"أمل" جواد الأسدي تبحث الأمومة والفن والحياة في واقع مأزوم
ديودراما عن الحب والأمل في زمن الحرب.
الثلاثاء 2023/12/12
ShareWhatsAppTwitterFacebook
باسم مثقف قلق وحبيب خائف
قيل إن “الأمل صبر المعذبين”، وهذا ما تنقله إلينا مسرحية “أمل” للمخرج جواد الأسدي، التي تحكي لنا صبر المعذبين في أوطان عربية تعاني الويلات، وأملهم في حياة مستقرة هادئة تخلق أطفالا آمنين، وتمنح الفنانين والفن مساحة للتنفس والحياة والإبداع بعيدا عن الحروب والقتل والتهجير.
حمل المخرج المسرحي العراقي جواد الأسدي مسرحية “أمل“ أو إن صح التعبير “أمله“ وسافر بها نحو تونس، ليعرضها أمام جمهور أيام قرطاج المسرحية في دورته الرابعة والعشرين، هذا المهرجان الذي يعرفه ويحبه ويحتفي به، وهو جزء من ذاكرته الحية، فأعماله تحظى بأهم التتويجات.
هذا المخرج المسرحي الذي اشتغل طوال أكثر من أربعة عقود على المسرح، يواكب احتفاء أيام قرطاج المسرحية بمرور أربعين عاما على تأسيسها (1983 – 2023) وهو الذي فاز في دورتها الأولى بجائزتين ذهبيتين عن مسرحية “العائلة توت”. ثم فاز بالجائزة الكبرى لدورة العام 1985، عن مسرحية “خيوط من فضة”، كما سبق وأن أهدته مسرحيته “تقاسيم على الحياة” جائزة أفضل سينوغرافيا في أيام قرطاج المسرحية لعام 2018.
الأسدي، أسد المسرح – كما يلقبه كثيرون من أهل الفن الرابع – الذي يخوض من خلاله رحلة في ذاته وذوات المتفرجين، وفي الذات العربية عامة، فهو يتكلم بصوتها، ينتقد واقعها ويكشف آمالها المقيدة بالحروب والنزاعات والخلافات. إنه صوت المسرح الجامح والمجنون الذي تنضج تجربته كل عام أكثر من العام الذي سبقه، فتمنحنا متعة بصرية وسمعية مدهشة، تعتمد في الكثير منها على حبه الكبير للشعر، وبين الشعر والمسرح يحملنا هذا المخرج المسرحي مع كل تجربة جديدة له نحو شاعرية مسرحية تعبر عن الوجع الكامن فينا بلطف وحدة في آن واحد، وهو في “أمل” يستفزنا للنظر في ثلاث مسائل مهمة هي الأمومة وحال الفن والفنان في حياة ضاقت على أغلب الشعوب العربية، وأولها شعب وطنه.
المخرج ينقل إلينا الحياة برمتها من خارج المسرح إلى الخشبة، الحياة والشوارع التي اختل توازنها فاستحال فيها العيش
هذه المسرحية هي من تأليف وإخراج جواد الأسدي، سينوغرافيا علي السوداني، تمثيل الفنانين حيدر جمعة ورضاب أحمد.
ومن بيت بسيط بسقف متهالك تتسرب من شقوقه مياه المطر، تنطلق المسرحية بصرخة “أمل”، رضاب أحمد، البطلة التي صرخت نيابة عن صوت الزوجات اللواتي لا يرغبن في الإنجاب، وفي منح الحياة لأطفال مهددين بالعيش في واقع مؤلم، ينتشر فيه الموت والقتل والتهجير والإدمان.
بديكور بسيط لكنه شديد التعبير، يضعنا المخرج والسينوغراف (الأسدي والسوداني) في غرفة معيشة، بها أثاث بسيط يحيل على شضف العيش، يتمثل في أريكتين، زير ماء كبير، وسرير يوحي بغرفة نوم، ومكتبة حائطية كبيرة توشك على السقوط. إنها غرفة تقرأ فيها أمل البطلة بصوت مرتفع نصوصا غاضبة تصف الحياة في الخارج، بينما تنتظر متوترة لتحجز موعدا مصيريا مع دكتور الأمراض النسائية لإجهاض جنينها. يشاركها المساحة زوجها باسم، الفنان المثقف، الذي حولته الاختلالات الأمنية في الشارع والحروب والقنابل إلى شخصية شديدة القلق، ينتابها هوس من مغادرة المنزل، والعيش في الخارج، هوس تسبب لها في أرق مزمن، ونوبات ضيق تنفس متكررة وغضب ومواقف راديكالية، وتذبذب بين الخوف من الموت وبين التشبث بالحياة. هو الآخر يقرأ نصوصا أكثر عمقا وحدة، تحكي عنه وعما فعله الموت العشوائي بأفراد من عائلته.
ينقل لنا المخرج الحياة برمتها من خارج المسرح إلى الخشبة، الحياة والشوارع التي اختل توازنها فاستحال فيها العيش، وعبر ديودراما تتواصل لساعة من الزمن بين الزوجين/ الحبيبين، يتراوح إيقاع الحوار بينهما بين الهدوء والصراع، القرب والقطيعة، الحب والكره، يفكك الأسدي الهواجس والمخاوف التي تصيب الأزواج وخصوصا الكثير من الأمهات من قرار الإنجاب في بلدان مضطربة أمنيا، والفتور الذي يصيب العلاقات الزوجية، جراء الروتين المعيشي، لكنه فتور يغيب مع أول خطر يلوح في الأفق فيذكر الحبيبين برغبتهما القاهرة في حماية بعضهما.
تعزز المؤثرات الصوتية حالة الصراع القائمة على الخشبة، فبين صوت المروحيات الحربية، وصوت الرصاص الذي يدخلنا في أجواء الحرب المشتعلة في الخارج، وكذلك صوت المطر وقطراته المخترقة لسقف المنزل، يظل نسق العمل المسرحي متذبذبا كدقات قلب حذرة، لا تقدر على الثبات، وهو تذبذب مقصود يشبه الاختلاف الكبير في واقع العواصم العربية، التي تتراوح بين عواصم يطيب فيها العيش وأخرى صارت أرضا للصراعات والحروب.
تقمص الممثلان، رضاب أحمد وحيدر جمعة، دوريهما بالكثير من الصدق الذي كان أحيانا صدقا عنيفا موجعا، لجسديهما ولأنفس المشاهدين، حتى إن البعض منهم عبر خلال ندوة مخصصة لمناقشة العرض عن إعجابه بهما وعن استغرابه من قدرتهما على تعنيف نفسيهما جسديا، كأن يضرب الممثل رأسه على الخشبة أو يبلل جسده العاري بمياه باردة، أو يصرخ بملء حنجرته.
في وسط هذا الصراع الثنائي الذي يستفزنا للتفكير في حيواتنا والجدوى منها ومن القرارات المصيرية فيها كقراري الزواج والإنجاب، يحاول البطلان حماية كتبهم من المطر. هذه المحاولات المستميتة للدفاع عن المكتبة، تذكرنا بالمرات الكثيرة التي أتلفت فيها مكتبات عراقية شهيرة، ولعل أشهرها تدمير المغول مكتبة بغداد وإلقاء الكتب في نهر دجلة حتى قيل إن مياه النهر كانت تجري سوداء جرّاء حبر الكتب التي رميت فيه. وبذلك تم تدمير جزء كبير من الثقافة والعلم في العراق. وكذلك حادثة حرق مكتبة الناصرية على يد أعضاء من الدواعش.
هذه المكتبة المائلة التي توشك على السقوط في “أمل” تحكي حال المثقف العربي ووضع الثقافة والفن في زمن الحروب والفكر الظلامي المنتشر، لكنها مكتبة تقاوم كما يقاوم أصحابها، ليتشبثوا في الأخير بأملهم وحلمهم بغد أفضل، غد تشيد فيه المسارح ودور الأوبرا ويحضر الفن في الشوارع ليمنح أطفال الغد حياة أجمل وواقعا يحترم الإنسان بتنوعه واختلاف أيديولوجياته.
تنتهي المسرحية بأن يصحو باسم الذي لم يبتسم طوال العرض، من إدمانه وهوسه وقلقه المزمن، وتتمسك أمل بحلمها في الأمومة، لترتفع المكتبة في إحالة على أن لا حياة دون “أمل” ودون ثقافة وتستقيم شامخة على الجدار كما تستقيم علاقة الحبيبين ويقرران الحياة والحب والمقاومة.
“خشبة المسرح ملاذي، مأواي، قاربي وجسري إليكم”، هكذا قال الأسدي في رسالة اليوم العالمي للمسرح 2023، وهو بـ”أمل” وما سبقها من آمال مسرحية نقلها إلينا بشغف يقيم جسرا متواصلا بينه وبين من يطلع على أعماله، فينبهر بيها وباهتمامه الدقيق بالتفاصيل المركبة للعرض وبالثيمات المهمة التي يفككها بعنف وحكمة، جسرا يؤكد أن المسرح فعل متصل ومنفصل، بامكانه بث الأمل بأن الفن لا يزال قادرا على المقاومة وبأن صوته مسموع وأنه مهدئ للأنفس المتعبة، ومتنفس للأرواح الثائرة، والأهم أنه مزين للحياة، فالحياة تستحيل خواء بشعا إن غاب منها الأمل والفن.
يذكر أن جواد الأسدي حصل على امتداد مسيرته على العشرات من الجوائز والتتويجات والألقاب العربية والأوروبية على غرار “جائزة الأمير كلاوس” الهولندية وجائزة السلطان قابوس وجائزة مؤسسة الفكر العربي. لكنه يعتبر أن النجاح الأكبر هو تصفيق الجمهور الصادق والحار عند انتهاء كل عرض يقدّمه.
هو يؤكد أن “الخلاص الوحيد للشعوب العربية هو انفجار في الوعي الاجتماعي لتغيير الواقع السلبي”. وهو بأعماله المسرحية يحكي لنا عن روحه، ويعيد كتابة جزء من حكايته ويوصل إلينا صوته ويسألنا “من نكون؟ وكيف سنكون؟”.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
حنان مبروك