نقد تفجيري يدعو إلى هدم الأهرامات المنغلقة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • نقد تفجيري يدعو إلى هدم الأهرامات المنغلقة

    نقد تفجيري يدعو إلى هدم الأهرامات المنغلقة


    النقد الثقافي مشروع بحثي جديد يسعى للاستفادة من مناهج النقد الأدبي وسد الثغرات والمزالق التي سقط فيها.


    النقد أمر ضروري لإثارة الأسئلة (لوحة للفنان عدنان معيتيق)

    ينتمي النقد الثقافي إلى النظريات النقدية (الما بعدية)، أي تلك التي ظهرت في فترة ما بعد الحداثة، وقد اعتبرت الدراسات الثقافية والمادية الماركسية والتاريخانية الجديدة والنظرية التفكيكية ونظريات التلقي وسيموطيقا التأويل والنقد الكولونيالي وعلم الجنوسة وغيرها من أهم الروافد التي شكلت النواة الأساسية لبروز النقد الثقافي بالولايات المتحدة في ثمانينات القرن الماضي، ثم تبلور بشكل فعلي على يد الناقد الثقافي فنسنت ليتش في كتابه الموسوم بـ”النقد الثقافي: نظرية الأدب لما بعد الحداثة” سنة 1992.

    ومنذ واقعة الشاعر عزرا باوند حين تم رفض منحه جائزة بولنجتون سنة 1949 من طرف المثقفين الأميركيين القاطنين بمدينة نيويورك، بسبب تأييده لموسوليني وهتلر في الحرب العالمية الثانية، ظل النقد الثقافي محصورا في بعده الأيديولوجي السياسي، رغم الجهود الكثيرة التي بذلها النقاد الثقافيون من أجل بلورة كشوفاته المفهوميّة والدلالية، بعيدا عن حضن الأيديولوجيا.

    اللافت للانتباه أن ظهور هذا الإبدال النقدي عربيا اقترن بحدث شعري، حيث أن الناقد السعودي عبدالله الغذامي أعلن في ندوة حول الشعر انعقدت بتونس سنة 1997 عن موت النقد الأدبي وحلَّ مكانه النقد الثقافي كآلية جديدة في نقد النصوص والكشف عن أنساقها، بعدها بثلاث سنوات سيصدرُ كتاب “النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية”، والذي سيمثِّلُ نقلة نوعية في طويات التفكير النقدي العربي، وحافزا للباحث على “التأمل الجدي في الأنساق العربية قديما وحديثا، بعيدا عن التأثر العاطفي أو الاستجابة الانفعالية، وإنما ضمن إطار الحاجة البحثية المعرفية لكشف خطوط وخلايا النسيج الثقافي بكل جرأة وثقة وحيوية”.

    ثماني سنوات هي المدة الزَّمنية الفاصلة لظهور النقد الثقافي في العالمين: الغربي والعربي، وهي مساحة ضيِّقة مقارنة مع النقلات المعرفية والمنهجية التي تبناها كلٌّ من ليتش والغذامي حول نقد النصوص بمنهج تحليلي مترامي الأطراف، ومتعدد الروافد ما بين السوسيولوجيا والعلوم السياسية واللسانية والأنثربولوجيا، فضلا عن مفرزات النظريات الأدبية والنقدية، مما يُعطي الانطباع بحيويته وشموليته، وما يميزه أيضا “هو تركيزه على أنظمة الخطاب كما هي لدى بارت ودريدا وفوكو، وخاصة في مقولة دريدا أن ‘لا شيء خارج النص'”، وهي مقولة يصفها ليتش بأنها بمثابة البروتوكول للنقد الثقافي الما بعد بنيوي، ومعها مفاتيح التفكيك النصوصي كما هي عند بارت، وحفريات فوكو.

    ◙ اعتماد النقد الثقافي كخلفية معرفية لمقاربة الأدبي وغير الأدبي لا ينفي الإمكانيات التي يُتيحها النقد الأدبي، وسيكون من المجحف القول بموت النقد الأدبي

    وتبعا لذلك فإن ليتش يطور مفهوم الأنظمة العقلية واللاعقلية عند فوكو في نظرته إلى أنظمة الحقيقة ويستعمل ليتش ذلك المفهوم كبديل لمصطلح أيديولوجيا، هادفا من وراء ذلك إلى فتح إمكانات أوسع للنقد الثقافي الما بعد بنيوي في تناوله الكلي أو التفتيتي للنص أو للظاهرة على أن يتم النظر إلى الظاهرة بوصفها نصا ليتم بعد ذلك إجراء التحليل الوظيفي وكذا الموقف الانتقادي الوظيفي عند ليتش.

    ومنذ ظهور النقد الثقافي كآلية جديدة في قراءة الخطابات الأدبية وغير الأدبية، وعند هذا الحد المفصلي بين نظريتين مختلفتين جذريا، يُطرح سؤال جوهري: هل النقد الثقافي بديل للنقد الأدبي؟ فيكون الجواب الكثير من المحاورات والسِّجالات، التي تنتصر لهذا وتنتقد من الآخر، “بسبب الرغبة في امتلاك النص وتجريده من آخريته، بمعنى أن النقد في سعيه إلى تقديم مقترب نقدي بصدد النص يكون خاضعا للنسق الثقافي الناسخ الذي يعترف للآخر بأحقيته في الوجود وفي تقديم قراءة مختلفة“، فالنقد أمر ضروري لإثارة الأسئلة وإخصاب النظريات النقدية بما يخدم الإنتاج الإنساني بصفة عامة، رغم ما يُثار هنا وهناك من حالات صراع محمومة حول الريادة والسبق بين المناهج التحليلية والقرائية للنص الأدبي، إلا أن ذلك لا يعني البتة الدخول في جدال عقيم أو ما نسميه بـ”وهم السطوة”.

    إن النقد الثقافي مشروع بحثي جديد يتغيّى الاستفادة من مناهج النقد الأدبي، وسد الثغرات والمزالق التي سقط فيها النقد الأدبي منذ سنوات، بمعنى آخر، إحداث نوع من التفاعل بين المنحيين، لا بإحداث قطيعة إبستمولوجية، والسقوط في التعسف ووهم الاكتمال، ما لم يكن هناك نوع من المحاورة البناءة والتفكير الممنطق والفعال، “وهي نقلة لا بد أن تتسم بحد أعلى من الانسجام والتوافق، يفرض ضرورة التحام الأصل والفرع، وحلول الواحد منهما في الثاني حلولا خاليا من أي تنافر أو نبوّ”.

    يعني أننا إزاء منحيين نقديين مختلفين، فالأول أي النقد الأدبي يُركز على أدبية النص في ذاته ولذاته، بينما يذهب النقد الثقافي في اتجاه الكشف عن الأنساق الثقافية المضمرة داخل الخطابات، فقد اعتبر الغذامي أن “النقد الثقافي يشمل وجوها عديدة من الحياة وليس الأدب فقط“ وقبله قال الناقد الأميركي ليتش إنه “نقد ثقافي ما بعد البنيوي”، وهي دعوة إلى هدم أهرامات البنية المنغلقة للنصوص، كما روَّجتْ له الشكلانية الروسية، والعمل على نقد كل أشكال الثقافة، خاصة تلك التي أهملتها مناهج النقد الأدبي.

    وفي سياق مغاير لهذا الطرح، يذهب الباحث عبدالعزيز حمودة إلى التأكيد على أن “هناك مشروعا نقديا جديدا يجري الترويج له اليوم في أروقة المثقفين العرب هو النقد الثقافي الذي يمثل افتتانا جديدا بمشروع نقدي غربي تخطته الأحداث داخل الثقافة أو الثقافات التي أنتجته“، والواقع، أن خطوات الغذامي النقدية أخرجَت النَّص من دائرة القراءات الضيِّقة المرتبطة أساسا بما هو أدبي، إلى قراءة في شموليتها ومن منطلقات ثقافية، وقد رأينا أن الثقافة أشمل من الأدب، وهي لا تخص الأدب وحده، وإنما تُغَطِّي مساحات شاسعة من الإنتاج البشري.

    هكذا إذن، فالنقد الثقافي نقد تفجيري، إذا صح التعبير، يَتَمَدَّد في النص، حاضنا كل الأشكال الثقافية التي أنتجته، فهو “ليس فحسب نصا أدبيا وجماليا، ولكنه أيضا حداثة ثقافية”، وينبغي قراءته وفق رؤية مغايرة عما ترسخ في أذهاننا من مسلمات، لأن “الجمالي” مجرد قناع يُخفي وراءه أنساقا ومضمرات عديدة، ومن الضروري “أن نشير هنا إلى أن النسق لا يتحرك على مستوى الإبداع فحسب، بل إن القراءة والاستقبال لهما دور مهم وخطير في ترسيخ النسق”، رغم أن العلاقة التي تربط النص بالقارئ/ المتلقي، تتّصف دوما بأنها لعبة بين أفقين، تتَحدَّدُ عبر التفاعل تارة، والاحتدام الخفي تارة أخرى، “هي علاقة صراعية، علاقة مواجهة وحوار وتبادل وتأثير”.

    واعتماد النقد الثقافي كخلفية معرفية لمقاربة الأدبي وغير الأدبي لا ينفي الإمكانيات التي يُتيحها النقد الأدبي، وسيكون من المجحف القول بموت النقد الأدبي، أو بات عاجزا عن تقديم الإضافات، في تصوّري، إن تناسل النظريات النقدية وامتداداتها يُعتبرُ نظاما خاضعا للسيرورة وتاريخ الأفكار، وليس حدثا معزولا عن سياقاته المعرفية والإشكالية، كما أن “تفسير الظواهر الكونية بمختلف أنواعها وأشكالها، يقتضي بأن: ظاهرة ما سواء أكانت طبيعية أو علمية أو فنية أو غيرها لا تنشأ من فراغ، وإنما تكون ناتجة عن أسباب ودوافع أو فاعل ومحرك. كما أن هذه الظواهر في تطورها وسيرورتها تحتاج دوماً إلى نموذج سابق تقتدي به وتسترشد به. وهذا النموذج قد يكون مصدره الظاهرة نفسها أو الظواهر الأخرى التي تتعايش معها في إطار سياق محكوم بمفهوم النسق الذي هو مجموع العناصر المتفاعلة في ما بينها”.



    ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    رشيد الخديري
    كاتب مغربي
يعمل...
X