"منيفة" قصة عشق أردنية تتلاعب بها الدسائس
عرض مسرحي يجسد ملامح البادية بتقاليدها وحكاياتها عبر تقنيات سينمائية.
الثلاثاء 2023/12/12
مؤامرات تحرك خيوط الحكاية
ضمن فعاليات الدورة السابعة من مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي كان الجمهور على موعد مع الليلة الأردنية التي قدم خلالها عرض "منيفة" الذي يرحل بنا بين تلافيف قصة عشق مشوقة في بادية الأردن، وما يحيط بها من تفاصيل مثيرة مما اعتاده المتفرج العربي من تلك القصص التي لا تزال تثير اهتمامه.
لطالما ألهمت قصص الحب التي شهدتها البوادي العشاق على مر العصور، وتحولت إلى أساطير حية، منها يمكننا استخراج الكثير من المثل والقيم والمبادئ التي لا تبلى مع الزمن، فالحب هو الحب منذ أول شرارة عقل في الإنسان إلى اليوم، فقط ما يختلف هو قصصه.
“منيفة” العرض الأردني الذي أخرجه فراس المصري عن نص لأحمد الطراونة، وأنتجته فرقة المسرح الحر، اختار له الحب أو العشق موضوعا، متوغلا بنا في قصة حبيبين في البادية وسط تقاليدها وتقاليد أهلها، وما يطرأ من تقلبات.
قصة حب
حكاية المسرحية مترابطة يحرك أحداثها راو مواكب لما يحدث، يحكي انتقال المشاهد وتطورات الحكاية بينما تحدث بجانبه، إنها حكاية منيفة هذه الفتاة التي تذهب رفقة أبيها الشيخ إلى المدينة في رحلة تشتاق فيها إلى ديرتها، وبينما تتسامر مع أبيها في الطريق، يباغتهما قطاع طرق ويسلبون كل ما لديهما، وخوفا من العار يرفض الأب العودة إلى أهه قبل استرداد أموالهما.
تقود الأقدار الأب وابنته إلى قبيلة الشيخ ناصر أبوفهد، وهناك يقترح أبومنيفة أن يعمل لدى الشيخ راعيا، ويلقى هو وابنته الترحيب، حتى إن فهد فارس القبيلة والشاب الفطن، يغرم بمنيفة، وتبدأ قصة حب لا يعكرها إلا دسائس ابنة عم فهد التي تسعى إلى الزواج به وتنجح في ذلك.
رغم نية الشيخ ناصر طرد منيفة وأبيها من الديرة، فإن إغارة مفاجئة لقطاع طرق على القبيلة قلبت الموازين، إذ دافع أبومنيفة ببسالة على الديرة وأمسك المعتدين وأعاد لأبي ناصر ماشيته وما سلب، وهنا يكرمه ويقفل أبومنيفة عائدا هو وابنته إلى ديرتهم، لكن العاشق فهد لن يهدأ له بال وحتى بعد أن زوجوه ابنة عمه يطلقها ويرحل في أثر معشوقته منيفة أو الموت دونها.
وهنا تظهر لنا الطبقية التي تحكم القبيلة العربية، والتي يثيرها العمل بذكاء، إذ لا يقيس أبوناصر قيمة منيفة وأبيها بما بدر منهما من خير وحسن خُلق، بل يعتبرهما أقل قيمة، ففي النهاية ما هما إلا راع وابنته.
نقطة هامة أخرى تكمن في التقاء فهد بقاطع طريق حاول سلبه، ولكن حين عرف شخصيته وأنه الفارس المقدام تغير كل شيء، وقاده صدفة إلى ديرة منيفة، ليكتشف حقيقتها هي وأبيها، وأنه ليس راعيا وأنها بنت شيوخ.
الحكاية كما أسلفنا مترابطة وبسيطة، قصة حب بدوية معتادة بين عاشقين بينهما يقف العذول، أو من يكيد بالدسائس ويفسد العشق المتعطر برائحة القمر وريح الفيافي والمنير وسط العتمة محولا ليل الصحارى الذي تشقه الذئاب وقطاع الطرق والغيلان إلى صباحات أبدية.
هكذا يبدو الحب في الفلوات، خيالات جامحة، وهو ما تؤكده الحوارات الشعرية بين منيفة وفهد، والأغاني الجميلة التي تؤطر الخرافة، لكن ماذا يوجد أبعد من الحكاية؟ هل نخرج مثلا من العمل المسرحي الذي اجتهد صناعه في حبكه بفكرة أو رأي أو هو حتى انفعال عاطفي عميق (طبعا لا نطالب العرض بالتطهير الأرسطي)؟
لعب المخرج بذكاء في بداية العمل على حيلة سرد حدث قبل وقوعه، هو عشق منيفة وبحث فهد عنها خلف الكثبان، فبدا الممثلان البعيدان فوق الكثيب، في رقص وحركة تثير تشويقا حول ما سيأتي من أحداث. وهو أسلوب سينمائي معهود، وظفه العمل بشكل جيد.
التجديد ممكن
انطلاق الأحداث كشفت لنا الراوي بصوته الرخم، والذي لا يتغير بتغير طبيعة الأحداث التي يرويها، فنجده مثلا يحكي عن القتال مع الغزاة بنفس النبرة التي يحكي بها عن العشق ولحظات ذروته واشتعاله، من ناحية أخرى كان الراوي الذي استند إليه فراس المصري في تحريك أحداث عمله يحكي عن الحدث أثناء وقوعه، وهذا ينفي عنه صفة الراوي العليم ويقربه من صفة الراوي من الداخل، وهو أسلوب أدبي روائي، ولكن راوي العمل لا يشارك في الأحداث ولا هو شخصية معلومة، لذا يمكننا أن نسمه بأنه مفسر أحداث، لا راو لها.
ربما خشي صناع العرض أن لا يفهم الجمهور أحداث العمل فالتجأ إلى الراوي المفسر، رغم أن الأحداث واضحة للمتفرج.
من الأمور الأخرى التي لم تخدم الحبكة هي النتائج غير المترابطة، وأدرج هنا مثلا حين جاءت ابنة عم فهد إلى أمه لتؤلبها ضد منيفة وأبيها، واقتنعت الأم بذلك كليا، ولكن ابنها ألح على أنه لن يتزوج إلا منيفة، فنادت على أبي فهد، ولكنها حدثته بالعكس تماما وأن ابنه يريد الزواج من منيفة وأن هذه الفتاة وأبيها الذي يتنكر كراعي أغنام طيبان وليس عليهما أي لبس. بينما كان من المفروض أن تنخرط الأم في مؤامرة ابنة العم بعد أن أقنعتنا بذلك.
حدث آخر كان صعب الفهم، إذا كانت منيفة تحب فهدا وهو يحبها ولهما غزل يميد من آناء الليل إلى طول الصباحات المشمسة، فلماذا اشترطت عليه في نهاية العمل ضرورة فك اللغز، لتقبل الزواج به؟ ربما التبرير الوحيد أن المخرج أراد جو الألغاز لخلق نوع من المتعة المعهودة في أرض البادية المليئة بالألغاز.
ربما كان هناك بعض الخلل في الإضاءة خاصة على الممثلين الذين يلعبون بعيدا على الكثيب خلف الخيمة، إذ كان اللعب في منطقة مظلمة نسبيا، وربما لهذا ما يبرره بالنسبة إلى المخرج، لكن لا أرى له داعيا عدا أنه خلل تقني في الإضاءة، فلعب حدث هام في الظلام لن يزيد من التشويق بقدر ما يسببه من نفور لدى المتفرج.
نقرّ للمخرج فراس المصري وكافة فريق العمل تحكمهم الجيد في الفضاء على اتساعه، فكان اللعب داخل الخيام أو في الكثبان وراءها موزعا بشكل جيد، ولعل أفضل المشاهد في العمل مشهد غزو قبيلة أبوناصر والخيول التي تزاحمت في ساحة القبيلة، وكان مشغولا بشكل محترف يوازي الاشتغالات المعهودة في السينما، وترك الخيل والقتال دون مبالغة استعراضية. كما نذكر جودة الموسيقى المقدمة وخاصة الأغاني الجميلة، وهو ما يؤكد عمق التراث الموسيقي الكبير للبوادي العربية.
الصحراء العربية مليئة بقصص الحب المشوقة والتي تحول كثير منها إلى أساطير، قصص غير معهودة في تقلباتها ومآلاتها ونهاياتها، يمكن الاشتغال عليها بأكثر من طريقة وشكل، يكفي فقط أن نبحث عنها وفيها، ويبقى الأهم أن نضيف لها ما يتماشى مع عصر اليوم وراهننا المعاصر بكل إشكالاته وتقلباته.
يمكن أن نستقطب الأجيال الجديدة وخاصة الشابة إلى مسرح الصحراء من خلال الابتكار في الحكايات والأداء وطرق إنجاز العمل، ولا نتوقف عند قصص الحب القديمة كما هي، أو اللعب بعناصر الصحراء المعتادة الخيل والجمال والسيوف وغيرها، نعم مع نشر قيم أهل البادية وفنونهم وتراثهم، لكن بقوالب وقصص متجددة، فقصة العشق بين منيفة وفهد مثلا كانت لتكون أفضل بكثير إذا ما وقع اشتغالها بطرق أكثر ابتكارا، فالمسرح ليس خرافة تروى إنه دعوة إلى المتعة العاطفية والفكرية معا.
عرض مسرحي يجسد ملامح البادية بتقاليدها وحكاياتها عبر تقنيات سينمائية.
الثلاثاء 2023/12/12
مؤامرات تحرك خيوط الحكاية
ضمن فعاليات الدورة السابعة من مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي كان الجمهور على موعد مع الليلة الأردنية التي قدم خلالها عرض "منيفة" الذي يرحل بنا بين تلافيف قصة عشق مشوقة في بادية الأردن، وما يحيط بها من تفاصيل مثيرة مما اعتاده المتفرج العربي من تلك القصص التي لا تزال تثير اهتمامه.
لطالما ألهمت قصص الحب التي شهدتها البوادي العشاق على مر العصور، وتحولت إلى أساطير حية، منها يمكننا استخراج الكثير من المثل والقيم والمبادئ التي لا تبلى مع الزمن، فالحب هو الحب منذ أول شرارة عقل في الإنسان إلى اليوم، فقط ما يختلف هو قصصه.
“منيفة” العرض الأردني الذي أخرجه فراس المصري عن نص لأحمد الطراونة، وأنتجته فرقة المسرح الحر، اختار له الحب أو العشق موضوعا، متوغلا بنا في قصة حبيبين في البادية وسط تقاليدها وتقاليد أهلها، وما يطرأ من تقلبات.
قصة حب
حكاية المسرحية مترابطة يحرك أحداثها راو مواكب لما يحدث، يحكي انتقال المشاهد وتطورات الحكاية بينما تحدث بجانبه، إنها حكاية منيفة هذه الفتاة التي تذهب رفقة أبيها الشيخ إلى المدينة في رحلة تشتاق فيها إلى ديرتها، وبينما تتسامر مع أبيها في الطريق، يباغتهما قطاع طرق ويسلبون كل ما لديهما، وخوفا من العار يرفض الأب العودة إلى أهه قبل استرداد أموالهما.
تقود الأقدار الأب وابنته إلى قبيلة الشيخ ناصر أبوفهد، وهناك يقترح أبومنيفة أن يعمل لدى الشيخ راعيا، ويلقى هو وابنته الترحيب، حتى إن فهد فارس القبيلة والشاب الفطن، يغرم بمنيفة، وتبدأ قصة حب لا يعكرها إلا دسائس ابنة عم فهد التي تسعى إلى الزواج به وتنجح في ذلك.
رغم نية الشيخ ناصر طرد منيفة وأبيها من الديرة، فإن إغارة مفاجئة لقطاع طرق على القبيلة قلبت الموازين، إذ دافع أبومنيفة ببسالة على الديرة وأمسك المعتدين وأعاد لأبي ناصر ماشيته وما سلب، وهنا يكرمه ويقفل أبومنيفة عائدا هو وابنته إلى ديرتهم، لكن العاشق فهد لن يهدأ له بال وحتى بعد أن زوجوه ابنة عمه يطلقها ويرحل في أثر معشوقته منيفة أو الموت دونها.
وهنا تظهر لنا الطبقية التي تحكم القبيلة العربية، والتي يثيرها العمل بذكاء، إذ لا يقيس أبوناصر قيمة منيفة وأبيها بما بدر منهما من خير وحسن خُلق، بل يعتبرهما أقل قيمة، ففي النهاية ما هما إلا راع وابنته.
نقطة هامة أخرى تكمن في التقاء فهد بقاطع طريق حاول سلبه، ولكن حين عرف شخصيته وأنه الفارس المقدام تغير كل شيء، وقاده صدفة إلى ديرة منيفة، ليكتشف حقيقتها هي وأبيها، وأنه ليس راعيا وأنها بنت شيوخ.
الحكاية كما أسلفنا مترابطة وبسيطة، قصة حب بدوية معتادة بين عاشقين بينهما يقف العذول، أو من يكيد بالدسائس ويفسد العشق المتعطر برائحة القمر وريح الفيافي والمنير وسط العتمة محولا ليل الصحارى الذي تشقه الذئاب وقطاع الطرق والغيلان إلى صباحات أبدية.
هكذا يبدو الحب في الفلوات، خيالات جامحة، وهو ما تؤكده الحوارات الشعرية بين منيفة وفهد، والأغاني الجميلة التي تؤطر الخرافة، لكن ماذا يوجد أبعد من الحكاية؟ هل نخرج مثلا من العمل المسرحي الذي اجتهد صناعه في حبكه بفكرة أو رأي أو هو حتى انفعال عاطفي عميق (طبعا لا نطالب العرض بالتطهير الأرسطي)؟
لعب المخرج بذكاء في بداية العمل على حيلة سرد حدث قبل وقوعه، هو عشق منيفة وبحث فهد عنها خلف الكثبان، فبدا الممثلان البعيدان فوق الكثيب، في رقص وحركة تثير تشويقا حول ما سيأتي من أحداث. وهو أسلوب سينمائي معهود، وظفه العمل بشكل جيد.
التجديد ممكن
انطلاق الأحداث كشفت لنا الراوي بصوته الرخم، والذي لا يتغير بتغير طبيعة الأحداث التي يرويها، فنجده مثلا يحكي عن القتال مع الغزاة بنفس النبرة التي يحكي بها عن العشق ولحظات ذروته واشتعاله، من ناحية أخرى كان الراوي الذي استند إليه فراس المصري في تحريك أحداث عمله يحكي عن الحدث أثناء وقوعه، وهذا ينفي عنه صفة الراوي العليم ويقربه من صفة الراوي من الداخل، وهو أسلوب أدبي روائي، ولكن راوي العمل لا يشارك في الأحداث ولا هو شخصية معلومة، لذا يمكننا أن نسمه بأنه مفسر أحداث، لا راو لها.
ربما خشي صناع العرض أن لا يفهم الجمهور أحداث العمل فالتجأ إلى الراوي المفسر، رغم أن الأحداث واضحة للمتفرج.
من الأمور الأخرى التي لم تخدم الحبكة هي النتائج غير المترابطة، وأدرج هنا مثلا حين جاءت ابنة عم فهد إلى أمه لتؤلبها ضد منيفة وأبيها، واقتنعت الأم بذلك كليا، ولكن ابنها ألح على أنه لن يتزوج إلا منيفة، فنادت على أبي فهد، ولكنها حدثته بالعكس تماما وأن ابنه يريد الزواج من منيفة وأن هذه الفتاة وأبيها الذي يتنكر كراعي أغنام طيبان وليس عليهما أي لبس. بينما كان من المفروض أن تنخرط الأم في مؤامرة ابنة العم بعد أن أقنعتنا بذلك.
حدث آخر كان صعب الفهم، إذا كانت منيفة تحب فهدا وهو يحبها ولهما غزل يميد من آناء الليل إلى طول الصباحات المشمسة، فلماذا اشترطت عليه في نهاية العمل ضرورة فك اللغز، لتقبل الزواج به؟ ربما التبرير الوحيد أن المخرج أراد جو الألغاز لخلق نوع من المتعة المعهودة في أرض البادية المليئة بالألغاز.
ربما كان هناك بعض الخلل في الإضاءة خاصة على الممثلين الذين يلعبون بعيدا على الكثيب خلف الخيمة، إذ كان اللعب في منطقة مظلمة نسبيا، وربما لهذا ما يبرره بالنسبة إلى المخرج، لكن لا أرى له داعيا عدا أنه خلل تقني في الإضاءة، فلعب حدث هام في الظلام لن يزيد من التشويق بقدر ما يسببه من نفور لدى المتفرج.
نقرّ للمخرج فراس المصري وكافة فريق العمل تحكمهم الجيد في الفضاء على اتساعه، فكان اللعب داخل الخيام أو في الكثبان وراءها موزعا بشكل جيد، ولعل أفضل المشاهد في العمل مشهد غزو قبيلة أبوناصر والخيول التي تزاحمت في ساحة القبيلة، وكان مشغولا بشكل محترف يوازي الاشتغالات المعهودة في السينما، وترك الخيل والقتال دون مبالغة استعراضية. كما نذكر جودة الموسيقى المقدمة وخاصة الأغاني الجميلة، وهو ما يؤكد عمق التراث الموسيقي الكبير للبوادي العربية.
الصحراء العربية مليئة بقصص الحب المشوقة والتي تحول كثير منها إلى أساطير، قصص غير معهودة في تقلباتها ومآلاتها ونهاياتها، يمكن الاشتغال عليها بأكثر من طريقة وشكل، يكفي فقط أن نبحث عنها وفيها، ويبقى الأهم أن نضيف لها ما يتماشى مع عصر اليوم وراهننا المعاصر بكل إشكالاته وتقلباته.
يمكن أن نستقطب الأجيال الجديدة وخاصة الشابة إلى مسرح الصحراء من خلال الابتكار في الحكايات والأداء وطرق إنجاز العمل، ولا نتوقف عند قصص الحب القديمة كما هي، أو اللعب بعناصر الصحراء المعتادة الخيل والجمال والسيوف وغيرها، نعم مع نشر قيم أهل البادية وفنونهم وتراثهم، لكن بقوالب وقصص متجددة، فقصة العشق بين منيفة وفهد مثلا كانت لتكون أفضل بكثير إذا ما وقع اشتغالها بطرق أكثر ابتكارا، فالمسرح ليس خرافة تروى إنه دعوة إلى المتعة العاطفية والفكرية معا.