى أخرى ، فتلاقي في طريقها شروطاً ومؤثرات مختلفة عمـا تعودته . ولذلك كانت حساسية الحيوان ناشئة عن حركة كته ، أما النبات فلا حس ! له ، لانه ثابت لا يتحرك ، والخلية النباتية محصورة في قفص من السليلوز . فكأنها محبوسة في سجن لها الطبيعة حيلة التنقل ، ولا حرية الانتخاب ، ولا يفترض وجود للحساسية في لم تهب النبات الا عند اتصافه بالحركة ، مثال ذلك ان بعض النباتات يطبق أوراقه على فريسته وبعضها يغير وضع أوراقه و ازهاره دفاعاً عن نفسه . فالحساسية ملازمة اذن للفاعلية والحركة .
ولكن أعضاء الجسد لا تتساوى في توزع الحساسية . فسطح البدن أكثر حساسية من داخله ، حتى لقد يفتك بعض الامراض في الاعضاء الداخلية فتكا ذريعا من غير أن يحس المريض به . مثال ذلك ان السل قد يفني الرئتين وتمزق القروح نسيج الكبد من غير ان يشعر المريض بشيء . على حين أن خماشة بسيطة لا تضر حياة الجسد قد تولد الما شديداً لا يتناسب مع خطورتها ، فلا يمكننا إذن اكمال تعليل اللذة والالم الا إذا أوضحنا توزع الحساسية .
إن توزع الحساسية تابع لتوزع الأعصاب ، فسطح البدن الخارجي أكثر عصباً من داخله ، الا الجهاز الهضمي فهو أشبه بسطح البدن من حيث ملامسته للمواد الخارجية ، ولا يمكن تعليل توزع الأعصاب على هذه الصورة إلا إذا استندنا إلى تاريخ نشأة الأنواع الحيوانية ( الفيلوجنيا - Phylogenic ) . ولسنا هنا بصدد البحث في نشأة الأنواع ولا في تأثير التطور فيها . ولكننا نقول في ذلك قولاً عاما ، وهو أنه لا يفوز في معترك الحياة إلا الحيوان الذي يرى الخطر فيبتعد عنه . لأن في عدم الشعور بما تهددنا به الطبيعة ذلاً و هواناً . وهذا نتيجة طبيعية لغريزة حب البقاء . ولو قدر لبعض الحيوانات أن تكون أعصابه الداخلية أكثر من أعصابه الخارجية لهلك في معترك الحياة .
وجملة القول ان علم الحياة يساعد علم النفس على تفسير حصول اللذات والآلام ، لأن التحليل النفسي لا يكشف لنا عن النزعات الخفية ، ولا يستدل عليها إلا باللذات والآلام المتصلة بها . أما علم الحياة فيبحث في النزعات بحثاً موضوعياً ، فيقارن بين شهوات الجسد وحاجاته ، وبين حاجاته ونزعاته . فإذا تم له ذلك كان تعليله للذات والآلام بالنزعات والميول تعليلا علمياً موافقاً .
٤ - العوامل الاجتماعية . على أن علم الحياة لا يبدد جميع الظلمات ولا يزيل كل الشبهات ، لانه إذا أراد تعليل بعض اللذات المكتسبة عسر عليه الامر وعز الملتمس ، هناك ميول أكسبنا اياها الاجتماع . فتعليلها على الطريقة الاجتماعية أقرب متناولا وأدنى ملتمسا ، وقد بينا لك سابقاً تأثير الهيئة الاجتماعية في حياة الافراد ، فما من نزعة مهما تكن أولية الا كان للهيئة الاجتماعية فيها أثر . وسنبين لك في المباحث التالية كيف تبعث الحياة الاجتماعية على كبت الميول وتحويلها وتصعيدها ( ١ ) .
و كلما انتشرت ريح العمران ورسخت الحضارة تغيرت بيئة الانسان واختلفت نزعاته ولو أن رجلا من رجال العصر الحاضر كانت له نزعات العصر الحجري لما استفاد منها قوة ولا جمالا ، بل لربما بعثته هذه النزعات على الانخراط في عصابات اللصوص وقطاع الطريق .
فالانسان مضطر إذن إلى تكييف حياته بحسب شروط البيئة . الا ان تغير البيئة قد يكون أسرع من التكيف ، وعند فقدان التكيف يتولد الالم ، لقد كان للانسان قبل التاريخ ضروب من الحس متفقة مع حياة الغزو والسلب ، ومناسبة للاوضاع الاجتماعية القديمة . فلما قل الصيد انصرف الناس إلى حياة الرعي والزرع ، وتكاثروا حق صاروا قبائل ، وطوائف مختلفة ، فأضاعوا بذلك نزعاتهم القديمة ، التي ورثوها عن أجدادهم ، وأرغموا على ضروب من الفعل ليس في سجاياهم الموروثة استعداد لها ( ١ ) . وكما تحول النزعات القديمة دون مؤآلفة المواقف الجديدة وتبعث على الالم ، فكذلك تولد الحياة الجديدة بؤساً وشقاء في نفس الذي لم يستطع ان يخلع ثوبه القديم . لقد كان العمل على نمط واحد مكروها في زمن البداوة ، فلما رسخ العمران أصبح هذا النمط من العمل مألوفاً عند الناس ، ومع ذلك فإن الانسان لا يزال يجد فيه ألماً ، لأنه لم يتعوده بعد ، ولم يؤالف شروطه مؤالفة تامة .
وجملة القول ان لكل حياة اجتماعية احوالاً تؤثر في نفوس الأفراد وتولد فيهم نزعات مكتسبة ، فإذا وافق الفعل هذه النزعات وجد الانسان فيه لذة ، وإذا خالفها وجد فيه ألما . مثال ذلك ان التفاخر بزينة العيش ونعيمه ، والتفاني في طلب المجد ، والتناغي في المراتب الاجتماعية ، ونيل الشهادات والأوسمة ، كل ذلك إذا علل على الطريقة الاجتماعية كان أقرب انقياداً وأسهل مراماً .
وقد جمعت الهيئة الاجتماعية رغائبنا الطبيعية وحاجاتنا المختلفة في مقولات وأجناس عامة ، فلو حللنا مثلا حاجتنا إلى المسكن لوجدناها مركبة من حاجات طبيعية مختلفة ، كالحاجة إلى الملجأ ، والاستدفاء ، والتأنق ، والانس والدعة والسكون ، وحسن المعاشرة والمكانة عند الناس . ولو حللنا أيضاً حبنا للتملك لوجدناه مؤلفاً من حبنا للرفاه والثروة وحبنا للسلطان والسيطرة . فحياتنا الاجتماعية هي التي جمعت هذه النزعات المختلفة مقولة واحدة ، أو جنس واحد .
وقد كنا لا نعرف مقياس رغائبنا الطبيعية فأصبحت رغائبنا بتأثير الهيئة الاجتماعية كميات معينة ، لاننا نقارن بين ثمن الحاجات وشدة الرغائب ( ۲ ) ، ونزنها بميزان المصلحة ، ونفضلها بعضها على بعض .
٣ - العوامل الحيوية ونظرية التطور : قلنا إن علم النفس لا يكشف عن الميول كشفاً مباشراً بل يكشف عنها بواسطة اللذات والآلام الناشئة عنها . ولذلك كان علم الحياة أقرب إلى معرفة الميول من علم النفس ، لأنه يعلقها ببنية الجسد ، ويعلل بنية الجسد بتطور الأجناس الحية وطريقة علم الحياة ( البيولوجيا ( طريقة موضوعية على عكس علم النفس الذي لا يقرر وجود نزعة خفية إلا إذا دل عليها ألم أو لذة . أما . أما علم الحياة فيعين شروط البقاء بالنسبة إلى كل كائن حي ، ويستنبط منها جملة النزعات والميول ، ثم يفحص عن الصحة ، والمرض ، والكون والفساد ، ويطابق بين حاجات الجسد وبين آثارها في النفس ، فيجد اللذات مطابقة للأفعال النافعة ، والآلام مطابقة للأفعال الضارة ( ۱ ) .
وهذه المطابقة بين اللذة والمنفعة ، وبين الألم والمضرة ، ناشئة عن قانون التكيف Adaptation
لأن الحياة لا تبلغ غايتها إلا إذا حصل بين الجسد والبيئة تكيف و توازن . دع ان الكائن الحي يتغير بسبب هذا التكيف ، وينقل هذه التغيرات المكتسبة إلى أعقابه . والعامل الأساسي في هذا التبدل هو الاصطفاء الطبيعي ، وتنازع البقاء ، فلا يفوز إلا القوي ، ولا يبقى الا الأصلح . وهذا يقتضي مطابقة اللذة للمنفعة ، لانه لو وجد في الطبيعة حيوان يجد اللذة فيما يضره ، والالم فيما ينفعه هنك وانقرض . فبقاء الأنواع الحية دليل اذن على ان الحساسية واقية من الخطر .
قال هربرت سبنسر : ( إذا استبدلنا بكلمة لذة قولنا انها حالة نسعى لاحداثها وابقائها في الشعور ، واستبدلنا بلفظ ألم قولنا انه حالة نسعى لابعادها عن الشعور وانتزاعها من النفس ، وكانت الحالات الشعورية التي يسعى الموجود الحي لابقائها مناسبة للأفعال الضارة وكانت الحالات التي يسعى لابعادها مناسبة للأفعال النافعة ، كان هذا الموجود الحي هالكا لا محالة . لانه لا يحتفظ الا بما يضره ، ولا يهرب إلا مما ينفعه ، وبعبارة أخرى لم يفز في معترك الحياة الا الأجناس الحيوانية التي تجد الأحوال الملائمة في الأفعال النافعة لبقاء الحياة ، والأحوال المنافية في الأفعال الباعثة على انحلال الحياة وفسادها ، ( ۱ ) فالتطور يقتضي إذن مطابقة اللذة للمنفعة ، والألم للمضرة .
ب - تعليل بعض الشواذ : قد يقال ان المطابقة بين اللذة والألم والمنفعة والمضرة ليست تامة ، لأن بعض الحيوانات يأكل النبات السام ، فنقول : ( لا تتفق هداية اللذة والألم في الاصطفاء الطبيعي إلا مع شروط البيئة التي نشأ الحيوان فيها ، ولا يمكن أن يكون الحيوانات المستمرة في البقاء نزعات أو ميول متفقة مع شروط لم تحس بها بعد ، ولما كان كل نوع مضطراً عند ازدياد عدد أفراده ، إلى الانحدار إلى الأقاليم المجاورة ، كان لا بد له من أن يلقى في طريقه ، من وقت إلى آخر ، بعض النباتات ، والغنائم ، والأعداء ، والتأثيرات التي ليس له ولا لأجداده عهد بها ، فيقدم على هذه الأشياء غير المألوفة ، وهو غير عالم بنتائجها . إذا كان الاصطفاء الطبيعي يبعث الحيوان على المهاجرة إلى الأقاليم المجاورة ، كان لا بد له من ان يجد فيها أشياء يجهلها ، فلا غر وإذا أخطأ في التمييز بين النافع والضار .
ج - مناقشة نظرية التطور :
- لا جرم أن مطابقة اللذة للمنفعة والالم للمضرة مطابقة صحيحة بالجملة . ولا خلاف في أن نظرية التطور تريد أن توضح لنا ذلك بصورة علمية ، الا أن ( سبنسر ) أهمل بعض المسائل الاساسية ، التي يجب ضمها إلى نظريته .
من ذلك أن نظرية التطور تعد اللذة دليلا على التكيف التام ، والالم دليلا على التكيف الناقص والحق عن ذلك بعيد . لأن التكيف التام كالعادة يؤدي إلى الاوتوماتيكية ، واللاشعور مثال ذلك أن بعض وظائف الجسد الداخلية ( كدوران الدم أو الافراز أو غير ذلك ) تقوم بعملها في نظام من غير أن نشعر بها . من منا يشعر بكبده وهو يفرز الفليكوجين ، أو بقلبه وهو يفتح سداداته ويغلقها ، أو بدمه ، وهو يجري في الشرايين والأوردة . اننا لا نشعر بهذه الحركات لانها متسقة اتساقاً تاماً . وكلما كان اتساقها أعظم كان التكيف أتم . فكأن اللذة والالم لا يوجدان إلا حيث لم تنتظم الحركات ، أي حيث لم يتم التكيف ، وهذا لم يخطر ببال ) سبنسر ( لانه ظن ان اللذة في التكيف التام ، مع ان التكيف التام ينتهي إلى اللاشعور .
والكائنات التي لم تبلغ هذا التكيف التام هي الكائنات المتحركة ، لانها تنتقل من موضع إلى آخر ، ومن بيئة إلى أخرى ، فتلاقي في طريقها شروطاً ومؤثرات مختلفة عمـا تعودته . ولذلك كانت حساسية الحيوان ناشئة عن حركة كته ، أما النبات فلا حس ! له ، لانه ثابت لا يتحرك ، والخلية النباتية محصورة في قفص من السليلوز . فكأنها محبوسة في سجن لها الطبيعة حيلة التنقل ، ولا حرية الانتخاب ، ولا يفترض وجود للحساسية في لم تهب النبات الا عند اتصافه بالحركة ، مثال ذلك ان بعض النباتات يطبق أوراقه على فريسته وبعضها يغير وضع أوراقه و ازهاره دفاعاً عن نفسه . فالحساسية ملازمة اذن للفاعلية والحركة .
ولكن أعضاء الجسد لا تتساوى في توزع الحساسية . فسطح البدن أكثر حساسية من داخله ، حتى لقد يفتك بعض الامراض في الاعضاء الداخلية فتكا ذريعا من غير أن يحس المريض به . مثال ذلك ان السل قد يفني الرئتين وتمزق القروح نسيج الكبد من غير ان يشعر المريض بشيء . على حين أن خماشة بسيطة لا تضر حياة الجسد قد تولد الما شديداً لا يتناسب مع خطورتها ، فلا يمكننا إذن اكمال تعليل اللذة والالم الا إذا أوضحنا توزع الحساسية .
إن توزع الحساسية تابع لتوزع الأعصاب ، فسطح البدن الخارجي أكثر عصباً من داخله ، الا الجهاز الهضمي فهو أشبه بسطح البدن من حيث ملامسته للمواد الخارجية ، ولا يمكن تعليل توزع الأعصاب على هذه الصورة إلا إذا استندنا إلى تاريخ نشأة الأنواع الحيوانية ( الفيلوجنيا - Phylogenic ) . ولسنا هنا بصدد البحث في نشأة الأنواع ولا في تأثير التطور فيها . ولكننا نقول في ذلك قولاً عاما ، وهو أنه لا يفوز في معترك الحياة إلا الحيوان الذي يرى الخطر فيبتعد عنه . لأن في عدم الشعور بما تهددنا به الطبيعة ذلاً و هواناً . وهذا نتيجة طبيعية لغريزة حب البقاء . ولو قدر لبعض الحيوانات أن تكون أعصابه الداخلية أكثر من أعصابه الخارجية لهلك في معترك الحياة .
وجملة القول ان علم الحياة يساعد علم النفس على تفسير حصول اللذات والآلام ، لأن التحليل النفسي لا يكشف لنا عن النزعات الخفية ، ولا يستدل عليها إلا باللذات والآلام المتصلة بها . أما علم الحياة فيبحث في النزعات بحثاً موضوعياً ، فيقارن بين شهوات الجسد وحاجاته ، وبين حاجاته ونزعاته . فإذا تم له ذلك كان تعليله للذات والآلام بالنزعات والميول تعليلا علمياً موافقاً .
٤ - العوامل الاجتماعية . على أن علم الحياة لا يبدد جميع الظلمات ولا يزيل كل الشبهات ، لانه إذا أراد تعليل بعض اللذات المكتسبة عسر عليه الامر وعز الملتمس ، هناك ميول أكسبنا اياها الاجتماع . فتعليلها على الطريقة الاجتماعية أقرب متناولا وأدنى ملتمسا ، وقد بينا لك سابقاً تأثير الهيئة الاجتماعية في حياة الافراد ، فما من نزعة مهما تكن أولية الا كان للهيئة الاجتماعية فيها أثر . وسنبين لك في المباحث التالية كيف تبعث الحياة الاجتماعية على كبت الميول وتحويلها وتصعيدها ( ١ ) .
و كلما انتشرت ريح العمران ورسخت الحضارة تغيرت بيئة الانسان واختلفت نزعاته ولو أن رجلا من رجال العصر الحاضر كانت له نزعات العصر الحجري لما استفاد منها قوة ولا جمالا ، بل لربما بعثته هذه النزعات على الانخراط في عصابات اللصوص وقطاع الطريق .
فالانسان مضطر إذن إلى تكييف حياته بحسب شروط البيئة . الا ان تغير البيئة قد يكون أسرع من التكيف ، وعند فقدان التكيف يتولد الالم ، لقد كان للانسان قبل التاريخ ضروب من الحس متفقة مع حياة الغزو والسلب ، ومناسبة للاوضاع الاجتماعية القديمة . فلما قل الصيد انصرف الناس إلى حياة الرعي والزرع ، وتكاثروا حق صاروا قبائل ، وطوائف مختلفة ، فأضاعوا بذلك نزعاتهم القديمة ، التي ورثوها عن أجدادهم ، وأرغموا على ضروب من الفعل ليس في سجاياهم الموروثة استعداد لها ( ١ ) . وكما تحول النزعات القديمة دون مؤآلفة المواقف الجديدة وتبعث على الالم ، فكذلك تولد الحياة الجديدة بؤساً وشقاء في نفس الذي لم يستطع ان يخلع ثوبه القديم . لقد كان العمل على نمط واحد مكروها في زمن البداوة ، فلما رسخ العمران أصبح هذا النمط من العمل مألوفاً عند الناس ، ومع ذلك فإن الانسان لا يزال يجد فيه ألماً ، لأنه لم يتعوده بعد ، ولم يؤالف شروطه مؤالفة تامة .
وجملة القول ان لكل حياة اجتماعية احوالاً تؤثر في نفوس الأفراد وتولد فيهم نزعات مكتسبة ، فإذا وافق الفعل هذه النزعات وجد الانسان فيه لذة ، وإذا خالفها وجد فيه ألما . مثال ذلك ان التفاخر بزينة العيش ونعيمه ، والتفاني في طلب المجد ، والتناغي في المراتب الاجتماعية ، ونيل الشهادات والأوسمة ، كل ذلك إذا علل على الطريقة الاجتماعية كان أقرب انقياداً وأسهل مراماً .
وقد جمعت الهيئة الاجتماعية رغائبنا الطبيعية وحاجاتنا المختلفة في مقولات وأجناس عامة ، فلو حللنا مثلا حاجتنا إلى المسكن لوجدناها مركبة من حاجات طبيعية مختلفة ، كالحاجة إلى الملجأ ، والاستدفاء ، والتأنق ، والانس والدعة والسكون ، وحسن المعاشرة والمكانة عند الناس . ولو حللنا أيضاً حبنا للتملك لوجدناه مؤلفاً من حبنا للرفاه والثروة وحبنا للسلطان والسيطرة . فحياتنا الاجتماعية هي التي جمعت هذه النزعات المختلفة مقولة واحدة ، أو جنس واحد .
وقد كنا لا نعرف مقياس رغائبنا الطبيعية فأصبحت رغائبنا بتأثير الهيئة الاجتماعية كميات معينة ، لاننا نقارن بين ثمن الحاجات وشدة الرغائب ( ۲ ) ، ونزنها بميزان المصلحة ، ونفضلها بعضها على بعض .
تعليق