طبيعة اللذة والالم
فرغنا من ذكر شروط اللذة والألم ، ورأينا أن اللذات والآلام لا تخلو من العناصر الفاعلة والعناصر الذهنية الفكرية ، ونريد الآن أن نبين طبيعتها وإلى أي عنصر من هذه العناصر يمكن انحلالها .
آ ـ المذهب الذهني
المذهب الذهني يريد تعليل الحالات الانفعالية بالحالات الفكرية التي تنحل اليها . ولذلك قال أصحاب هذا المذهب : ان اللذات والآلام ناشئة عن الاعتقادات ، وان العواطف مبنية هلى الأفكار والتصورات . فاللذة هي الشعور بالكمال ، والألم هو الشعور بالنقص ، فاذا كنت أعتقد أن في قراءة هذا الكتاب الصعب كمالاً لنفسي ، وجدت في قراءته لذة بالرغم من صعوبته . وإذا نظر المصور إلى تصاويره فألفاها دون ما كان يتصور من الكمال ، وجد في النظر اليها ألما . فاللذات والآلام تابعة الآراء والأحكام . والأحكام الانفعالية هي أحكام قيم مبهمة .
يرجع القول بهذه النظرية في العصور الحديثة إلى ( ديكارت ) ، لأنه قال : « أساس رضات شهادة الشعور الداخلي بحصولنا على شيء من الكمال ( ۱ ) ، وقال أيضاً في كتاب الأهواء : ( الشرور انفعال ملائم للنفس يبعثها على التلذذ بالخير الذي تمثله لها تأثيرات الدماغ . والحزن ضنى مناف للنفس يبعثها على الشعور بمضض الشر والنقصان الذي ينقله اليها تأثير الدماغ ( ٢ ) ،
ولكن ( ديكارت ( يفرق بين الجسماني والنفساني من اللذات والآلام . وتدل قرائن كلامه على أنه أراد تعليل الجسماني لا النفساني منها .
وقد حذا ( ليبنيز ) حذو ( ديكارت ) فقال . ( أظن أن اللذة . هي الشعور بالكمال ، والألم هو الشعور بالنقص ثم أبلغ ( وولف ) أحد تلاميذ ( ليبنيز ) هذه النظرية إلى نهايتها ، فزعم أن اللذة تتولد من التأمل في الكمال ، والألم من التأمل في عدمه .
فالمذهب الذهني يبين اذن ان للرأي والفكر أثراً عظيماً في حدوث اللذة والألم . وهذا مطابق لما يعتقده الناس جميعاً . فسعادتنا وشقاؤنا ناشنان عن آرائنا . والانسان يكون سعيداً ما دام يجهل الخطر المحدق به ، حق لقد بين المتشائمون أن عقل الانسان وعلمه وتحضره وذوقه مدعاة إلى الألم والشقاء . فكلما ازداد علم الانسان اتسع أفقه ، ورأى مثلا علياً جديدة تبعده عن الواقع ، فيتألم مما هو فيه ، ويشقى بعلمه ، فلا غرو إذا قال المتشائمون : من أراد اسعاد الناس ، فلا يعلمهم ، لأن العلم باعث على الشقاء ( ٤ ) .
وعلى ذلك فاذا كان العلم يشقينا فخير لنا أن لا نعلم ( ۱ ) . ونحن حقيقون بأن ننعم في الجهل والادراك المبهم . ولكن من ذا الذي يريد أن يغرق في العماية ، وينعم في الجهالة ؟ كل منا يريد أن يعلو في أفق المعقولات ويوسع ميدان نظره ، كل منا كما قال ( رينان ) جدير بهذا الألم الشريف ( ٢ ) .
وقصارى القول ، إن المذهب الذهني يجعل الأحوال الانفعالية ناشئة عن الرأي والاعتقاد والتصور . ولو حللنا شروط الاعتقاد كما حللنا شروط اللذات والآلام لوصلنا إلى نتيجة مخالفة لهذه ، فليس التلذذ بالشيء ناشئاً عن الرأي ، ولكن الرأي نفسه ربما كان ناشئاً عن اللذة والالم . يقولون لي : لو لم تعتقد ان الفقر شر لما تألمت منه ، فألمك مبني على رأيك واعتقادك ، ولو كنت رواقياً لما تألمت ، ليكن لك روح الزهاد وأخلاق ( كليانت ) و ( ابيكتيت ( فلا تتألم عند ذلك من الفقر ، فأجيب عن ذلك بقولي : نعم ، لو كنت رواقياً لما تألمت . إلا انني لست رواقياً ما دمت اتألم ، فإما ان يكون تألمي من الفقر ناشئا من خوفي منه . وأما ان يكون خوفي منه ناشئاً عن ألمي . لا شك في اني لم عن أخف من الفقر إلا لانني وجدت فيا مسا وألماً ، فليس ألمي ناشئاً عن رأيي ، ولكن رأيي متولد من ألمي .
فأنت ترى أن الحالات الانفعالية لا تخلو من العناصر الفكرية ، إلا أن ارجاعها إليها مسألة خلافية لم يقم عليها برهان . لانها منيعة الطلب ، صعبة المرام . ولعل هذا التعليل الفكري يصلح للذات والآلام النفسانية لا للذات والآلام الجسمانية ، وسيتضح لك ذلك عند البحث في نظرية ( هوبارت ) وتعليله اللذات والآلام النفسانية بالتصورات .
------------------------------------------
هؤلاء المساكين سيصبحون اشقياء حينما تفتح ابصارهم . ولكن غاية الحياة ليست السعادة ، وانما هي الكمال ، ولهؤلاء كما لغيرهم حق في هذا الالم الشريف » .
( ۱ ) قال ليبنيز ما خلاصته : « ولذلك فان الخالق اللانهائي الحكمة قد خلقنا على هذه الصورة الخيرنا . فاراد ان نكون في الجهل والادراك المبهم ، حتى نعمل بالفريزة مسرعين ، من غير ان يزعجنا احساسنا بالاشياء التي لا ترضينا . . وهي أشياء ليس بمقدور الطبيعة ان تستغني عنها ، لانها تريد بها تحقيق غايتها . فكم حشرة تبتلع من غير ان نعلم ! ولو كانت عيوننا أقوى مما هي عليه الآن ، لرأينا كثيراً من الاشياء الكريهة المحاولات الجديدة في الذهن البشري ، ص ۱۲۱ .
( ۲ ) قال ديكارت : لقد تخالجني الشك احياناً تساءلت نفسي ، هل ينبغي للانسان أن يكون مسروراً راضياً بامواله التي يخيل اليه انها اكثر واعظم مما هي حقيقة ، وجاهلا لا يقف على ما ينقصه ، أم ينبغي له أن يكون اكثر ملاحظة وعلماً ، ليعرف قيمة ما عنده ، وما عند غيره ، فيصبح بذلك حزيناً ؟ لو كنت اعتقد ان الخير الاعلى في اللذة لما ترددت في انه ينبغي للانسان ان يقتنص اللذات مهما يكن ذلك غالياً ، والحبذت قساوة الذين يغسلون همومهم وآلامهم بالخمر ، أو يخدرونها بالتبغ ، ولكني اميز الخير الاعلى الموجود في ممارسة الفضيلة - او ( وهذا عين الاول ( في امتلاك كل الكمالات التي نكتسبها بحرية الاختيار - عن رضا النفس وسرورها الذي يعقب هذا الكسب ، ولذلك فانني بعد ان رأيت ان معرفة الحقيقة - وان كانت مضادة لمنفعتنا - أكثر كمالا من جهلها ، قلت : خير للانسان ان يكون قليل السرور ، وان يكون كثير المعرفة » وسائل ديكارت إلى الاميرة اليصابات ، مجلد ٤ ص ٣٠٤ - ٣٠٥ .
فرغنا من ذكر شروط اللذة والألم ، ورأينا أن اللذات والآلام لا تخلو من العناصر الفاعلة والعناصر الذهنية الفكرية ، ونريد الآن أن نبين طبيعتها وإلى أي عنصر من هذه العناصر يمكن انحلالها .
آ ـ المذهب الذهني
المذهب الذهني يريد تعليل الحالات الانفعالية بالحالات الفكرية التي تنحل اليها . ولذلك قال أصحاب هذا المذهب : ان اللذات والآلام ناشئة عن الاعتقادات ، وان العواطف مبنية هلى الأفكار والتصورات . فاللذة هي الشعور بالكمال ، والألم هو الشعور بالنقص ، فاذا كنت أعتقد أن في قراءة هذا الكتاب الصعب كمالاً لنفسي ، وجدت في قراءته لذة بالرغم من صعوبته . وإذا نظر المصور إلى تصاويره فألفاها دون ما كان يتصور من الكمال ، وجد في النظر اليها ألما . فاللذات والآلام تابعة الآراء والأحكام . والأحكام الانفعالية هي أحكام قيم مبهمة .
يرجع القول بهذه النظرية في العصور الحديثة إلى ( ديكارت ) ، لأنه قال : « أساس رضات شهادة الشعور الداخلي بحصولنا على شيء من الكمال ( ۱ ) ، وقال أيضاً في كتاب الأهواء : ( الشرور انفعال ملائم للنفس يبعثها على التلذذ بالخير الذي تمثله لها تأثيرات الدماغ . والحزن ضنى مناف للنفس يبعثها على الشعور بمضض الشر والنقصان الذي ينقله اليها تأثير الدماغ ( ٢ ) ،
ولكن ( ديكارت ( يفرق بين الجسماني والنفساني من اللذات والآلام . وتدل قرائن كلامه على أنه أراد تعليل الجسماني لا النفساني منها .
وقد حذا ( ليبنيز ) حذو ( ديكارت ) فقال . ( أظن أن اللذة . هي الشعور بالكمال ، والألم هو الشعور بالنقص ثم أبلغ ( وولف ) أحد تلاميذ ( ليبنيز ) هذه النظرية إلى نهايتها ، فزعم أن اللذة تتولد من التأمل في الكمال ، والألم من التأمل في عدمه .
فالمذهب الذهني يبين اذن ان للرأي والفكر أثراً عظيماً في حدوث اللذة والألم . وهذا مطابق لما يعتقده الناس جميعاً . فسعادتنا وشقاؤنا ناشنان عن آرائنا . والانسان يكون سعيداً ما دام يجهل الخطر المحدق به ، حق لقد بين المتشائمون أن عقل الانسان وعلمه وتحضره وذوقه مدعاة إلى الألم والشقاء . فكلما ازداد علم الانسان اتسع أفقه ، ورأى مثلا علياً جديدة تبعده عن الواقع ، فيتألم مما هو فيه ، ويشقى بعلمه ، فلا غرو إذا قال المتشائمون : من أراد اسعاد الناس ، فلا يعلمهم ، لأن العلم باعث على الشقاء ( ٤ ) .
وعلى ذلك فاذا كان العلم يشقينا فخير لنا أن لا نعلم ( ۱ ) . ونحن حقيقون بأن ننعم في الجهل والادراك المبهم . ولكن من ذا الذي يريد أن يغرق في العماية ، وينعم في الجهالة ؟ كل منا يريد أن يعلو في أفق المعقولات ويوسع ميدان نظره ، كل منا كما قال ( رينان ) جدير بهذا الألم الشريف ( ٢ ) .
وقصارى القول ، إن المذهب الذهني يجعل الأحوال الانفعالية ناشئة عن الرأي والاعتقاد والتصور . ولو حللنا شروط الاعتقاد كما حللنا شروط اللذات والآلام لوصلنا إلى نتيجة مخالفة لهذه ، فليس التلذذ بالشيء ناشئاً عن الرأي ، ولكن الرأي نفسه ربما كان ناشئاً عن اللذة والالم . يقولون لي : لو لم تعتقد ان الفقر شر لما تألمت منه ، فألمك مبني على رأيك واعتقادك ، ولو كنت رواقياً لما تألمت ، ليكن لك روح الزهاد وأخلاق ( كليانت ) و ( ابيكتيت ( فلا تتألم عند ذلك من الفقر ، فأجيب عن ذلك بقولي : نعم ، لو كنت رواقياً لما تألمت . إلا انني لست رواقياً ما دمت اتألم ، فإما ان يكون تألمي من الفقر ناشئا من خوفي منه . وأما ان يكون خوفي منه ناشئاً عن ألمي . لا شك في اني لم عن أخف من الفقر إلا لانني وجدت فيا مسا وألماً ، فليس ألمي ناشئاً عن رأيي ، ولكن رأيي متولد من ألمي .
فأنت ترى أن الحالات الانفعالية لا تخلو من العناصر الفكرية ، إلا أن ارجاعها إليها مسألة خلافية لم يقم عليها برهان . لانها منيعة الطلب ، صعبة المرام . ولعل هذا التعليل الفكري يصلح للذات والآلام النفسانية لا للذات والآلام الجسمانية ، وسيتضح لك ذلك عند البحث في نظرية ( هوبارت ) وتعليله اللذات والآلام النفسانية بالتصورات .
------------------------------------------
هؤلاء المساكين سيصبحون اشقياء حينما تفتح ابصارهم . ولكن غاية الحياة ليست السعادة ، وانما هي الكمال ، ولهؤلاء كما لغيرهم حق في هذا الالم الشريف » .
( ۱ ) قال ليبنيز ما خلاصته : « ولذلك فان الخالق اللانهائي الحكمة قد خلقنا على هذه الصورة الخيرنا . فاراد ان نكون في الجهل والادراك المبهم ، حتى نعمل بالفريزة مسرعين ، من غير ان يزعجنا احساسنا بالاشياء التي لا ترضينا . . وهي أشياء ليس بمقدور الطبيعة ان تستغني عنها ، لانها تريد بها تحقيق غايتها . فكم حشرة تبتلع من غير ان نعلم ! ولو كانت عيوننا أقوى مما هي عليه الآن ، لرأينا كثيراً من الاشياء الكريهة المحاولات الجديدة في الذهن البشري ، ص ۱۲۱ .
( ۲ ) قال ديكارت : لقد تخالجني الشك احياناً تساءلت نفسي ، هل ينبغي للانسان أن يكون مسروراً راضياً بامواله التي يخيل اليه انها اكثر واعظم مما هي حقيقة ، وجاهلا لا يقف على ما ينقصه ، أم ينبغي له أن يكون اكثر ملاحظة وعلماً ، ليعرف قيمة ما عنده ، وما عند غيره ، فيصبح بذلك حزيناً ؟ لو كنت اعتقد ان الخير الاعلى في اللذة لما ترددت في انه ينبغي للانسان ان يقتنص اللذات مهما يكن ذلك غالياً ، والحبذت قساوة الذين يغسلون همومهم وآلامهم بالخمر ، أو يخدرونها بالتبغ ، ولكني اميز الخير الاعلى الموجود في ممارسة الفضيلة - او ( وهذا عين الاول ( في امتلاك كل الكمالات التي نكتسبها بحرية الاختيار - عن رضا النفس وسرورها الذي يعقب هذا الكسب ، ولذلك فانني بعد ان رأيت ان معرفة الحقيقة - وان كانت مضادة لمنفعتنا - أكثر كمالا من جهلها ، قلت : خير للانسان ان يكون قليل السرور ، وان يكون كثير المعرفة » وسائل ديكارت إلى الاميرة اليصابات ، مجلد ٤ ص ٣٠٤ - ٣٠٥ .
تعليق