قتيبة بن مسلم الباهلي
(46 ـ 96هـ/669 ـ 715م)
أبو حفص، قتيبة بن مسلم بن عمرو ابن الحصين الباهلي، أمير فاتح من كبار قادة العرب، داهية، طويل الروية، راوية للشعر عالمٌ به.
تولّى الري في خلافة عبد الملك بن مروان (65ـ86هـ)، وولاه الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراقين خراسان سنة 86هـ وقيادة الفتح في منطقة ما وراء النهر الواقعة شمالي خراسان والممتدة شمالاً إلى نهر سيحون، وغرباً إلى منطقة خوارزم وشرقاً إلى حدود مملكة الصين. وقد تكونت في هذه المناطق ممالك مستقلة غير واضحة الحدود متناحرة فيما بينها، فمنها مملكة الخُتّل (ختلان) وهي على تخوم السند، ومملكة الصغد ومن أشهر مدنها بخارى وسمرقند، والصغانيان وآخُرُ وشومان وفرغانة والشاش.
كانت الفتوحات في العهد الراشدي قد وصلت إلى خراسان، ولكن أقدام العرب لم تتوطد فيها إلا في العهد الأموي، وكان ولاة خراسان يقومون بغزوات إلى بلاد ما وراء النهر، ثم يعودون إلى مراكزهم في خراسان شتاءً. ولم تأخذ عمليات فتح بلاد ما وراء النهر شكلاً منظماً إلا في خلافة الوليد بن عبد الملك عندما وصل قتيبة بن مسلم الباهلي والياً على خراسان، واستلم من المفضّل، وخطب بالجند وحثهم على الجهاد، وسار بعد أن استخلف على مرو إلى الطالقان، فأتاه دهاقين بلخ وبعض عظمائهم وساروا معه، ولما قطع نهر جيحون تلقاه ملك الصغانيان بهدايا ومفتاح من ذهب، ودعاه إلى بلاده وسلمه إياها ثم سار بعد ذلك إلى آخُرون وشومان فصالحه ملكها على فدية أداها إليه فقبلها، وقد استطاع قتيبة في عقد من الزمن (86ـ96هـ/705ـ712م) أن يفتح ممالك ومناطق ومدن وقلاع كثيرة حتى إنه وصل إلى مدينة كاشغر من أملاك الصين، فطلب ملكها منه أن يبعث إليه بوفد من رجاله للتفاوض معهم.
استخدم قتيبة أساليب مختلفة في الفتوح، منها الكر والفر و(الدبلوماسية)، فإذا ما صالح ملكاً تركه على مملكته مقابل إتاوة يدفعها إرضاءً لغرور الملك وتجنباً لتجدد ثورته عليه لاستعادة سلطانه المسلوب، كما استخدم الترغيب والترهيب والصبر والحزم والمفاوضات كما فعل مع «نيزك» صاحب قلعة «باذ غيس» المشهورة، ولكنه اضطر إلى قتله سنة 91هـ عندما دبّر فتنة ضد العرب في طخاستان، وحرّض ملوك بلخ والطالقان عليه، أمام هذه الأساليب المتنوعة لم تستعص على قتيبة قلعة أو مدينة حتى بيكند التي كان محاصراً فيها خرج منها منتصراً، أما بخارى فقد استعصت عليه في بادئ الأمر، فكتب إلى الحجاج يعلمه بالأمر، فطلب الحجاج منه أن يصورها له، فبعث إليه بصورتها، وبعد دراسة لواقع المدينة، أشار على قتيبة باتباع خطة معينة، مكنته من فتحها، ويبدو أن فتح بخارى تم سنة 90هـ وبعدها نجح قتيبة في فتح سمرقند بعد أن ضربها بالمنجنيق وأحدث ثلمة في سورها، فدخلها وأحرق أصنامها وبنى فيها مسجداً.
إن الفتوحات التي تحققت على يد قتيبة وضعته في مصاف كبار قادة الفتح العربي، ولعل أبسط ما يمكن أن يساق للدلالة على صحة هذا الادعاء هو أن الفتوح في هذه المنطقة لم تمتد بعد مقتل قتيبة سنة 96هـ إلى أبعد من هذا المدى الذي وصلت إليه على يديه، بل إن العرب فقدوا كل ولايات منطقة سرداريا (سيحون) بعد سنة من وفاته.
كان قتيبة قد توقف عن متابعة فتوحاته عندما بلغه خبر وفاة الوليد ابن عبد الملك سنة 96هـ، ليعرف ما ستكون عليه الحال بعد استلام سليمان بن عبد الملك الخلافة الذي كان يكره الحجاج وولاته؛ لأنه كان قد شجع الوليد بن عبد الملك على خلع سليمان من ولاية العهد والبيعة لابنه عبد العزيز بن مروان من بعده.
تعددت الروايات عن سير الأحداث بعد ذلك، أهمها تقول إن قتيبة خاف على نفسه، خاصة إذا ولى سليمان يزيد بن المهلب خراسان، فكتب للخليفة ثلاثة كتب: في الأول، يهنئه بالخلافة ويعزيه بالوليد، ويعلمه ولاءه وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنه كذلك معه إن لم يعزله، وفي الثاني، يعلمه فتوحه وعظم قدره عند ملوك العجم، وهيبته في صدورهم، ويذم آل المهلب، ويحذره من تعيين يزيد بن المهلب على خراسان، وفي الثالث، خلع الخليفة، وبعث بالثلاثة مع رجل من باهلة، وقال له: ادفع للخليفة الكتاب الأول، فإن كان يزيد بن المهلب حاضراً فقرأه ثم ألقاه إليه، ادفع له الثاني، وإن لم يدفعه إلى يزيد، فاحتبس الكتابين الآخرين. والذي حصل، أن الخليفة قرأ الأول وأعطاه ليزيد فدفع له الثاني فقرأه ثم رمى به إلى يزيد، فَدَفَع له الثالث فقرأه واحتفظ به وتغير لونه.
وعندما علم قتيبة بالخبر، أراد استباق ما قد ينتظره من شر، فدعا جنده إلى الخروج على سليمان فاختلف عليه قادة جنده، وقتله وكيع ابن حسّان، التميمي بفرغانه مع أحد عشر من أهله، وأرسل رأسه إلى الخليفة، وقال أحد الأعاجم بعد مقتله: «يا معشر العرب قتلتم قتيبة، ووالله لو كان فينا لجعلناه في تابوت واستفتحنا به غزونا». وكان المرزباني وأهل البصرة يفخرون به وبولده.
غطاس نعمة
(46 ـ 96هـ/669 ـ 715م)
أبو حفص، قتيبة بن مسلم بن عمرو ابن الحصين الباهلي، أمير فاتح من كبار قادة العرب، داهية، طويل الروية، راوية للشعر عالمٌ به.
تولّى الري في خلافة عبد الملك بن مروان (65ـ86هـ)، وولاه الحجاج بن يوسف الثقفي والي العراقين خراسان سنة 86هـ وقيادة الفتح في منطقة ما وراء النهر الواقعة شمالي خراسان والممتدة شمالاً إلى نهر سيحون، وغرباً إلى منطقة خوارزم وشرقاً إلى حدود مملكة الصين. وقد تكونت في هذه المناطق ممالك مستقلة غير واضحة الحدود متناحرة فيما بينها، فمنها مملكة الخُتّل (ختلان) وهي على تخوم السند، ومملكة الصغد ومن أشهر مدنها بخارى وسمرقند، والصغانيان وآخُرُ وشومان وفرغانة والشاش.
كانت الفتوحات في العهد الراشدي قد وصلت إلى خراسان، ولكن أقدام العرب لم تتوطد فيها إلا في العهد الأموي، وكان ولاة خراسان يقومون بغزوات إلى بلاد ما وراء النهر، ثم يعودون إلى مراكزهم في خراسان شتاءً. ولم تأخذ عمليات فتح بلاد ما وراء النهر شكلاً منظماً إلا في خلافة الوليد بن عبد الملك عندما وصل قتيبة بن مسلم الباهلي والياً على خراسان، واستلم من المفضّل، وخطب بالجند وحثهم على الجهاد، وسار بعد أن استخلف على مرو إلى الطالقان، فأتاه دهاقين بلخ وبعض عظمائهم وساروا معه، ولما قطع نهر جيحون تلقاه ملك الصغانيان بهدايا ومفتاح من ذهب، ودعاه إلى بلاده وسلمه إياها ثم سار بعد ذلك إلى آخُرون وشومان فصالحه ملكها على فدية أداها إليه فقبلها، وقد استطاع قتيبة في عقد من الزمن (86ـ96هـ/705ـ712م) أن يفتح ممالك ومناطق ومدن وقلاع كثيرة حتى إنه وصل إلى مدينة كاشغر من أملاك الصين، فطلب ملكها منه أن يبعث إليه بوفد من رجاله للتفاوض معهم.
استخدم قتيبة أساليب مختلفة في الفتوح، منها الكر والفر و(الدبلوماسية)، فإذا ما صالح ملكاً تركه على مملكته مقابل إتاوة يدفعها إرضاءً لغرور الملك وتجنباً لتجدد ثورته عليه لاستعادة سلطانه المسلوب، كما استخدم الترغيب والترهيب والصبر والحزم والمفاوضات كما فعل مع «نيزك» صاحب قلعة «باذ غيس» المشهورة، ولكنه اضطر إلى قتله سنة 91هـ عندما دبّر فتنة ضد العرب في طخاستان، وحرّض ملوك بلخ والطالقان عليه، أمام هذه الأساليب المتنوعة لم تستعص على قتيبة قلعة أو مدينة حتى بيكند التي كان محاصراً فيها خرج منها منتصراً، أما بخارى فقد استعصت عليه في بادئ الأمر، فكتب إلى الحجاج يعلمه بالأمر، فطلب الحجاج منه أن يصورها له، فبعث إليه بصورتها، وبعد دراسة لواقع المدينة، أشار على قتيبة باتباع خطة معينة، مكنته من فتحها، ويبدو أن فتح بخارى تم سنة 90هـ وبعدها نجح قتيبة في فتح سمرقند بعد أن ضربها بالمنجنيق وأحدث ثلمة في سورها، فدخلها وأحرق أصنامها وبنى فيها مسجداً.
إن الفتوحات التي تحققت على يد قتيبة وضعته في مصاف كبار قادة الفتح العربي، ولعل أبسط ما يمكن أن يساق للدلالة على صحة هذا الادعاء هو أن الفتوح في هذه المنطقة لم تمتد بعد مقتل قتيبة سنة 96هـ إلى أبعد من هذا المدى الذي وصلت إليه على يديه، بل إن العرب فقدوا كل ولايات منطقة سرداريا (سيحون) بعد سنة من وفاته.
كان قتيبة قد توقف عن متابعة فتوحاته عندما بلغه خبر وفاة الوليد ابن عبد الملك سنة 96هـ، ليعرف ما ستكون عليه الحال بعد استلام سليمان بن عبد الملك الخلافة الذي كان يكره الحجاج وولاته؛ لأنه كان قد شجع الوليد بن عبد الملك على خلع سليمان من ولاية العهد والبيعة لابنه عبد العزيز بن مروان من بعده.
تعددت الروايات عن سير الأحداث بعد ذلك، أهمها تقول إن قتيبة خاف على نفسه، خاصة إذا ولى سليمان يزيد بن المهلب خراسان، فكتب للخليفة ثلاثة كتب: في الأول، يهنئه بالخلافة ويعزيه بالوليد، ويعلمه ولاءه وطاعته لعبد الملك والوليد، وأنه كذلك معه إن لم يعزله، وفي الثاني، يعلمه فتوحه وعظم قدره عند ملوك العجم، وهيبته في صدورهم، ويذم آل المهلب، ويحذره من تعيين يزيد بن المهلب على خراسان، وفي الثالث، خلع الخليفة، وبعث بالثلاثة مع رجل من باهلة، وقال له: ادفع للخليفة الكتاب الأول، فإن كان يزيد بن المهلب حاضراً فقرأه ثم ألقاه إليه، ادفع له الثاني، وإن لم يدفعه إلى يزيد، فاحتبس الكتابين الآخرين. والذي حصل، أن الخليفة قرأ الأول وأعطاه ليزيد فدفع له الثاني فقرأه ثم رمى به إلى يزيد، فَدَفَع له الثالث فقرأه واحتفظ به وتغير لونه.
وعندما علم قتيبة بالخبر، أراد استباق ما قد ينتظره من شر، فدعا جنده إلى الخروج على سليمان فاختلف عليه قادة جنده، وقتله وكيع ابن حسّان، التميمي بفرغانه مع أحد عشر من أهله، وأرسل رأسه إلى الخليفة، وقال أحد الأعاجم بعد مقتله: «يا معشر العرب قتلتم قتيبة، ووالله لو كان فينا لجعلناه في تابوت واستفتحنا به غزونا». وكان المرزباني وأهل البصرة يفخرون به وبولده.
غطاس نعمة