روايات تكشف عن واقع أغرب من الخيال وأبطالها منحوتون من الظلام
سرديات مديح القاع.. السعادة في حياة الفاقة والألم.
أبطال روائيون أغرب من الخيال (لوحة للفنان عماد حمدي)
كتب الروائي ستيفان زفايج قائلا “إن الأدب ليس الحياة، بل هو عبارة عن وسيلة لتمجيد الحياة، وسيلة للقبض على بُعدها المأساوي بشكل أكثر وضوحا وأكثر جلاء”، وفي سبيل تمجيد الحياة – على ما بها من ألم ومأساة وقهر – تحايل الكثير من الكتّاب والكاتبات لسرد مواقف المكابدة والمعاناة فيها؛ فسردوا عن عوالم رسّخت من فرط إيلامها وسوداويتها – دون قصد – للغرائبية، بل حولوا قتامتها إلى سخرية لاذعة.
قدم الكثير من الروائيين في أعمالهم عوالم غرائبية قاسية، وهو ما كان مثار اندهاش وتساؤل من القراء فتساءلوا: هل هناك حياة حقيقية تماثل هذا السوء الذي جسدته الروايات؟ وأيا كان الجواب، فإن هذا لا يمنع كما يقول بيكاسو، من أن “الفن ليس الحقيقة، الفن كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة”.
إذا كانت الرواية بحكم طبيعتها التخييلية (كابنة وفية للخيال) تلوذ – في أغلبها – بعوالم مفارقة لواقعها، فإنها – مع هذا – لا تنفصل عن واقعها، بل تتقاطع معه، وتستحضره دون أية محاولة لتجميله، أو حتى التخفيف من فداحته ومآسيه، حتى لو افترضنا أن الواقع – وفق تصور أمبيرتو إيكو – “ما يمكن تصديق وجوده (هوية الذوات والموضوعات) أو حدوثه (الأفعال والأحداث)”. وفي الكثير من الأحيان يكون الواقع الذي تجسده الرواية أغرب من الخيال.
اللافت أن الروائيين وهم يجسدون هذا الواقع المأساوي – وأكثرهم كانوا نتاجا له – لم يجدوا غرابة فيه أو حتى استنكارا له، بل على العكس تماما، كانوا في مروياتهم وكتاباتهم السردية على اختلاف نوعها: رواية، سيرة، مذكرات، يوميات، أكثر انتماء إلى هذا الواقع القاسي، وأشدّ تلذذا بعوالمه، واحتفاء بمواجع شخصياته، فلم نر نقمة أو تبرما منه، إنما تماه وانسجام معه، وتلذذ في الحكي عنه، وهناك من جعل شخصياته تجد سعادتها في مثل هذا الواقع ومأساويته . وكأن الألم – وحده – لا يحدد قيمة الإنسان فقط، بل يعبّد أيضا له الطريق لاكتشاف قيمة نفسه.
الواقعية القذرة
عوالم البؤس والفقر والتشرد ثيمات تكاد تكون أساسية في الكثير من المرويات (العالمية والعربية)، وقد تبارى الكتّاب في إظهار هذه العوالم وانعكاساتها على الشخصيات، وبذلك لم تعد هناك حاجة تحتم على الروائي “أن يهضم الحياة كي يبتكر (أو يخلق) شخصياته”، فالواقع ببؤسه حاضر ببذخ، ومن ثم ظهرت لدينا شخصيات الهامش المنبوذة بكل تمثيلاتها: من لصوص وعاهرات وقوادين وتجار مخدرات، وسفاحين وغيرهم، من الصور التي عكست الواقع القاسي حيث كانت هذه الشخصيات نتاجه، تعيش على هامشه، همّها المشترك (أو الأكبر) مكابدة الفقر ومراودة الهروب من براثنه.
وسمّيت هذه الكتابات في المدونة النقدية بسرديات القاع، أو الواقعية القذرة، تعبيرا عن العوالم التي جسدتها، واستفاضت في إظهار وتشريح قبح الواقع وما يفرضه على الإنسان من إكراهات تدفع به – في المجمل – إلى فقدانه لذاته وهويته إيذانا بدخوله في مرحلة السحق والضياع، وقد شاع مصطلح الواقعية القذرة أو رواية القاع – كما يقول كامل يوسف حسين، في مقدمته لرواية “حياة وحشية”، للأميركي ريتشارد فورد – على يد “بيل بو فورد” رئيس التحرير السابق لمجلة “جرانتا” عام 1983، في مقدمته الشهيرة للعدد الثامن للمجلة، والتي قام فيها بتعريف القارئ على الاصطلاح والتيار وعلى الكتّاب أمثال: ريموند كارفر، ريتشارد فورد، جين آن فيليبس، إليزابيث تالينت، وآخرين.
وكان يقصد بها تلك الكتابات غير المألوفة، من حيث اللغة والموضوعات والشخصيات، والأماكن أيضا، حيث تطرق إلى موضوعات غاية في الغرابة، وهي تتحدث عن تفاصيل الحياة اليومية لأبطال مهمشين ومسحوقين، يتعرضون للمتاعب، إنهم ضائعون وبائسون في عالم لا يحفل بهم، يموت أصحابه إما بالتخمة وإما بالإفراط في الشراب، وبالأحرى هم أبطال تراجيديون، يعيشون في أماكن رخيصة، آفتهم الحقيقية الجوع، فيبحثون عما يسد رمقهم في النفايات، وبقايا المخلفات الآدمية. هي كتابة حادة وجارحة، دون زخرفة لغوية، أو مواراة بالمجاز والبلاغة، قوامها البساطة أو الإنسيابية التي تجعل الكلمات تنساب دون خوف أو مراعاة لشرطة الذوق الأدبي، وهي – ربما – تتصيد لألفاظ تخدش الحياء العام.
كتابات نسجت سردياتها واختارت حكاياتها من العوالم المهمشة
كانت الحركة – في الأصل – ردة فعل طبيعية للخيبات التي أعقبت انحسار أحلام الستينات الكبيرة، لكن المهم أن هذه الخيبات لم تتحول إلى لعنات أو رفض للواقع، بل صارت معايشة للواقع الجديد بكل قبحه وقسوته. ومن ثم نرى البطل في هذه الأعمال الممثلة لهذا التيار، لا يغدو كبطل رواية “الجحيم” لهنري باربوس لا منتميا “يتخذ من العزلة رفيقا وناقما، يراقب الآخرين من خلال ثقب باب غرفتة في فندق وتنطلق أفكاره بطريقة فوضوية”، بل على العكس تماما، فهو منتم لواقعه، ومتصالح معه، يتكيف معه ويسعى إلى أن يخلق من هذا القبح المحيط به، سعادته الخاصة، وإن بدت للآخرين تعاسة بل في غاية التعاسة.
في المرويات التي بين أيدينا نجد تعامل الكتّاب مع هذا الواقع يأتي أشبه بمديح له، وليس نقمة عليه، على عكس ما فعل الكاتب الأميركي بول أوستر في “ثلاثية نيويورك”، إذ جعل الثلاثية نقدا صريحا لهذا الواقع الفجّ، وبالمثل فعل صنع الله إبراهيم في كتابه “تلك الرائحة” حيث كانت تعرية لسلطوية الواقع السياسي، وتفسخ علاقاته الاجتماعية، وهو ما كان له أثره على شخصية البطل الذي توحد مع ذاته وعمد إلى قهرها كنوع من جلد الذات. وكأنها إدانة لهذا الواقع المفرط في قسوته.
على العكس تماما جاءت مرويات “التعساء” لديميتري فيرهولست، و”بريد الذكريات” لإيما برييس، و”الخبز الحافي” لمحمد شكري، و”موال البيات والنوم” لخيري شلبي، و”أعترف أني عشت” لبابلو نيرودا، لتحتفي بهذا الواقع المأساوي، وكأنها تقدم عبر سرديتها أغنية للحياة والسعادة.
في رواية “التعساء” للكاتب البلجيكي ديميتري فيرهولست ثمة تجسيد لجانب من عالم الفقر المدقع الذي تعاني منه أسرة فيرهولست، التي تعيش في بلدة “لا وجود لها على الخارطة”، حتى أن الحانات فيها متشابهة، مقارنة ببروكسل المدينة التي تعيش فيها العمة روزي، التي تحدثهم عن تراكم الثروة فيها، وعن الحيوية التي تملأ المدينة، وتحويل سطح المنزل إلى حديقة، وحجرة للتمتع بالساونا. فالأسرة التي تتكون من الراوي وأربعة رجال (الأب وثلاثة أعمام) دمروا حياتهم العاطفية، وعادوا إلى منزل الأم التي هي قوام البيت وسنده براتبها الشهري.
تعيش الأسرة حياة الكفاف؛ فالحياة معدمة – إلى حد كبير – ومع هذا فهم يحيونها بتآلف وحب، والنقمة على نقيضها، وإيمانا من المؤلف/ الرواي بتآلفه مع عالمه المروي عنه، يصدر نصه بمقولة بيرر ميشون، من نص “سادة وخدم” هكذا “لطالما اندهشت من أولئك الذين يكرسون حياتهم لكل ما هو مزيف في الحياة”، وكشف عن حالة التناغم التي يعيشها أفراد هذه الأسرة مع بؤسهم وواقعهم الفجّ، فهم في حالة سباب دائم، كما أن تصرفاتهم تكشف عن حالة من الغرائبية، فالأب اعتاد التغوّط وباب الحمام مفتوح “ويقف في الصالة بعضو متدل، والجميع يهبط إلى الطابق السفلي صباحا، وهم يرتدون ملابس داخلية ذات فتحات أمامية”، ويتجشأون بحرية، ويلقون أظافر أقدامهم على الأرض، وشعر عاناتهم – كذلك – ملقى بجوار أرضية المرحاض، كل هذا يفقد توازنه عندما تهبط العمة قادمة من بروكسل هي وابنتها سيلفي، فقد هربت من رجل يعذبها بالخيانة والعنف. حتى إنهم يضطرون إلى التصنع كي يكونوا محترمين وهم يتحدثون إلى سيلفي ابنة العمة.
تتشارك الأسرة مع آخرين ساحة المنزل الصغير، وأيضا صنبور المياه، ولا يوجد غير مرحاض واحد، وهو “عبارة عن فتحة في لوح خشبي فوق حوض عفن”. ومع هذا البؤس إلا أنهم أمضوا أمسيات سعيدة، لا من أجل الاستماع إلى الموسيقى أو حتى مشاهدة أحد الأفلام، وإنما يصغون إلى “أنغام تساقط الماء في الدلاء، محاولين تخمين تلك الألحان التي يعزفها… السقف الموشك على الانهيار” الأسرة تتكيف مع بؤس واقعها، فلا تسعى إلى قتل الفئران، وإنما تملأ لها الأوعية بالماء. تصاحب هذا التآلفَ مع الواقع حالة من السخرية للطبقية والرأسمالية، فينظرون باستعلاء إلى أفراد العائلة الذين يوقفون سياراتهم الفاخرة أمام المنزل، كما أن ملابسهم الغالية تثير بدرجة كبيرة اشمئزازهم.
يسرف المؤلف في وصف حياة البؤس والفاقة التي يعيشها أفراد هذه العائلة، فهم يرتدون الأسمال من الملابس ويتغذون على أطنان من اللحم المفروم النيء لرخص ثمنه، ويشربون بقايا القهوة الباردة، التي ظلت في أكوابها الكبيرة منذ اليوم السابق. كما أنهم “يطلقون الغازات بلا حرج “وكأنهم “قادة فرقة موسيقية”.
يصبح البؤس معلما للقرية بأجمعها، فصاحبة حانة نوك، هي الأخرى امرأة بائسة تركها زوجها بعد ولادتها لتوأم من الأقزام، ابنتان مشوهتان، المرأة تعاني من وطأة ديون كثيرة، كبرت البنتان داخل الحانة، وتعلمتا اللغة البذيئة، ومع بلوغهما سن العاشرة صار كلامهما أكثر فحشا، وأصبحتا ترددان النكت الإباحية، لتسلية الزبائن. ومع سن الثانية عشرة توقف نموهما، كما أدمنتا شرب الكحوليات بعد اعتيادهما شرب بقايا الكؤوس. والرجال في الحانة يثرثرون في أمور اعتيادية عن الطلاق والزوجات الساخطات والنفقة، ومن يلعب البلياردو يفعل هذا دون أدنى طموح للفوز. حال الجميع يستحيل معه التفريق بين السعادة والتعاسة، وهناك من يتباهى بطريقة تغوطه كما فعل أندريه بعد أن هاجم السرطان أمعاءه. حتى الأطفال سباقاتهم من النوع الغريب، فمجال السباق والمنافسة هو من يتبول إلى أبعد نقطة.
اجتياز الجحيم
شخصيات مسحوقة (لوحة للفنان عمران يونس)
تقدم الكاتبة والرسامة الكولومبية إيمارييس في سيرتها “بريد الذكريات” التي جاءت في شكل رسائل (حوالي 23 رسالة) بعثت بها على فترات متفرقة إلى الناقد والمؤرخ الكولومبي خيرمان سينييغاس؛ صورا من مظاهر الفقر الطاحن الذي مرت به في طفولتها، إلى درجة أنها لم تر الحلوى إلا في مرحلة الدير. فترسم صورة للاستعباد الذي كانت تعامل به الفتيات من قبل الراهبات، وكذلك القسوة من معاملة السيدة التي عاشت في كنفها، وكانت تفضل أختها ألينيا عليها، فيوم أن سقطت على مكواة الجمر، تمنت – في صراحة مؤلمة – لو أن إيما هي التي أصيبت بدلا منها، وكانت تصفها “بصغيرتي المسكينة”.
تسرد أيضا عن محاولة الاغتصاب الفاشلة التي تعرضت لها من قبل المجنون الذي بال عليها وكأنها نبتة، كما تستعرض لحال بؤس الوسط الذي نشأت فيه؛ حيث أطفال الحي يقضون نهارهم “يلعبون ويتصايحون، ويطوفون حول جبل من الطين، ويتبادلون السباب ويتشاجرون ويتمرغون في برك من الوحل، وبأيديهم ينقبون في كل أنواع النفايات بحثا عن الكنوز (أي بقايا الأطعمة)”.
أما هي فقد فتحت عينيها لتجد نفسها في حجرة “سان كريستوفر في بوغوتا (وهي) حجرة رثة خالية من النوافذ”، مع امرأة لا تعرف أي صلة تجمعها بها على وجه التحديد. كانت الغرفة مجردة خالية من الإضاءة الكهربائية والمرحاض، فلم تكن لديهم سوى المبولة المتنقلة التي يستخدمها الجميع طوال الليل. كما تصف سيرها – كل صباح – إلى مكب النفايات محملة بالمبولة الطافحة بمحتوياتها وهي “أشد اللحظات مرارة على مدى اليوم”، إذ تضطر إلى السير “بأنفاس شبه مكتومة، وعينين شاخصتين إلى الكاكا” متتبعة إيقاع حركاتها خشية أن تنسكب قبل وصولها.
تتتبع الساردة انتقالاتها إلى غواتيكيه مع الآنسة ماريا وقسوتها التي جعلتها تتخلى عن طفلين لها، كما أنها لا تتوانى عن كيل الاتهامات لها ولأختها إيلينا بأنهما سبب عثرتها في الحياة، إذ إنها صارت مقيدة كالحيوان، فلولاهما لكانت لها حياة خاصة، وتصف البؤس الذي يتعرض له خمسون نزيلا في المستشفى، حيث يودي بحياتهم حريق، لأن مدير المستشفى أراد أن يشاهد الاحتفالات التي تجري بسبب قدوم المحافظ وأغلق الباب عليهم.
تجسيد لعالم مأساوي
ثم تسرد رحلة العودة إلى بوغوتا مرة ثانية بعد رحلة الإخفاق الأولى، فتبدأ من جديد معاناة الطعام والجوع حيث أخذت الآنسة ماريا تخرج إلى الشارع ولا تترك لثلاثتهم (إيما وإيلينا وبيتسابيه) شيئا، فلا يذوقون من الطعام سوى الخبز وأقراص البانيلا، وصولا إلى التخلي النهائي بأن تركتهما في محطة قطار وهربت. وهنا تبدأ مرحلة الدير (دير إعداد الراهبات)، وكان فيه كل شيء غريبا، وعصيا عن إدراكهما، فشعرتا بالخوف لا الحب، وقد استغلت الراهبات وضعهما فتعاملن معهما بقسوة وتنمرن عليهما، فتصف أجواء الدير والاضطهاد الذي تتعرض له الفتيات، والطعام البائس الذي يقدم لهن. ومعاناتها – هي تحديدا – من بلل فراشها في الليل.
وفي الدير تطاردها مشكلة دورات المياه، ففي الدير كانت المهمة المخصصة لها، هي تنظيف المراحيض، وقد كانت في غاية الضيق لا تصلها المياه الجارية، وهي عبارة عن فجوات في الأرضية الإسمنتية مثبتة فوقها صناديق مربعة تتوسطها فجوات دائرية، تقول عنها “أبشع ما رأت مدى الحياة”.
وتمثل كتابات المغربي محمد شكري الروائية أو السير روائية استثناء في الكتابة العربية عموما، فهي تندرج تحت “كتابة التعرية والفضح”؛ كتابة ضد التستر والحجب، ومن ثم لاقت من الحجب الكثير. فقد عبر محمد شكري في ثلاثيته “الخبز الحافي، والشطار ووجوه” عن عوالم حقيقية عاشها واستطابها وإن استنكرها الآخرون، فتحدث عن الفقر والجوع وعوالم المهمشين من الليليين والنهاريين، ومدمني المخدرات، وأصحاب العاهات. فكتاباته بقدر ما هي صادمة، كانت حقيقية في وصف هؤلاء المهمشين وعوالمهم التي يحيون فيها.
يبدأ شكري نصه بتصدير عنوانه كلمة يقول فيه “ها أنذا أعود لأجوس كالسائر نائما عبر الأزقة والذكريات، عبر ما خططته عن حياتي الماضية – الحاضرة… كلمات واستيهامات وندوب لا يلأمها القول”. فيحكي عن الفقر المدقع الذي نشأ فيه، إذ كان يعيش في حجرة واحدة مع أسرته، ومعاناته مع أبيه الوحش؛ الأب المتسلط، فما إن يحضر حتى يخرس الجميع، ولا يحدث شيء إلا بإذنه، كان يكيل له الضربات حتى يبل سرواله، ومن فرط قسوته أنه – في لحظة غضب – قتل ابنه، ثم هجرهم وتركه وأمه في العراء، ثم عرفا – بعد ذلك – أنه دخل السجن، وحين خرج تمنى – الابن – أن يعود إليه بمدة أطول.
كما يسرد مأساة الجوع التي – بالنسبة إليه وإلى آخرين – بمثابة أزمة شديدة تدفع إلى التهاون في الشرف تارة، والانتحار تارة ثانية. فيحكي أنه وهو صغير كان لا يكف عن البكاء ويمص أصابعه ويتقيأ، ولا يخرج من فمه غير خيوط من اللعاب، وما إن يشتد عليه الجوع حتى يخرج إلى حي “عين قطيوط”؛ كي يفتش في المزابل عن بقايا ما يؤكل، وأحيانا كان يدفعه الجوع إلى أن يأكل “سمكة جافة ومداسة رائحتها مقيتة”، وعندما يفشل في العثور على طعام كان يأكل بخياله على نحو ما كان يتابع الصياد الذي “يأكل فطيرة محشوة”.
اللافت أن هذا ليس عالمه هو فقط، بل هو كذلك عالم المحيطين به، فالجوع يدفع بطفل بائس “في رأسه وأطرافه بثور، حافي القدمين وثيابه مثقوبة”، إلى أن “يقتات من المزابل، يأكل أوراق الكرنب، وقشر البرتقال وبقايا فواكه عفنة”، وهو نفسه – أي الجوع – يقود العم التفرسيتي لقتل نفسه وزوجته وثلاثة أولاد بعدما “قضوا أياما دون أكل”، فصنعوا لأنفسهم قبرا بعد أن بنوا “من الداخل بابا آخر من الحجر والطين وماتوا”، دون أن يطلبوا المساعدة من أحد.
والأمر لا يختلف في المدن الشمالية؛ فالحياة فيها بائسة، والعمل قاس في الورشات والرواتب هزيلة، “والتقحبن في كل مكان”، فالمال – كما يقول أوزوالد شبنجلر – “شيطان المدينة وربها الأعلى” لكن الريفيين لا يسمحون لبناتهم أن يدخلن البورديل على نحو ما ذكر الأب لسي مصطفى. فكل ما يحيط به مأساوي، ففي الطريق يرى جثث الموتى تحوم حولها الطيور السوداء والكلاب، وروائح كريهة، وأحشاء ممزقة، ودود ودم وصديد.
يقدم شكري بطلا هامشيا يحيا حياة الصعلكة والتشرد، أمه تبيع الخضر والفاكهة في حي الطرانكات، وأبوه عاطل كان جنديا في الجيش الإسباني ثم سجن. يعيش بطله (محمد حدو) بصحبة المتشردين والعاطلين وينام في الطرقات والمقاهي والمخابز والمقابر والإسطبل، وفي عربات القطار القديمة، وفي فنادق رخيصة، وعند بائعات الهوى، كما يمتهن مهنا عديدة؛ كصبي قهوجي، وبائع خضروات، وعامل في معمل الآجر، حمال في المحطات، خادم في مزرعة فرنسي، وماسح أحذية يطوف على المقاهي، يلتقط الأعقاب ويشرب ثمالة كؤوس الخمر والمشروبات الغازية، ويأكل من بقايا الطعام في الصحون الصغيرة، وبائع صحف، ومهرب أيضا، كل هذه المهن جعلته يدمن شرب السجائر والخمر وأقراص من معجون الحشيش، ويكون عالمه من الحشاشين والسكارى، وفتيات الليل، وبائعات الهوى.
طفولة ضائعة
الروايات استفاضت في إظهار وتشريح قبح الواقع (لوحة للفنان عماد حمدي)
في مذكرات “أعترف إني عشت” يروي بابلو نيرودا بنبرة تلذذ وافتخار، عن المآسي التي عاشها في القرية، في مدينة “تيموكو” التي ليس لها ماض ولا تراث، ما يميزها هو دكاكين الحدادة، ثم يتابع رحلة الضياع في المدينة. يستهل نيرودا مذكراته بفصل عن الشاب القروي، وفيه يحكي عن عوالم مأساوية للريف الذي نشأ فيه، فعندما ينزل المطر من السماء الرمادية اللون بلا حد ولا قيد، تمتلئ الشوارع بالطين، وتتعطل العربات، والثيران تعود لا تقوى على المضي بين المطر والوحل.
ثم في وقت لاحق تأتي الفيضانات فتجرف القرى والمساكن حيث كان يعيش أكثر الناس فقرا. كما يصف الدار التي نشأ فيها، فالغرف كانت تبقى دائما من غير إتمام وانتهاء، والسلالم أو الأدراج غير مكتملة البناء، ويحكي عن الطعام وغياب الحليب المخثر المثلح لسنوات، أما المدرسة التي دخلها، فهي عبارة عن دارة كبيرة فسيحة ذات قاعات غير متناسقة وسراديب تحت الأرض معتمة.
وفي الفصل الثاني “ضائعا في المدينة” يصف أجواء رحلته بالقطار إلى سانتياغو، ففي عربات الدرجة الثالثة كانت حياة بكاملها؛ فلاحون بعباءات تقطر ماء، بسلال مكتظة بالدجاج ونساء من قبائل “مابوتشه” عابسات متجهمات، يسافر الجميع مجانا – بالتحايل والاختباء على المفتش – دون أن يدفعوا شيئا. ويسرد حياة الطلبة التي كان يحياها في غرف الإيجار فقد “كانت جوعا على جوع”، فهلك بعض الشعراء بسبب صوم الجوع الصارم، كما يتحدث عن مجاعاته المتكررة وإنقاذ سيدات الدار له “بحبة بطاطا أو
تجسيد لجانب من عالم الفقر المدقع
برأس بصل، تنزل عليه كرحمة من السماء”. وعن معاناته من تلصص صاحب البيت، واضطراره في الشتاء البارد إلى البحث عن مأوى جديد، وهو ما وجده في مغسلة. حالة الفقر المزري التي كان يعيشها، جعلته عندما تعرف على آل يانيث الذين كانوا يدعونه إلى بيتهم مرارا وتكرارا، ويرى فيها دارا ذات تدفئة لأول مرة في حياته، وثريات بديعة هادئة ومقاعد لطيفة مريحة، وجدران طافحة بكتب أكعابها مختلفة الألوان والأشكال كأنها ربيع دائم، ويبدو في حالة من الانبهار بالبيجاما التي يرتديها صديقه بيلو، فكان يستغل كل فرصة سانحة لينظر إليها في إعجاب شديد.
كما يحكي عن حياة الصعلكة التي كان يعيشها كشاعر، والصعوبات التي واجهته أثناء نشر أول كتبه، إذ اضطر إلى بيع أثاث بيته القليل، ورهن ساعته التي أعطاها له أبوه، ولا ينسى أن يتحدث عن حالة التشرد التي يحياها الشعراء في ذلك الوقت، حيث يحشرون أنفسهم في عربات قطار الدرجة الثالثة، دون أن يكون معهم أي فلس، وأيضا يتحدث عن شعراء غريبي الأطوار كالشاعر عمر بيغنوله الذي كان مهندسا زراعيا في محافظة أرجنتينية، أحضر معه إلى العاصمة بيونس أيرس بقرته يعقد بها صداقات متينة حميمة، وكان يتجول وينزه بقرته في شوارع العاصمة.
ومن غرائبه أنه عندما عقد نادي القلم الأدبي مؤتمره الأول في بيونس أيرس، خشي المنظمون أن يأتي الشاعر إلى مقر المؤتمر ببقرته، وبالفعل أبلغوا السلطات كي تأخذ الاحتياطات، إلا أنه غافل الجميع، ودخل أثناء نقاش المؤتمرين للعلاقات بين عالم الإغريق الكلاسيكي ومجرى التاريخ الحديث، بل وعندما توسطت البقرة القاعة خارت خوارا عظيما وكأنها تريد المشاركة في الجدال والبحث.
ويصف – أيضا – بعض الشعراء الذين تجمهروا في احتفال ديني في الهند وراحوا يلقون أشعارهم التي كانت حسية وشهوانية ليس بغرض المتعة أو اللذة وإنما هي أغاني احتجاج على الجوع، أغاني مكتوبة في السجون.
نسجت الكتابة السردية السابقة – على اختلافها – قماشاتها، واختارت حكاياتها من هذه العوالم، دون تعال أو تلميح إلى نفور من هذا الواقع وبؤسه، أو رغبة في استعطاف القارئ، فجاءت كتابة – مع بؤسها – صادقة وصادمة في آن واحد، ومن صدقها المفرط صار الألم متعة وحققت رضا وسعادة لمؤلفيها بعيدا عن الصراعات الطبقية أو الأحقاد الدفينة التي تولدها مثل هذه المقارنات بين عالم السطح (الذي يعيش فيه غيرهم) وعالم القاع (الذي يعيشون فيه)، دون الحاجة إلى أقنعة لمواراة قبحه، وكأنهم يبصقون عليه.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ممدوح فراج النابي
كاتب مصري
سرديات مديح القاع.. السعادة في حياة الفاقة والألم.
أبطال روائيون أغرب من الخيال (لوحة للفنان عماد حمدي)
كتب الروائي ستيفان زفايج قائلا “إن الأدب ليس الحياة، بل هو عبارة عن وسيلة لتمجيد الحياة، وسيلة للقبض على بُعدها المأساوي بشكل أكثر وضوحا وأكثر جلاء”، وفي سبيل تمجيد الحياة – على ما بها من ألم ومأساة وقهر – تحايل الكثير من الكتّاب والكاتبات لسرد مواقف المكابدة والمعاناة فيها؛ فسردوا عن عوالم رسّخت من فرط إيلامها وسوداويتها – دون قصد – للغرائبية، بل حولوا قتامتها إلى سخرية لاذعة.
قدم الكثير من الروائيين في أعمالهم عوالم غرائبية قاسية، وهو ما كان مثار اندهاش وتساؤل من القراء فتساءلوا: هل هناك حياة حقيقية تماثل هذا السوء الذي جسدته الروايات؟ وأيا كان الجواب، فإن هذا لا يمنع كما يقول بيكاسو، من أن “الفن ليس الحقيقة، الفن كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة”.
إذا كانت الرواية بحكم طبيعتها التخييلية (كابنة وفية للخيال) تلوذ – في أغلبها – بعوالم مفارقة لواقعها، فإنها – مع هذا – لا تنفصل عن واقعها، بل تتقاطع معه، وتستحضره دون أية محاولة لتجميله، أو حتى التخفيف من فداحته ومآسيه، حتى لو افترضنا أن الواقع – وفق تصور أمبيرتو إيكو – “ما يمكن تصديق وجوده (هوية الذوات والموضوعات) أو حدوثه (الأفعال والأحداث)”. وفي الكثير من الأحيان يكون الواقع الذي تجسده الرواية أغرب من الخيال.
اللافت أن الروائيين وهم يجسدون هذا الواقع المأساوي – وأكثرهم كانوا نتاجا له – لم يجدوا غرابة فيه أو حتى استنكارا له، بل على العكس تماما، كانوا في مروياتهم وكتاباتهم السردية على اختلاف نوعها: رواية، سيرة، مذكرات، يوميات، أكثر انتماء إلى هذا الواقع القاسي، وأشدّ تلذذا بعوالمه، واحتفاء بمواجع شخصياته، فلم نر نقمة أو تبرما منه، إنما تماه وانسجام معه، وتلذذ في الحكي عنه، وهناك من جعل شخصياته تجد سعادتها في مثل هذا الواقع ومأساويته . وكأن الألم – وحده – لا يحدد قيمة الإنسان فقط، بل يعبّد أيضا له الطريق لاكتشاف قيمة نفسه.
الواقعية القذرة
عوالم البؤس والفقر والتشرد ثيمات تكاد تكون أساسية في الكثير من المرويات (العالمية والعربية)، وقد تبارى الكتّاب في إظهار هذه العوالم وانعكاساتها على الشخصيات، وبذلك لم تعد هناك حاجة تحتم على الروائي “أن يهضم الحياة كي يبتكر (أو يخلق) شخصياته”، فالواقع ببؤسه حاضر ببذخ، ومن ثم ظهرت لدينا شخصيات الهامش المنبوذة بكل تمثيلاتها: من لصوص وعاهرات وقوادين وتجار مخدرات، وسفاحين وغيرهم، من الصور التي عكست الواقع القاسي حيث كانت هذه الشخصيات نتاجه، تعيش على هامشه، همّها المشترك (أو الأكبر) مكابدة الفقر ومراودة الهروب من براثنه.
وسمّيت هذه الكتابات في المدونة النقدية بسرديات القاع، أو الواقعية القذرة، تعبيرا عن العوالم التي جسدتها، واستفاضت في إظهار وتشريح قبح الواقع وما يفرضه على الإنسان من إكراهات تدفع به – في المجمل – إلى فقدانه لذاته وهويته إيذانا بدخوله في مرحلة السحق والضياع، وقد شاع مصطلح الواقعية القذرة أو رواية القاع – كما يقول كامل يوسف حسين، في مقدمته لرواية “حياة وحشية”، للأميركي ريتشارد فورد – على يد “بيل بو فورد” رئيس التحرير السابق لمجلة “جرانتا” عام 1983، في مقدمته الشهيرة للعدد الثامن للمجلة، والتي قام فيها بتعريف القارئ على الاصطلاح والتيار وعلى الكتّاب أمثال: ريموند كارفر، ريتشارد فورد، جين آن فيليبس، إليزابيث تالينت، وآخرين.
وكان يقصد بها تلك الكتابات غير المألوفة، من حيث اللغة والموضوعات والشخصيات، والأماكن أيضا، حيث تطرق إلى موضوعات غاية في الغرابة، وهي تتحدث عن تفاصيل الحياة اليومية لأبطال مهمشين ومسحوقين، يتعرضون للمتاعب، إنهم ضائعون وبائسون في عالم لا يحفل بهم، يموت أصحابه إما بالتخمة وإما بالإفراط في الشراب، وبالأحرى هم أبطال تراجيديون، يعيشون في أماكن رخيصة، آفتهم الحقيقية الجوع، فيبحثون عما يسد رمقهم في النفايات، وبقايا المخلفات الآدمية. هي كتابة حادة وجارحة، دون زخرفة لغوية، أو مواراة بالمجاز والبلاغة، قوامها البساطة أو الإنسيابية التي تجعل الكلمات تنساب دون خوف أو مراعاة لشرطة الذوق الأدبي، وهي – ربما – تتصيد لألفاظ تخدش الحياء العام.
كتابات نسجت سردياتها واختارت حكاياتها من العوالم المهمشة
كانت الحركة – في الأصل – ردة فعل طبيعية للخيبات التي أعقبت انحسار أحلام الستينات الكبيرة، لكن المهم أن هذه الخيبات لم تتحول إلى لعنات أو رفض للواقع، بل صارت معايشة للواقع الجديد بكل قبحه وقسوته. ومن ثم نرى البطل في هذه الأعمال الممثلة لهذا التيار، لا يغدو كبطل رواية “الجحيم” لهنري باربوس لا منتميا “يتخذ من العزلة رفيقا وناقما، يراقب الآخرين من خلال ثقب باب غرفتة في فندق وتنطلق أفكاره بطريقة فوضوية”، بل على العكس تماما، فهو منتم لواقعه، ومتصالح معه، يتكيف معه ويسعى إلى أن يخلق من هذا القبح المحيط به، سعادته الخاصة، وإن بدت للآخرين تعاسة بل في غاية التعاسة.
في المرويات التي بين أيدينا نجد تعامل الكتّاب مع هذا الواقع يأتي أشبه بمديح له، وليس نقمة عليه، على عكس ما فعل الكاتب الأميركي بول أوستر في “ثلاثية نيويورك”، إذ جعل الثلاثية نقدا صريحا لهذا الواقع الفجّ، وبالمثل فعل صنع الله إبراهيم في كتابه “تلك الرائحة” حيث كانت تعرية لسلطوية الواقع السياسي، وتفسخ علاقاته الاجتماعية، وهو ما كان له أثره على شخصية البطل الذي توحد مع ذاته وعمد إلى قهرها كنوع من جلد الذات. وكأنها إدانة لهذا الواقع المفرط في قسوته.
على العكس تماما جاءت مرويات “التعساء” لديميتري فيرهولست، و”بريد الذكريات” لإيما برييس، و”الخبز الحافي” لمحمد شكري، و”موال البيات والنوم” لخيري شلبي، و”أعترف أني عشت” لبابلو نيرودا، لتحتفي بهذا الواقع المأساوي، وكأنها تقدم عبر سرديتها أغنية للحياة والسعادة.
في رواية “التعساء” للكاتب البلجيكي ديميتري فيرهولست ثمة تجسيد لجانب من عالم الفقر المدقع الذي تعاني منه أسرة فيرهولست، التي تعيش في بلدة “لا وجود لها على الخارطة”، حتى أن الحانات فيها متشابهة، مقارنة ببروكسل المدينة التي تعيش فيها العمة روزي، التي تحدثهم عن تراكم الثروة فيها، وعن الحيوية التي تملأ المدينة، وتحويل سطح المنزل إلى حديقة، وحجرة للتمتع بالساونا. فالأسرة التي تتكون من الراوي وأربعة رجال (الأب وثلاثة أعمام) دمروا حياتهم العاطفية، وعادوا إلى منزل الأم التي هي قوام البيت وسنده براتبها الشهري.
تعيش الأسرة حياة الكفاف؛ فالحياة معدمة – إلى حد كبير – ومع هذا فهم يحيونها بتآلف وحب، والنقمة على نقيضها، وإيمانا من المؤلف/ الرواي بتآلفه مع عالمه المروي عنه، يصدر نصه بمقولة بيرر ميشون، من نص “سادة وخدم” هكذا “لطالما اندهشت من أولئك الذين يكرسون حياتهم لكل ما هو مزيف في الحياة”، وكشف عن حالة التناغم التي يعيشها أفراد هذه الأسرة مع بؤسهم وواقعهم الفجّ، فهم في حالة سباب دائم، كما أن تصرفاتهم تكشف عن حالة من الغرائبية، فالأب اعتاد التغوّط وباب الحمام مفتوح “ويقف في الصالة بعضو متدل، والجميع يهبط إلى الطابق السفلي صباحا، وهم يرتدون ملابس داخلية ذات فتحات أمامية”، ويتجشأون بحرية، ويلقون أظافر أقدامهم على الأرض، وشعر عاناتهم – كذلك – ملقى بجوار أرضية المرحاض، كل هذا يفقد توازنه عندما تهبط العمة قادمة من بروكسل هي وابنتها سيلفي، فقد هربت من رجل يعذبها بالخيانة والعنف. حتى إنهم يضطرون إلى التصنع كي يكونوا محترمين وهم يتحدثون إلى سيلفي ابنة العمة.
تتشارك الأسرة مع آخرين ساحة المنزل الصغير، وأيضا صنبور المياه، ولا يوجد غير مرحاض واحد، وهو “عبارة عن فتحة في لوح خشبي فوق حوض عفن”. ومع هذا البؤس إلا أنهم أمضوا أمسيات سعيدة، لا من أجل الاستماع إلى الموسيقى أو حتى مشاهدة أحد الأفلام، وإنما يصغون إلى “أنغام تساقط الماء في الدلاء، محاولين تخمين تلك الألحان التي يعزفها… السقف الموشك على الانهيار” الأسرة تتكيف مع بؤس واقعها، فلا تسعى إلى قتل الفئران، وإنما تملأ لها الأوعية بالماء. تصاحب هذا التآلفَ مع الواقع حالة من السخرية للطبقية والرأسمالية، فينظرون باستعلاء إلى أفراد العائلة الذين يوقفون سياراتهم الفاخرة أمام المنزل، كما أن ملابسهم الغالية تثير بدرجة كبيرة اشمئزازهم.
يسرف المؤلف في وصف حياة البؤس والفاقة التي يعيشها أفراد هذه العائلة، فهم يرتدون الأسمال من الملابس ويتغذون على أطنان من اللحم المفروم النيء لرخص ثمنه، ويشربون بقايا القهوة الباردة، التي ظلت في أكوابها الكبيرة منذ اليوم السابق. كما أنهم “يطلقون الغازات بلا حرج “وكأنهم “قادة فرقة موسيقية”.
يصبح البؤس معلما للقرية بأجمعها، فصاحبة حانة نوك، هي الأخرى امرأة بائسة تركها زوجها بعد ولادتها لتوأم من الأقزام، ابنتان مشوهتان، المرأة تعاني من وطأة ديون كثيرة، كبرت البنتان داخل الحانة، وتعلمتا اللغة البذيئة، ومع بلوغهما سن العاشرة صار كلامهما أكثر فحشا، وأصبحتا ترددان النكت الإباحية، لتسلية الزبائن. ومع سن الثانية عشرة توقف نموهما، كما أدمنتا شرب الكحوليات بعد اعتيادهما شرب بقايا الكؤوس. والرجال في الحانة يثرثرون في أمور اعتيادية عن الطلاق والزوجات الساخطات والنفقة، ومن يلعب البلياردو يفعل هذا دون أدنى طموح للفوز. حال الجميع يستحيل معه التفريق بين السعادة والتعاسة، وهناك من يتباهى بطريقة تغوطه كما فعل أندريه بعد أن هاجم السرطان أمعاءه. حتى الأطفال سباقاتهم من النوع الغريب، فمجال السباق والمنافسة هو من يتبول إلى أبعد نقطة.
اجتياز الجحيم
شخصيات مسحوقة (لوحة للفنان عمران يونس)
تقدم الكاتبة والرسامة الكولومبية إيمارييس في سيرتها “بريد الذكريات” التي جاءت في شكل رسائل (حوالي 23 رسالة) بعثت بها على فترات متفرقة إلى الناقد والمؤرخ الكولومبي خيرمان سينييغاس؛ صورا من مظاهر الفقر الطاحن الذي مرت به في طفولتها، إلى درجة أنها لم تر الحلوى إلا في مرحلة الدير. فترسم صورة للاستعباد الذي كانت تعامل به الفتيات من قبل الراهبات، وكذلك القسوة من معاملة السيدة التي عاشت في كنفها، وكانت تفضل أختها ألينيا عليها، فيوم أن سقطت على مكواة الجمر، تمنت – في صراحة مؤلمة – لو أن إيما هي التي أصيبت بدلا منها، وكانت تصفها “بصغيرتي المسكينة”.
تسرد أيضا عن محاولة الاغتصاب الفاشلة التي تعرضت لها من قبل المجنون الذي بال عليها وكأنها نبتة، كما تستعرض لحال بؤس الوسط الذي نشأت فيه؛ حيث أطفال الحي يقضون نهارهم “يلعبون ويتصايحون، ويطوفون حول جبل من الطين، ويتبادلون السباب ويتشاجرون ويتمرغون في برك من الوحل، وبأيديهم ينقبون في كل أنواع النفايات بحثا عن الكنوز (أي بقايا الأطعمة)”.
أما هي فقد فتحت عينيها لتجد نفسها في حجرة “سان كريستوفر في بوغوتا (وهي) حجرة رثة خالية من النوافذ”، مع امرأة لا تعرف أي صلة تجمعها بها على وجه التحديد. كانت الغرفة مجردة خالية من الإضاءة الكهربائية والمرحاض، فلم تكن لديهم سوى المبولة المتنقلة التي يستخدمها الجميع طوال الليل. كما تصف سيرها – كل صباح – إلى مكب النفايات محملة بالمبولة الطافحة بمحتوياتها وهي “أشد اللحظات مرارة على مدى اليوم”، إذ تضطر إلى السير “بأنفاس شبه مكتومة، وعينين شاخصتين إلى الكاكا” متتبعة إيقاع حركاتها خشية أن تنسكب قبل وصولها.
تتتبع الساردة انتقالاتها إلى غواتيكيه مع الآنسة ماريا وقسوتها التي جعلتها تتخلى عن طفلين لها، كما أنها لا تتوانى عن كيل الاتهامات لها ولأختها إيلينا بأنهما سبب عثرتها في الحياة، إذ إنها صارت مقيدة كالحيوان، فلولاهما لكانت لها حياة خاصة، وتصف البؤس الذي يتعرض له خمسون نزيلا في المستشفى، حيث يودي بحياتهم حريق، لأن مدير المستشفى أراد أن يشاهد الاحتفالات التي تجري بسبب قدوم المحافظ وأغلق الباب عليهم.
تجسيد لعالم مأساوي
ثم تسرد رحلة العودة إلى بوغوتا مرة ثانية بعد رحلة الإخفاق الأولى، فتبدأ من جديد معاناة الطعام والجوع حيث أخذت الآنسة ماريا تخرج إلى الشارع ولا تترك لثلاثتهم (إيما وإيلينا وبيتسابيه) شيئا، فلا يذوقون من الطعام سوى الخبز وأقراص البانيلا، وصولا إلى التخلي النهائي بأن تركتهما في محطة قطار وهربت. وهنا تبدأ مرحلة الدير (دير إعداد الراهبات)، وكان فيه كل شيء غريبا، وعصيا عن إدراكهما، فشعرتا بالخوف لا الحب، وقد استغلت الراهبات وضعهما فتعاملن معهما بقسوة وتنمرن عليهما، فتصف أجواء الدير والاضطهاد الذي تتعرض له الفتيات، والطعام البائس الذي يقدم لهن. ومعاناتها – هي تحديدا – من بلل فراشها في الليل.
وفي الدير تطاردها مشكلة دورات المياه، ففي الدير كانت المهمة المخصصة لها، هي تنظيف المراحيض، وقد كانت في غاية الضيق لا تصلها المياه الجارية، وهي عبارة عن فجوات في الأرضية الإسمنتية مثبتة فوقها صناديق مربعة تتوسطها فجوات دائرية، تقول عنها “أبشع ما رأت مدى الحياة”.
وتمثل كتابات المغربي محمد شكري الروائية أو السير روائية استثناء في الكتابة العربية عموما، فهي تندرج تحت “كتابة التعرية والفضح”؛ كتابة ضد التستر والحجب، ومن ثم لاقت من الحجب الكثير. فقد عبر محمد شكري في ثلاثيته “الخبز الحافي، والشطار ووجوه” عن عوالم حقيقية عاشها واستطابها وإن استنكرها الآخرون، فتحدث عن الفقر والجوع وعوالم المهمشين من الليليين والنهاريين، ومدمني المخدرات، وأصحاب العاهات. فكتاباته بقدر ما هي صادمة، كانت حقيقية في وصف هؤلاء المهمشين وعوالمهم التي يحيون فيها.
يبدأ شكري نصه بتصدير عنوانه كلمة يقول فيه “ها أنذا أعود لأجوس كالسائر نائما عبر الأزقة والذكريات، عبر ما خططته عن حياتي الماضية – الحاضرة… كلمات واستيهامات وندوب لا يلأمها القول”. فيحكي عن الفقر المدقع الذي نشأ فيه، إذ كان يعيش في حجرة واحدة مع أسرته، ومعاناته مع أبيه الوحش؛ الأب المتسلط، فما إن يحضر حتى يخرس الجميع، ولا يحدث شيء إلا بإذنه، كان يكيل له الضربات حتى يبل سرواله، ومن فرط قسوته أنه – في لحظة غضب – قتل ابنه، ثم هجرهم وتركه وأمه في العراء، ثم عرفا – بعد ذلك – أنه دخل السجن، وحين خرج تمنى – الابن – أن يعود إليه بمدة أطول.
كما يسرد مأساة الجوع التي – بالنسبة إليه وإلى آخرين – بمثابة أزمة شديدة تدفع إلى التهاون في الشرف تارة، والانتحار تارة ثانية. فيحكي أنه وهو صغير كان لا يكف عن البكاء ويمص أصابعه ويتقيأ، ولا يخرج من فمه غير خيوط من اللعاب، وما إن يشتد عليه الجوع حتى يخرج إلى حي “عين قطيوط”؛ كي يفتش في المزابل عن بقايا ما يؤكل، وأحيانا كان يدفعه الجوع إلى أن يأكل “سمكة جافة ومداسة رائحتها مقيتة”، وعندما يفشل في العثور على طعام كان يأكل بخياله على نحو ما كان يتابع الصياد الذي “يأكل فطيرة محشوة”.
اللافت أن هذا ليس عالمه هو فقط، بل هو كذلك عالم المحيطين به، فالجوع يدفع بطفل بائس “في رأسه وأطرافه بثور، حافي القدمين وثيابه مثقوبة”، إلى أن “يقتات من المزابل، يأكل أوراق الكرنب، وقشر البرتقال وبقايا فواكه عفنة”، وهو نفسه – أي الجوع – يقود العم التفرسيتي لقتل نفسه وزوجته وثلاثة أولاد بعدما “قضوا أياما دون أكل”، فصنعوا لأنفسهم قبرا بعد أن بنوا “من الداخل بابا آخر من الحجر والطين وماتوا”، دون أن يطلبوا المساعدة من أحد.
والأمر لا يختلف في المدن الشمالية؛ فالحياة فيها بائسة، والعمل قاس في الورشات والرواتب هزيلة، “والتقحبن في كل مكان”، فالمال – كما يقول أوزوالد شبنجلر – “شيطان المدينة وربها الأعلى” لكن الريفيين لا يسمحون لبناتهم أن يدخلن البورديل على نحو ما ذكر الأب لسي مصطفى. فكل ما يحيط به مأساوي، ففي الطريق يرى جثث الموتى تحوم حولها الطيور السوداء والكلاب، وروائح كريهة، وأحشاء ممزقة، ودود ودم وصديد.
يقدم شكري بطلا هامشيا يحيا حياة الصعلكة والتشرد، أمه تبيع الخضر والفاكهة في حي الطرانكات، وأبوه عاطل كان جنديا في الجيش الإسباني ثم سجن. يعيش بطله (محمد حدو) بصحبة المتشردين والعاطلين وينام في الطرقات والمقاهي والمخابز والمقابر والإسطبل، وفي عربات القطار القديمة، وفي فنادق رخيصة، وعند بائعات الهوى، كما يمتهن مهنا عديدة؛ كصبي قهوجي، وبائع خضروات، وعامل في معمل الآجر، حمال في المحطات، خادم في مزرعة فرنسي، وماسح أحذية يطوف على المقاهي، يلتقط الأعقاب ويشرب ثمالة كؤوس الخمر والمشروبات الغازية، ويأكل من بقايا الطعام في الصحون الصغيرة، وبائع صحف، ومهرب أيضا، كل هذه المهن جعلته يدمن شرب السجائر والخمر وأقراص من معجون الحشيش، ويكون عالمه من الحشاشين والسكارى، وفتيات الليل، وبائعات الهوى.
طفولة ضائعة
الروايات استفاضت في إظهار وتشريح قبح الواقع (لوحة للفنان عماد حمدي)
في مذكرات “أعترف إني عشت” يروي بابلو نيرودا بنبرة تلذذ وافتخار، عن المآسي التي عاشها في القرية، في مدينة “تيموكو” التي ليس لها ماض ولا تراث، ما يميزها هو دكاكين الحدادة، ثم يتابع رحلة الضياع في المدينة. يستهل نيرودا مذكراته بفصل عن الشاب القروي، وفيه يحكي عن عوالم مأساوية للريف الذي نشأ فيه، فعندما ينزل المطر من السماء الرمادية اللون بلا حد ولا قيد، تمتلئ الشوارع بالطين، وتتعطل العربات، والثيران تعود لا تقوى على المضي بين المطر والوحل.
ثم في وقت لاحق تأتي الفيضانات فتجرف القرى والمساكن حيث كان يعيش أكثر الناس فقرا. كما يصف الدار التي نشأ فيها، فالغرف كانت تبقى دائما من غير إتمام وانتهاء، والسلالم أو الأدراج غير مكتملة البناء، ويحكي عن الطعام وغياب الحليب المخثر المثلح لسنوات، أما المدرسة التي دخلها، فهي عبارة عن دارة كبيرة فسيحة ذات قاعات غير متناسقة وسراديب تحت الأرض معتمة.
وفي الفصل الثاني “ضائعا في المدينة” يصف أجواء رحلته بالقطار إلى سانتياغو، ففي عربات الدرجة الثالثة كانت حياة بكاملها؛ فلاحون بعباءات تقطر ماء، بسلال مكتظة بالدجاج ونساء من قبائل “مابوتشه” عابسات متجهمات، يسافر الجميع مجانا – بالتحايل والاختباء على المفتش – دون أن يدفعوا شيئا. ويسرد حياة الطلبة التي كان يحياها في غرف الإيجار فقد “كانت جوعا على جوع”، فهلك بعض الشعراء بسبب صوم الجوع الصارم، كما يتحدث عن مجاعاته المتكررة وإنقاذ سيدات الدار له “بحبة بطاطا أو
تجسيد لجانب من عالم الفقر المدقع
برأس بصل، تنزل عليه كرحمة من السماء”. وعن معاناته من تلصص صاحب البيت، واضطراره في الشتاء البارد إلى البحث عن مأوى جديد، وهو ما وجده في مغسلة. حالة الفقر المزري التي كان يعيشها، جعلته عندما تعرف على آل يانيث الذين كانوا يدعونه إلى بيتهم مرارا وتكرارا، ويرى فيها دارا ذات تدفئة لأول مرة في حياته، وثريات بديعة هادئة ومقاعد لطيفة مريحة، وجدران طافحة بكتب أكعابها مختلفة الألوان والأشكال كأنها ربيع دائم، ويبدو في حالة من الانبهار بالبيجاما التي يرتديها صديقه بيلو، فكان يستغل كل فرصة سانحة لينظر إليها في إعجاب شديد.
كما يحكي عن حياة الصعلكة التي كان يعيشها كشاعر، والصعوبات التي واجهته أثناء نشر أول كتبه، إذ اضطر إلى بيع أثاث بيته القليل، ورهن ساعته التي أعطاها له أبوه، ولا ينسى أن يتحدث عن حالة التشرد التي يحياها الشعراء في ذلك الوقت، حيث يحشرون أنفسهم في عربات قطار الدرجة الثالثة، دون أن يكون معهم أي فلس، وأيضا يتحدث عن شعراء غريبي الأطوار كالشاعر عمر بيغنوله الذي كان مهندسا زراعيا في محافظة أرجنتينية، أحضر معه إلى العاصمة بيونس أيرس بقرته يعقد بها صداقات متينة حميمة، وكان يتجول وينزه بقرته في شوارع العاصمة.
ومن غرائبه أنه عندما عقد نادي القلم الأدبي مؤتمره الأول في بيونس أيرس، خشي المنظمون أن يأتي الشاعر إلى مقر المؤتمر ببقرته، وبالفعل أبلغوا السلطات كي تأخذ الاحتياطات، إلا أنه غافل الجميع، ودخل أثناء نقاش المؤتمرين للعلاقات بين عالم الإغريق الكلاسيكي ومجرى التاريخ الحديث، بل وعندما توسطت البقرة القاعة خارت خوارا عظيما وكأنها تريد المشاركة في الجدال والبحث.
ويصف – أيضا – بعض الشعراء الذين تجمهروا في احتفال ديني في الهند وراحوا يلقون أشعارهم التي كانت حسية وشهوانية ليس بغرض المتعة أو اللذة وإنما هي أغاني احتجاج على الجوع، أغاني مكتوبة في السجون.
نسجت الكتابة السردية السابقة – على اختلافها – قماشاتها، واختارت حكاياتها من هذه العوالم، دون تعال أو تلميح إلى نفور من هذا الواقع وبؤسه، أو رغبة في استعطاف القارئ، فجاءت كتابة – مع بؤسها – صادقة وصادمة في آن واحد، ومن صدقها المفرط صار الألم متعة وحققت رضا وسعادة لمؤلفيها بعيدا عن الصراعات الطبقية أو الأحقاد الدفينة التي تولدها مثل هذه المقارنات بين عالم السطح (الذي يعيش فيه غيرهم) وعالم القاع (الذي يعيشون فيه)، دون الحاجة إلى أقنعة لمواراة قبحه، وكأنهم يبصقون عليه.
انشرWhatsAppTwitterFacebook
ممدوح فراج النابي
كاتب مصري