Mohammad Kujjah - مثقفو حلب
· ١٠ أبريل،2022 م ·
زرياب عَلَم الموسيقى والحضارة في التاريخ العربي
القسم الثاني :
“زرياب” في الأندلس وقرطبة
1 - كان “عبد الرحمن بن الحكَم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل” قد ولّي الحكْم بعد وفاة أبيه “الحكَم”. وتـرى بعض المصادر أن “زرياب” قد وفد على الأندلس بدعوةٍ من “الحكَم بن هشام”، ولكن “الحكَم” توفي قبل وصول “زرياب”، فجدّد “عبد الرحمن الأوسط” الدعوة لزرياب، وكان عندئذ في القيروان عند الأغالبة.
وما يتفق عليه الرواة، هو أن “عبد الرحمن” أمير الأندلس الأموي خرج بنفسه إلى ظاهر قرطبة لاستقبال “زرياب”، وأظهر له من التكريم وحفاوة اللقاء ما أدهشه وأدخل بالغ السرور على نفسه.
عرف “زرياب” في قرطبة ما نسميه اليوم بالتفرّغ الأدبي أو الفني، فقد أجرى له الأمير مرتباً شهرياً مغرياً، ومنحه إقطاعات ودوراً قدّرت بأربعين ألفاً أو قدّر دخلها بذلك.
كانت قرطبة في ذلك العصر تمشي بخطواتٍ واثقة نحو الازدهار الاقتصادي والنضوج الحضاري والثقافي والفني، وكانت تستعدّ في ذلك لمنافسة بغداد التي بلغت أوجها في عصر “الرشيد” وابنه “المأمون”.
2 - ويرى “ابن خلدون” أن الاستقرار والازدهار الاقتصادي لا بد أن يليهما مظاهر الفرح والترف، وهو يقول حرفيّاً في مقدّمته المشهورة: (فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف، وطما منها بأشبيلية بحرٌ زاخر، وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية والمغرب وانقسم على أمصارها. وبها الآن منها صبابةٌ على تراجع عمرانها وتناقص دولها. وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع، لأنها كماليّةٌ في غير وظيفةٍ من الوظائف إلاّ وظيفة الفراغ والفرح، وهي أيضاً أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه، والله أعلم).
*****
وهكذا تخلص “زرياب” من عملية الجري وراء الرزق واكتساب القوت اليومي، فقد جاءه ذلك سيلاً غدقاً، مما جعله ينقطع لفنه وأدبه وموسيقاه فيبدع في ذلك أيّ إبداع.
دخل “زرياب” الأندلس ومعه أولاده الأربعة “عبد الرحمن” و”جعفر” و”عبد الله” و”يحيى”، وفي الأندلس رُزق بأربعةٍ آخرين، منهم ابنتان هما “حمدونة” و”عليّة”، يضاف إليهم تلميذته “مصابيح” وجاريته “متعة”، وقد أصبح هؤلاء العشرة نواة العمل الفني والموسيقي لزرياب في الأندلس.
3 - كان يتربّع على سدّة الغناء في قرطبة قبل مجيء “زرياب” مغنّيان مشهوران هما “علّون” و”زرقون”، وكانا مقرّبين من “الحكَم بن هشام”، إلى جانب مغنٍّ يهوديّ الأصل يدعى “منصور”. ولكن وصول “زرياب” طغى على هؤلاء جميعاً وأخملَ ذكْرهم تماماً، وأصبح زرياب مالئ الدنيا وشاغلَ الناس.
4 - لم يكن “زرياب” موسيقيّاً فحسب، بل كان على غرار نوابغ عصره عالماً موسوعياً، يتقن دراسة الفلك والجغرافية (وكانت تسمى قسمة الأقاليم السبعة). كما كان يجيد الأدب والشعر. وكان حلو المعشر، نديماً من الطراز الأول، ظريف المجلس، عذب الحديث، غزير الثقافة، ويقول عنه “المقّري” في (نفح الطيب): (لم يقمْ لا قبله ولا بعده رجلٌ من صناعته أحبّ منه وأعجب).
ونظراً لتشعّب التأثير الذي أحدثه “زرياب” في المجتمع الأندلسي فإننا سنتوقف عند كل جزءٍ من ذلك التأثير بشيءٍ من الإيجاز.
*****
5 - بصمات وإنجازات زرياب في الأندلس:
أولاً: تطوير الآلات الموسيقية:
طوّر “زرياب” آلة العود من ثلاث نواح:
أ- طوّر صناعة الجسم الخشبي للعود إلى شكلٍ قريب من شكله الحالي.
ب- أضاف وتراً خامساً إلى العود الذي كان قبله من أربعة أوتار فقط. فساعد ذلك على استيعاب عددٍ أكبر من الأصوات.
ج- استعمل الريشة المأخوذة من قوادم النسر للعزف على الأوتار، بدلاً من الأداة الخشبية المستعملة سابقاً.
كما نقل زرياب إلى الأندلس آلات الموسيقى الشرقيّة، مثل: القيثارة، الطنبورة، القانون، الرباب، المزمار، الشبابة، الناي، القصبة، البوه، النفير، الدفوف، العزبال، الصنوج، الطبل.
حتى أن تأثير الموسيقى العربية كان كبيراً وواضحاً في الحياة الأوروبية لاحقاً، ومما يدل على ذلك أسماء بعض الآلات الموسيقية باللغات الأوروبية ذات الأصل العربي، مثل: (العودLuth ، القيثارة Cuitar، الرباب Rebee، القانون Kanoan، النقارةNaker ، الطبل Timbal).
*****
ثانياً: في مجال دراسة الموسيقى:
قام “زرياب” بعملٍ جبّار هو افتتاح معهدٍ موسيقيّ في قرطبة، يدّرس فيه التلحين والغناء والعزف. ولم يكن لهذا المعهد من مثيلٍ إلا معهد بغداد الذي أنشأه “إسحق الموصلي” أستاذ زرياب ومعاصره. وقد سبق معهد قرطبة معاهدَ أوروبا المماثلة بعدة مئات من السنين. وإن المنهج الذي اتبعه “زرياب” في معهده يشبه إلى حدٍّ بعيد مناهج معاهد “الكونسرفاتوار” المعاصرة. فكان منهج “زرياب” يعتمد على ثلاث مراحل: الأولى هي الإيقاع والعروض وكلمات الصوت، يعلّمها للتلميذ بمرافقة آلةٍ موسيقية، والثانية ضبط اللحن بأبسط أشكاله، والثالثة إتقان الزائدة الموسيقية.
ويصف “المقّري” أسلوب “زرياب” في تعليم المبتدئين فيقول:
(كان إذا تناول الإلقاء على تلميذٍ يعلّمه، يأمره بالقعود على الوساد المدوّر المعروف “بالمسورة”، وأن يشدّ صوته جداً إذا كان قويّ الصوت، فإذا كان ليّنه أمره أن يشدّ على بطنه عمامة فإن ذلك مما يقوّي الصوت، ولا يجد متّسعاً في الجوف عند الخروج على الفم، فإن كان ألصّ الأضراس لا يقدر أن يفتح فاه، أو كانت عادته زمّ أسنانه عند النطق، راضه بأن يُدخل في فيه قطعة خشبٍ عرضها ثلاثة أصابع، يبيتها في فمه ليالي حتى ينفرج فكّاه. وكان إذا أراد أن يختبر مطبوع الصوت المراد تعليمه، من غير المطبوع أمره أن يصيح بأعلى صوته (يا حجّام) أو يصيح (آه) ويحدّ بها صوته، فإن سمع صوته بهما صافياً ندياًّ قوياًّ مؤدياً لا يعتريه غنّة ولا جبّة ولا ضيق نفَس، عرف أنه سوف ينجب وأشار بتعليمه، وإن وجده خلاف ذلك أبعده).
وقد رافق القفزة الموسيقية التي قام بها “زرياب” استقدامُ عددٍ من المغنّيات من (المدينة المنوّرة) مثل “قلم” و”فضل” و”علم”، وأنشئت لهنّ دارٌ ملحقة بالقصر في قرطبة دُعيت (دار المدنيّات)، ويبدو أنه قد أعطى من وقته وخبرته لهذه الدار وغنائها.
يروى أن “زرياب” قد ترك أكثر من عشرة آلاف لحن، وقد يكون في ذلك بعض المبالغة، إلا أنه يدلّ على النشاط الواسع الذي قام به في هذا المجال. وكان كغيره من مغنّي عصره يزعم بأن الألحان تأتيه من مطارحة الجنّ له بُعيد منتصف الليل، فيستدعي مغنّيتيه المحبوبتين “غزالة” و”هندة”، ويأمرهما بحفظ ما يحضّره من ألحان، ويبدو أن حالة الإشراق والصحوة الذهنية كانت لا تأتيه إلا ليلاً.
وقد ساهم “زرياب” في تطوير قواعد الغناء والأوزان والإيقاعات وربطها بالعروض الشعري، مما مهّد لظهور الموشّح الأندلسي. وترك بعده مئات التلاميذ في مجال الأدب والشعر والغناء والألحان والعزف، وكان أولاده وجواريه الأساتذة المباشرين لهم.
*****
ثالثاً: في مجال السلوك الاجتماعي:
إلى جانب النشاط الأدبي والموسيقي، أحدث “زرياب” ثورةً في المجتمع الأندلسي بالتقاليد التي أدخلها فيه. وإلى جانب افتتاحه المعهد الموسيقي، فقد افتتح “زرياب” ما يمكن أن نسميه (معهد التجميل) في قرطبة، وقد كان يعلّم فيه أصول الملابس ومناسبة الأزياء للفصول، فملابس الربيع ملوّنة من الخزّ والدراريع، وملابـس الخـريف مثلها إلا أنها مبطّنة، أمّا الصيف فملابسه بيضاء خفيفة، والشتاء ملابسه ثقيلة داكنة. وفي حال اشتداد البرد يُلبس الفراء، كما حدد “زرياب” مواعيد معيّنة لتبديل أزياء الملابس.
ومن جانبٍ آخر علّم الناس كيفية تصفيف الشعر، وفرْقه من وسط الرأس وعقْصه من الخلف بشكلٍ يظهر معه الجبين والأصداغ، وشجّع على استخدام العطور والزهور في التجميل، وكان هو نفسه مثالاً للأناقة ونظافة الملبس وتجديده، حتى أنه أنشأ حمّاماً في قرطبة آيةً في الفخامة حمل اسم (حمّام زرياب). وقد قلّده الناس على أوسع نطاق وأصبح مضربَ مثلٍ في الأندلس. وهذا مثال دور الأزياء في عالمنا المعاصر.
6 - ومما أدخله “زرياب” في تقاليد المجتمع الأندلسي نظام الأطعمة الجديدة وطريقة استعمال التوابل بما يناسب الفصول والحالة الاجتماعيّة، ووضع أسساً وقواعد لتنظيم وتنسيق موائد الطعام وأصناف الأدوات والصحون والكؤوس من زجاج ومعادن، وقد نصح باستعمال آنية الزجاج بدلاً من الذهب والفضة، ولقيتْ نصيحته أذناً صاغية.
ومما سعى “زرياب” لتعليمه في معاهده، ما يمكن تسميته اليوم بالعلاقات العامة، إذ وضع أصولاً وقواعد للمنادمة والمحادثة واللياقةـ ولطف التعامل حسب مقتضى الحال.
ويمكن أن نقول بحقٍّ ودقة إن “زرياب” كان المثل الأعلى للسلوك الاجتماعي في قرطبة والأندلس عموماً في عصره. وفي ذلك يقول “بروفنسال”: (وكان الناس يلتمسون آراءه فيطبقونها نصاً وروحاً).
*****
7 - الأندلس بعد زرياب:
لقد أحدث وصول “زرياب” إلى قرطبة انعطافاً كبيراً في حياتها الاجتماعية والثقافية والفنية، وترك بصماته بوضوح على كل نواحي الحياة، ويبدو أن المجتمع الأندلسي في عصر “عبد الرحمن الأوسط” كان على استعدادٍ لتقبّل هذه الألوان من الترف، نتيجة استقرار وازدهار الوضع الاقتصادي، وميل الناس إلى مظاهر الحبور والمتعة والفن.
وقد استمر وهج “زرياب” في مجالات الحياة العامة وبخاصة في مجال الموسيقا، وكان هذا الأثر بداية نشوء الموشحات والأزجال. ويعتبر “المراكشي” أن “زرياب” هو المؤسس الحقيقي لمدرسة الغناء والموسيقى الأندلسية، وقد طعّم الحياة الاجتماعية العامة في الأندلس وآداب المحادثة والمجالسة بكثير من التقاليد المشرقية.
كما “زرياب” قد شاع ذكره وامتدّ تأثيره خارج حدود الأندلس، فانتقل إلى الممالك الشماليّة في أسبانيا وإلى جنوب المتوسط في ممالك الغرب الإسلاميّة.
*****
8 - كانت وفاة “زرياب” في قرطبة في عهد “محمد بن عبد الرحمن الأوسط” سنة 243ه- 857م، كما يروي “ليفي بروفنسال”، وتذكر مصادر أخرى أن وفاته كانت سنة 240هـ في أواخر أيام “عبد الرحمن الأوسط” أو مطلع حكم ابنه “محمد”.
*****
9- الصور المرفقة :
صورة افتراضية متخيلة لزرياب .
صورتان لتمثال زرياب في قرطبة
ومن المعلوم ان الاستشراق الاسباني المعاصر ينظر باهتمام وعناية الى مشاهير التراث الأندلسي.