القادسية
القادسيَة اسم يطلق على عدد من الأمكنة في العراق والجزيرة، أهمها موقع بالقرب من سامراء، وآخر في جنوب غربي الحيرة -جنوب السهل الذي أقيمت عليه مدينة الكوفة فيما بعد- على مسافة 32كم منها، كان مسرحاً لمعركة فاصلة قضى فيها العرب المسلمون على جيش الملك الساساني يزدجرد الثالث في سنة 15 أو 16 للهجرة (636 أو 637م)، وفتحت أمامهم أبواب العراق وفارس.
كانت القادسية بلدة صغيرة لها حصن من الآجر وبوابتان وسط سهل ترويه قناة من الفرات، غير بعيد عن شط العرب الذي كان متوغلاً في المنطقة؛ كانت المجرى الرئيسي للفرات، ومايزال سريره معروفاً، ويقال له: «العتيق»، ويمر بين القادسيّة والعُذيب، وعند القادسية جسر على المجرى يسمى الجسر العتيق.
معركة القادسية
بعد أن خمدت نار حروب الردة، استأذن المثنى بن حارثة الشيباني الخليفة أبا بكر في أن يغزو العراق. وكان الخليفة قد بعث المسالح تجوب بأطراف الشام والعراق، فأمر خالد بن الوليد أن يتوجه إلى الأُبُلَّة، ويبدأ من جنوبي العراق وألحق به المثنّى، وأمر عياض بن غنم أن يبدأ بالمصيخ من أعلى العراق وذلك في مستهل سنة 12هـ/633م.
سار خالد إلى العراق في عشرة آلاف مقاتل، وانضم إليه المثنى في ثمانية آلاف؛ فبدأ بالحيرة، ثم التقى بقوّات الفرس عند كاظمة وقد اقترنوا بالسلاسل، وانتهت أول معارك الفتح بهزيمة ساحقة للفرس. وانساح خالد وصحبه بعدها في العراق، يخوضون معارك مظفرة،؛ حتى بلغوا الفراض على تخوم الشام وقاتلوا الروم بها، ومضى عام ونيف دان لهم إبانها معظم العراق صلحاً وحرباً.
غير أن الأمور أخذت تتطوّر تطوراً خطيراً في الشام، حيث حشد الروم لرد المسلمين في اليرموك، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره بالمسير إلى الشام، وأن يصحب معه نصف ما عنده من المقاتلة، ويستخلف على النصف الباقي المثنى بن حارثة (آخر المحرم سنة 13هـ)، فأقام المثنى في الحيرة، وبعث المسالح والعيون تحسباً من غدر. وفي الوقت نفسه أدرك الفرس خطورة الموقف، وأنّ الأمر لم يعد مجرد غارات قصيرة أو تحركات لجماعات تمتار أيام الجدب، أو تتجر في أيام التجارة، وإنما هي جماعات من نوع جديد تدعو إلى الإسلام أو الجزية أو الحرب، وإذا حاربت لاتستهدف غير النصر أو الشهادة، ورغب شهربراز الذي كان قد استقام له الحكم بعد وفاة أبيه أزدشير، في أن يستفيد من تقليص عدد القوات المسلحة في العراق، فوجه إلى المثنى جيشاً في عشرة آلاف مقاتل، وحض الدهاقين على نقض عهودهم، فاضطر المثنى إلى خوض معارك جديدة غير متكافئة، وصادم جيش الفرس ببابل وهزمه، وتتبع فلوله إلى المدائن، واستبطأ النجدات، فاستخلف بشير بن الخصاصية على رأس قواته، وتوجه إلى المدينة المنورة، وكان أبو بكر مريضاً على فراش الموت، فأوصى عمر بن الخطاب ألا يبيت ليله إلا وقد ندب الناس لنجدة المثنى، وأن يردّ عليه أصحاب خالد. ومات أبو بكر في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 13هـ. ونفذ عمر وصية الخليفة الراحل، وعين لقيادة النجدات أبا عبيد بن مسعود الثقفي، وألحق به المثنى. وخاض المسلمون وقائع جديدة لاسترداد ما فقدوا، غير أن الفرس جمعوا لهم قوات كبيرة وفيلة بقيادة بهمن جاذويه، ونشبت معركة طاحنة عند جسر قس الناطف سنة 13هـ/ 634م، هُزِم فيها المسلمون، وقتل أبو عبيد، وحمى المثنى الناس حتى عبروا النهر، وقد جرح جراحاً بالغة، وخسر المسلمون أربعة آلاف بين قتيل وغريق، ومع ذلك تابع المثنى غاراته، واشتبك مع جيش فارسي جديد في معركة البويب المظفرة (13هـ أو 14هـ/635م).
وكان الفرس يعيشون في هذه المرحلة حالة من فوضى الحكم وعدم الاستقرار بعد موت أردشير، و تشاغلوا عن المسلمين إلى أن اتفقوا على تنصيب يزدجرد أحد أبناء كسرى، وأعادوا تنظيم أنفسهم. ومضى يزدجرد يحشد أكثر ما يمكن من الجند، وقسمهم على المسالح التي كانت للفرس، وثار سكان المناطق من أهل الذمة بالمسلمين، ولاسيما في الأنبار والأبلّة والحيرة، فامتنع المثنى عن الدخول في مواجهة حاسمة معهم، وسحب قواته إلى تخوم البادية، وبث المسالح والعيون، وتابع إغاراته في انتظار المدد. وأرسل إلى الخليفة عمر يعلمه بما جدّ معه، فأمر عمر أبا عبيدة أن يرد جند العراق؛ ليلتحقوا بالمثنى، وبعث يستنفر الناس بالأطراف، وكتب إلى عماله: (.. ولا تدعوا في ربيعة أحداً ولا في مضر وحلفائهم أحداً من أهل النجدات ولا فارساً إلا جلبتموه، فإن جاء طائعاً وإلا حشرتموه، احملوا العرب على الجَد إذا جَدّ العجم، فلتلقوا جدهم بجدكم..). وخرج الخليفة في أوائل شهر المحرم سنة 15هـ/ شباط أو آذار 636م إلى صرار يريد التوجه إلى العراق بنفسه، غير أن الصحابة نصحوه بالبقاء في المدينة، فانتدب سعد بن أبي وقاص الزهري للتوجّه إلى هناك على رأس القوات التي تمّ تجميعها، وألحق به المثنى.
اتخذ سعد من زرود قاعدة ليعبئ قواته (شعبان 14هـ/635م أو 15هـ/636م)، ثم مضى إلى العراق، ونزل بشراف، وكان المثنى قد توفي متأثراً بجراحه. و توالى وصول المدد حتى صار مجموع قوات المسلمين نحو ثلاثين ألفاً. وكتب أمير المؤمنين عمر إلى سعد أن يسري بالعسكر حتى ينزل بالعُذيب، ويبث العيون والمسالح شرقاً وغرباً، وأن يوافيه بالأخبار يوماً بيوم، ثم استأذنه سعد في أن ينزل بالقادسية، ومكث شهراً يدرس تحركات الفرس، وكتب إلى الخليفة يصف له موقعه، وأن كل من بالعراق تألبوا على المسلمين، وأن قائدهم الذي يرجعون إليه هو رستم، وأنه معسكر بساباط في جوار القادسية، ويحاول مطاولة المسلمين واستثارتهم.
بلغ تعداد جيش رستم مئة وعشرين ألفاً، وعلى المقدمة الجالينوس في أربعين ألفاً، وقاد القلب بنفسه على رأس ستين ألفاً، واستعمل على الميمنة الهرمزان، وعلى الميسرة مهران الرازي، وعلى ساقته البيرزان في عشرين ألفاً. وجرت بين الطرفين مفاوضات طويلة استمرت نحو أربعة أشهر، أظهر فيها المسلمون كثيراً من التصميم والمصابرة. و لما باتت الحرب أمراً محتوماً قرر الفرس أخذ زمام المبادرة بالقتال، فعبروا الفرات إلى القادسية، واتخذوا مواقعهم في مواجهة المسلمين، وخلفهم مجرى العتيق، وخلف المسلمين خندق الحصن القديم المعروف باسم قديس. وحشد رستم في القلب ثمانية عشر فيلاً عليها الصناديق والرجال، ووضع في المجنبتين ثمانية أفيال وسبعة، فكان المجموع 33 فيلاً.
استعد المسلمون للمعركة، واختار سعد لطليعته زهرة بن الحوية وعاصم بن عمر وشرحبيل بن حسنة. وكان سعد قد عجز عن الركوب أو الجلوس لقروح أصابته، فارتقوا به إلى سطح مقره، وهو مكب على وجهه يشرف على الناس من عل، واستخلف خالد بن عرفطة أسفل منه على الأرض يرمي إليه بالرقاع، وفيها أوامره ونواهيه.
نشب القتال بعد صلاة ظهر يوم الإثنين الخامس عشر من المحرم سنة 15هـ/636م (أو 16هـ/637م). واستمر في اليوم الأول إلى الليل وبعضاً منه، ثم انفصل الفريقان كل إلى موضعه، وعانى المسلمون ضغط الفيلة ونفور خيولهم منها، غير أن بعض شجعانهم تغلّبوا عليها بقطع سيور صناديقها وقتل من عليها. وكانت معظم الخسائر في قبيلة أسد التي وقع على كاهلها العبء الأكبر. ودفن المسلمون قتلاهم ليلاً، ونقلوا جرحاهم إلى مخيمات النساء، وقد سمي اليوم الأول يوم أرماث. تجدد القتال في صباح اليوم التالي، ومع شروق الشمس طلعت نواصي الخيل القادمة من الشام يقودها القعقاع بن عمرو التميمي، فنشط المسلمون للقتال، ولم يكن مع الفرس فيلة؛ لأن صناديقها تكسرت في اليوم السابق، وساق القادمون من الشام إبلاً ألبسوها براقع وجلاجل يتشبهون بالفيلة، فنفرت خيول الفرس منها، وركبهم المسلمون، فكانت الدائرة على الفرس إلى آخر النهار وقسم من الليل، وبات الناس على مثل مبيتهم في اليوم الأول. وقد سمي هذا اليوم بيوم أغواث، وبلغت خسائر المسلمين نحو 2500قتيل تم دفنهم ليلاً، وخسائر الفرس نحو عشرة آلاف قتيل، بقيت جثثهم متناثرة في أرض المعركة. وفي صباح اليوم الثالث توالى وصول بقية النجدات من الشام بقيادة هاشم بن عتبة، ونظم الطرفان صفوفهم من جديد، وتقدم الفرس مع فيلتهم، وقد أصلحوا أمرها، ورتّبوها بين الكتائب، فحمل القعقاع على أكبرها، وكان فيلاً أبيض ضخماً، ففقأ عينيه برمحين، وفعل رفيقان له بفيل آخر أجرب، كانت الفيلة تألفه، ففر الفيلان، وتبعته بقية الفيلة، فخرقت صفوف الأعاجم، وتزاحف الناس حتى المساء. وكان اليوم الثالث- ويسمونه يوم عماس ـ أشد وطأة على الطرفين من سابقيه، وصبر الجميع إلى الليل، واستمر القتال إلى الصباح من دون توقف، فسميت ليلة الهرير. فلما أشرقت شمس اليوم الرابع ـ وهو يوم القادسية- كانت صفوف الفرس قد تضعضعت، و بدأت تتراجع، وتمكن بعض صناديد المسلمين من الخروج على مؤخّرتهم. ومع اقتراب الظهيرة كانت تباشير النصر قد لاحت، وقُتِل رستم وهو يحاول الفرار، وانهزم الفرس حتى المدائن، وشرع المسلمون بمطاردتهم، فتتبّعوهم في كل قرية وأجمة حتى جلولاء، فكان هذا النصر فاتحة سقوط المدائن، ولم يقم للفرس بعدها قائمة.
محمد وليد الجلاد
القادسيَة اسم يطلق على عدد من الأمكنة في العراق والجزيرة، أهمها موقع بالقرب من سامراء، وآخر في جنوب غربي الحيرة -جنوب السهل الذي أقيمت عليه مدينة الكوفة فيما بعد- على مسافة 32كم منها، كان مسرحاً لمعركة فاصلة قضى فيها العرب المسلمون على جيش الملك الساساني يزدجرد الثالث في سنة 15 أو 16 للهجرة (636 أو 637م)، وفتحت أمامهم أبواب العراق وفارس.
كانت القادسية بلدة صغيرة لها حصن من الآجر وبوابتان وسط سهل ترويه قناة من الفرات، غير بعيد عن شط العرب الذي كان متوغلاً في المنطقة؛ كانت المجرى الرئيسي للفرات، ومايزال سريره معروفاً، ويقال له: «العتيق»، ويمر بين القادسيّة والعُذيب، وعند القادسية جسر على المجرى يسمى الجسر العتيق.
معركة القادسية
بعد أن خمدت نار حروب الردة، استأذن المثنى بن حارثة الشيباني الخليفة أبا بكر في أن يغزو العراق. وكان الخليفة قد بعث المسالح تجوب بأطراف الشام والعراق، فأمر خالد بن الوليد أن يتوجه إلى الأُبُلَّة، ويبدأ من جنوبي العراق وألحق به المثنّى، وأمر عياض بن غنم أن يبدأ بالمصيخ من أعلى العراق وذلك في مستهل سنة 12هـ/633م.
سار خالد إلى العراق في عشرة آلاف مقاتل، وانضم إليه المثنى في ثمانية آلاف؛ فبدأ بالحيرة، ثم التقى بقوّات الفرس عند كاظمة وقد اقترنوا بالسلاسل، وانتهت أول معارك الفتح بهزيمة ساحقة للفرس. وانساح خالد وصحبه بعدها في العراق، يخوضون معارك مظفرة،؛ حتى بلغوا الفراض على تخوم الشام وقاتلوا الروم بها، ومضى عام ونيف دان لهم إبانها معظم العراق صلحاً وحرباً.
غير أن الأمور أخذت تتطوّر تطوراً خطيراً في الشام، حيث حشد الروم لرد المسلمين في اليرموك، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره بالمسير إلى الشام، وأن يصحب معه نصف ما عنده من المقاتلة، ويستخلف على النصف الباقي المثنى بن حارثة (آخر المحرم سنة 13هـ)، فأقام المثنى في الحيرة، وبعث المسالح والعيون تحسباً من غدر. وفي الوقت نفسه أدرك الفرس خطورة الموقف، وأنّ الأمر لم يعد مجرد غارات قصيرة أو تحركات لجماعات تمتار أيام الجدب، أو تتجر في أيام التجارة، وإنما هي جماعات من نوع جديد تدعو إلى الإسلام أو الجزية أو الحرب، وإذا حاربت لاتستهدف غير النصر أو الشهادة، ورغب شهربراز الذي كان قد استقام له الحكم بعد وفاة أبيه أزدشير، في أن يستفيد من تقليص عدد القوات المسلحة في العراق، فوجه إلى المثنى جيشاً في عشرة آلاف مقاتل، وحض الدهاقين على نقض عهودهم، فاضطر المثنى إلى خوض معارك جديدة غير متكافئة، وصادم جيش الفرس ببابل وهزمه، وتتبع فلوله إلى المدائن، واستبطأ النجدات، فاستخلف بشير بن الخصاصية على رأس قواته، وتوجه إلى المدينة المنورة، وكان أبو بكر مريضاً على فراش الموت، فأوصى عمر بن الخطاب ألا يبيت ليله إلا وقد ندب الناس لنجدة المثنى، وأن يردّ عليه أصحاب خالد. ومات أبو بكر في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة 13هـ. ونفذ عمر وصية الخليفة الراحل، وعين لقيادة النجدات أبا عبيد بن مسعود الثقفي، وألحق به المثنى. وخاض المسلمون وقائع جديدة لاسترداد ما فقدوا، غير أن الفرس جمعوا لهم قوات كبيرة وفيلة بقيادة بهمن جاذويه، ونشبت معركة طاحنة عند جسر قس الناطف سنة 13هـ/ 634م، هُزِم فيها المسلمون، وقتل أبو عبيد، وحمى المثنى الناس حتى عبروا النهر، وقد جرح جراحاً بالغة، وخسر المسلمون أربعة آلاف بين قتيل وغريق، ومع ذلك تابع المثنى غاراته، واشتبك مع جيش فارسي جديد في معركة البويب المظفرة (13هـ أو 14هـ/635م).
وكان الفرس يعيشون في هذه المرحلة حالة من فوضى الحكم وعدم الاستقرار بعد موت أردشير، و تشاغلوا عن المسلمين إلى أن اتفقوا على تنصيب يزدجرد أحد أبناء كسرى، وأعادوا تنظيم أنفسهم. ومضى يزدجرد يحشد أكثر ما يمكن من الجند، وقسمهم على المسالح التي كانت للفرس، وثار سكان المناطق من أهل الذمة بالمسلمين، ولاسيما في الأنبار والأبلّة والحيرة، فامتنع المثنى عن الدخول في مواجهة حاسمة معهم، وسحب قواته إلى تخوم البادية، وبث المسالح والعيون، وتابع إغاراته في انتظار المدد. وأرسل إلى الخليفة عمر يعلمه بما جدّ معه، فأمر عمر أبا عبيدة أن يرد جند العراق؛ ليلتحقوا بالمثنى، وبعث يستنفر الناس بالأطراف، وكتب إلى عماله: (.. ولا تدعوا في ربيعة أحداً ولا في مضر وحلفائهم أحداً من أهل النجدات ولا فارساً إلا جلبتموه، فإن جاء طائعاً وإلا حشرتموه، احملوا العرب على الجَد إذا جَدّ العجم، فلتلقوا جدهم بجدكم..). وخرج الخليفة في أوائل شهر المحرم سنة 15هـ/ شباط أو آذار 636م إلى صرار يريد التوجه إلى العراق بنفسه، غير أن الصحابة نصحوه بالبقاء في المدينة، فانتدب سعد بن أبي وقاص الزهري للتوجّه إلى هناك على رأس القوات التي تمّ تجميعها، وألحق به المثنى.
اتخذ سعد من زرود قاعدة ليعبئ قواته (شعبان 14هـ/635م أو 15هـ/636م)، ثم مضى إلى العراق، ونزل بشراف، وكان المثنى قد توفي متأثراً بجراحه. و توالى وصول المدد حتى صار مجموع قوات المسلمين نحو ثلاثين ألفاً. وكتب أمير المؤمنين عمر إلى سعد أن يسري بالعسكر حتى ينزل بالعُذيب، ويبث العيون والمسالح شرقاً وغرباً، وأن يوافيه بالأخبار يوماً بيوم، ثم استأذنه سعد في أن ينزل بالقادسية، ومكث شهراً يدرس تحركات الفرس، وكتب إلى الخليفة يصف له موقعه، وأن كل من بالعراق تألبوا على المسلمين، وأن قائدهم الذي يرجعون إليه هو رستم، وأنه معسكر بساباط في جوار القادسية، ويحاول مطاولة المسلمين واستثارتهم.
بلغ تعداد جيش رستم مئة وعشرين ألفاً، وعلى المقدمة الجالينوس في أربعين ألفاً، وقاد القلب بنفسه على رأس ستين ألفاً، واستعمل على الميمنة الهرمزان، وعلى الميسرة مهران الرازي، وعلى ساقته البيرزان في عشرين ألفاً. وجرت بين الطرفين مفاوضات طويلة استمرت نحو أربعة أشهر، أظهر فيها المسلمون كثيراً من التصميم والمصابرة. و لما باتت الحرب أمراً محتوماً قرر الفرس أخذ زمام المبادرة بالقتال، فعبروا الفرات إلى القادسية، واتخذوا مواقعهم في مواجهة المسلمين، وخلفهم مجرى العتيق، وخلف المسلمين خندق الحصن القديم المعروف باسم قديس. وحشد رستم في القلب ثمانية عشر فيلاً عليها الصناديق والرجال، ووضع في المجنبتين ثمانية أفيال وسبعة، فكان المجموع 33 فيلاً.
استعد المسلمون للمعركة، واختار سعد لطليعته زهرة بن الحوية وعاصم بن عمر وشرحبيل بن حسنة. وكان سعد قد عجز عن الركوب أو الجلوس لقروح أصابته، فارتقوا به إلى سطح مقره، وهو مكب على وجهه يشرف على الناس من عل، واستخلف خالد بن عرفطة أسفل منه على الأرض يرمي إليه بالرقاع، وفيها أوامره ونواهيه.
نشب القتال بعد صلاة ظهر يوم الإثنين الخامس عشر من المحرم سنة 15هـ/636م (أو 16هـ/637م). واستمر في اليوم الأول إلى الليل وبعضاً منه، ثم انفصل الفريقان كل إلى موضعه، وعانى المسلمون ضغط الفيلة ونفور خيولهم منها، غير أن بعض شجعانهم تغلّبوا عليها بقطع سيور صناديقها وقتل من عليها. وكانت معظم الخسائر في قبيلة أسد التي وقع على كاهلها العبء الأكبر. ودفن المسلمون قتلاهم ليلاً، ونقلوا جرحاهم إلى مخيمات النساء، وقد سمي اليوم الأول يوم أرماث. تجدد القتال في صباح اليوم التالي، ومع شروق الشمس طلعت نواصي الخيل القادمة من الشام يقودها القعقاع بن عمرو التميمي، فنشط المسلمون للقتال، ولم يكن مع الفرس فيلة؛ لأن صناديقها تكسرت في اليوم السابق، وساق القادمون من الشام إبلاً ألبسوها براقع وجلاجل يتشبهون بالفيلة، فنفرت خيول الفرس منها، وركبهم المسلمون، فكانت الدائرة على الفرس إلى آخر النهار وقسم من الليل، وبات الناس على مثل مبيتهم في اليوم الأول. وقد سمي هذا اليوم بيوم أغواث، وبلغت خسائر المسلمين نحو 2500قتيل تم دفنهم ليلاً، وخسائر الفرس نحو عشرة آلاف قتيل، بقيت جثثهم متناثرة في أرض المعركة. وفي صباح اليوم الثالث توالى وصول بقية النجدات من الشام بقيادة هاشم بن عتبة، ونظم الطرفان صفوفهم من جديد، وتقدم الفرس مع فيلتهم، وقد أصلحوا أمرها، ورتّبوها بين الكتائب، فحمل القعقاع على أكبرها، وكان فيلاً أبيض ضخماً، ففقأ عينيه برمحين، وفعل رفيقان له بفيل آخر أجرب، كانت الفيلة تألفه، ففر الفيلان، وتبعته بقية الفيلة، فخرقت صفوف الأعاجم، وتزاحف الناس حتى المساء. وكان اليوم الثالث- ويسمونه يوم عماس ـ أشد وطأة على الطرفين من سابقيه، وصبر الجميع إلى الليل، واستمر القتال إلى الصباح من دون توقف، فسميت ليلة الهرير. فلما أشرقت شمس اليوم الرابع ـ وهو يوم القادسية- كانت صفوف الفرس قد تضعضعت، و بدأت تتراجع، وتمكن بعض صناديد المسلمين من الخروج على مؤخّرتهم. ومع اقتراب الظهيرة كانت تباشير النصر قد لاحت، وقُتِل رستم وهو يحاول الفرار، وانهزم الفرس حتى المدائن، وشرع المسلمون بمطاردتهم، فتتبّعوهم في كل قرية وأجمة حتى جلولاء، فكان هذا النصر فاتحة سقوط المدائن، ولم يقم للفرس بعدها قائمة.
محمد وليد الجلاد