عبيدة فياض يبحث عن سر اللحظة ويلتقط الوجع من نبضه

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عبيدة فياض يبحث عن سر اللحظة ويلتقط الوجع من نبضه

    عبيدة فياض يبحث عن سر اللحظة ويلتقط الوجع من نبضه


    أسلوب فني يظهر مأساة الإنسان ووجعه والتلوث الذي أصيب به.
    السبت 2023/12/09
    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    وجوه مشتقة من خصوبة الفرات

    ولد عبيدة فياض لأب فنان شهير، لكنه رغم توارث الموهبة لم يرث الأسلوب ولم يتمسك بالتقليد ولا بالسير في الطريق نفسه، وإنما صاغ لنفسه رؤية تشكيلية تميزه وتجعله في بحث دائم عن اللحظة الإبداعية التي تبوح بمآسي الإنسان.

    “فرخ البط عوام”، المقولة الأشهر حين يكون الابن متقنا أبجدية أبيه أو أبجدية نجاحاته، المقولة دقيقة إلى حد ما في معناها الإيحائي، لكن هل ابن الفنان التشكيلي فنان؟ قد يكون الجواب: نعم، وهذا قليل، وقد يكون: لا، وهذا كثير؛ فتلك المقولة غير دقيقة هنا، فالفن التشكيلي كبحر من لون وضوء لا يستطيع العوم فيه من لا يتقن أسرار هذا الفن من العوم وأسرار عشقه، حتى لو كان ابن فنان كبير، فالعوم هنا لا يكون بالتعليم الذي قد يجعل منه رساما لكن لن يجعل منه فنانا على الإطلاق.

    رغم ذلك هناك أسماء استطاعت أن تكون “فرخ بط ونجحت في العوم” والغوص في بحر الفن التشكيلي وقطفت منه ما هو مثمر وناضج. حينها قد يكون لسلطة اسم الأب قيد لأصابعها على عكس ما نتصور، أو ربما بعضها تكون امتدادا لأبيها، أو تتقاطع معه كثيرا أو قليلا، أو ربما يكون لها طريق آخر ومغاير تماما.


    الفنان التشكيلي فياض سليل أب فنان هو عبدالحميد فياض الذي له حضوره ومكانته كالفرات ذاته وفياض رافده الأغزر


    والأسماء الشابة التي فرحنا بها وبنجاحاتها كثيرة نذكر منها: عبيدة عبدالحميد فياض، فادي فاتح المدرس، سمر عبدالرحمن دريعي، لوند عنايت عطار، رئيف صبري رفائيل، والقائمة حتما أطول من ذلك. وسنحاول هنا أن نقف عند بعضها، نرصد إنجازاتها ونقترب من أعمالها ونبحث عن الجديد عندها، وإذا كان المدرس الأول لبيكاسو كما قيل هو أبوه، فهو هنا فرخ بط وعوام بامتياز، بل إنه أبهر أباه وفاجأه وهو طفل لم يتجاوز الثلاثة عشر عاما، وتجاوز أباه لاحقا ولمسافات بعيدة، فهل سيكون الأب لهؤلاء الفنانين كما لبيكاسو معلمهم الأول؟ سنترك هذا التساؤل لهم ولنا، ليجيب عنه كل منا بطريقته.

    الآن ستكون وقفتنا الأولى عند أحدهم وليكن عبيدة فياض، الفياض حبا وجمالا كفراته القادم منه، والذي يحمل من عبقه وعبق قصبه وناسه الكثير، والمستحم به قادر على أن يستحم بريشته في وجود ستمنحه لاحقا العنان، ليطلقها في الجهة التي يريد، وفياض سليل أب فنان هو عبدالحميد فياض الذي له حضوره ومكانته كالفرات ذاته وفياض رافده الأغزر والأجمل والأعذب.

    ورغم اختلاف الابن عن الأب في كيفية تعامله مع الملفوظ البصري، وكذلك في تحديد وحداته وانعكاساتها الخاضعة حتما لتجربته الخاصة وانشغاله على تلك التحولات في خارج الأهواء التي قد تنبثق من مضمون بعض محاوره، الترابطية منها والاستدلالية، إلا أن ما يجمعهما -أقصد الابن والأب هنا- هو تلك الكثافة اللونية التي تمس الفضاء عبر تكوين مجموعات متوالية، الكيان فيها رمزي، والحكاية جديدة قديمة كلاهما يسردانها بتعبيرية تجريدية وبتراجيديا عميقة وموجعة، فالواقع مليء بالتجريد والتراجيديا.

    وتجمعهما أيضا تلك السماكات اللونية التي تحل على العمل بنمط من الكتل التي يتم إستحضارها من الذاكرة بموجوداتها المشبعة بتراث وقصص الأولين والتي تنطق القماش بأكثر من إيحاء، وتخلق أكثر من تصور ذهني وتمنحهما بصمة في نقل معطيات مشتقة من خصوبة الفرات ومن طقسها القديم حيث الجذور تأبى التغيير مع السعي نحو تحريك صيغ لونية جديدة بلمسات وأدوات جديدة.

    فياض يصوغ وجوهه بدقة بالغة في تحديد فحواها، ضمن بلورة جغرافية مناخية معينة تشكل واقعه ذا التركيبة المأساوية، فهو هنا يبدو أقرب إلى تضليل تلك القسمات الممتلئة بالنقمة منه إلى التعب، تلك القسمات الحادة والقاسية داخل إحالات الوقت ذاته وكأنها قادمة من مقبرة نفخ فيها إسرافيل توا، فهو يستطيع أن يلتقط الوجع من عرقوبه بل من أنفه ويجره كعلامة تعريف لتلك الملامح المشوهة، بل لتلك الرؤوس التي تحمل زوبعتها وقيامتها أسوة بالأشياء التي يعيشها في حدود ارتباطها بحالات قد تكون خزان انفعالاته، تلك الانفعالات المنسابة من دواخله على البياض كالفرات في فيضانه وغضبه.


    فنان يرفض التقييد مهما كان زخمه عاليا، ويكون في عملية بحث مستديم عن سر اللحظة وولادتها


    هو يظهر مأساة الإنسان ووجعه والتلوث الذي أصيب به إلى درجة أنه كإنسان لم يعد يشبه نفسه، فكان التشويه الصارخ الذي يشتغل عليه فياض والذي سيستفز المتلقي كثيرا ليس إلا القليل مما لحق به ككائن اسمه إنسان، فهو بؤر الخراب على هذه الأرض، وجذورها الممتدة في الجهات كلها، وهو من يبدع ويتفنن في القتل والدمار. هذه الحالة المقلقة التقطها فياض وقدمها في إرهاصاته الكثيرة وعبر وجوه لا ملامح لها، وإن وجدت بمعطياتها الحسية فلا رؤية لأصحابها والبوصلة تاهت بهم.

    لهذا كل ما فيها من تشوهات وتشنجات ما هو إلا منفسه نحو تبيان عالمه ولحظاته، فالهدف في الفن المعاصر غالبا ما يكون لولبيا، وهذا ما نلاحظه في عمل فياض الذي يعبر عن هواجسه وتطلعاته بقوة إشاراته وطقوسه، بقوة الوجود الإنساني، كونه يملك الكثير من أدوات العزف على القصب الفراتي، على الناي الشجي الذي سيوقظ النهر ذاته، فتتسارع نبضات هديره في حركة أصابع فياض وهي تنفذ مع فرشاته إلى أعماق لحظاته بكل وداعة وطفولة، دون أن يقايض معزوفاته هذه بأية إيقاعات اكتسبها من الغرب حيث يقيم منذ فترة.

    فياض شديد التركيز على الحالة الإبداعية وعلى كيفية جريانها، يذهب نحو رائحة الفرات وتعب مائه، نحو الناس البسطاء الذين ولدوا وكبروا وعشقوا الفرات وضفافه، وكأسماكه التي لا حول ولا قوة لها، ما إن كان الطوفان حتى جرفت بعيدة ومعها كل عزيز وجميل ضمن سيرورة الغياب أو الفناء. ومع ذلك فهو يبني نصه البصري من النسق الدلالي وفق سلسلة من التساؤلات التي يثيرها في مخيلة متلقيه ويدفعه نحو فضاءاته مشاركا به في الإمساك بعمليات الخلق من جهة وبما يؤكد تحديد الأبعاد المراد إنتاجها ولو ضمن سياق التأويل وما يحمله من صعوبات من جهة ثانية.

    وبغض النظر عن وجهة نظرنا مع أو ضد، فإن اللوحة المعاصرة التي ينتجها فياض فيها من الصراخ والعويل ما يعادل ريختر بمقياس الزلازل، أو صراخ أشبه بحافلة الضوء في سرعتها وفي اصطدامها بحافلة حبات المطر وتوزعها، لما فيها من تأسيس لمنبهات لوضعية الإنسان وما تبقى فيه من إنسانيته التي ربما سقطت منه جميعها حتى بات كائنا لا يشبه نفسه.



    هذا ما يشتغل عليه فياض وما يبرر تلك الأشكال من الرؤوس التي تزين أعلى أجسادنا والتي باتت وحدها تليق بنا كإنسان سابقا، وهنا المدخل الرئيسي إلى تجربته والكشف عن قلقها وتعبها وحزنها وتمايزها وإن بصراخ أشبه بشهقات الروح في زمن ما، زمن بات خارج ذاته، زمن بات آلة صوت لا تنويع في سياقاته ولا في مضامينه؛ فوجود شبكة علائقية وسط عالم من العلامات ومن الوقائع قد تكون بداية تعاقد بين أشكال التداول بوصفها أنماط وجود قد تكون مهمتها التكهن بالأمل الراحل كأداة للتصنيف لا للتعيين، للتسجيل لا للتعريف.

    فياض يعود بقيمه التشكيلية التي فيها من الخصوصية ما يميزه، يعود إلى محاكاة التعبير بالتجريد كجانب لإبراز الفسحة التي يشتغل فيها على عدم اِلتزامه بضرورات التصنيف، فهو يرفض التقييد مهما كان زخمه عاليا، ويكون في عملية بحث مستديم عن سر اللحظة وولادتها ليلتقطها كصياغة لونية تحمل الجمال إلى اللانهاية دون أن تلغي الانفعالات التي ستبث رغماً عنه في كل مفاصل اللوحة.

    ShareWhatsAppTwitterFacebook

    غريب ملا زلال
يعمل...
X