مشروع الناقد السعودي عبدالله الغذامي في النقد الثقافي ما زال محل سجال
طارق بوحالة: مشروع الغذامي مؤسس لكنه لا يخلو من عيوب.
الغذامي أكثر الشخصيات النقدية والفكرية العربية إثارة للجدل
ما زال المفكر والناقد السعودي عبدالله الغذامي يثير الباحثين للجدل حول مشروعه في النقد الثقافي، الذي مثل منطلقا هاما للعديد من السجالات النقدية والفكرية، وهو ما يساهم في الخروج من “ثقافة المونولوج” وتجديد الرؤى، وآخر هذه السجالات كتاب جديد للباحث والأكاديمي الجزائري طارق بوحالة.
ارتبطت الدعوة إلى النقد الثقافي في المشهد النقدي العربي المعاصر بالناقد السعودي عبدالله الغذامي، من خلال كتابه “النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية” (2000) الذي قدم فيه قراءة للخطاب الشعري العربي قديمه وحديثه محاولا الكشف عن مضمراته، وما يختزنه من أنساق ثقافية، حجته في ذلك هي عجز النقد الأدبي بمفهومه الجمالي عن كشف العناصر النسقية المضمرة.
وهذا الكتاب “النقد الثقافي عند عبدالله الغذامي.. النظرية والمنهج” للناقد الجزائري طارق بوحالة، أستاذ النقد الثقافي في جامعة ميلة، والصادر عن منشورات دار فكرة كوم، يحاول الإجابة عن إشكالية مركزية مفادها: هل استند منجز النقد الثقافي عند الغذامي على وعي معرفي ومنهجي، أم أنه مجموعة من التأويلات والتخريجات المعزولة عن سياقاتها والمبتورة عن الجهاز الإجرائي للنقد الثقافي في أصوله المعرفية؟ ويتطرق إلى مفهوم النقد الثقافي وجذوره المعرفية، وأبرز مرتكزاته في النقد الغربي، ووجوده في النقد العربي قبل منجز الغذامي، وأبرز إيجابيات مشروع الغذامي، ثغراته النقدية والمنهجية.
التمرد على الشعر
تجديد الرؤى
بداية يشير بوحالة إلى أن النقد الثقافي قطع شوطا معتبرا داخل المنجز النقدي الغربي خاصة إذا اعتبرناه امتدادا للدراسات الثقافية، وتزامن ذلك مع التغيرات المعرفية التي حدثت إثر بروز مقولات ما بعد البنيوية من جهة، ومنجزات ما بعد الحداثة من جهة ثانية، ومشهد العولمة من جهة ثالثة انطلاقا من جهود الكثير من الدارسين والنقاد في مجالات مختلفة، نذكر منهم: رولان بارت وميشال فوكو وجاك ديريدا ولوي ألتوسير وبودريار وغيرهم، دون أن ننسى أصحاب مركز برمنجهام للدراسات الثقافية المعاصرة في بريطانيا، الذي تأسس عام 1964.
يرى الباحث أن الغذامي يعد من أكثر الشخصيات النقدية والفكرية إثارة للجدل في الوطن العربي، خاصة بعد صدور كتابه الموسوم بـ”الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية” عام 1985، الذي أصبح مدونة أساسية في النقد العربي. ويعود اهتمامه بالنقد الثقافي إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين إثر صدور كتابه “المرأة واللغة” عام 1996، حيث تحولت المرأة من خلاله إلى قضية دافع عنها من موقع خاص، إنها مركز يدور حوله الخطاب النقدي في مجمله.
وقد خصص الغذامي جزأي هذا الكتاب لدراسة المهمش من خطاب المرأة وتحليله ومقارنته، بما هو موجود ومهيمن من خطاب ذكوري، غير أن ما يلاحظ على هذه الممارسة النقدية الثقافية هو عدم تبني صاحبها للمنهج النقدي الثقافي كبديل عن النقد الأدبي، حيث جاءت قراءته مهتمة بالمرأة كموضوع وكأديبة دون تصريحه بأنه بصدد ممارسة النقد الثقافي كما هو عند الغرب، ويمكن أن نصف هذه الممارسة بأنها قراءة ثقافية.
أما العمل النقدي الذي تبنى فيه الغذامي نشاط النقد الثقافي صراحة فهو كتاب “النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية”، الصادر عام 2000، والذي طرح مجموعة من الآراء والمقاربات في قراءة النصوص الأدبية قراءة ثقافية، باحثا عن العيوب النسقية المتوارية خلف البناء الجمالي للنصوص الأدبية.
ويلفت بوحالة إلى أن هذا المشروع واكب سياقا زمنيا خاصا بالنسبة إلى الوطن العربي، وهو الذي تزامن مع التحولات التي وقعت في منطقة الخليج، إذ عرفت الثقافة العربية “منذ أواخر التسعينات، إبان مرحلة تغلي بالتطورات السياسية في المنطقة العربية في أعقاب حرب الخليج الثانية، عاصفة الصحراء، وكانت تنذر بالتغيرات على صعيدي الثقافية والمجتمع. كما أن السياق التاريخي قد تواصل بانتعاش وشيوع الخطاب الديني الأصولي الذي يعتمد اعتمادا أساسيا على التفكير في المطلق، والإيمان بمنظومة عقائدية ذات صبغة دينية أو قومية لا ترى العالم إلا من خلالهما، وتعتمد كذلك من الناحية الفكرية والفلسفية على الرؤى التاريخية والقياسية والانتقائية والميثولوجية، وأخيرا يعتمد من الناحية الجمالية على اللغة والبلاغة، باعتبارهما قيمة جمالية مقدسة تحمل نفحة من نفحات الأثر الديني والقدسي، وهو ما يتعارض مع طبيعة النقد الثقافي الذي ينزع شرطي اللغة والبلاغة من النص وينظر إليهما بوصفهما منظومة من العلامات التي تتجاوز نطاق اللغة والبلاغة”.
ويؤكد أن كتاب النقد الثقافي جاء ليرد على مقولات النقد الأدبي الذي يرى أنه لطالما حصر اهتمامه في جماليات النص الأدبي إضافة إلى دور البلاغة التي يراها لم تتجاوز نطاق اللغة وجمالياتها، وهذا ما دفع الغذامي إلى التصريح بقوله “لقد آن الأوان لكي نبحث عن العيوب النسقية للشخصية العربية المتشعرنة والتي يحملها ديوان العرب، وتتجلى في سلوكنا الاجتماعي والثقافي بعامة، لقد أدى النقد الأدبي دورا هاما في الوقوف على جماليات النصوص، وفى تدريبنا على تذوق الجمالي وتقبل الجميل النصوصي، ولكن النقد الأدبي مع هذا وعلى الرغم من هذا أو بسببه، أوقع نفسه وأوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب النسقية المختبئة من تحت عباءة الجمالي”.
عبدالله الغذامي رد بقوة على مقولات النقد الأدبي العربي الذي يرى أنه لطالما حصر اهتمامه في جماليات النص الأدبي
ويقول بوحالة إن “الغذامي حاول أن يتجاوز منجزات النقد الأدبي، وأن يبحث في ما وراء الأدبية، والجانب الجمالي، معتقدا بحتمية البحث عن العيوب النسقية بدل الجماليات النصية من خلال قراءة شعرنا وفق هذه الرؤية، وهذا من صميم النقد الثقافي -كما يقول- ومشروع النقد الثقافي هو ما يتوسل به لنقد ما في الأدب من أشياء غير الأدبية، ولهذا فالتساؤل عما إذا كان في الأدب شيء آخر غير الأدبية تساؤل مركزي سيظل يحتل الجوهر الفاعل في مشروعه، أي أنه قرر تجاوز نقد البعد الجمالي في النصوص الأدبية إلى بعد آخر ثقافي أو تجاوز النقد الأدبي إلى نقد ثقافي”.
إذًا فقد قرر الغذامي، كما يبين الباحث الجزائري، من خلال كتابه أن يقرأ عيوب الخطاب الشعري وما يختزنه من أنساق ثقافية عبر انتخابه لنماذج شعرية موزعة بين ما هو قديم وما هو حديث. كما نجد جملة من مقالاته ودراساته النقدية في الكثير من الجرائد والمجلات العربية المنتشرة عبر الوطن العربي، فقد حاول مرارا أن يعلن صراحة اقتناعه الراسخ بأن النقد الثقافي هو الممارسة البديلة عن النقد الأدبي ومناهجه التقليدية، ونذكر من أهم هذه المقالات: النقد الثقافي ـ رؤية جديدة، النقد الثقافي: الفكرة والمنهج، ثقافة الصورة. وهذه المقالات الثلاثة عبارة عن عينات من قائمة طويلة من المقالات والدراسات التي يصل عددها إلى حوالي ثلاثين دراسة أو أكثر.
ويلاحظ بوحالة أن الغذامي واصل مساره النقدي الثقافي إثر تأليفه كتابا مع الناقد السوري عبدالنبي اصطيف، حمل عنوان “نقد ثقافي أم نقد أدبي”، عرض فيه مقالا موسوما بـ”إعلان موت النقد الأدبي”، مقدّما النقد الثقافي بديلا منهجيا عنه، ويصرح قائلا في هذا السياق “وأنا أرى أن النقد الأدبي كما نعهده ومدارسه القديمة والحديثة قد بلغ حد النضج أو سن اليأس، حتى لم يعد قادرا على تحقيق متطلبات المتغير المعرفي والثقافي الضخم الذي نشهده الآن عالميا وعربيا”.
ولم يتوقف مجهوده عند هذا الحد بل واصل التوجه الذي تبناه -أي “مشروع النقد الثقافي”- وكان ذلك واضحا في كتابه الصادر عام 2004 بعنوان “الثقافة التلفزيونية، سقوط النخبة وبروز الشعبي”؛ حيث حاول أن يقرأ من خلاله ثنائية النخبوي والشعبي ودورهما في تشكيل الخطاب التلفزيوني. كما ألف الغذامي كتابا آخر بعنوان “القبيلة أو القبائلية أو هويات ما بعد الحداثة”، مصرحا في أحد مواضعه أنه بصدد قراءة قضية: كيفية مواجهة الثقافة القبلية المروج لها في بعض دول الوطن العربي وهويات ما بعد الحداثة التي تعرف فيها العالم على إنتاج كوني وتقدم علمي”. وهذا موضوع لا يمكن أن يخرج عن مشروع الغذامي في النقد الثقافي والحضاري الذي روج له منذ صدور كتابه محل الدراسة والتحليل.
تغيير الأفكار
يشير بوحالة إلى أن مشروع الغذامي في النقد الثقافي يتأسس، انطلاقا من مؤلفه الموسوم بـ”النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية”، على جملة من المرتكزات والأسس الفكرية والمعرفية، والتي بدورها تتباين بين ما هو غربي وأورو – أميركي، وما هو عربي قديم/ وحديث.
ويميط الباحث اللثام عن هذين النمطين من المرجعيات الغربية والعربية موضحا أن الغذامي سعى وهو بصدد عرض طرحه النقدي إلى تأسيس فصول كتابه النظرية، خاصة الفصل الأول، بنظريات نقدية وثقافية ذات مناخ غربي صرف؛ حيث يستدعي جملة من القضايا النقدية التي تتوزع بين النقد العربي قديما وحديثا معتمدا على مقولات البلاغة العربية وعلى آراء كل من علي الوردي وأدونيس ونزار قباني وغيرهم.
وقد استغل باقة من المقولات النظرية والنقدية، محاولا صهرها في عمله النقدي، حيث لم يعتمد على مجال معرفي واحد، بل وزع جهده على مجالات فكرية ومعرفية مختلفة، مستمدا جملة من النظريات التي أطر بها كتابه خاصة في فصله الأول النظري. وتنتمي هذه النظريات والمقولات إلى مختلف المجالات المعرفية الغربية الموزعة بين ما هو أوروبي وما هو أميركي (نسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية). وعموما فقد اعتمد الغذامي على جملة من “الأطروحات الغربية في النقد الثقافي للكشف عن الأنساق المضمرة، وهو يمتص نظريات غربية ويزيد عليها من أجل تبيئة منهجية يراها أكثر ملاءمة للكشف عن النسقية، ويفك الأنساق الثقافية العربية”.
ويؤكد بوحالة أن هناك جملة من المراجع النقدية والثقافية التي تنتمي إلى المنجز الأنجلوفوني، تطغى على كتاب “النقد الثقافي” إذ استأثرت الثقافة الأميركية وحدها باهتمام الغذامي فيما يخص هذا الموضوع وكل ذلك الجدل كان في طابعه العام ثقافيا أو هو يهدف إلى إعادة النظر في وظيفة النقد التقليدية وطرح موضوعات لها حساسيات ثقافية، كالنقد النسوي وأدب الأقليات وآداب ما بعد الاستعمار، ومن بين ذلك نقد ثقافة الميديا وهي ثقافة وسائل الإعلام التي تقوم بإنتاج ثقافات سريعة ومتنوعة ورغبوية ومثيرة تعيد صوغ الأذواق والحاجات بهدف خلق مماثلة بين المتلقي ونمط الإنتاج الذي تبشر به أيديولوجيًّا.
الغذامي حاول كشف العيوب الثقافية متجاوزا منجزات النقد الأدبي وباحثا في ما وراء الأدبية والجانب الجمالي
ويلاحظ أيضا أن النقد الثقافي عند الغذامي استغل جملة من المقولات والنظريات المنتمية إلى حقل الدراسات الثقافية، وهو يوظف آراء جوناثان كولر، حول تطور الدراسات الثقافية، خاصة ما يتعلق بالانتقال المعرفي الذي عرفه دارسو الأدب حين تجاوزوا النصوص الأدبية المعتمدة والمكرسة إلى خطابات وأنماط جديدة تمثلها المسلسلات والصور المتحركة والإعلانات والأغاني الشبابية، حيث “يلحظ المرء أساتذة الأدب ينصرفون عن دراسة ملتون إلى دراسة مادونا، وعن دراسة شكسبير إلى دراسة الدراما التلفزيونية.. ويرى البروفيسور الفرنسي يكتب عن السجائر، وزميله الأميركي يكتب عن السمنة، ما يحدث هو الدراسات الثقافية هذه الدراسات التي كسرت مركزية النص ولم تعد تنظر إليه بما هو نص، لقد صارت تأخذ النص من حيث ما يتحقق فيه وما يتكشف عنه من أنظمة ثقافية”.
وهذا التغير يساهم في أنماط التفكير والنقد عند أصحاب الدراسات الأدبية وانتقالهم إلى البحث في الثقافة باعتبارها ممارسة دالة، يمكن تأويلها في ضوء التعالق بينها وبين تمثيلاتها لأنماط السلطة التي تمارسها على المتلقي. ويحاول الغذامي أن يؤسس لكتابه من الناحية النظرية، بحديثه عن حقل الدراسات الثقافية الذي يعود إليه الفضل في “توجيه الاهتمام لما هو جماهيري، وإمتاعي وجرى الوقوف على ثقافة الجماهير ووسائلها وتفاعلاتها، وهذا شيء جوهري وهام”.
وفي إطار ملاحظاته المتعلقة بمشروع الغذامي “النقد الثقافي” أجمل بوحالة ثغرات تمثلت في أربعة عناصر هي: التعميم والانتقائية، والاستقراء الناقص، والمبالغة ومحدودية النظرة وانغلاقها. ونشير هنا إلى الثغرة الأولى حيث يرى أن الغذامي لا يتوانى عن إطلاق جملة من الأحكام وتعميمها دون وجه حق إذ تلمح هذه الظاهرة تتكرر عبر عديد المحطات حيث يتصف كتابه في هذا الصدد بـ”الكثير من التعميم القائم على تغييب الكثير من النماذج الشعرية التي تخالف النسق الذي يرسمه الشعراء الرسميون (المنافقون) في تاريخ الثقافة العربية كالشعراء الصعاليك والمتصوفة وشعراء مثل أبي نواس وابن الرومي وأبي العتاهية”.
ويقول “ينتقي الغذامي صورا شعرية ومجموعة من الشعراء، ويحاول من خلالها أن يعمم أحكامه بعد أن يقرأها قراءة ثقافية على كل الثقافة العربية، وأبرز مثال على ذلك ما سرده عن أسماء مثل المتنبي وأبي تمام والشعراء الرسميين الذين أسهموا في بلورة نسق يخدم السلطة. وقد أغفل الغذامي في هذا المقام عديد النماذج التي لطالما عارضت هذا النسق، وعلى رأسها الشعراء الصعاليك حيث يصرح أحد النقاد في هذا الصدد قائلا: القراءة الثقافية الفاحصة لنص الصعلكة ‘تكشف’ عن ثنائيات ضدية مؤسسة على الصراع بين المركزي الذي تمثله القبيلة أو المجتمع الجاهلي بأعرافه وقوانينه، والهامشي كما يبدو في ظاهرة الصعلكة التي كانت تشكل خطابا في المعارضة من خلال احتجاجها على الممارسات السلطوية التي تنفذها القبيلة، ويؤدي هذا إلى اعتبار ظاهرة التعميم والانتقائية هذه عند عبدالله الغدامي، خللا منهجيا جسيما إذ لن نستطيع أن نختزل حراكا اجتماعيا وثقافيا لأمة كبيرة وعبر زمن طويل في بعض النماذج الشعرية القليلة والمنتقاة وذلك من أجل البرهنة على طرح نقدي معين، أو إثبات حكم بدعوى البحث عن الأنساق الثقافية المخاتلة داخل هذه النماذج الشعرية وإرجاع كل مصائبنا الثقافية لها”.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري
طارق بوحالة: مشروع الغذامي مؤسس لكنه لا يخلو من عيوب.
الغذامي أكثر الشخصيات النقدية والفكرية العربية إثارة للجدل
ما زال المفكر والناقد السعودي عبدالله الغذامي يثير الباحثين للجدل حول مشروعه في النقد الثقافي، الذي مثل منطلقا هاما للعديد من السجالات النقدية والفكرية، وهو ما يساهم في الخروج من “ثقافة المونولوج” وتجديد الرؤى، وآخر هذه السجالات كتاب جديد للباحث والأكاديمي الجزائري طارق بوحالة.
ارتبطت الدعوة إلى النقد الثقافي في المشهد النقدي العربي المعاصر بالناقد السعودي عبدالله الغذامي، من خلال كتابه “النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية” (2000) الذي قدم فيه قراءة للخطاب الشعري العربي قديمه وحديثه محاولا الكشف عن مضمراته، وما يختزنه من أنساق ثقافية، حجته في ذلك هي عجز النقد الأدبي بمفهومه الجمالي عن كشف العناصر النسقية المضمرة.
وهذا الكتاب “النقد الثقافي عند عبدالله الغذامي.. النظرية والمنهج” للناقد الجزائري طارق بوحالة، أستاذ النقد الثقافي في جامعة ميلة، والصادر عن منشورات دار فكرة كوم، يحاول الإجابة عن إشكالية مركزية مفادها: هل استند منجز النقد الثقافي عند الغذامي على وعي معرفي ومنهجي، أم أنه مجموعة من التأويلات والتخريجات المعزولة عن سياقاتها والمبتورة عن الجهاز الإجرائي للنقد الثقافي في أصوله المعرفية؟ ويتطرق إلى مفهوم النقد الثقافي وجذوره المعرفية، وأبرز مرتكزاته في النقد الغربي، ووجوده في النقد العربي قبل منجز الغذامي، وأبرز إيجابيات مشروع الغذامي، ثغراته النقدية والمنهجية.
التمرد على الشعر
تجديد الرؤى
بداية يشير بوحالة إلى أن النقد الثقافي قطع شوطا معتبرا داخل المنجز النقدي الغربي خاصة إذا اعتبرناه امتدادا للدراسات الثقافية، وتزامن ذلك مع التغيرات المعرفية التي حدثت إثر بروز مقولات ما بعد البنيوية من جهة، ومنجزات ما بعد الحداثة من جهة ثانية، ومشهد العولمة من جهة ثالثة انطلاقا من جهود الكثير من الدارسين والنقاد في مجالات مختلفة، نذكر منهم: رولان بارت وميشال فوكو وجاك ديريدا ولوي ألتوسير وبودريار وغيرهم، دون أن ننسى أصحاب مركز برمنجهام للدراسات الثقافية المعاصرة في بريطانيا، الذي تأسس عام 1964.
يرى الباحث أن الغذامي يعد من أكثر الشخصيات النقدية والفكرية إثارة للجدل في الوطن العربي، خاصة بعد صدور كتابه الموسوم بـ”الخطيئة والتكفير، من البنيوية إلى التشريحية” عام 1985، الذي أصبح مدونة أساسية في النقد العربي. ويعود اهتمامه بالنقد الثقافي إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين إثر صدور كتابه “المرأة واللغة” عام 1996، حيث تحولت المرأة من خلاله إلى قضية دافع عنها من موقع خاص، إنها مركز يدور حوله الخطاب النقدي في مجمله.
وقد خصص الغذامي جزأي هذا الكتاب لدراسة المهمش من خطاب المرأة وتحليله ومقارنته، بما هو موجود ومهيمن من خطاب ذكوري، غير أن ما يلاحظ على هذه الممارسة النقدية الثقافية هو عدم تبني صاحبها للمنهج النقدي الثقافي كبديل عن النقد الأدبي، حيث جاءت قراءته مهتمة بالمرأة كموضوع وكأديبة دون تصريحه بأنه بصدد ممارسة النقد الثقافي كما هو عند الغرب، ويمكن أن نصف هذه الممارسة بأنها قراءة ثقافية.
أما العمل النقدي الذي تبنى فيه الغذامي نشاط النقد الثقافي صراحة فهو كتاب “النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية”، الصادر عام 2000، والذي طرح مجموعة من الآراء والمقاربات في قراءة النصوص الأدبية قراءة ثقافية، باحثا عن العيوب النسقية المتوارية خلف البناء الجمالي للنصوص الأدبية.
ويلفت بوحالة إلى أن هذا المشروع واكب سياقا زمنيا خاصا بالنسبة إلى الوطن العربي، وهو الذي تزامن مع التحولات التي وقعت في منطقة الخليج، إذ عرفت الثقافة العربية “منذ أواخر التسعينات، إبان مرحلة تغلي بالتطورات السياسية في المنطقة العربية في أعقاب حرب الخليج الثانية، عاصفة الصحراء، وكانت تنذر بالتغيرات على صعيدي الثقافية والمجتمع. كما أن السياق التاريخي قد تواصل بانتعاش وشيوع الخطاب الديني الأصولي الذي يعتمد اعتمادا أساسيا على التفكير في المطلق، والإيمان بمنظومة عقائدية ذات صبغة دينية أو قومية لا ترى العالم إلا من خلالهما، وتعتمد كذلك من الناحية الفكرية والفلسفية على الرؤى التاريخية والقياسية والانتقائية والميثولوجية، وأخيرا يعتمد من الناحية الجمالية على اللغة والبلاغة، باعتبارهما قيمة جمالية مقدسة تحمل نفحة من نفحات الأثر الديني والقدسي، وهو ما يتعارض مع طبيعة النقد الثقافي الذي ينزع شرطي اللغة والبلاغة من النص وينظر إليهما بوصفهما منظومة من العلامات التي تتجاوز نطاق اللغة والبلاغة”.
ويؤكد أن كتاب النقد الثقافي جاء ليرد على مقولات النقد الأدبي الذي يرى أنه لطالما حصر اهتمامه في جماليات النص الأدبي إضافة إلى دور البلاغة التي يراها لم تتجاوز نطاق اللغة وجمالياتها، وهذا ما دفع الغذامي إلى التصريح بقوله “لقد آن الأوان لكي نبحث عن العيوب النسقية للشخصية العربية المتشعرنة والتي يحملها ديوان العرب، وتتجلى في سلوكنا الاجتماعي والثقافي بعامة، لقد أدى النقد الأدبي دورا هاما في الوقوف على جماليات النصوص، وفى تدريبنا على تذوق الجمالي وتقبل الجميل النصوصي، ولكن النقد الأدبي مع هذا وعلى الرغم من هذا أو بسببه، أوقع نفسه وأوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام عن العيوب النسقية المختبئة من تحت عباءة الجمالي”.
عبدالله الغذامي رد بقوة على مقولات النقد الأدبي العربي الذي يرى أنه لطالما حصر اهتمامه في جماليات النص الأدبي
ويقول بوحالة إن “الغذامي حاول أن يتجاوز منجزات النقد الأدبي، وأن يبحث في ما وراء الأدبية، والجانب الجمالي، معتقدا بحتمية البحث عن العيوب النسقية بدل الجماليات النصية من خلال قراءة شعرنا وفق هذه الرؤية، وهذا من صميم النقد الثقافي -كما يقول- ومشروع النقد الثقافي هو ما يتوسل به لنقد ما في الأدب من أشياء غير الأدبية، ولهذا فالتساؤل عما إذا كان في الأدب شيء آخر غير الأدبية تساؤل مركزي سيظل يحتل الجوهر الفاعل في مشروعه، أي أنه قرر تجاوز نقد البعد الجمالي في النصوص الأدبية إلى بعد آخر ثقافي أو تجاوز النقد الأدبي إلى نقد ثقافي”.
إذًا فقد قرر الغذامي، كما يبين الباحث الجزائري، من خلال كتابه أن يقرأ عيوب الخطاب الشعري وما يختزنه من أنساق ثقافية عبر انتخابه لنماذج شعرية موزعة بين ما هو قديم وما هو حديث. كما نجد جملة من مقالاته ودراساته النقدية في الكثير من الجرائد والمجلات العربية المنتشرة عبر الوطن العربي، فقد حاول مرارا أن يعلن صراحة اقتناعه الراسخ بأن النقد الثقافي هو الممارسة البديلة عن النقد الأدبي ومناهجه التقليدية، ونذكر من أهم هذه المقالات: النقد الثقافي ـ رؤية جديدة، النقد الثقافي: الفكرة والمنهج، ثقافة الصورة. وهذه المقالات الثلاثة عبارة عن عينات من قائمة طويلة من المقالات والدراسات التي يصل عددها إلى حوالي ثلاثين دراسة أو أكثر.
ويلاحظ بوحالة أن الغذامي واصل مساره النقدي الثقافي إثر تأليفه كتابا مع الناقد السوري عبدالنبي اصطيف، حمل عنوان “نقد ثقافي أم نقد أدبي”، عرض فيه مقالا موسوما بـ”إعلان موت النقد الأدبي”، مقدّما النقد الثقافي بديلا منهجيا عنه، ويصرح قائلا في هذا السياق “وأنا أرى أن النقد الأدبي كما نعهده ومدارسه القديمة والحديثة قد بلغ حد النضج أو سن اليأس، حتى لم يعد قادرا على تحقيق متطلبات المتغير المعرفي والثقافي الضخم الذي نشهده الآن عالميا وعربيا”.
ولم يتوقف مجهوده عند هذا الحد بل واصل التوجه الذي تبناه -أي “مشروع النقد الثقافي”- وكان ذلك واضحا في كتابه الصادر عام 2004 بعنوان “الثقافة التلفزيونية، سقوط النخبة وبروز الشعبي”؛ حيث حاول أن يقرأ من خلاله ثنائية النخبوي والشعبي ودورهما في تشكيل الخطاب التلفزيوني. كما ألف الغذامي كتابا آخر بعنوان “القبيلة أو القبائلية أو هويات ما بعد الحداثة”، مصرحا في أحد مواضعه أنه بصدد قراءة قضية: كيفية مواجهة الثقافة القبلية المروج لها في بعض دول الوطن العربي وهويات ما بعد الحداثة التي تعرف فيها العالم على إنتاج كوني وتقدم علمي”. وهذا موضوع لا يمكن أن يخرج عن مشروع الغذامي في النقد الثقافي والحضاري الذي روج له منذ صدور كتابه محل الدراسة والتحليل.
تغيير الأفكار
يشير بوحالة إلى أن مشروع الغذامي في النقد الثقافي يتأسس، انطلاقا من مؤلفه الموسوم بـ”النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية”، على جملة من المرتكزات والأسس الفكرية والمعرفية، والتي بدورها تتباين بين ما هو غربي وأورو – أميركي، وما هو عربي قديم/ وحديث.
ويميط الباحث اللثام عن هذين النمطين من المرجعيات الغربية والعربية موضحا أن الغذامي سعى وهو بصدد عرض طرحه النقدي إلى تأسيس فصول كتابه النظرية، خاصة الفصل الأول، بنظريات نقدية وثقافية ذات مناخ غربي صرف؛ حيث يستدعي جملة من القضايا النقدية التي تتوزع بين النقد العربي قديما وحديثا معتمدا على مقولات البلاغة العربية وعلى آراء كل من علي الوردي وأدونيس ونزار قباني وغيرهم.
وقد استغل باقة من المقولات النظرية والنقدية، محاولا صهرها في عمله النقدي، حيث لم يعتمد على مجال معرفي واحد، بل وزع جهده على مجالات فكرية ومعرفية مختلفة، مستمدا جملة من النظريات التي أطر بها كتابه خاصة في فصله الأول النظري. وتنتمي هذه النظريات والمقولات إلى مختلف المجالات المعرفية الغربية الموزعة بين ما هو أوروبي وما هو أميركي (نسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية). وعموما فقد اعتمد الغذامي على جملة من “الأطروحات الغربية في النقد الثقافي للكشف عن الأنساق المضمرة، وهو يمتص نظريات غربية ويزيد عليها من أجل تبيئة منهجية يراها أكثر ملاءمة للكشف عن النسقية، ويفك الأنساق الثقافية العربية”.
ويؤكد بوحالة أن هناك جملة من المراجع النقدية والثقافية التي تنتمي إلى المنجز الأنجلوفوني، تطغى على كتاب “النقد الثقافي” إذ استأثرت الثقافة الأميركية وحدها باهتمام الغذامي فيما يخص هذا الموضوع وكل ذلك الجدل كان في طابعه العام ثقافيا أو هو يهدف إلى إعادة النظر في وظيفة النقد التقليدية وطرح موضوعات لها حساسيات ثقافية، كالنقد النسوي وأدب الأقليات وآداب ما بعد الاستعمار، ومن بين ذلك نقد ثقافة الميديا وهي ثقافة وسائل الإعلام التي تقوم بإنتاج ثقافات سريعة ومتنوعة ورغبوية ومثيرة تعيد صوغ الأذواق والحاجات بهدف خلق مماثلة بين المتلقي ونمط الإنتاج الذي تبشر به أيديولوجيًّا.
الغذامي حاول كشف العيوب الثقافية متجاوزا منجزات النقد الأدبي وباحثا في ما وراء الأدبية والجانب الجمالي
ويلاحظ أيضا أن النقد الثقافي عند الغذامي استغل جملة من المقولات والنظريات المنتمية إلى حقل الدراسات الثقافية، وهو يوظف آراء جوناثان كولر، حول تطور الدراسات الثقافية، خاصة ما يتعلق بالانتقال المعرفي الذي عرفه دارسو الأدب حين تجاوزوا النصوص الأدبية المعتمدة والمكرسة إلى خطابات وأنماط جديدة تمثلها المسلسلات والصور المتحركة والإعلانات والأغاني الشبابية، حيث “يلحظ المرء أساتذة الأدب ينصرفون عن دراسة ملتون إلى دراسة مادونا، وعن دراسة شكسبير إلى دراسة الدراما التلفزيونية.. ويرى البروفيسور الفرنسي يكتب عن السجائر، وزميله الأميركي يكتب عن السمنة، ما يحدث هو الدراسات الثقافية هذه الدراسات التي كسرت مركزية النص ولم تعد تنظر إليه بما هو نص، لقد صارت تأخذ النص من حيث ما يتحقق فيه وما يتكشف عنه من أنظمة ثقافية”.
وهذا التغير يساهم في أنماط التفكير والنقد عند أصحاب الدراسات الأدبية وانتقالهم إلى البحث في الثقافة باعتبارها ممارسة دالة، يمكن تأويلها في ضوء التعالق بينها وبين تمثيلاتها لأنماط السلطة التي تمارسها على المتلقي. ويحاول الغذامي أن يؤسس لكتابه من الناحية النظرية، بحديثه عن حقل الدراسات الثقافية الذي يعود إليه الفضل في “توجيه الاهتمام لما هو جماهيري، وإمتاعي وجرى الوقوف على ثقافة الجماهير ووسائلها وتفاعلاتها، وهذا شيء جوهري وهام”.
وفي إطار ملاحظاته المتعلقة بمشروع الغذامي “النقد الثقافي” أجمل بوحالة ثغرات تمثلت في أربعة عناصر هي: التعميم والانتقائية، والاستقراء الناقص، والمبالغة ومحدودية النظرة وانغلاقها. ونشير هنا إلى الثغرة الأولى حيث يرى أن الغذامي لا يتوانى عن إطلاق جملة من الأحكام وتعميمها دون وجه حق إذ تلمح هذه الظاهرة تتكرر عبر عديد المحطات حيث يتصف كتابه في هذا الصدد بـ”الكثير من التعميم القائم على تغييب الكثير من النماذج الشعرية التي تخالف النسق الذي يرسمه الشعراء الرسميون (المنافقون) في تاريخ الثقافة العربية كالشعراء الصعاليك والمتصوفة وشعراء مثل أبي نواس وابن الرومي وأبي العتاهية”.
ويقول “ينتقي الغذامي صورا شعرية ومجموعة من الشعراء، ويحاول من خلالها أن يعمم أحكامه بعد أن يقرأها قراءة ثقافية على كل الثقافة العربية، وأبرز مثال على ذلك ما سرده عن أسماء مثل المتنبي وأبي تمام والشعراء الرسميين الذين أسهموا في بلورة نسق يخدم السلطة. وقد أغفل الغذامي في هذا المقام عديد النماذج التي لطالما عارضت هذا النسق، وعلى رأسها الشعراء الصعاليك حيث يصرح أحد النقاد في هذا الصدد قائلا: القراءة الثقافية الفاحصة لنص الصعلكة ‘تكشف’ عن ثنائيات ضدية مؤسسة على الصراع بين المركزي الذي تمثله القبيلة أو المجتمع الجاهلي بأعرافه وقوانينه، والهامشي كما يبدو في ظاهرة الصعلكة التي كانت تشكل خطابا في المعارضة من خلال احتجاجها على الممارسات السلطوية التي تنفذها القبيلة، ويؤدي هذا إلى اعتبار ظاهرة التعميم والانتقائية هذه عند عبدالله الغدامي، خللا منهجيا جسيما إذ لن نستطيع أن نختزل حراكا اجتماعيا وثقافيا لأمة كبيرة وعبر زمن طويل في بعض النماذج الشعرية القليلة والمنتقاة وذلك من أجل البرهنة على طرح نقدي معين، أو إثبات حكم بدعوى البحث عن الأنساق الثقافية المخاتلة داخل هذه النماذج الشعرية وإرجاع كل مصائبنا الثقافية لها”.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
محمد الحمامصي
كاتب مصري