نظريات الفاعلية
إن عجز النظريات الذهنية عن إيضاح اللذات والآلام بالاعتقادات والافكار حملنا على البحث في طبيعتها من وجهة أخرى ، أي من وجهة الحياة الفاعلة . وينحصر فلاسفـــــة الفاعلية عندنا في فريقين : فالفريق الاول يزعم أن الفاعلية ينبوع الالم ، والثاني يزعم أنها مصدر اللذة . ولنبحث الآن في كل من هذين المذهبين .
١ - الفاعلية ينبوع الالم : رأي ( ابيقوروس ) و ( كانت ) و ( شوبنهاور ) : كان ابيقوروس ( 1 ) يقول : الفاعلية علة الانفعال ، والإنسان بطبيعته يحب اللذة ، لانه يجد فيها سعادته ، إلا أن اللذة هي انقطاع الالم . وهي إما جسمانية وإما نفسانية ، ولا قيمة لها إلا إذا نسبت إلى الألم . إذن فطبيعتها سلبية ، لأنها لا تتولد إلا من انقطاع الالم . وقد قال ( كانت ) أيضاً : الحياة نضال وجهاد ، وكل جهاد متعب . أما اللذة فهي انقطاع الالم ، أي ترك الواقع والابتعاد عن الحالة الحاضرة ، لانها بؤس وشقاء . فالحياة تقتضي الفعل ، والفعل يولد الألم ( ٢ ) . ومذهب ( كانت ) هذا لا يختلف عن مذهب ( فري Verri ) الفيلسوف الايطالي ، الذي كان يقول ( ابيقوروس ( إن اللذة ليست حالة ايجابية ، وإنما هي انقطاع الألم . ومما قاله ( كانت ) أيضاً ان اللذة لا تعقب اللذة ؛ ولا يمكن إدراكها إلا بعد الألم ، فالالم أساس اللذة ، وهو ضروري للشعور بها ، وقد أخذ ( دو هارتمان ) و ( شوبنهاور ) وغيرهما من المتشائمين بهذا المذهب ، واستدلوا به على فساد الحياة وبؤسها ، فاللذة في اصطلاحهم وسيلة لإثارة الرغائب وزيادة الآلام . مثال ذلك أن الجوع أحد الآلام ، تحس به النفس عند خلو المعدة من الطعام ، فاذا نهض الجسد في طلب القوت أزال عنه الفساد وعن النفس الألم ، وإذا سكنت حاجة الأكل وامتلأت المعدة وجدت النفس بذلك راحة ، فتسمى تلك الراحة لذة .
مناقشة هذا المذهب : - لا جرم أن في كلام ( ابيقوروس ) و ( كانت ) و ( شوبنهاور ) شيئاً من الحقيقة لربطهم اللذات والآلام بالفاعلية ، إلا أن النتائج التي توصلوا اليها غير و عام صادقة ، لأن الفاعلية في زعمهم لا تولد إلا الألم ، ولذلك ، فإما أن يمتنع الانسان عن الفعل ويحجم عن الحركة ليتخلص من الشقاء ، فيعيش في ( نيروانا ( البوذيين ، ويغرق في لذة السكون ، وإما أن يسعى جهده لابعاد الألم عن نفسه ، فيقتنص ا اللذات بها ، وينتهج الأنانية له مسلكا - يقولون ان الحياة جهاد وشقاء - ولكن الجهاد قد يولد اللذة ولا يتولد الألم من الفعل إلا إذا طال وخرج عن حد الاعتدال . واشد ما يكون الانقطاع عن العمل مؤلماً . قال ( باسكال ( ( إذا شكا اليك أحد الناس شقاءه ، وتعبه فاتر که دون عمل » ومعنى ذلك أن البطالة أشد ايلاماً للنفس من العمل . أضف إلى ذلك أن اللذة قد تعقب اللذة ، خلافاً لما ذهب اليه ( كانت ) ، وأن الألم قد يتولد أحياناً من انقطاع اللذة . فلا يمكنك اذن أن تجعل الألم ماهية الحياة والفاعلية .
۲ - الفاعلية ينبوع اللذة : - لقد أجمع معظم فلاسفة زماننا على نبذ نظرية ) شوبنهاور ) وقبول نظرية ارسطو . فما هي هذه النظرية .
آ - مبدأ نظرية آرسطو : -- اللذة تتولد من الفاعلية . قال المعلم الأول :
- د يظهر أن السعادة والهناء لا يكونان إلا في الفعل . اللذة ليست الفعل نفسه ، ولا صفة داخلية ذاتية له ، وإنما هي كمال نهائي ، يتمم الفعل وينضم اليه ، كانضمام زهرة الشباب إلى السنين السعيدة التي تنعشها .
لكل عمل لذة تخصه ، وغاية اللذة هي أن تزيد شدة العمل المرتبطة به ، ( ۱ )
ولكن إذا كانت اللذة في الفعل فلماذا لا تكون مستمرة ، ولماذا تنقلب إلى ألم بعد استمرار الفعل ؟ . إن في السير على الاقدام لذة ؛ ولكن المشي إذا طال ولد ألماً .
ومع ان ( ارسطو ) لم يقل إن اللذة تتراخى وتنتهي بانتهاء الفعل فانا نقول توضيحاً لكلامه ان الملكات الإنسانية عاجزة عن الفعل باستمرار ، فالفعل شيء ، والإفراط في الفعل شيء آخر . فاللذة اذن في الفعل المعتدل .
( الشكل - ١٨ )
الخط البياني المتصل يمثل ازدياد شدة الإحساس ، والخط المشرط ب ك ك ح يمثل تغير حالة الانفعال . فالقسم الذي فوق الفاصلة ) م ص ( موجب ، وهو يذل على اللذة ، والقسم الذي تحتها سالب وهو يدل على الالم . فأكبر لذة توجد في ( ك ) وأقلها في ( ب ) و ( ح ) فإذا قطع خط الانفعال الفاصلة ( مس ) انقلبت اللذة إلى ألم ، فاللذة اذن في الفعل المعتدل .
ب - تصحيح هاميلتون : - وقد صحح ( هاميلتون ( كلام ارسطو بقوله : القدرة الملائمة هي القدرة الكاملة . ولكن ما هي القدرة الكاملة ؟ القدرة لا تكون كاملة إلا إذا كان المقدار المصروف منها معادلاً للمقدار المدخر من غير زيادة ولا نقصان . فالنتيجة تابعة اذن لكمية الفاعلية المصروفة ولشدة المؤثر . قال سبنسر : ( وإذا وضعت الآلام السلبية المتولدة من الاحتياج وفقدان العمل في طرف ، وجعلت الآلام الإيجابية الناشئة
عن ازدياد الفعل في طرف آخر ، كانت اللذة مطابقة للأعمال المحصورة بين هذين الطرفين ، ( ١ ) ، فهناك آلام متولدة من فقدان الفعل ، كالاحتياج إلى سماع الصوت بعد الصمت الطويل ، والاحتياج إلى النور بعد الظلام الدامس ، والاحتياج إلى الحركة بعد السكون . وهناك آلام متولدة من الإفراط في الفعل . كالحاجة إلى السكون بعد الحركة . والحاجة إلى الراحة بعد العمل الخ ... إذن فاللذة محصورة بين ألمين ، لا توجد في الإفراط ولا في التفريط ، بل هي في الفعل المتعدل .
تعليق