لا قطيعة بين الشاعر والفيلسوف
عالمان مختلفان يجمعهما التمرد الدائم واللغة.
كلاهما يسعى إلى حقيقة خاصة (عمل للفنانة نور عسلية)
منذ أفلاطون وطرده الشعراء من مدينته الفاضلة ظلت العلاقة مضطربة بين الفيلسوف والشعر، علاقة لم تعد إلى التواصل إلا مع نيتشه الذي أعاد الربط بين الفلسفة والشعر بشكل جمالي. لكن الخلافات مازالت كثيرة بين العالمين رغم تقاطعاتهما، وإمكانية إرساء أرض وسط بينهما.
أفكار ترصدها ذهنيا وتتمثلها، فتتهيب منها وتحاول نسيانها، تعجز عن ذلك، وبمجرد كتابتها، بها تقتنع، وقد تدافع عنها، معتبرا إياها أعمق أو أجمل ما كتبت، فلا تعرف هل هي خدعة اللغة التي بدلتها أو غيرت وجهتها أم أنك صرت ما لم تكن أثناء التفكير فيها، وربما انخدعت بسطوة الكتابة، فقبلت ما سبق أن رفضت قبل أن ينكتب؟
قيل عن ذلك إن عالم الإنسان شعوري لكنه محكوم بلاوعي، وقيل أيضا إن سطوة الكتابة تؤثر على الفرد، بينما الجماعة لا تنفعل إلا بالشفاهي. وقد يزعم آخرون أن ذلك، إن حدث، يكون مؤشر فصام أو جنونا خاصا بالكتاب، لذلك يخفونه، وأنا أسأل أي نوع من الكتابة يحدث فيه ذلك؟
أصدقاء الأساطير
الشاعر لا ينشد كمالا للغة، بل خلقا لها، لتكون ما ليس هي، أو ما لا يشبهها، فتهب المعاني صورا مختلفة
لكل نمط من الكتابة قواعده التي يسعى العقل لفرضها أو التسليم بالشائع منها، لكن أكثر الكتابات انفلاتا من عقال العقل هي الشعر. غير أن الشاعر لا يكسر كل القواعد، فهو يكتب بلغة لها نحوها وأصواتها وعوالمها، وقد يجند نفسه دفاعا عن واقع بديل لآخر مرفوض، فينشد عدلا برفضه لما يبدو له ظلما، وقد يتخيل ما ليس موجودا فيشيده بناء على نموذج خاص، ابتدعه واشترط له شروطا، امتثل لها بطريقته، أو حتى تمرد عليها فناقضها أو أخفى ما ينازعها وجودها.
وغالبا ما يعيد الشاعر ترتيب قصائده، أو يلقيها بصوته فيغير رأيه فيها بعد سماعها، وهو هنا يقبل بالشفاهي بعد أن رفضه مكتوبا، أو شكك في جدواه الأدبي والشاعري، فالحالة هنا معكوسة، وهي لم تقدم جوابا عن السؤال المطروح، بل قلبته، وربما زادته صعوبة، فالشاعر يقرأ بصوته ولا يفارقه حتى وهو يقرأ لغيره، إنه هو حتى في قراءته لما يختلف عن شعره، هو وريث القول وهو يكتب، محاولا الانفلات من تقليد هو أول من شيده، فهو الوحيد الذي يتشرف بقراءة قصائد من ديوانه، ويشرق مع كلماته وهو بالصوت يهبها وجودها الذي لم يكن لها مكتوبة، فحاز بالقول صدقا أو عمقا افتقد في الكتابة أو احتجب.
ولذلك تتحول اللغات بانقلابات الشعراء على مساراتهم، فيمسكون بالمنفلت ليعيدوا تشييده كي يبدو مرئيا، حتى وهو مخترق بصور أخرى، لم تنل منه كليا، وتركت عليه خدوشاتها الراسمة لمسارات الأفكار والتخيلات وهي تغامر في مواجهاتها للمعتاد والمتفق حوله، اقتناعا أو كرها. من هنا اكتشفت الوشائج الخفية بين الفلاسفة والشعراء، هي وجدت ولم تظهر إلا متأخرة.
عندما كانت الأساطير تقتات من الشعر، كان الشعراء مغيبون ونادرا ما تحضر أسماؤهم بحضور كلامهم أو ما شابهه، لكن الفلاسفة بتوجسهم من الشعر حاولوا بناء قولهم، بما يشبه اختزال الكلام وعزله عن الصور. فقط أفلاطون، في حجاجية الكهف، استحضر صورهم الشبيهة بالأسطورة وإن جعل لغتها خالية من التعبير الأدبي رغم مجازاتها الظاهرة، ولم يكن له خيار آخر، والأسطورة لا تزال عوالمها حاضرة، تحتضر، لكن ببطء.
اللغات تتحول بانقلابات الشعراء على مساراتهم، فيمسكون بالمنفلت ليعيدوا تشييده كي يبدو مرئيا، حتى وهو مخترق بصور أخرى
لكن نيتشه في عودته إلى الحكمة الزرادشتية شذب القول الشعري بحكمة الشذرة، التي لم تكن غريبة عن الشعر الذي كان خير ممثل لها عندما يحتويها، ليجعل الفكرة عميقة بمعناها وجمالية تعبيرها، مثبتا أن العقل يتمثل بحب، كما قد يعشق العاشق بعقل، وهكذا، بفنية تمرد على الميتافيزيقا التي ربما بدت له أسطورة عقلنها العقل بأن استأجر لها بناء عقليا يجعلها مقبولة كوجود حقيقي يدعم به الموجود، ويهبه أخلاقية مفترضة، هي أخلاق الخضوع للقوة الغريزية التي تقدست بالفضيلة، صونا لعار الخضوع والامتثال للقوة المفروضة بأخلاقية، تحررت من سطوة المقدس، لتقبل بعبودية لأقانيم جديدة، هي قوانين العقل المبجلة، والتي خرقها يجعل الإنسان منحطا في نظر نفسه، قبل غيره.
بذلك كشف نيتشه عن أن تاريخ البحث عن الحقيقة كان وهما يتدثر بأوهام، كلما تقادمت تقدست، فقبل الكل بها حفظا للحياة، وجعلوها آلهة جديدة، لها قرابين تطالب بها، فتقدم لها بآليات جديدة، ليست طقوسا أو عطايا، بل ابتهالات مقدسة للعقلي ومدينة لكل ما يناهض وحدته ومساره.
ماذا بعد، ولماذا تختزل هذه الحالات في الشعر والفلسفة؟
لأنهما جاورا الأساطير وتمردا عليها باستحضارها بأشكال مختلفة، والأصل دائما يخفي حضوره حتى لا يبدو باهتا أو مشعا إن برز، والأصل يتحرك بحيث لا يرى خجولا ربما مما كانه أو خائفا مما جد بعده، وهما خفيان في كل فكر، وفاعلان بشكل أعمق أحيانا من أن يدركا، إنهما تجريدا وتخيلا أقصى ما تصله الكلمة في رفضها لأن تتمثل المعاني بشكل تام ونهائي.
الفيلسوف والشاعر
ملاحقة الحقائق
الفيلسوف مفارق في تاريخه، بين الرفض والتمرد يقيم، كاشف عن أنساق الفكر الذي يتمثل به العالم، إذ هو على حد تعبير سقراط “الذبابة التي تزعجكم” وهي طيلة النهار تلدغ لتحرم البشر من النوم، ليضجروا من الكسل وعاداته السيئة، فكانت الفلسفة رديفا لليقظة، والحكيم هو اليقظ، الرافض للخدع والاستسلام للراحة التي يحبذها الجسد وتسعى لها الأنفس الراضخة له، إنه الحالم بالوضوح والبداهة العقلية، وهو مطارد للوهم في صراعاته ضد غيره، فلا تغريه البساطة التي تخفي عجزا، ولا القداسة التي تستهوي الخاضعين لسلطتها المغرية.
ولا يستكين الفيلسوف لما هو عليه، وهو الوحيد الذي يراجع رسالته وقد يتخلى عنها في مساره، فيعترف بما اقترف من هفوات، ليعلنها دون طقوس للغفران، فهي ليست ذنوبا موجبة للتوبة، وهو لا يخافها، كعثرات يتعلم بها الجري والتغلب على خيبات الفكر وهو يفاجئ نفسه، فيتمرن بالخدع على ملاحقة الحقائق أو ما يبدو كذلك، هو من بمعرفته يكتشف أنه لا يعرف، هو من بوجوده المتناهي يرسم حدود اللانهائي، كما يظنه ويحسب أنه ملاقيه فيما بعد بغيره، أي بمن يواصلون مساره، أو يعدلونه، أو حتى يرفضونه.
ويحاول باستمرار تحقيق المعرفة، فإن عجز عرف حدود معرفته، يبحث عن المعقول في الوجود، فإن تأكد منه يقينا تركه لعلم اختص به، وانتقل ليقيم في لايقين جديد، يدشن به معرفة أخرى، استعصت أو استحالت في عصره، هو لا يفرغ من تأملاته، فيعود إلى ماضي الفكر باحثا عن المنسي والمهمل، فالزمن ليس عنده انتقالا لا رجعة فيه، فقد يجد مفتقدا تم تجاهله، لحدته أو عجز أهله على تثبيته، فلم يجمعوه، كسلا أو خوفا، هو يستأنفه حتى يستنفد وجوده، لا ليصير زعيم جماعة وجدت نفسها في هوية جريحة تحاول علاجها بالهروب من حاضرها، بل بذلك يربط بين العصور كأفكار لا أحداث فقط، فهو إن خاض في التاريخ قلب حقائقه لتبدو الخفايا أكثر من الواضحات، ليفهم الوجود كمعترك للموجودات العاقلة، التي خلصته مما كان يبدو عليه، وحاولت أن تمضي به بإغنائه وجعله أكثر رسوخا بتجريده.
الفيلسوف متمرد لا يستكين لما هو عليه، وهو الوحيد الذي يراجع رسالته وقد يتخلى عنها في مساره
أما الشاعر فلا يجرد في تخيله، بل يلامس باللغة ما يستعصي عليها وهي تستحوذ على عوالم متاحة لرؤيتها ولمسها، هو يخلق للفكر متعة، بلغة لها إيقاعاتها الداخلية، قبل قافيتها الخارجية، فيتخيل بوهم أوجه الحقيقة ليدفعها نحو ما كانته قبل القول، وينتظر بروزها ليعيد صياغة القول أو يكتبه، وبذلك فهو لا ينشد كمالا للغة، بل خلقا لها، لتكون ما ليس هي، أو ما لا يشبهها، فتهب المعاني صورا مختلفة، يجد فيها سامعها ما لم يجد القارئ فيها، فتتجدد المعاني وقد تتضارب، في غموض تمضي وتتسع إلى ما لا نهاية، فيجد فيها كل ساع إليها ما افتقده في غيرها، فيعثر على الحكمة إن حكيما كان، ورمزا بإيحاءات محركة لعوالم، بحث عنها فتاهت منه أو فقدها في ذكرى عاشها.
الشاعر بتخيلاته يمدد الذاكرة ليسعف أفرادها القدرة على تجديد الانتماء إليها، فاللغة بفعل تقادمها تحتاج الشعر لتشد خراب التواصل فيها إلى ما يتجاوز حاجات الناطقين بها، فيحلمون بما لم تطله ذاكرتهم، مؤججين حاجات أخرى للظهور والتعبير عن نفسها، سواء كانت حرقة حب أو ندم، بلغة أخرى، تعلي العواطف وتجعلها أكثر نبلا وتعاليا عن المعتاد حتى لا تتكرر اعتقادات ترسخت تعبيرا عن عواطف، سجنت بلغة لم تعد تتسع لها، فضاقت بها دون أن تفيض عنها بدلالات أخرى، تفرض قولها شعرا بتخيل خلاق، يبدع ما يطفو ويسمو على نظام العادة في القول.
والشاعر لذلك يتبرأ مما غدا معبرا عنه، فيقفز على العتبة ناشدا القفز على ما كتب وقال، ليسعف نفسه القدرة على التخطي والتجاوز، حتى لا يشبه غيره، فيستهويه التكرار إرضاء لمن يريدونه كما بدأ، هنا محنة الشاعر، فهو مطالب بأن يطابق ما رآه الناس عليه، وهو رافض للإقامة في البيت أو القصيدة أو حتى القضية، إنه حالم وحازم في إصراره على معانقة وجود متنقل بين تخيلات، بجنون تمضي متنكرة لكل ممكن، ساعية لمستحيل تتملكه مؤقتا، سرعان ما تمل منه باحثة عما يناقضه، فالشاعر لا يرمم، ولا يسعى لتكرار شيء وإن كان هو نفسه. إن فلسفته تخيلية لا تلتقي بتجريدات الفيلسوف إلا سرا، وهي تحفظ السر، وإن باحت به لن يكون إلا بنفس شعري وصور متقطعة، منهكة للغة وأحيانا متمردة عليها، وهي صرخة المعري (وإني وإن كنت الأخير زمانه، لآت بما لم تستطعه الأوائل)، هنا الزمن الفلسفي يغدو مفارقا لثقافة تلك العصور، ومتمردا عليها، بل ومدينا لها، عندما يضيف (لما وجدت الجهل في الناس فاشيا، تجاهلت حتى ظن أني جاهل)، للشاعر ذات يهرب إليها ليدفعها دفعا لتلاقي عالمها وتشيد بذاتها التي تجاهلت عالما لا يطاق جهله، فكيف تكون لغته إن تقهقرت أفكاره، واتجه الناس للجمود وتقبل ما ظنوه تاما ومكتملا، هنا يلتقي الشاعر بالفيلسوف، ليتذمر الأول، ويهاجر الثاني. فأين يلتقيان وأيهما يمضي تجاه الآخر؟
الفيلسوف مفارق في تاريخه بين الرفض والتمرد
يندفع الشاعر تجاه الفيلسوف محاولا نسيان تراجيديا النفي القديم الذي دعا إليه الفيلسوف، وهو يستعيض عن تخيلاته بالميتافيزيقا، محرضا على كل ما يمت بصلة للعواطف والانفعالات، التي تؤثر على التأمل الفلسفي، وتعيقه عن تأدية رسالته المتمثلة في القضاء على التخيلات، التي منها تسربت الأساطير، والتي اعتقد أنها استمدت قوتها التأثيرية من الشعر. لكن، كيف يطرد الشعر من مملكة العقل، وتحافظ الشذرات على أسلوبه في القول والكتابة؟
وهنا يسائل الفيلسوف الشاعر مستنكرا، لماذا تسعى للفلسفة بالقول الشعري وأنت تعرف أن لغتها مرتبطة بها ارتباطا جوهريا؟
ولا تتفاوت لغات الفلاسفة وإن اختلفت، فالضرورة تفرض عليها لتكون فلسفية، مفاهيم وأنساقا في الكتابة، فلها قاعدة منطقية، مهما كان الاختلاف حولها عميقا، إضافة إلى القاعدة التي بها يعبر الفيلسوف، المثقل بحملين متوازنين، بينهما وبهما يمشي نحو تأسيس مشروع ينشد من خلاله الجدة والأصالة حتى وهو يقرأ فلسفات غيره، فهو شارح بشروحاته، ولا يمكنه أن يتوقف في حدود المعاني التي اتفق حولها، أما الشاعر عادة فليس مطلوبا منه رص المفاهيم وجعلها بناء نسقيا، فهو حتى في مواجهة قضايا الفلسفة لا يدعو لحقيقة فلسفية وإن بدت له، بل يمدد الطريق إليها ليقول فيها ما يشاء قبل أن تتحقق عقلا أو حدسا أو بداهة.
وبذلك يلتقي الشاعر بالفيلسوف ويتفادى ما توصل إليه، تجنبا لنهاية لا يسعى إليها، ولذلك كلما تضمن شعره ما يبدو فلسفة ازداد قلقا من شعريته، وبهذا القلق يبحث عن ولادة جديدة، ليرمم بها ما انهار في الشعر دون أن يطالب بنظريات فلسفية، سابقة على تجاربه، وما يعتبره وجوده الخاص، وكينونة عابرة في تحولها إلى كل ما هو ثابت أو مسلم به. إنه يقفز نحو لا يقين الفيلسوف، ليس طمعا في أية بداهة أو حقيقة، تخلصه مما وقع فيه، بل إنه بسعيه لما لا يستدل عليه يشيد حيرة لامتناهية، ليفجر بها اللغة ويحدث تمردا على صورها ومجازاتها وأحيانا حتى قواعدها.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
حميد المصباحي
كاتب وأكاديمي مغربي
عالمان مختلفان يجمعهما التمرد الدائم واللغة.
كلاهما يسعى إلى حقيقة خاصة (عمل للفنانة نور عسلية)
منذ أفلاطون وطرده الشعراء من مدينته الفاضلة ظلت العلاقة مضطربة بين الفيلسوف والشعر، علاقة لم تعد إلى التواصل إلا مع نيتشه الذي أعاد الربط بين الفلسفة والشعر بشكل جمالي. لكن الخلافات مازالت كثيرة بين العالمين رغم تقاطعاتهما، وإمكانية إرساء أرض وسط بينهما.
أفكار ترصدها ذهنيا وتتمثلها، فتتهيب منها وتحاول نسيانها، تعجز عن ذلك، وبمجرد كتابتها، بها تقتنع، وقد تدافع عنها، معتبرا إياها أعمق أو أجمل ما كتبت، فلا تعرف هل هي خدعة اللغة التي بدلتها أو غيرت وجهتها أم أنك صرت ما لم تكن أثناء التفكير فيها، وربما انخدعت بسطوة الكتابة، فقبلت ما سبق أن رفضت قبل أن ينكتب؟
قيل عن ذلك إن عالم الإنسان شعوري لكنه محكوم بلاوعي، وقيل أيضا إن سطوة الكتابة تؤثر على الفرد، بينما الجماعة لا تنفعل إلا بالشفاهي. وقد يزعم آخرون أن ذلك، إن حدث، يكون مؤشر فصام أو جنونا خاصا بالكتاب، لذلك يخفونه، وأنا أسأل أي نوع من الكتابة يحدث فيه ذلك؟
أصدقاء الأساطير
الشاعر لا ينشد كمالا للغة، بل خلقا لها، لتكون ما ليس هي، أو ما لا يشبهها، فتهب المعاني صورا مختلفة
لكل نمط من الكتابة قواعده التي يسعى العقل لفرضها أو التسليم بالشائع منها، لكن أكثر الكتابات انفلاتا من عقال العقل هي الشعر. غير أن الشاعر لا يكسر كل القواعد، فهو يكتب بلغة لها نحوها وأصواتها وعوالمها، وقد يجند نفسه دفاعا عن واقع بديل لآخر مرفوض، فينشد عدلا برفضه لما يبدو له ظلما، وقد يتخيل ما ليس موجودا فيشيده بناء على نموذج خاص، ابتدعه واشترط له شروطا، امتثل لها بطريقته، أو حتى تمرد عليها فناقضها أو أخفى ما ينازعها وجودها.
وغالبا ما يعيد الشاعر ترتيب قصائده، أو يلقيها بصوته فيغير رأيه فيها بعد سماعها، وهو هنا يقبل بالشفاهي بعد أن رفضه مكتوبا، أو شكك في جدواه الأدبي والشاعري، فالحالة هنا معكوسة، وهي لم تقدم جوابا عن السؤال المطروح، بل قلبته، وربما زادته صعوبة، فالشاعر يقرأ بصوته ولا يفارقه حتى وهو يقرأ لغيره، إنه هو حتى في قراءته لما يختلف عن شعره، هو وريث القول وهو يكتب، محاولا الانفلات من تقليد هو أول من شيده، فهو الوحيد الذي يتشرف بقراءة قصائد من ديوانه، ويشرق مع كلماته وهو بالصوت يهبها وجودها الذي لم يكن لها مكتوبة، فحاز بالقول صدقا أو عمقا افتقد في الكتابة أو احتجب.
ولذلك تتحول اللغات بانقلابات الشعراء على مساراتهم، فيمسكون بالمنفلت ليعيدوا تشييده كي يبدو مرئيا، حتى وهو مخترق بصور أخرى، لم تنل منه كليا، وتركت عليه خدوشاتها الراسمة لمسارات الأفكار والتخيلات وهي تغامر في مواجهاتها للمعتاد والمتفق حوله، اقتناعا أو كرها. من هنا اكتشفت الوشائج الخفية بين الفلاسفة والشعراء، هي وجدت ولم تظهر إلا متأخرة.
عندما كانت الأساطير تقتات من الشعر، كان الشعراء مغيبون ونادرا ما تحضر أسماؤهم بحضور كلامهم أو ما شابهه، لكن الفلاسفة بتوجسهم من الشعر حاولوا بناء قولهم، بما يشبه اختزال الكلام وعزله عن الصور. فقط أفلاطون، في حجاجية الكهف، استحضر صورهم الشبيهة بالأسطورة وإن جعل لغتها خالية من التعبير الأدبي رغم مجازاتها الظاهرة، ولم يكن له خيار آخر، والأسطورة لا تزال عوالمها حاضرة، تحتضر، لكن ببطء.
اللغات تتحول بانقلابات الشعراء على مساراتهم، فيمسكون بالمنفلت ليعيدوا تشييده كي يبدو مرئيا، حتى وهو مخترق بصور أخرى
لكن نيتشه في عودته إلى الحكمة الزرادشتية شذب القول الشعري بحكمة الشذرة، التي لم تكن غريبة عن الشعر الذي كان خير ممثل لها عندما يحتويها، ليجعل الفكرة عميقة بمعناها وجمالية تعبيرها، مثبتا أن العقل يتمثل بحب، كما قد يعشق العاشق بعقل، وهكذا، بفنية تمرد على الميتافيزيقا التي ربما بدت له أسطورة عقلنها العقل بأن استأجر لها بناء عقليا يجعلها مقبولة كوجود حقيقي يدعم به الموجود، ويهبه أخلاقية مفترضة، هي أخلاق الخضوع للقوة الغريزية التي تقدست بالفضيلة، صونا لعار الخضوع والامتثال للقوة المفروضة بأخلاقية، تحررت من سطوة المقدس، لتقبل بعبودية لأقانيم جديدة، هي قوانين العقل المبجلة، والتي خرقها يجعل الإنسان منحطا في نظر نفسه، قبل غيره.
بذلك كشف نيتشه عن أن تاريخ البحث عن الحقيقة كان وهما يتدثر بأوهام، كلما تقادمت تقدست، فقبل الكل بها حفظا للحياة، وجعلوها آلهة جديدة، لها قرابين تطالب بها، فتقدم لها بآليات جديدة، ليست طقوسا أو عطايا، بل ابتهالات مقدسة للعقلي ومدينة لكل ما يناهض وحدته ومساره.
ماذا بعد، ولماذا تختزل هذه الحالات في الشعر والفلسفة؟
لأنهما جاورا الأساطير وتمردا عليها باستحضارها بأشكال مختلفة، والأصل دائما يخفي حضوره حتى لا يبدو باهتا أو مشعا إن برز، والأصل يتحرك بحيث لا يرى خجولا ربما مما كانه أو خائفا مما جد بعده، وهما خفيان في كل فكر، وفاعلان بشكل أعمق أحيانا من أن يدركا، إنهما تجريدا وتخيلا أقصى ما تصله الكلمة في رفضها لأن تتمثل المعاني بشكل تام ونهائي.
الفيلسوف والشاعر
ملاحقة الحقائق
الفيلسوف مفارق في تاريخه، بين الرفض والتمرد يقيم، كاشف عن أنساق الفكر الذي يتمثل به العالم، إذ هو على حد تعبير سقراط “الذبابة التي تزعجكم” وهي طيلة النهار تلدغ لتحرم البشر من النوم، ليضجروا من الكسل وعاداته السيئة، فكانت الفلسفة رديفا لليقظة، والحكيم هو اليقظ، الرافض للخدع والاستسلام للراحة التي يحبذها الجسد وتسعى لها الأنفس الراضخة له، إنه الحالم بالوضوح والبداهة العقلية، وهو مطارد للوهم في صراعاته ضد غيره، فلا تغريه البساطة التي تخفي عجزا، ولا القداسة التي تستهوي الخاضعين لسلطتها المغرية.
ولا يستكين الفيلسوف لما هو عليه، وهو الوحيد الذي يراجع رسالته وقد يتخلى عنها في مساره، فيعترف بما اقترف من هفوات، ليعلنها دون طقوس للغفران، فهي ليست ذنوبا موجبة للتوبة، وهو لا يخافها، كعثرات يتعلم بها الجري والتغلب على خيبات الفكر وهو يفاجئ نفسه، فيتمرن بالخدع على ملاحقة الحقائق أو ما يبدو كذلك، هو من بمعرفته يكتشف أنه لا يعرف، هو من بوجوده المتناهي يرسم حدود اللانهائي، كما يظنه ويحسب أنه ملاقيه فيما بعد بغيره، أي بمن يواصلون مساره، أو يعدلونه، أو حتى يرفضونه.
ويحاول باستمرار تحقيق المعرفة، فإن عجز عرف حدود معرفته، يبحث عن المعقول في الوجود، فإن تأكد منه يقينا تركه لعلم اختص به، وانتقل ليقيم في لايقين جديد، يدشن به معرفة أخرى، استعصت أو استحالت في عصره، هو لا يفرغ من تأملاته، فيعود إلى ماضي الفكر باحثا عن المنسي والمهمل، فالزمن ليس عنده انتقالا لا رجعة فيه، فقد يجد مفتقدا تم تجاهله، لحدته أو عجز أهله على تثبيته، فلم يجمعوه، كسلا أو خوفا، هو يستأنفه حتى يستنفد وجوده، لا ليصير زعيم جماعة وجدت نفسها في هوية جريحة تحاول علاجها بالهروب من حاضرها، بل بذلك يربط بين العصور كأفكار لا أحداث فقط، فهو إن خاض في التاريخ قلب حقائقه لتبدو الخفايا أكثر من الواضحات، ليفهم الوجود كمعترك للموجودات العاقلة، التي خلصته مما كان يبدو عليه، وحاولت أن تمضي به بإغنائه وجعله أكثر رسوخا بتجريده.
الفيلسوف متمرد لا يستكين لما هو عليه، وهو الوحيد الذي يراجع رسالته وقد يتخلى عنها في مساره
أما الشاعر فلا يجرد في تخيله، بل يلامس باللغة ما يستعصي عليها وهي تستحوذ على عوالم متاحة لرؤيتها ولمسها، هو يخلق للفكر متعة، بلغة لها إيقاعاتها الداخلية، قبل قافيتها الخارجية، فيتخيل بوهم أوجه الحقيقة ليدفعها نحو ما كانته قبل القول، وينتظر بروزها ليعيد صياغة القول أو يكتبه، وبذلك فهو لا ينشد كمالا للغة، بل خلقا لها، لتكون ما ليس هي، أو ما لا يشبهها، فتهب المعاني صورا مختلفة، يجد فيها سامعها ما لم يجد القارئ فيها، فتتجدد المعاني وقد تتضارب، في غموض تمضي وتتسع إلى ما لا نهاية، فيجد فيها كل ساع إليها ما افتقده في غيرها، فيعثر على الحكمة إن حكيما كان، ورمزا بإيحاءات محركة لعوالم، بحث عنها فتاهت منه أو فقدها في ذكرى عاشها.
الشاعر بتخيلاته يمدد الذاكرة ليسعف أفرادها القدرة على تجديد الانتماء إليها، فاللغة بفعل تقادمها تحتاج الشعر لتشد خراب التواصل فيها إلى ما يتجاوز حاجات الناطقين بها، فيحلمون بما لم تطله ذاكرتهم، مؤججين حاجات أخرى للظهور والتعبير عن نفسها، سواء كانت حرقة حب أو ندم، بلغة أخرى، تعلي العواطف وتجعلها أكثر نبلا وتعاليا عن المعتاد حتى لا تتكرر اعتقادات ترسخت تعبيرا عن عواطف، سجنت بلغة لم تعد تتسع لها، فضاقت بها دون أن تفيض عنها بدلالات أخرى، تفرض قولها شعرا بتخيل خلاق، يبدع ما يطفو ويسمو على نظام العادة في القول.
والشاعر لذلك يتبرأ مما غدا معبرا عنه، فيقفز على العتبة ناشدا القفز على ما كتب وقال، ليسعف نفسه القدرة على التخطي والتجاوز، حتى لا يشبه غيره، فيستهويه التكرار إرضاء لمن يريدونه كما بدأ، هنا محنة الشاعر، فهو مطالب بأن يطابق ما رآه الناس عليه، وهو رافض للإقامة في البيت أو القصيدة أو حتى القضية، إنه حالم وحازم في إصراره على معانقة وجود متنقل بين تخيلات، بجنون تمضي متنكرة لكل ممكن، ساعية لمستحيل تتملكه مؤقتا، سرعان ما تمل منه باحثة عما يناقضه، فالشاعر لا يرمم، ولا يسعى لتكرار شيء وإن كان هو نفسه. إن فلسفته تخيلية لا تلتقي بتجريدات الفيلسوف إلا سرا، وهي تحفظ السر، وإن باحت به لن يكون إلا بنفس شعري وصور متقطعة، منهكة للغة وأحيانا متمردة عليها، وهي صرخة المعري (وإني وإن كنت الأخير زمانه، لآت بما لم تستطعه الأوائل)، هنا الزمن الفلسفي يغدو مفارقا لثقافة تلك العصور، ومتمردا عليها، بل ومدينا لها، عندما يضيف (لما وجدت الجهل في الناس فاشيا، تجاهلت حتى ظن أني جاهل)، للشاعر ذات يهرب إليها ليدفعها دفعا لتلاقي عالمها وتشيد بذاتها التي تجاهلت عالما لا يطاق جهله، فكيف تكون لغته إن تقهقرت أفكاره، واتجه الناس للجمود وتقبل ما ظنوه تاما ومكتملا، هنا يلتقي الشاعر بالفيلسوف، ليتذمر الأول، ويهاجر الثاني. فأين يلتقيان وأيهما يمضي تجاه الآخر؟
الفيلسوف مفارق في تاريخه بين الرفض والتمرد
يندفع الشاعر تجاه الفيلسوف محاولا نسيان تراجيديا النفي القديم الذي دعا إليه الفيلسوف، وهو يستعيض عن تخيلاته بالميتافيزيقا، محرضا على كل ما يمت بصلة للعواطف والانفعالات، التي تؤثر على التأمل الفلسفي، وتعيقه عن تأدية رسالته المتمثلة في القضاء على التخيلات، التي منها تسربت الأساطير، والتي اعتقد أنها استمدت قوتها التأثيرية من الشعر. لكن، كيف يطرد الشعر من مملكة العقل، وتحافظ الشذرات على أسلوبه في القول والكتابة؟
وهنا يسائل الفيلسوف الشاعر مستنكرا، لماذا تسعى للفلسفة بالقول الشعري وأنت تعرف أن لغتها مرتبطة بها ارتباطا جوهريا؟
ولا تتفاوت لغات الفلاسفة وإن اختلفت، فالضرورة تفرض عليها لتكون فلسفية، مفاهيم وأنساقا في الكتابة، فلها قاعدة منطقية، مهما كان الاختلاف حولها عميقا، إضافة إلى القاعدة التي بها يعبر الفيلسوف، المثقل بحملين متوازنين، بينهما وبهما يمشي نحو تأسيس مشروع ينشد من خلاله الجدة والأصالة حتى وهو يقرأ فلسفات غيره، فهو شارح بشروحاته، ولا يمكنه أن يتوقف في حدود المعاني التي اتفق حولها، أما الشاعر عادة فليس مطلوبا منه رص المفاهيم وجعلها بناء نسقيا، فهو حتى في مواجهة قضايا الفلسفة لا يدعو لحقيقة فلسفية وإن بدت له، بل يمدد الطريق إليها ليقول فيها ما يشاء قبل أن تتحقق عقلا أو حدسا أو بداهة.
وبذلك يلتقي الشاعر بالفيلسوف ويتفادى ما توصل إليه، تجنبا لنهاية لا يسعى إليها، ولذلك كلما تضمن شعره ما يبدو فلسفة ازداد قلقا من شعريته، وبهذا القلق يبحث عن ولادة جديدة، ليرمم بها ما انهار في الشعر دون أن يطالب بنظريات فلسفية، سابقة على تجاربه، وما يعتبره وجوده الخاص، وكينونة عابرة في تحولها إلى كل ما هو ثابت أو مسلم به. إنه يقفز نحو لا يقين الفيلسوف، ليس طمعا في أية بداهة أو حقيقة، تخلصه مما وقع فيه، بل إنه بسعيه لما لا يستدل عليه يشيد حيرة لامتناهية، ليفجر بها اللغة ويحدث تمردا على صورها ومجازاتها وأحيانا حتى قواعدها.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
حميد المصباحي
كاتب وأكاديمي مغربي