«الدبلوماسية الثقافية»... القوة الناعمة عبر العصور
نُشر: 17:53-20 ديسمبر 2023 م ـ 06 جمادي الآخر 1445 هـ
TT
20تشير د. جيهان زكي أستاذ علوم المصريات والباحثة بجامعة السوربون في كتابها «الدبلوماسية الثقافية - بين الأصل والصورة»، الصادر حديثاً عن «دار المعارف» بالقاهرة، إلى أنه إذا كانت الدبلوماسية التقليدية تعتمد على عمل ونشاط السفراء والقناصل وطواقم الدبلوماسيين الذين يعاونونهم وكذلك المبعوثين الخاصين وحاملي الرسائل الدبلوماسية على هامش المؤتمرات واللقاءات السياسية الدولية، فإن الدبلوماسية الثقافية التي تتمثل في أنشطة وممارسات الفاعلين الثقافيين ذوي المهارات والمواهب والقدرات الإبداعية تستهدف خلق شعور الاستحسان لدى الآخر.
وترصد المؤلفة التجليات المصرية التاريخية عبر العصور لهذا المفهوم باعتباره يعبر عن «قوة ناعمة» رئيسية، لافتة إلى أن مفهوم الدبلوماسية الثقافية المصرية بمعناه المعاصر أخذ يتشكل في عصر الخديو إسماعيل، وكان من ثمرته المشاركات المصرية في المعارض العالمية مثل مشاركة مصر في معرض «إكسبو» بباريس 1867، التي ناقش في أثنائها الخديو مع الإمبراطور نابليون الثالث فكرة قيام المهندس العمراني الفرنسي هاوسمان الذي قام برسم شوارع وميادين مدينة باريس بتخطيط العاصمة القاهرة. ولاحقاً في مقابل التكليف الرسمي من قبل الدولة المصرية طلب إسماعيل من هاوسمان الاستعانة بفنانين ومعماريين على أعلى مستوى، وكذلك مصممين ومنسقين للحدائق والمساحات الخضراء في القاهرة الجديدة، التي عرفت فيما بعد بـ«القاهرة الخديوية».
ويمكن القول في هذا الإطار إن تخطيط القاهرة الخديوية كان أحد تجليات الدبلوماسية الثقافية المعاصرة، حيث برزت أهمية الرؤية الثقافية في تحقيق الندية السياسية، فقد استطاع المعماري الفرنسي تحويل القاهرة إلى تحفة حضارية تنافس أجمل مدن العالم ليطلق عليها الغرب نفسه حينذاك «باريس الشرق». وتمثل القاهرة الخديوية بداية العمران المصري في صورته الحديثة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتعد من المشروعات العالمية البارزة التي تمت في ذلك القرن لما قامت عليه هندستها من دراسات للتخطيط والتعمير الشامل والتغلب على عوائق التنفيذ لإخراجها سريعاً إلى حيز الوجود وبالشكل الذي يجعلها تضاهي أجمل مدن العالم.
ومن ثم، أـصبحت مصر في قلب أوروبا من خلال مشاركتها في المعرض العالمي بفيينا 1873، الذي أقيم تحت عنوان «الثقافة والتعليم»، وقد نجح الخديو إسماعيل في وضع هذين المجالين في مصاف المرجعية العالمية لتكون مصر حاضرة بقوة في هذا الحدث الأبرز عالمياً في العصر الحديث.
وأتت بعد ذلك مشاركتها في المعرض العالمي بفيلادفيا بالولايات المتحدة 1876، الذي عقد تحت عنوان «الصناعة والفنون الجميلة ومنتجات الأرض والمناجم»، وقد شاركت مصر بمعرض فني مكون من الصور الفوتوغرافية للآثار المصرية القديمة.
ويشير الكتاب إلى تعدد الملفات الثقافية وأهميتها في مضمار الوعي الثقافي العام، منها مشاركات مصر في معارض عالمية ذات طبيعة مثل معرض مؤتمر «الصحة والنجاة» بمدينة بروكسل 1876 والمعرض الدولي للنبات وفلاحة البساتين بمدينة أمستردام 1876 والمعرض العالمي بباريس 1878.
وكانت ممارسة الدبلوماسية الثقافية والانفتاح الفكري من أهم أدوات سياسة الخديو إسماعيل في إحداث الطفرة الحضارية الثانية لمصر في العصر الحديث بعد الطفرة الأولى التي شهدتها في عصر محمد علي، حيث عمل إسماعيل على تحقيق المزيد من انفتاح مصر على الحضارة الأوروبية وتطويرها على النمط الأوروبي، وتنفيذ العديد من المشروعات الكبرى، خصوصاً مشروع قناة السويس الذي افتتح سنة 1869 في احتفالية تاريخية مهيبة.
مع بداية القرن العشرين توالت عملية إقامة المعاهد الأجنبية لدراسة علوم المصريات بمصر، التي شكلت ركائز لتكوين المراكز الأجنبية الثقافية فيما بعد. ولعل أبرز مثال على ذلك هو مسيرة ماكس هرتز باشا وهو معماري يهودي الديانة مجري الأصل، جاء إلى مصر في 1880 وأصبح المعماري الرئيسي بلجنة حفظ الآثار العربية والمسؤول الأول عن حصر وترميم وتجديد وصيانة ما نسميه اليوم بالآثار الإسلامية، وأيضاً أوجست مارييت الذي جاء إلى مصر 1850 موفداً من قبل الحكومة الفرنسية للبحث عن بعض الآثار والمخطوطات فعكف على التنقيب عن آثار منطقة سقارة وأجرى حفائر عظيمة حتى عينه حاكم البلاد سعيد باشا في عام 1858 مأموراً لأعمال «العاديات»، ولقي دعماً كبيراً من الخديو إسماعيل، فأمره بإصلاح مخازن بولاق وتوسعيها وافتتحت في حفلة رسمية مهيبة في 18 أكتوبر 1863.
- القاهرة: «الشرق الأوسط»
نُشر: 17:53-20 ديسمبر 2023 م ـ 06 جمادي الآخر 1445 هـ
TT
20تشير د. جيهان زكي أستاذ علوم المصريات والباحثة بجامعة السوربون في كتابها «الدبلوماسية الثقافية - بين الأصل والصورة»، الصادر حديثاً عن «دار المعارف» بالقاهرة، إلى أنه إذا كانت الدبلوماسية التقليدية تعتمد على عمل ونشاط السفراء والقناصل وطواقم الدبلوماسيين الذين يعاونونهم وكذلك المبعوثين الخاصين وحاملي الرسائل الدبلوماسية على هامش المؤتمرات واللقاءات السياسية الدولية، فإن الدبلوماسية الثقافية التي تتمثل في أنشطة وممارسات الفاعلين الثقافيين ذوي المهارات والمواهب والقدرات الإبداعية تستهدف خلق شعور الاستحسان لدى الآخر.
وترصد المؤلفة التجليات المصرية التاريخية عبر العصور لهذا المفهوم باعتباره يعبر عن «قوة ناعمة» رئيسية، لافتة إلى أن مفهوم الدبلوماسية الثقافية المصرية بمعناه المعاصر أخذ يتشكل في عصر الخديو إسماعيل، وكان من ثمرته المشاركات المصرية في المعارض العالمية مثل مشاركة مصر في معرض «إكسبو» بباريس 1867، التي ناقش في أثنائها الخديو مع الإمبراطور نابليون الثالث فكرة قيام المهندس العمراني الفرنسي هاوسمان الذي قام برسم شوارع وميادين مدينة باريس بتخطيط العاصمة القاهرة. ولاحقاً في مقابل التكليف الرسمي من قبل الدولة المصرية طلب إسماعيل من هاوسمان الاستعانة بفنانين ومعماريين على أعلى مستوى، وكذلك مصممين ومنسقين للحدائق والمساحات الخضراء في القاهرة الجديدة، التي عرفت فيما بعد بـ«القاهرة الخديوية».
ويمكن القول في هذا الإطار إن تخطيط القاهرة الخديوية كان أحد تجليات الدبلوماسية الثقافية المعاصرة، حيث برزت أهمية الرؤية الثقافية في تحقيق الندية السياسية، فقد استطاع المعماري الفرنسي تحويل القاهرة إلى تحفة حضارية تنافس أجمل مدن العالم ليطلق عليها الغرب نفسه حينذاك «باريس الشرق». وتمثل القاهرة الخديوية بداية العمران المصري في صورته الحديثة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتعد من المشروعات العالمية البارزة التي تمت في ذلك القرن لما قامت عليه هندستها من دراسات للتخطيط والتعمير الشامل والتغلب على عوائق التنفيذ لإخراجها سريعاً إلى حيز الوجود وبالشكل الذي يجعلها تضاهي أجمل مدن العالم.
ومن ثم، أـصبحت مصر في قلب أوروبا من خلال مشاركتها في المعرض العالمي بفيينا 1873، الذي أقيم تحت عنوان «الثقافة والتعليم»، وقد نجح الخديو إسماعيل في وضع هذين المجالين في مصاف المرجعية العالمية لتكون مصر حاضرة بقوة في هذا الحدث الأبرز عالمياً في العصر الحديث.
وأتت بعد ذلك مشاركتها في المعرض العالمي بفيلادفيا بالولايات المتحدة 1876، الذي عقد تحت عنوان «الصناعة والفنون الجميلة ومنتجات الأرض والمناجم»، وقد شاركت مصر بمعرض فني مكون من الصور الفوتوغرافية للآثار المصرية القديمة.
ويشير الكتاب إلى تعدد الملفات الثقافية وأهميتها في مضمار الوعي الثقافي العام، منها مشاركات مصر في معارض عالمية ذات طبيعة مثل معرض مؤتمر «الصحة والنجاة» بمدينة بروكسل 1876 والمعرض الدولي للنبات وفلاحة البساتين بمدينة أمستردام 1876 والمعرض العالمي بباريس 1878.
وكانت ممارسة الدبلوماسية الثقافية والانفتاح الفكري من أهم أدوات سياسة الخديو إسماعيل في إحداث الطفرة الحضارية الثانية لمصر في العصر الحديث بعد الطفرة الأولى التي شهدتها في عصر محمد علي، حيث عمل إسماعيل على تحقيق المزيد من انفتاح مصر على الحضارة الأوروبية وتطويرها على النمط الأوروبي، وتنفيذ العديد من المشروعات الكبرى، خصوصاً مشروع قناة السويس الذي افتتح سنة 1869 في احتفالية تاريخية مهيبة.
مع بداية القرن العشرين توالت عملية إقامة المعاهد الأجنبية لدراسة علوم المصريات بمصر، التي شكلت ركائز لتكوين المراكز الأجنبية الثقافية فيما بعد. ولعل أبرز مثال على ذلك هو مسيرة ماكس هرتز باشا وهو معماري يهودي الديانة مجري الأصل، جاء إلى مصر في 1880 وأصبح المعماري الرئيسي بلجنة حفظ الآثار العربية والمسؤول الأول عن حصر وترميم وتجديد وصيانة ما نسميه اليوم بالآثار الإسلامية، وأيضاً أوجست مارييت الذي جاء إلى مصر 1850 موفداً من قبل الحكومة الفرنسية للبحث عن بعض الآثار والمخطوطات فعكف على التنقيب عن آثار منطقة سقارة وأجرى حفائر عظيمة حتى عينه حاكم البلاد سعيد باشا في عام 1858 مأموراً لأعمال «العاديات»، ولقي دعماً كبيراً من الخديو إسماعيل، فأمره بإصلاح مخازن بولاق وتوسعيها وافتتحت في حفلة رسمية مهيبة في 18 أكتوبر 1863.