"حنظلة".. تعاون تونسي - عراقي يستعيد رموز المقاومة الفنية العربية
طلعت السماوي: الفنانون العرب لازالوا قادرين على التعاون الإبداعي رغم الأزمات.
السبت 2023/12/09
ShareWhatsAppTwitterFacebook
بناء فني أساسه مواهب تونسية
غاب حنظلة وغاب معه ناجي العلي، لكنه لا يزال حاضرا كرمز، تستعيده الفنون ومن بينها المسرح. آخر محاولة لإحيائه جاءتنا هذه المرة من المسرح الوطني التونسي بالتعاون مع الكوريغراف والمسرحي العراقي طلعت السماوي.
جاءت الأزمة المشتعلة في قطاع غزة لتخلق ظروفا ملائمة للاشتغال على أعمال مسرحية مع مواهب شابة رأى فيها المسرح الوطني التونسي فرصة لتكوينهم على الكوريغرافيا والرقص الدرامي بالتعاون مع أحد أهم الكوريغرافيين العرب، العراقي طلعت السماوي.
انطلقت الورشة منذ منتصف أكتوبر الماضي وتستمر حتى العاشر من ديسمبر الجاري، وكان نتاجها عملا مسرحيا راقصا بعنوان “حنظلة” يستعيد بتقنيات متنوعة من الرقص والفيديو والموسيقى والشعر رموزا من أهم الفنانين العرب الذين جعلوا فنهم مقاومة للاستبداد والظلم والطغاة، وفي مقدمتهم الفلسطيني ناجي العلي صاحب حنظلة.
صحوة الأحلام
الفنان طلعت السماوي قدّم في هذه الورشة ثمرة سنوات طويلة من البحث والتجريب في مجال الرقص الدرامي
يقدم بيان المسرح الوطني الورشة بالقول إنها “تفتح أبوابها أمام الممثلين والراقصين والكوريغرافيين لتطوير المعارف في تقنيات الرقص والأداء الحركي. يقدم هذا التدريب الفني تعريفات مبدئية عن مدارس الرقص العالمية وطريقة العمل على تحويل الفكرة إلى فن الكوريغرافيا بناء على معالجة درامية”.
ويضيف أنه “تمّ اختيار شخصية حنظلة للرسام الفلسطيني ناجي العلي نموذجا للورشة باعتبار أن هذا الرمز يحرّضنا دائما على الانسحاب من زمن الغفوة من أجل صحوة الأحلام والمستقبل”.
في هذه الورشة قدّم الفنان طلعت السماوي ثمرة سنوات طويلة من البحث والتجريب في مجال الرقص الدرامي، فهو واحد من أمهر الراقصين/الكوريغرافيين العرب، وأول من أدخل الرقص الدرامي إلى المسرح العراقي في التسعينات من القرن الماضي، وأحد فناني العراق والعرب نشاطا في مسارح السويد، أين أمضى جزءا لا بأس به من حياته.
يحب السماوي الاشتغال على تجارب مشتركة، إذ سبق وأطر ورشات مع المسرح الجزائري، وعن تجربته مع المسرح الوطني التونسي يقول في حوار مع “العرب”، “انطلقت الفكرة بعد اندلاع الأزمة في غزة بأيام قليلة، لم نكن ننوي تسمية العمل بحنظلة ولم نكن توصلنا بعد لهذه الفكرة، مع الأستاذ معز مرابط، مدير المسرح الوطني التونسي، كنا نود تقديم نموذج عمل وليس إنتاج عمل متكامل، وهو عربون تعاون مع دائرة المسرح الوطني”.
ويوضح “كانت البداية تهدف إلى الاشتغال على مسرح الشارع لكن نظرا لإلغاء كل المظاهر الاحتفالية للمهرجان، أعدنا صياغة الفكرة واتجهنا نحو الانتصار لهذه الأزمة الإنسانية”.
حركة الراقصين كأقلام العلي ومطر وكنفاني تخط نصوصها على خشبة مسرح تونسي يرى في القضايا الكبرى مشتركا إنسانيا لا بد من الدفاع عنه
اختير “حنظلة” ليكون عنوان العمل المسرحي، ويبعث من جديد حتى وإن غاب ناجي العلي، ويقول عنه السماوي لـ”العرب”، “حنظلة بالنسبة إليّ ليس مجرد رسمة كاريكاتير، عشت طفولتي معه، تابعته، أحببته وأحببت ناجي العلي حتى اختفى حنظلة منذ أكثر من ثلاثين سنة، مع ظهور التطبيع.
هذه الأحداث التي نعيشها اليوم تنبأ بها ناجي العلي، لذلك عدنا للاشتغال عليه كثيمة، كرمز يستعيد ذكرى رسامه، وهو يحضر في العمل عبر تقنية الفيديو، إذ حاولت تذكر الشخصية الحاضرة – الغائبة”.
ولا يكتفي العمل باستعادة ناجي العلي وأيقونته الخالدة، وإنما يجمع “تريو” من أهم رموز المقاومة بالفن في المنطقة العربية، ويحكي لنا الفنان العراقي “في حنظلة استعدنا تجربة الأديب الفلسطيني غسان كنفاني (1936 – 1972)، أول من كتب عن الثورة الفلسطينية في الأدب الحديث، وهو فنان كان لديه تنبّؤ واستشراف للمستقبل، ولا تزال كتاباته النثرية الجميلة تحمل حسا شعريا في سرد قصص الفلسطينيين، وهو مؤمن بعشق لتحرير فلسطين، الذي قابله تطبيع أضاع علينا ربع قرن وأدخل المنطقة العربية في دوامة صراعات سياسية واسعة”.
ويواصل “جمعنا كنفاني بالشاعر العراقي أحمد مطر (1954) الذي يمتلك النزعة نفسها وكان صديقا لناجي العلي، هذا الثلاثي الرمز جمعناه فنيا على خشبة مسرح تونسي، بتأطير عراقي، يحيل إلى التواصل اللامنتهي بين الشعوب العربية وفنانيها، رغم تفككها في ربع القرن الأخير لأزمات وأسباب عديدة”.
لكنه يستدرك “لظروف الشباب الراقصين، اختزلنا العمل والساعات التدريسية والتدريبات، ركزنا بداية على تدريبات يومية وتقنيات الجسد، أنا أشتغل على الرقص الدرامي ورقص الجاز، إضافة إلى أنني أبدأ الدروس باليوغا، بتقنيات جسدية أكاديمية بعيدا عمّا يخص البنية الانتاجية الفنية للعمل”.
مواهب واعدة
الكاستنغ لا يكشف الموهبة
لنفهم طبيعة العمل، ونطّلع على مساره والتطورات الكبرى الحاصلة فيه، واكبنا بعضا من الورشة، تعرفنا على بعض المشاركين فيها، ورأينا جهودهم في إتمام العمل وتحديهم لذواتهم وللمشاهد بأن يكون نتاج الورشة عملا مشرفا، رغم ضيق الوقت وقلة الإمكانات المادية، وبالفعل كان العرض خلال تقديمة يوم السابع من ديسمبر الجاري، مقنعا، مثيرا للانتباه، ومثيرا لإعجاب الحاضرين، حيث غصت القاعة بالمتفرجين الذي جاؤوا نصرة لفلسطين ونصرة لمواهب تبحث عن فرصة لاحتراف المسرح والرقص في تونس.
ويعيدنا السماوي إلى بداية الورشة فيقول “التقيت الشباب، وجدت فيهم تنوعا واختلافا من حيث تقنياتهم وأداءهم الجسدي، وانتماءاتهم، بعضهم ممثلون وآخرون راقصون وفيهم راقصو الشوارع وبعضهم راقصو فنون شعبية تونسية، حاولت التنسيق بين مواهبهم، انطلاقا من إيماني بأننا عندما نعمل مع المؤدي/الطاقم البشري الذي هو العمود الفقري لأيّ عمل، تصبح كل التقنيات مكملا، إنهم مثل ورود الحديقة يزينونها باختلافهم”.
ويوضح “الراقصون تقدموا للورشة إراديا، ولم نعتمد على كاستنغ لاختيارهم، لأنني أرفض العمل بهذه الطريقة، فالكاستنغ لا يكشف الموهبة، نحتاج جلسات وتدريبات حتى نكتشف موهبة الفنان، هم في نهاية المطاف بشر، وبعض البشر لا يظهر موهبته بسرعة”.
يرى السماوي أن البناء الفني أشبه بالطبيعة، هناك أشجار تظهر زهورها بعد سقوط المطر وأشجار تأخذ وقتا أطول لتزهر، لكنها في الأغلب كلها تثمر، ويقول “أنظر للفنان الشاب من هذه الزاوية، حتى في أوروبا، أنظم ورشة وكل فترة نتخلى عن عدد من المشاركين، مع التوضيح لهم بأنهم غير مناسبون للعرض وأن هذا لا يعني أنهم غير مناسبين لمشاريع فنية أخرى”.
ويشدد أنه “مؤمن أن الجسد يرقص، طالما هو متحرك، وفيه نفس إنساني فهو يستطيع الرقص، حتى أنني سبق أن اشتغلت عرضا مع ذوي الاحتياجات الخصوصية، ورقصوا بلغة أجسادهم الخاصة. العمل الفني عمل إنساني مبني على الأخلاق والحب وليس استعراضا للأفضلية على الآخرين”.
حضور لافت للأنظار
هذه التجربة لم تكن الأولى للكوريغراف المسرحي العراقي في تونس، فقد دخل منذ العام 2011 العديد من المشاريع المشتركة، قدم فيها مواهب عراقية وأخرى تونسية، وحظيت بإشادات النقاد والمسرحيين، حتى أنه رغم الغياب عن الفعل المسرحي منذ العام 2018، أغرته العودة مجددا عبر المسرح التونسي، وأيقظت أحلامه في تقديم المزيد وفي استثمار خبرته في تجربة مع شباب المسرح والرقص في تونس.
ويقول في حواره مع “العرب”، “تأطيرنا للمواهب كشف عن وجود كفاءات وأحلام تونسية تحتاج التأطير الأكاديمي لتخلق فنا مختلفا أساسه بناء الجسد، وتتبع المسرح الآن الذي يعتمد على الجسد كركيزة أساسية للفعل، الممثل الجيد يعتمد على الجسد. فهناك فرق بين الأدب المسرحي كطرح فكري درامي وبين العرض المسرحي، النص مهم وأستخدم النصوص في أعمالي لكن الجسد هو الأساسي ويأخذ المساحة الأكبر من زمن العرض، فالجسد مرآة لعين المشاهد، والعين هي الحاسة الأولى التي تلتقط رسالة الممثل”.
ويضيف “إنها ثورة، هكذا يقولون جميعا وهم لا يستطيعون فهم معنى ذلك”، مقتطف من حوار اقتبس من أعمال الفنانين الثلاثة، العلي وكنفاني ومطر، ألقاه الراقصون التونسيون بأصواتهم، عبر فيديو يضاف للمؤثرات الصوتية التابعة للعرض. جاء بعض أصواتهم غير متمكن من الإعراب، بخامة تونسية، في حين كانت بقية الأصوات معبرة، مؤثرة في أذن السامع، مضيفة الكثير من الحماسة والشجن للأبيات الشعرية، التي خطها مطر بدماء روحه، وحكايات رواها كنفاني بهوية تقاوم السلب.
إنها بالفعل ثورة، ثورة راقصة على خشبة رآها الراقصون المشاركون في العرض عالمهم الذي يتوقون إليه، إلى تمضية العمر بين زواياه، راقصون مهرة رغم حداثة التجربة والموهبة، عبّروا بأجسادهم المتباينة كتباين المواقف العربية في القضايا الكبرى والمصيرية، عصبوا أعينهم في إشارة إلى أعين القادة والفنانين والمؤثرين التي لا تريد رؤية ما يجري في الواقع.
كانت حركتهم متماهية مع النص الشعري ومع الموسيقى الحزينة، تعزز قوتها تقنية خيال الظل التي اعتمدها السماوي في عمق الخشبة، حيث ينقسم الراقصون بين مؤدين لمشاهد أمامية وأخرى في العمق. وكانت أجساد الراقصين التونسيين ناطقة بصوت الفلسطيني وصوت كل عربي يعاني ويتألم، وكانت حركتهم كأقلام العلي ومطر وكنفاني تخط نصوصها على خشبة مسرح تونسي يرى في القضايا الكبرى مشتركا إنسانيا لا بد من الدفاع عنه.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
حنان مبروك
طلعت السماوي: الفنانون العرب لازالوا قادرين على التعاون الإبداعي رغم الأزمات.
السبت 2023/12/09
ShareWhatsAppTwitterFacebook
بناء فني أساسه مواهب تونسية
غاب حنظلة وغاب معه ناجي العلي، لكنه لا يزال حاضرا كرمز، تستعيده الفنون ومن بينها المسرح. آخر محاولة لإحيائه جاءتنا هذه المرة من المسرح الوطني التونسي بالتعاون مع الكوريغراف والمسرحي العراقي طلعت السماوي.
جاءت الأزمة المشتعلة في قطاع غزة لتخلق ظروفا ملائمة للاشتغال على أعمال مسرحية مع مواهب شابة رأى فيها المسرح الوطني التونسي فرصة لتكوينهم على الكوريغرافيا والرقص الدرامي بالتعاون مع أحد أهم الكوريغرافيين العرب، العراقي طلعت السماوي.
انطلقت الورشة منذ منتصف أكتوبر الماضي وتستمر حتى العاشر من ديسمبر الجاري، وكان نتاجها عملا مسرحيا راقصا بعنوان “حنظلة” يستعيد بتقنيات متنوعة من الرقص والفيديو والموسيقى والشعر رموزا من أهم الفنانين العرب الذين جعلوا فنهم مقاومة للاستبداد والظلم والطغاة، وفي مقدمتهم الفلسطيني ناجي العلي صاحب حنظلة.
صحوة الأحلام
الفنان طلعت السماوي قدّم في هذه الورشة ثمرة سنوات طويلة من البحث والتجريب في مجال الرقص الدرامي
يقدم بيان المسرح الوطني الورشة بالقول إنها “تفتح أبوابها أمام الممثلين والراقصين والكوريغرافيين لتطوير المعارف في تقنيات الرقص والأداء الحركي. يقدم هذا التدريب الفني تعريفات مبدئية عن مدارس الرقص العالمية وطريقة العمل على تحويل الفكرة إلى فن الكوريغرافيا بناء على معالجة درامية”.
ويضيف أنه “تمّ اختيار شخصية حنظلة للرسام الفلسطيني ناجي العلي نموذجا للورشة باعتبار أن هذا الرمز يحرّضنا دائما على الانسحاب من زمن الغفوة من أجل صحوة الأحلام والمستقبل”.
في هذه الورشة قدّم الفنان طلعت السماوي ثمرة سنوات طويلة من البحث والتجريب في مجال الرقص الدرامي، فهو واحد من أمهر الراقصين/الكوريغرافيين العرب، وأول من أدخل الرقص الدرامي إلى المسرح العراقي في التسعينات من القرن الماضي، وأحد فناني العراق والعرب نشاطا في مسارح السويد، أين أمضى جزءا لا بأس به من حياته.
يحب السماوي الاشتغال على تجارب مشتركة، إذ سبق وأطر ورشات مع المسرح الجزائري، وعن تجربته مع المسرح الوطني التونسي يقول في حوار مع “العرب”، “انطلقت الفكرة بعد اندلاع الأزمة في غزة بأيام قليلة، لم نكن ننوي تسمية العمل بحنظلة ولم نكن توصلنا بعد لهذه الفكرة، مع الأستاذ معز مرابط، مدير المسرح الوطني التونسي، كنا نود تقديم نموذج عمل وليس إنتاج عمل متكامل، وهو عربون تعاون مع دائرة المسرح الوطني”.
ويوضح “كانت البداية تهدف إلى الاشتغال على مسرح الشارع لكن نظرا لإلغاء كل المظاهر الاحتفالية للمهرجان، أعدنا صياغة الفكرة واتجهنا نحو الانتصار لهذه الأزمة الإنسانية”.
حركة الراقصين كأقلام العلي ومطر وكنفاني تخط نصوصها على خشبة مسرح تونسي يرى في القضايا الكبرى مشتركا إنسانيا لا بد من الدفاع عنه
اختير “حنظلة” ليكون عنوان العمل المسرحي، ويبعث من جديد حتى وإن غاب ناجي العلي، ويقول عنه السماوي لـ”العرب”، “حنظلة بالنسبة إليّ ليس مجرد رسمة كاريكاتير، عشت طفولتي معه، تابعته، أحببته وأحببت ناجي العلي حتى اختفى حنظلة منذ أكثر من ثلاثين سنة، مع ظهور التطبيع.
هذه الأحداث التي نعيشها اليوم تنبأ بها ناجي العلي، لذلك عدنا للاشتغال عليه كثيمة، كرمز يستعيد ذكرى رسامه، وهو يحضر في العمل عبر تقنية الفيديو، إذ حاولت تذكر الشخصية الحاضرة – الغائبة”.
ولا يكتفي العمل باستعادة ناجي العلي وأيقونته الخالدة، وإنما يجمع “تريو” من أهم رموز المقاومة بالفن في المنطقة العربية، ويحكي لنا الفنان العراقي “في حنظلة استعدنا تجربة الأديب الفلسطيني غسان كنفاني (1936 – 1972)، أول من كتب عن الثورة الفلسطينية في الأدب الحديث، وهو فنان كان لديه تنبّؤ واستشراف للمستقبل، ولا تزال كتاباته النثرية الجميلة تحمل حسا شعريا في سرد قصص الفلسطينيين، وهو مؤمن بعشق لتحرير فلسطين، الذي قابله تطبيع أضاع علينا ربع قرن وأدخل المنطقة العربية في دوامة صراعات سياسية واسعة”.
ويواصل “جمعنا كنفاني بالشاعر العراقي أحمد مطر (1954) الذي يمتلك النزعة نفسها وكان صديقا لناجي العلي، هذا الثلاثي الرمز جمعناه فنيا على خشبة مسرح تونسي، بتأطير عراقي، يحيل إلى التواصل اللامنتهي بين الشعوب العربية وفنانيها، رغم تفككها في ربع القرن الأخير لأزمات وأسباب عديدة”.
لكنه يستدرك “لظروف الشباب الراقصين، اختزلنا العمل والساعات التدريسية والتدريبات، ركزنا بداية على تدريبات يومية وتقنيات الجسد، أنا أشتغل على الرقص الدرامي ورقص الجاز، إضافة إلى أنني أبدأ الدروس باليوغا، بتقنيات جسدية أكاديمية بعيدا عمّا يخص البنية الانتاجية الفنية للعمل”.
مواهب واعدة
الكاستنغ لا يكشف الموهبة
لنفهم طبيعة العمل، ونطّلع على مساره والتطورات الكبرى الحاصلة فيه، واكبنا بعضا من الورشة، تعرفنا على بعض المشاركين فيها، ورأينا جهودهم في إتمام العمل وتحديهم لذواتهم وللمشاهد بأن يكون نتاج الورشة عملا مشرفا، رغم ضيق الوقت وقلة الإمكانات المادية، وبالفعل كان العرض خلال تقديمة يوم السابع من ديسمبر الجاري، مقنعا، مثيرا للانتباه، ومثيرا لإعجاب الحاضرين، حيث غصت القاعة بالمتفرجين الذي جاؤوا نصرة لفلسطين ونصرة لمواهب تبحث عن فرصة لاحتراف المسرح والرقص في تونس.
ويعيدنا السماوي إلى بداية الورشة فيقول “التقيت الشباب، وجدت فيهم تنوعا واختلافا من حيث تقنياتهم وأداءهم الجسدي، وانتماءاتهم، بعضهم ممثلون وآخرون راقصون وفيهم راقصو الشوارع وبعضهم راقصو فنون شعبية تونسية، حاولت التنسيق بين مواهبهم، انطلاقا من إيماني بأننا عندما نعمل مع المؤدي/الطاقم البشري الذي هو العمود الفقري لأيّ عمل، تصبح كل التقنيات مكملا، إنهم مثل ورود الحديقة يزينونها باختلافهم”.
ويوضح “الراقصون تقدموا للورشة إراديا، ولم نعتمد على كاستنغ لاختيارهم، لأنني أرفض العمل بهذه الطريقة، فالكاستنغ لا يكشف الموهبة، نحتاج جلسات وتدريبات حتى نكتشف موهبة الفنان، هم في نهاية المطاف بشر، وبعض البشر لا يظهر موهبته بسرعة”.
يرى السماوي أن البناء الفني أشبه بالطبيعة، هناك أشجار تظهر زهورها بعد سقوط المطر وأشجار تأخذ وقتا أطول لتزهر، لكنها في الأغلب كلها تثمر، ويقول “أنظر للفنان الشاب من هذه الزاوية، حتى في أوروبا، أنظم ورشة وكل فترة نتخلى عن عدد من المشاركين، مع التوضيح لهم بأنهم غير مناسبون للعرض وأن هذا لا يعني أنهم غير مناسبين لمشاريع فنية أخرى”.
ويشدد أنه “مؤمن أن الجسد يرقص، طالما هو متحرك، وفيه نفس إنساني فهو يستطيع الرقص، حتى أنني سبق أن اشتغلت عرضا مع ذوي الاحتياجات الخصوصية، ورقصوا بلغة أجسادهم الخاصة. العمل الفني عمل إنساني مبني على الأخلاق والحب وليس استعراضا للأفضلية على الآخرين”.
حضور لافت للأنظار
هذه التجربة لم تكن الأولى للكوريغراف المسرحي العراقي في تونس، فقد دخل منذ العام 2011 العديد من المشاريع المشتركة، قدم فيها مواهب عراقية وأخرى تونسية، وحظيت بإشادات النقاد والمسرحيين، حتى أنه رغم الغياب عن الفعل المسرحي منذ العام 2018، أغرته العودة مجددا عبر المسرح التونسي، وأيقظت أحلامه في تقديم المزيد وفي استثمار خبرته في تجربة مع شباب المسرح والرقص في تونس.
ويقول في حواره مع “العرب”، “تأطيرنا للمواهب كشف عن وجود كفاءات وأحلام تونسية تحتاج التأطير الأكاديمي لتخلق فنا مختلفا أساسه بناء الجسد، وتتبع المسرح الآن الذي يعتمد على الجسد كركيزة أساسية للفعل، الممثل الجيد يعتمد على الجسد. فهناك فرق بين الأدب المسرحي كطرح فكري درامي وبين العرض المسرحي، النص مهم وأستخدم النصوص في أعمالي لكن الجسد هو الأساسي ويأخذ المساحة الأكبر من زمن العرض، فالجسد مرآة لعين المشاهد، والعين هي الحاسة الأولى التي تلتقط رسالة الممثل”.
ويضيف “إنها ثورة، هكذا يقولون جميعا وهم لا يستطيعون فهم معنى ذلك”، مقتطف من حوار اقتبس من أعمال الفنانين الثلاثة، العلي وكنفاني ومطر، ألقاه الراقصون التونسيون بأصواتهم، عبر فيديو يضاف للمؤثرات الصوتية التابعة للعرض. جاء بعض أصواتهم غير متمكن من الإعراب، بخامة تونسية، في حين كانت بقية الأصوات معبرة، مؤثرة في أذن السامع، مضيفة الكثير من الحماسة والشجن للأبيات الشعرية، التي خطها مطر بدماء روحه، وحكايات رواها كنفاني بهوية تقاوم السلب.
إنها بالفعل ثورة، ثورة راقصة على خشبة رآها الراقصون المشاركون في العرض عالمهم الذي يتوقون إليه، إلى تمضية العمر بين زواياه، راقصون مهرة رغم حداثة التجربة والموهبة، عبّروا بأجسادهم المتباينة كتباين المواقف العربية في القضايا الكبرى والمصيرية، عصبوا أعينهم في إشارة إلى أعين القادة والفنانين والمؤثرين التي لا تريد رؤية ما يجري في الواقع.
كانت حركتهم متماهية مع النص الشعري ومع الموسيقى الحزينة، تعزز قوتها تقنية خيال الظل التي اعتمدها السماوي في عمق الخشبة، حيث ينقسم الراقصون بين مؤدين لمشاهد أمامية وأخرى في العمق. وكانت أجساد الراقصين التونسيين ناطقة بصوت الفلسطيني وصوت كل عربي يعاني ويتألم، وكانت حركتهم كأقلام العلي ومطر وكنفاني تخط نصوصها على خشبة مسرح تونسي يرى في القضايا الكبرى مشتركا إنسانيا لا بد من الدفاع عنه.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
حنان مبروك