يمنى العيد اسست مشروعها النقدي على السؤال المستمر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • يمنى العيد اسست مشروعها النقدي على السؤال المستمر

    يمنى العيد أول البنيويين العرب أسست مشروعها النقدي على السؤال المستمر


    سارة بشار الزين تستحضر واحدة من أهم النقاد العرب.
    ا

    النقد عند يمنى العيد ليس يقينيات محتمة ومحسومة

    خلال ما يتجاوز خمسة عقود من الكتابة والتأليف في النص الأدبي العربي قدمت الناقدة والأكاديمية اللبنانية يمنى العيد مشروعا نقديا يقوم على الجمع بين النظرية النقدية الحديثة والتطبيق الواعي بخصوصية النصوص العربية نقدا وسردا وشعرا، وقد تجلى هذا المشروع في العشرات من المؤلفات والدراسات والبحوث المتخصصة في النقد الأدبي والنقد المقارن والتوثيق الأدبي والمقاربات التاريخية وغيرها. وهذا المشروع تناولته مواطنتها الباحثة سارة بشار الزين.

    المشروع النقدي ليمنى العيد كان محور الأطروحة الأكاديمية التي حصلت بها أخيرا الباحثة اللبنانية سارة بشار الزين على درجة الماجستير من الجامعة اللبنانية، وجاءت تحت عنوان “المنهج البنيوي عند يمنى العيد بين النظرية والتطبيق، تقنيات السرد الروائي – في معرفة النص دراسات في النقد الأدبي – أنموذجين”.

    انطلقت الزين في دراستها موضحة أن بين ما يسمى بنقاوة المنهج من جهة، وتداخل المناهج ببعضها بعضا من جهة أخرى، نحا العديد من النقاد العرب المعاصرين إلى بناء مشروع نقدي جديد يقوم على تطوير النظريات النقدية، ورفض مبدأ الإرساء بهدف تكوين مشهد نقدي علمي متكامل.

    ومن بين هؤلاء تأتي تجربة الناقدة والأكاديمية اللبنانية يمنى العيد (اسمها الحقيقي حكمت صباغ الخطيب) ولدت في صيدا جنوب لبنان عام 1935، حازت شهادة الدكتوراه في الأدب من جامعة السوربون بفرنسا في العام 1977. وكانت من أوائل النقاد العرب عموما، واللبنانيين خصوصا الذين نقلوا المنهج البنيوي ومفاهيمه ومقولاته إلى العالم العربي.

    أوائل البنيويين


    قدمت العيد للمكتبة العربية عددا كبيرا من الكتب والمقالات النقدية، تطرقت خلالها لمناهج مختلفة منها الماركسية والبنيوية والبنيوية التكوينية وغيرها مما سيشير البحث إليه. وتكمن أهمية دراسة البنيوية عند العيد تحديدا في كونها من أوائل النقاد العرب عموما، وأول امرأة عربية خصوصا، تتناول هذا المنهج تنظيريا وتطبيقيا في فترة عد فيها المنهج البنيوي جديدا وحديثا في العالم العربي، وشغل النقاد كثيرا، ويعد منهجا علميا ظهرت معالمه الأولى في مطلع القرن التاسع عشر ضمن حقل علم النفس، وبرز بشكله الكامل في منتصف القرن العشرين، وترجع النظرية البنيوية، القائمة على استقلال البنية اللغوية، في أصولها إلى فردينان دو سوسير، ولهذا السبب دعي رائد البنيوية الحديثة.

    وتشير الزين إلى أنه على الناقد أن يكون عارفا ومطلعا على العمل الأدبي بكل جوانبه، ومحيطا بأبعاده وتأويلاته حتى يقاربه مقاربة منهجية تنظر في بنية العمل فنيا وإبداعيا، أما “ناقد النقد”، فعليه أن يتسلح بـ”إبستيمولوجيا نوعية خاصة بالنقد” تكون أكثر اتساعا وشمولية، إذ عليه أن يكون على بينة من النص الأدبي الأصلي، وإن كان موضوعه هو النص النقدي، فهو بذلك لا بد أن يقدم معرفة على معرفة.

    لذلك فإن النقد الذي يشكل نوعا من الوساطة بين القارئ والنص الإبداعي يلحقه نقد النقد الذي يشكل وساطة بين النص النقدي وقارئه، الأمر الذي يجعل طريقه أكثر وعورة وصعوبة، فهو ضمنا يشتمل على المعارف السابقة كلها من الكاتب والنص الأدبي، وصولا إلى الناقد والنص النقدي، وليس انتهاء بالمتلقي القارئ، في عملية تسعى لتوسيع دائرة الرؤية المفهومية للعمل النقدي والتي تشمل الحياة والإبداع والفلسفة والأيديولوجيا. إن “الكلام على النقد هو، في العمق منه، كلام على سيرورته”، بحثا عن مفاهيم جديدة ومختلفة بهدف تكوين نظرة متقدمة للأدب والعمل الإبداعي بصورة مغايرة عن النمطية التقليدية.

    يمنى العيد كانت من أوائل النقاد العرب الذين نقلوا المنهج البنيوي وجل مفاهيمه ومقولاته إلى العالم العربي

    وتلفت سارة بشار الزين إلى أن العيد، التي درست في فرنسا، واحتكت بالنظريات الغربية عموما، والفرنسية خصوصا، وترجمت بعض الأعمال النقدية الغربية إلى العربية، تعد من أبرز من ساهم في شرح المنهج البنيوي والتنظير له وتطبيقه على الأعمال الإبداعية العربية خصوصا في الأعمال الروائية والسردية وذلك من خلال أعمالها ودراساتها المنشورة على مدى أربعين عاما، وهذا ما تعالجه دراستها “المنهج البنيوي عند يمنى العيد بين النظرية والتطبيق، تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي – في معرفة النص دراسات في النقد الأدبي – أنموذجين” هو عنوان تدخل من خلاله إلى مفاهيم منهجية.

    ووفق الباحثة فقد جاء اختيار هذين الكتابين تحديدا لأنهما أهم كتابين ليمنى العيد تتحدث فيهما بشكل مباشر عن البنيوية في جانبيها التنظيري والتطبيقي، ولأن الأول نشر العام 1983 والثاني العام 1990، أي هناك مدة سبع سنوات بين نشر الكتابين الأول والثاني، الأمر الذي يتيح لنا النظر في كيفية تبلور المنهج البنيوي واكتمال الإحاطة المعرفية به من قبل العيد خلال هذه الفترة. ثم إن الخوض في مجال نقد النقد، والبحث فيه، هو أمر دقيق، وأبوابه متشعبة، وقراءاته لا تنتهي. ولا يخفى أن هذا البحث شكل نوعا من التحدي لذات الباحثة من باب صقلها، وتدريب جوانبها التحليلية والاستقصائية، وتطوير مهاراتها النقدية في موضوع يظهر ثقافة الباحث وقدرته على خوض دراسة مهنية، متسلحا بالموهبة النقدية، واللغة العلمية، والقراءات الفكرية والأدبية والثقافية في هذا المجال.

    وتقول سارة الزين “كانت العيد من أوائل المواكبين والمطبقين للمنهج البنيوي في العالم العربي، واهتمت بنقل فهمها لهذا المنهج إلى الباحث العربي والطالب الأكاديمي، ونتيجة لقراءة كتبها حول البنيوية وبالنظر إلى اشتغالها المعرفي والأكاديمي في المنهج البنيوي، تبرز إشكالية يجب الوقوف عندها والبحث فيها: كيف استطاعت العيد أن تترجم المنهج البنيوي في العالم العربي من الناحيتين النظرية والتطبيقية؟ وتحت هذه الإشكالية تندرج إشكاليات أخرى: هل اشتغلت العيد على المنهج البنيوي كما استقر عند أعلامه أم أضافت إليه من الناحية النظرية أو التطبيقية؟ وما السمات الجديدة التي قدمتها يمنى العيد لهذا المنهج؟”.

    ومن بين الفرضيات التي قامت عليها الدراسة أولا، أن العيد اشتغلت على لغة نقدية منهجية حافظت من خلالها على مصطلحات المنهج البنيوي وآلياته الإجرائية العامة. ثانيا، يفترض أن تكون العيد قد أضافت رؤية ونظرية خاصة تقارب من خلالها النتاج الإبداعي في العالم العربي بعد دراستها للأعمال العربية. ثالثا، قد يكون “المرجع الحي” من أهم السمات الجديدة التي قدمتها يمنى العيد نظريا وطبقتها في دراساتها النقدية.

    المسعى الأساسي للناقدة كان تمكين القارئ من أدواته النقدية ليصبح ناقدا يسهم في إنتاجات معرفية جديدة ومختلفة

    ومن أجل الإجابة على هذه الإشكالية، اتبعت سارة الزين في دراستها المنهج الإبستيمولوجي أو نظرية المعرفة، مقتفية الخطوات التي اتبعها تزفيتان تودوروف في نقده للنقد من أجل تحقيق الأهداف المرجوة من خلال بحث علمي موضوعي يحاول الإحاطة بالجوانب المعرفية الممكنة. ذلك أن نقد النقد هو نشاط معرفي يتوخى مراجعة الأقوال النقدية بغية الكشف عن فلسفة النقد والمبادئ النظرية والأدوات الإجرائية والتفسيرية مرورا بالخلفيات المعرفية والفلسفية.

    توزعت دراسة الزين على ثلاثة فصول، انقسم الأول إلى ثلاثة مباحث تطرقت للمصادر المعرفية لتجربة العيد، والسيرة الذاتية التي تعمد الدراسة التعمق فيها للنظر في مدى تأثير البيئة والواقع الاجتماعي على تكوين الرؤية النقدية عند العيد، وعلى درجة العاطفة التي أخذت العيد صوب البنيوية والبنيوية التكوينية في ما بعد لتصل إلى المنهج الخاص بها، ثم الدراسات السابقة التي أجريت حول تجربة العيد.

    وتوزع الفصل الثاني على ثلاثة مباحث أيضا، أولها المفاهيم النقدية التنظيرية في البنيوية في كتاب “في معرفة النص” حيث عرض أفكار العيد وتنظيرها للبنيوية من زاويتها النقدية، وثانيها، المفاهيم النقدية التنظيرية للبنيوية في كتاب “تقنيات السرد الروائي”، جاء على شكل ملخص لأبرز أفكار الكتاب التنظيرية، ثالثها، التحليل ومنهج يمنى العيد الخاص، وفيه برز مقياس الخطأ والصواب في عمل العيد النقدي، ومدى وعيها للمنهج، ومقياس التجديد والابتكار في المصطلحات والأفكار، ومقياس العمق والسطحية في العرض والطرح والتقديم للبنيوية، ودرجة العاطفة أو الموضوعية في التنظير، ومقياس مدى تأثير الأيديولوجي في المفهوم النقدي العيدي، وأخيرا، الفرق بين التطبيق والممارسة في تجربة العيد.

    أما الفصل الثالث والأخير فتناول الجانب التطبيقي للأعمال الأدبية التي نقدتها العيد، وفي هذا الفصل، اختار البحث نموذجا واحدا لكل نوع أدبي، فأوضح تقديم العيد له وكيفية مقاربتها له مقاربة بنيوية، ثم أشار إلى الإجراءات التي أهملتها العيد والإضافات التي ركزت عليها في نقدها. وجاء في البداية نقد رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” للكاتب السوداني الطيب صالح، ثم مسرحية “أوديب ملكا” لسوفوكلس وبعدها رسالة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب إلى والي البصرة أبي موسى الأشعري، وصولا إلى قصيدة “تحت جدارية فائق حسن” للشاعر العراقي سعدي يوسف، وأخيرا، نقد كتاب “ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب” للناقد والأكاديمي المغربي محمد بنيس.
    سؤال دائم


    تؤكد الزين أن العيد كانت من أوائل من استعان بالنقد البنيوي بعيدا عن أي انتماء إلى هذا المنهج أو لغيره، بل كان بالنسبة إليها منهجا يعينها على فهم النص وإنتاج معرفة فيه. وقد كان المسعى الأساس للعيد هو تمكين القارئ المتلقي من أدواته النقدية، كي يصبح ناقدا يسهم في إنتاجات معرفية جديدة ومختلفة. فالقراءة “هي عملية فتح لنوافذ النص أو منافذه”، وهي التي تمكن المتلقي من إحداث التغيير من خلال الأسئلة والتجديد وفتح الآفاق. وقد سعت الدراسة لتتبع تجربة يمنى العيد النقدية المرتبطة بالمنهج البنيوي لمعرفة مدى التزامها بالمنهج كما استقر عند أعلامه، وكيف نظرت إليه وطبقته.

    وتوصلت الزين من خلال تتبع مسيرة العيد وتحليل تنظيرها ما قبل البنيوي ثم البنيوي، ثم ما بعد البنيوي، إلى نقاط متعددة ومتشعبة منها أن المراجع المعرفية التي استندت إليها العيد متنوعة وكثيرة ولم يكن بإمكان البحث الإحاطة بها كاملة لذلك استعرض بعضا منها، كما ظلت الناقدة مهتمة بالنقد الماركسي (من دون الانتماء إليه) وربط العمل الإبداعي بالواقع الاجتماعي، غير أن بحثها عن الجانب الجمالي أخذها صوب تحليل بنية النص داخليا، لذلك كان كتابها “في معرفة النص” يدرس النصوص دراسة بنيوية مستندة إلى النقد الماركسي كما تصرح هي في مقدمة كتابها، ورأت أن البنيوية التكوينية قد جمعت بين القيمة الفنية للعمل الأدبي كجمال مستقل برؤية العالم، أي موقع هذا الجمال من الخارج ولكن ذلك لم يكن كافيا كي تنتمي إلى البنيوية التكوينية.

    وقد وجدت العيد أن النص مع البنيوية الشكلانية منغلق في مقابل انفتاحه مع البنيوية التكوينية، غير أنها بحثت عن المختلف الذي لم يتوافر في المنهجين. كما أن النص عند العيد ليس قراءة إبداعية توازي لغة الأدب، فهذا يوقع النقد في أمرين: إما أنه نص يكرر النص الأدبي وصفا وشرحا، والفضل يبقى للأصل، أو أنه يتحول إلى نص أدبي فيخون بذلك موضوع نقده. وآمنت الناقدة بضرورة الاختلاف وأهمية السؤال والتجديد والبحث عن أجوبة جديدة غير معلبة ساعدها على الدخول في عالم النقد الذي وجدته بابا يتيح لها تقديم ما هو مختلف من خلال مفاهيم جديدة سعت العيد لترسيخها في بال القارئ.

    كما لا يمكن فصل سيرة يمنى العيد الذاتية عن تجربتها النقدية في الدراسة الإبستيمولوجية التي تعنى بالعالم المعرفي الكلي الذي يرتبط بالناقد والمنقود معا. إضافة إلى أن البيئة التي تربت فيها العيد كانت بيئة محافظة تميل إلى التقاليد والأعراف والرتابة نتيجة التشابه، الأمر الذي جعلها تتمرد وتبحث عن مسار جديد و”مختلف”، يضمن لها بصمة تعطي معنى حقيقيا لوجودها وللمتلقي في الحياة بدلا من أن تكون مثل غيرها ميتة تحت مسمى الحياة. كما أن تنظير العيد للبنيوية لم يمنعها من أن تقدم مفهومها حول الممارسة النقدية من خلال الاستعانة بالمناهج التي تعين على فهم النص وإنتاج المعرفة النصية، لذلك ربطت البنية المنعزلة عند البنيويين بالمرجع الحي والواقع الاجتماعي الخارجي، وكان الجانب الأيديولوجي حاضرا في النقد البنيوي عند العيد كما وجدناه بارزا في العناوين الداخلية في كتابها “تقنيات السرد الروائي”، وبذلك فإن الداخل ليس منعزلا عن الخارج.


    وتخلص الزين إلى أن العيد قدمت تجربتها في التنظير للبنيوية من دون الانتماء إلى هذا المنهج من أجل الوصول إلى رؤية نقدية خاصة، تمكنها من البحث المستمر عن الجديد والمختلف، فالنقد ليس عبارة عن يقينيات محتمة ومحسومة، ولذلك لجأت إلى مفهوم الممارسة النقدية التي تتيح مجالا للتراجع والسؤال المستمر والبحث الدائم. إن من يتتبع مسيرة العيد يجد أن النقد بالنسبة إليها هو السؤال الدائم الذي ينتج أسئلة أكبر بعيدا عن الأجوبة الجاهزة والتطبيق الجامد، لذلك اهتمت بالمرجع الحي، ورأت أن العمل الأدبي لا يمكن عزله عن بيئته ومحيطه، ولهذا جعلت الجانب الأيديولوجي وكذلك الواقعي حاضرين بعد كل تحليل شكلي.

    والعيد التي لا تؤمن بمبدأ الإرساء النقدي، حاولت أن تقدم نقدا جديدا (أي رؤية جديدة) تجد ركائزها في مفاهيم قدمها أعلام البنيوية والماركسية والبنيوية التكوينية، لتقدم رؤيتها الخاصة وجانبها التجديدي الذي يؤمن بضرورة الاختلاف لا لأجل هدف الاختلاف بحد ذاته، بل لأثره في إنتاج معرفة للنص ولأهمية ما يستطيع الاختلاف أن يصنعه في المجتمعات التي تبحث وتفند وتستقصي. وهكذا أؤكد أن العيد من أوائل من قدّم ونظّر للبنيوية إلى العالم العربي الذي كان غارقا في النقد التقليدي التحليلي الكلاسيكي، وقد استطاعت أن تقدم رؤية تجديدية مختلفة تدعو من خلالها العقل الباحث إلى التحرر من كل القيود التي تحد من أسئلته، وقد اجتهد هذا البحث في التركيز على مفهوم “المختلف” في العمل النقدي لأنه يبرز جانبا لم يتطرق إليه أحد من قبل وهو الجانب الذي كان الدافع الأول والأساس في تكوين التجربة النقدية عند العيد، يبقى التأكيد أن العيد ترفض الإرساء النقدي وتؤمن بالتجديد الذي سيقودها حتما إلى هذا “المختلف”.


    محمد الحمامصي
    كاتب مصري
يعمل...
X